مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

علمت اختلافهم في حقيقة العدالة في أنّها الملكة أو نفس التقوى. وأشرنا إلى أنّه على الأوّل يشترط مقارنة الملكة لعدم التخلّف في العمل عن الاجتناب عن الكبيرة أيضا. ثم اختلفوا ثانيا فيما يكشف شرعا عن ثبوت هذا المعنى على أقوال ثلاثة :

أحدها : أنّه البحث عن الباطن والمعاشرة التامّة ، والصحبة المتأكّدة الموجبة لمعرفة الحقيقة ، حتّى أنّه على القول بالملكة يلزم الاختبار العلمي عنها المميّز بين الخلق والتخلّق ، والطبع والتكلّف ، أو ثبوتها بالشياع العلمي أو شهادة العدلين ، اختار ذلك أكثر المتأخّرين ، بل نسبه في المسالك (١) إلى المشهور.

وثانيها : الاكتفاء في ذلك بحسن الظاهر ؛ ذهب إليه جمع من المتأخرين ، وفي الذكرى (٢) عن بعض الأصحاب ، وحكي عن الشيخ (٣) أيضا. والمراد به كما عرفت ما هو في قبال الواقع ، فلا يلزم البحث عن الباطن ، كما على الأوّل ، بل يكتفي بمعرفة الظاهر المشهود للناس.

وثالثها : الاقتصار فيه على ظهور الإسلام ، وعدم ظهور الفسق ؛ حكي عن الإسكافي (٤) والمفيد في الإشراف (٥) والشيخ في الخلاف (٦) والمبسوط (٧) والاستبصار (٨).

والظاهر أنّ مراد هؤلاء أن ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق من الأمارات التعبّدية

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ : ١٦٥.

(٢) ذكرى الشيعة ٤ : ٣٧٢.

(٣) المقنعة : ٧٣٠.

(٤) مجموعة فتاوى ابن الجنيد : ٣٢٨.

(٥) المقنعة : ٧٢٦.

(٦) الخلاف ٦ : ٢١٧.

(٧) المبسوط ٨ : ٢١٧.

(٨) الاستبصار ٢ : ١٤ ، كتاب الشهادات ، الباب ٩ ، الحديث ٣.

٢٠١

التي جعلها الشارع دليلا للعدالة ، من قبيل اليد للملك ، لا من باب الأصل والاستصحاب ، كما اشتبه الأمر على بعضهم من نسبة أصالة العدالة إلى الشيخ في الخلاف (١) ، لأنّ الكلام فيما يقتضيه الأصل من العدالة أو الفسق بحث آخر ، ومقتضى النظر فيه كونهما على خلافه ، لتوقّف كلّ منهما على صفة وجودية.

وكيف كان ، فالأوسط القول الوسط ، لا لما استدلّ عليه من النصوص الدالّة على ثبوت العدالة بوجود الأوصاف العملية ككونه خيرا ومعلوما بخير وعفيفا أو عدم الخلف عن الوعد وعدم الكذب ، أو عدم الظلم في المعاملة ، كما في الموثّق المصرّح بأنّ من له تلك الأوصاف الثلاثة كان ممّن حرمت غيبته وظهر عدله ووجبت أخوّته ، لأنها ظاهرة في الأوصاف والأعمال النفس الأمرية ، وإن كانت من أعمال الجوارح ، فيجب العلم بها ، ولا يحصل العلم إلّا باختبارها الواقعيّ ، مضافا إلى عدم انحصار الوصف المعتبر في العدالة بما وصف في أكثرها إجماعا ، وعدم دلالة الموثّق على توقّف العدالة خاصّة عليها ، بل هي مع وجوب الأخوة ، بل للمعتبرة المصرّحة بالاكتفاء في ثبوت العدالة بمأمونية الظاهر ، كمرسلة يونس (٢) : « خمسة أشياء يجب على الناس أن يأخذوا فيها بظاهر الحال : الولايات ، والمناكح ، والمواريث ، والذبائح ، والشهادات ، فإذا كان ظاهره مأمونا جازت شهادته ، ولا يسأل عن باطنه » أو بالمعروفية بالصلاح في نفسه ، كصحيحة ابن المغيرة (٣) : « كلّ من ولد على الفطرة وعرف بصلاح في نفسه جازت شهادته » أو بالمعروفية بالستر

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢١٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٨٩ ، الباب ٢٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، الرواية ٣٣٧٧٦.

(٣) نفس المصدر ٢٧ : ٣٩٨ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٥٢.

٢٠٢

والعفاف ، وكفّ الأعضاء ، والساترية للعيوب ، والتعاهد لأوقات الصلاة ، كصحيحة ابن أبي يعفور.

ويؤيّد بل يدلّ على المطلوب ما رواه مولانا العسكري عليه‌السلام (١) ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في كيفية قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واكتفائه في استركاء الشاهدين إذا لم يعرفهما بالرجوع إلى قبائلهما ، فإن أثنوا عليهما بجميل ذكر صالح ، قضي بشهادتهما ، فلم يكتف بمجرّد الإسلام ، ولم يبالغ في معرفة الحقيقة الواقعية والاختبار الباطني ، لظهور أنّ مجرّد هذا النبأ لا يوجب العلم بالواقع ووجود الملكة.

استدلّ الأوّلون بوجوه :

أحدها : أنّ العدالة أمر واقعيّ ، ووصف نفس أمري ، ومقتضى تعلّق الحكم عليه لزوم مراعاته ، والبحث عن ثبوته وعدمه في نفس الأمر.

وثانيها : أنّ العدالة خلاف الأصل ، وكذا المشروط بها ، فلا يكتفي فيها بغير العلم.

وثالثها : أنه لا يجوز الاتّكال على شهادة من لا يفيد قوله العلم ، للعمومات المانعة عن العمل بغير علم ، خرج معلوم العدالة بالإجماع ، ولا دليل على خروج غيره.

ورابعها : ما رواه محمّد بن هارون (٢) : « إذا كان الجور أغلب من الحقّ ، لا يحلّ لأحد أن يظنّ بأحد خيرا حتّى يعرف ذلك منه ».

والجواب عن الأوّل : أنّ هذا يصحّ ، لو لا الدليل على الاكتفاء في المعرفة بالصلاح

__________________

(١) الاستبصار ٣ : ٢٤٠ ، كتاب القضاء ، الباب ٦ من أبواب كيفية الحكم ، الرواية ٣٣٦٧٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٩ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب الوديعة ، الرواية ٢٤٢١٦.

٢٠٣

الظاهري ، وقد سمعته. وتعليق الحكم على العدالة النفس الأمرية لا ينافيه ، إذ الاكتفاء بالظاهر فيما دلّ عليه ليس من حيث هو ، حتّى ينافيه التعليق بالواقع ، بل من حيث كونه طريقا له ، كما لا ينافي الاكتفاء في معرفة العدالة بشهادة العدلين.

غاية الأمر أنّ الأوّل يقتضي التعليق على نفس الأمر مطلقا ، والثاني بما إذا أصاب الطريق المذكور ، ويطابقه الصلاح الظاهري ، فيقيّد به للزوم تقديم المقيّد على المطلق عند التعارض.

وعن الثاني : بالخروج عن الأصل بما مرّ من الدليل.

وعن الثالث : بعد الإغماض عن بعض ما يرد عليه : أنّ النصوص المتقدّمة ظاهرة في عدم حصول العلم بما يكتفي به فيها من دليل العدالة ، بل بعضها صريحة فيه ، كمرسلة يونس ، فيخصّص بها العمومات المانعة عن غير العلم.

وعن الرابع : أنّ النهي عن الظنّ في مثل مورد الرواية ، إنّما هو للإرشاد والتنبيه على عدم الاغترار بموجب الظنّ في بدو النظر عند غلبة الجور ، حملا لفعل المسلم على الصحّة ، وإلّا فليس متعلق الاختبار عند موجبه ، ولزم الانتقال من سبب الشك إلى سبب العلم ، وهو كما ترى.

واحتجّ الآخرون بالإجماع المحكيّ في الخلاف (١) ، والمستفيضة من الأخبار المكتفية في معرفتها بظاهر الإسلام ، كصحيحة حريز ، وفيها : « وعلى الوالى أن يجيز شهادتهم ، أي المسلمين ، إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق » (٢) وحسنة العلاء ،

__________________

(١) الخلاف ٦ : ٢١٨ ؛ انظر في الأخبار الكافي ٧ : ٣٩٥ ، باب ما يردّ من الشهود ؛ الفقيه ٣ : ٢٥ ، باب ما يجب ردّ الشهادة ؛ التهذيب ٦ : ٢٤٢ ، الحديث ٥٩٨ ؛ دعائم الإسلام ٢ : ٥٠٩ ، الحديث ١٨٢٠.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٧ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٤٩.

٢٠٤

من شهادة من يلعب بالحمام : « لا بأس إذا لا يعرف بفسق » ورواية سلمة (١) : « واعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض ، إلّا مجلودا في حدّ لم يتب عنه ، أو معروفا بشهادة زور ، أو ظنينا ».

والمرويّ في عرض المجالس : « كلّ من كان على فطرة الإسلام ، جازت شهادته » إلى أن قال : « فمن لم تره بعينك يرتكب ذنبا » ، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة » وما في الأخبار المتكثرة من الأمر بوضع أمر أخيك على أحسنه ، وعدم اتّهام أخيك.

والجواب عن الإجماع المحكيّ : كونه موهونا بمصير المعظم على خلافه ، بل يظهر من أكثر من نسب هذا القول إليهم ما يوافق المشهور ، بحيث يمكن دعوى شذوذه.

وأمّا الأخبار : فهي مع ضعف أكثرها سندا ، وعدم الجابر ، ودلالة بوجوه لا يخفى على المتدبّر ، يعارضها ما تقدّم من المعتبرة المستفيضة المشترطة لأوصاف صالحة وجودية في تعريف العدالة ، وهي أخصّ مطلقا منها ، فيخصّص بها. وعلى فرض تساوي النسبة ، فهي أرجح بكونها أكثر عددا ، وأصحّ سندا ، وأظهر دلالة وأشهر فتوى ، ولأهل الخلاف خلافا ، وللأصل وفاقا. ومع فرض التكافؤ وعدم الترجيح ، فلموافقته الأصل يتعيّن العمل به أيضا.

تلخيص وتتميم :

الأخبار الدالّة على الاكتفاء في معرفة العدالة بحسن الظاهر على ما تراه مختلفة في الأوصاف المعتبرة فيه زيادة ونقصانا ، والمشتمل على الأكثر لما كان أخصّ من المكتفى بالأقلّ ، يقدّم الأوّل ، ويخصّص غيره به ، وحيث إنّه صحيح عبد الله بن أبي يعفور المشتمل على قيود ليست في غيره ، واشتهر الاعتماد عليه في الباب عند

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩٩ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٥٤.

٢٠٥

الأصحاب ، فهو المعوّل عليه ، والمناط في معرفة العدالة ودليلها.

وربما يظهر منهم الاختلاف في فهم الضابط المستفاد منه. والذي أراه على ما هو ظاهر سياق الحديث وذيله ، أنّه لمّا سأله الراوي عن طريق معرفة عدالة الرجل التي هي هيئة راسخة نفسانية غير محسوسة ، وأجاب عليه‌السلام : بمعرفته بالستر والعفاف ، وكفّ الجوارح الأربع ، واجتناب الكبائر ، تعويلا على لازمها في الأعمال الحسنة ، ثم هي ـ أيضا ـ لما كانت أمورا واقعية نفس أمرية يصعب العلم بها ، وإن كان طريق دركها الحسّ ، فأخذ في بيان الاكتفاء في معرفة هذا اللازم بظاهر الحال ، وعدم لزوم البحث عن العلم بها بقوله عليه‌السلام : « والدلالة على ذلك كله : أن يكون ساترا لجميع عيوبه ، على حدّ يحرم التفتيش لما ورائه على المسلمين ، وكونه بحيث إذا سئل عنه في قبيلته ومحلته ، قالوا : ما رأينا فيه إلّا خيرا ، فلم يطّلعوا على ظاهر معاشرتهم له على فسق منه » مضافا إلى تعاهده ومواظبته للصلوات وحفظ مواقيتها ، تعليلا له بأنّها ستر وكفارة للذنوب.

وجعل السبيل إلى معرفة التعاهد لها كذلك الحضور إلى جماعة المسلمين ، وعدم التخلّف عنها إلّا من علّة ، مشيرا إلى وجهه ، بأنّ تشريع الجماعة والاجتماع للصلاة لمعرفة من يصلّي ممّن لا يصلّي ، ومن يحفظ مواقيتها ممّن يضيع.

فحاصل مدلول الصحيح في دليل عدالة مجهول الحال بحسب الواقع اجتماع أمور ثلاثة :

أحدها : الساترية للعيوب على حدّ يحرم التفتيش لما ورائه.

وثانيها : كونه بحيث إذا سئل عن قبيلته ومحلّته ، قالوا : ما رأينا منه إلّا خيرا ، أي كان معروفا بالصلاح والتقوى في المعاشرة الظاهرية.

وثالثها : التعاهد للصلوات الخمس والمواظبة عليها.

٢٠٦

فيجب العلم بتلك الثلاثة في معرفة العدالة. وأمّا عدم التخلّف عن الجماعة ، فالظاهر من سياق الخبر الموافق لظاهر الإجماع : أنّ لزومه إنّما هو عند توقّف العلم بالمواظبة على الصلاة وحفظ المواقيت عليه ، لا لدرك فضيلة الجماعة من حيث هي ، فلو علم بها من حال شخص لا من جهته ، يكتفى به. نعم ، لو ترك الجماعة على حدّ ينبئ عن الإعراض والاستخفاف ، فهو كما أشرنا إليه فيما تقدّم معصية موبقة.

وهل يشترط الساترية لجميع العيوب أو الكبائر؟ الظاهر الأوّل ، وفاقا لصريح والدي العلّامة في المستند (١). والمراد بها عدم رضاه بظهور معصية منه ، واتصافه بصفة الحياء ، وهو أمر غير ترك المعصية في الواقع ، فلا يوجب نقض الصغيرة إيّاها.

وربما يظهر من الرياض (٢) عدم التنافي بين القول باشتراط المعرفة بالمعاشرة الباطنية ، والقول بالإناطة بحسن الظاهر ، لعدم حصول المعرفة بكونه ساترا مواظبا إلّا بعد نوع معاشرة واختبار يطلع على باطن الأحوال ، وهو كذلك إن أراد الغالب ، وإلّا فهو غير مطرد ، ويمكن التخلّف.

فالظاهر ـ حيث لا ينكشف الواقع ـ حصول الظنّ بالهيئة النفسانية الباعثة على استمرار التقوى بحسن الظاهر بالمعنى المتقدّم.

ثمّ إنّ البحث عن خصوص المعاصي القادحة في العدالة لما كان خارجا عن مقصودنا من الكتاب ، فلنطوه طيّا. نعم ، لما كان الغناء كثيرا ما مما يشتبه حقيقة الأمر فيه حدّا وحكما ، وزلّت فيه أقدام أقوام ، ولم أر من الأعلام من استوفي فيه المرام ، رأيت البحث عنه في مشرق ، لكشف الحجاب عن مشكلاته ، مع ما له من عموم البلوى أهمّ وأحرى.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٦٢٨.

(٢) رياض المسائل ٢ : ٣٩٢.

٢٠٧
٢٠٨

[ المشرق التاسع ]

[ في أحكام الغناء ]

مشرق : في أحكام الغناء ، والكلام إمّا في ماهيته ، أو في حرمته. فهنا بحثان :

البحث الأوّل : في بيان حقيقته وموارده.

اختلفت كلمات الفقهاء واللغويين في تفسير الغناء.

وهو بالكسر والمدّ ، ككساء. فعن بعضهم (١) : أنّه هو مدّ الصوت.

وفي محكي النهاية (٢) : أنّ كلّ من رفع صوتا ووالاه ، فصوته عند العرب غناء.

وعن الشافعي : أنه تحسين الصوت ، وفي معناه ما عن جماعة : أنه تزيين الصوت.

وفي شهادات القواعد (٣) ، وبعض كتب اللغة ، أنه ترجيع الصوت ومدّه ، وقريب منه ما عن آخر : أنه الصوت المشتمل على الترجيع.

__________________

(١) لم نظفر على قائله وجعله المحقق النراقي ثامن الأقوال من دون إسناد إلى قائل معين ، انظر المستند ٢ : ٣٤.

(٢) النهاية ٣ : ٣٩١.

(٣) قواعد الأحكام ٢ : ٢٣٦.

٢٠٩

وعن التحرير (١) والإيضاح (٢) : أنه الصوت المطرب. ونحوه ما في القاموس (٣) : أنّه من الصوت ما طرب به.

وقال جماعة (٤) : إنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب ، أو مدّه المشتمل عليهما. وعزاه مولانا الأردبيلي (٥) إلى الأشهر. وقيل ما يسمّى في العرف غناء ، واختاره الشهيد الثاني (٦) ، واستحسنه بعض المحققين.

وربما اعتبر في صدق الغناء لهو الكلام ، فقيل : من يقرء القرآن أو المرثية لا يقال : إنّه يغنّي ، بل يقال : إنه يقرء القرآن ، أو يقرء المرثية.

والتحقيق : أنّ شيئا من هذه التفاسير غير واف لحقيقة المعنى ، بل لا يخلو عن إيراد وإشكال أو إجمال ، لظهور أنّ مجرد مدّ الصوت ورفعه ليس غناء ، فضلا عن كونه محرّما ، وكذا مطلق تحسين الصوت المتناول لمثل حسن الجوهر والرعونة وحسن اللحن وطيب اللهجة ، كيف وكان الأئمة أحسن الناس صوتا بالقرآن.

ففي رواية النوفلي (٧) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : ذكرت الصوت عنده ، فقال : « إنّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام كان يقرء القرآن ، فربما يمرّ به المارّ ، فصعق من حسن صوته » وعن الصادق عليه‌السلام (٨) : « كان عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أحسن الناس صوتا بالقرآن ، وكان

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ١٦٠.

(٢) لم نجد هذا التعبير فيه ولكنه بحث عن الغناء في المجلّد الأوّل : ٤٠٤.

(٣) القاموس المحيط ٤ : ٣٧٢.

(٤) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٢.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٥٧.

(٦) الروضة البهية ٣ : ٢١٢ ؛ ومسالك الأفهام ٣ : ١٢٦.

(٧) بحار الأنوار ٤٦ : ٧٠ ، الحديث ٤٥.

(٨) نفس المصدر.

٢١٠

السقّاؤون يمرّون ، فيقومون ببابه يسمعون قراءته » ونحوه عنه في أبي جعفر عليه‌السلام.

وورد في الأخبار مدح الصوت الحسن والترغيب فيه في قراءة القرآن ، كما في رواية عبد الله بن سنان (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ من أجلّ الجمال الشعر الحسن ، ونغمة الصوت الحسن » وفي رواية (٢) : « لكلّ شي‌ء حلية ، وحلية القرآن الصوت الحسن » وفي أخرى (٣) : « ما بعث الله نبيا ، إلّا حسن الصوت » وفي أخرى (٤) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله سبحانه ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) (٥) قال : « أن تمكث فيه ، وتحسن به صوتك » وعن الرضا عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حسّنوا القرآن بأصواتكم ، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا » إلى غير ذلك.

فلا ينبغي تعريف الغناء المشتهر حرمته مطلقا بتحسين الصوت وتزيينه ، إلّا أن يراد به تحسينا خاصّا موكولا إلى ما هو المعهود في العرف.

ونحوه مطلق الترجيع الحسن ، فإنّ الحكم بكونه غناء مما لا شاهد له ، ولا دليل يساعده من لغة أو عرف أو حديث ، بل في قوله عليه‌السلام في رواية ابن سنان (٦) : « اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر ، فإنه سيجي‌ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء » دلالة ظاهرة على أنّ مطلق الترجيع ليس غناء ، بل هو كيفية خاصة من الترجيع والألحان يستعملها أهل الفسوق.

كيف وقد اشتهر حرمة مطلق الغناء عند العلماء ، بل ربما ادّعى عليه الإجماع ،

__________________

(١) ومثله في البحار ٥٩ : ١٥٥ ، الباب ٢٣.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٢١١ ، الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، الرواية ٧٧٥٦.

(٣) بحار الأنوار ١١ : ٦٦ ، الحديث ١٢.

(٤) وسائل الشيعة ٦ : ٢٠٧ ، الباب ٢١ ، الرواية ٧٧٤٦.

(٥) المزّمّل (٧٣) : ٤.

(٦) وسائل الشيعة ٦ : ٢١٠ ، الباب ٢٤ ، الرواية ٧٧٥٤.

٢١١

مع عدم خلوّ غالب الأصوات في قراءة القرآن والخطب والمناجاة وتعزية الحسين عليه‌السلام ، في جميع الأعصار والأمصار ، من العلماء وغيرهم ، عن تحسين وترجيع في الجملة ، بل هو من المهيّج غالبا لما يقصد منها من الشوق إلى العالم الأعلى ، والاستشعار لعظمة ربّه وتوحيده ، والرغبة إلى الخيرات والجنّة والحزن والبكاء ، فيظهر من ذلك أنّه ليس كلّ ترجيع وتحسين صوت عندهم غناء.

وأما الترجيع المطرب : فإن أريد به مطلق التلذّذ والملائمة للطبع ، فهو لازم مطلق حسن الصوت ، وقد سمعت فساده. وإن أريد به ترجيع خاصّ وطرب مخصوص ، فلا بدّ من بيانه.

وأما التفسير بما يسمّى في العرف غناء ، فلا يفيد معنى محصّلا ، إذ لا عرف للعجم فيه ، ومرادفه في لغة الفرس غير معلوم ، ولو كان كالتعبير عنه بـ « سرود » كما في الصحاح (١) ، أو « خوانندگى وآوازه ودو بيتى » ونحو ذلك ، فهو كعرف العرب فيه غير مضبوط. غاية الأمر حصول القطع بالصدق العرفي في بعض الموارد ، كبعض الألحان الذي يستعمله أهل الفسوق غالبا في المعازف والملاهي.

وأمّا ما قيل أخيرا من اختلاف صدق ماهيّة الغناء باختلاف الكلام ، كالقرآن وغيره ، فلا محصّل له ، فإنّ الغناء من مقولة الأصوات باعتبار كيفياتها من الألحان ، لا متعلّقاتها من الألفاظ وأنواع الكلام ، كما يشهد به كلام أهل اللغة والفقهاء. وكفاك شاهدا ما مرّ من الأمر بقراءة القرآن بألحان العرب ، دون ترجيع الغناء الذي هو من لحون أهل الفسق والكبائر. فلا مدخل لخصوص الألفاظ الباطلة في ماهيّة الغناء ، وإن قلنا بإباحته في بعض الكلمات ، كما لا مدخل لخصوص مجالس الملاهي واقترانه بمحرّم خارجي ، كضرب العود والتكلّم بالباطل فيه ، وإن احتمله كلام بعضهم.

__________________

(١) صحاح اللغة : ١٧٢.

٢١٢

فالتحقيق في المقام ، أنّه لا شكّ ولا خلاف ظاهرا في مدخلية الترجيع المطرب في حقيقة الغناء ودخوله فيها ، كما سمعت ، بل لا ينفكّ حسن الصوت عنهما غالبا ، كما ذكره في الكفاية ، وكذا الظاهر ، بل لا ينبغي الشك فيه ، أنّ كلّ ترجيع حسن ليس غناء ، كما أشرنا إليه أيضا ، بل هو كما نبّه عليه بعض المحقّقين : كيفية خاصّة من التراجيع والألحان ، مثيرة لسرور ووجد وانشراح أو حزن وانقباض ، وهي غالبا متداولة بين أهل الطرب في العصيان ، يستعملونها في الملاهي والعيدان.

ثم هذا الأثر الحاصل منها في القلوب يختلف غالبا ، صلاحا وفسادا ، خيرا وشرا ، باختلاف الكلمات والنيّات والمقامات ، فإذا كان متعلّقها من غير الفضائل سيما من الأباطيل ، ومثل ذكر القدود (١) والخدود ووصف النساء يهيّج القوى الحيوانية ، ويثير وجدا شهوانيا ، ويفسد القلب ، وينبت النفاق ، وينجذب النفوس إلى الميل إلى اللهو والعشرة (٢) ، ويضمر خواطر السوء ، سيما بالنسبة إلى البواطن المملوّة بالهوى ، من قبيل حالة السكر الذي يفعله المسكر ، ويشتدّ تلك الحالة إذا كان مقترنا بمحرّم خارجيّ من الخمور والفجور وضرب الدفّ والقصب والمزامير ، بل لاختلاف أوزان الكلام ، وبحور العروض من قبيل التصانيف المتداولة بين أهل الطرب ، والأوزان التي يستعملها الناس في المعازف مدخل تامّ فيها أيضا.

وإن كان متعلقه من الفضائل ، كذكر توحيده سبحانه ، ونعوت جلاله وجماله ، وتذكير قربه وحبّه وأنسه ، ووصف الجنة والنار والكلمات المشوقة إلى دار القرار ، وتوصيف نعم الملك الجبار ، والترغيب بالخيرات والعبادات ، يثير غالبا ما لم يبلغ هذا الترجيع حدّ الإفراط بحيث يستهلك فيه المقروّ حزنا دينيا وشوقا إلهيا وفرحا

__________________

(١) القدود بضمّ القاف جمع القدّ بالفتح ، أي قامة الرجل.

(٢) العثرة ( خ ).

٢١٣

روحانيا لأهل الإيمان وأرباب القلوب والإيقان ، فإذا أثار هذه الصفات وأصاب حرارتها برد اليقين ، فتارة يظهر أثره في الجسد ويقشعرّ منه الجلد ، قال الله تعالى : ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ) (١) وتارة يعظم وقعه ، ويتصوّب أثره إلى الدماغ ، فيندفق منه العين. وتارة يتصوّب أثره إلى الروح ، فيتموّج منه الروح موجا يكاد يضيق عنه يطاق (٢) القلب ، فيكون من ذلك الصياح والاضطراب ، ويختلف هذه الأحوال شدة وضعفا باختلاف مراتب الإيمان وصلاح القلب.

وحاصل الكلام ، أن الألحان على وجوه ثلاثة :

منها : ما يعلم أنّه من تلك الكيفية الخاصّة من الترجيع ، فيعلم كونه غناء ويصدق عليه عرفا ، فلا كلام في حرمته في غير ما اختلف فيه من المستثنيات من الفضائل أو غيرها ، كما سيأتي.

ومنها : ما يعلم عدمه ، فلا بحث في إباحته.

ومنها : ما يضطرب فيه متفاهم العرف ، فيشكّ في كونه من الكيفية المخصوصة ، لاشتباه بينه وبين غيره من الصوت الحسن ، وهو يلحق بالثاني أيضا ، فيكون مباحا.

البحث الثاني :

في بيان حكمه. ولا خلاف بين أصحابنا ، بل بين المسلمين ، في حرمته في الجملة ، بل عدّ من ضروريّ الدين. ويدلّ عليه الآيات والأخبار المستفيضة التي سننبّه على جملة منها ، بل عليه الإجماع ظاهرا ، تحقيقا ونقلا مستفيضا ، فيما عدا المستثنيات الخلافية ، وهي الحداء للإبل ، وغناء المغنية لزفّ العرائس ، والتغنّي بالفضائل ، سواء اقترن باللعب بالملاهي وضرب العيدان ونحو ذلك من المحرّمات ، أم لا.

__________________

(١) الزمر (٣٩) : ٢٣.

(٢) نطاق ( خ ).

٢١٤

وتخصيص الحرمة بالأوّل ، كما يظهر من المحدّث الكاشاني في الوافي (١) ، بل فيه استفادة ذلك من عبارة الاستبصار (٢) ، شاذّ جدّا ، والإجماع منعقد قبله ، وكلام الاستبصار غير دال عليه ، بل الظاهر منه : اختصاص حرمة الغناء بالمقترن بالملاهي في خصوص زفّ العرائس ، لا مطلقا ، فإنّه قال بعد نقل أخبار حرمة الغناء وكسب المغنّية : والوجه في هذه الأخبار ، الرخصة فيمن لم يتكلّم بالأباطيل ، ولا يلعب بالملاهي والعيدان أو أشباهها ، ولا بالقصب وغيره ، بل كان ممن يزفّ بالعروس ، ويتكلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعيد عن الفحش والأباطيل ، وأمّا ما عدا هؤلاء ممن يتغنى بسائر أنواع الملاهي ، فلا يجوز في حال ، سواء كان في العرائس وغيرها. انتهى.

وأما في المستثنيات المذكورة فظاهر جماعة كالمفيد (٣) والحلبي (٤) والديلمي (٥) : التحريم مطلقا ، من غير استثناء ، بل عن ظاهر الأوّل : دعوى الإجماع عليه ، والمشهور سيما بين من تأخر ذلك فيما عدا الأوّلين ، خلافا فيهما لجماعة ، بل في الكفاية نسبة الخلاف في الحداء إلى المشهور ، وعن غيره في زفّ العرائس.

وممّن صرّح بالإباحة في الثاني ، ما سمعت من كلام الشيخ في الاستبصار ، ونحوه ما في النهاية (٦) ، وأحلّ فيه أجرة المغنّية فيه ، اذا لم يقرء فيه بالباطل ، ولا

__________________

(١) الوافي ٧ : ٢١٨ ـ ٢٢٣.

(٢) الاستبصار ٢ : ٦٢.

(٣) المقنعة : ٥١٨.

(٤) الكافي في الفقه : ٢٨١.

(٥) المراسم : ١٧٠.

(٦) النهاية : ٣٦٧.

٢١٥

يدخلن على الرجال ، ولا الرجال عليهنّ. والمحقق في النكت (١) ، والفاضل في المختلف (٢) وكرهه ابن البراج. وقال ابن إدريس (٣) : لا بأس بأجر المغنّيات في الأعراس ، إذا كان لم يتغنّ بالباطل ، على ما روى ، وهو مختار جمع آخر.

وأمّا في غيرهما مما استثنى ، فيظهر من بعضهم : دعوى الإجماع على الحرمة ، ومن آخر وقوع الخلاف فيه أيضا. قال في الكفاية (٤) بعد نقل كلام عن الشيخ الطبرسي في مجمع البيان : إنّ هذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده ، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفا عند القدماء ، وقال : كلام سيّد المرتضى في الغرر والدرر لا يخلو عن إشعار واضح بذلك ، ويظهر منه نسبة عدم التحريم في القرآن إلى الكليني أيضا.

وفي مجمع الفائدة (٥) ، جعل ترك الغناء في مراثي الحسين عليه‌السلام أحوط ، مشعرا بميله إلى الجواز. وفي كفاية الأحكام : وفي عدّة من الأخبار الدالّة على حرمة الغناء (٦) إشعار بكونه لهوا باطلا ، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيبة المذكرة للآخرة المجتمعة للأشواق إلى العالم الأعلى ، محل تأمّل ـ إلى أن قال : ـ فإذن ، لا ريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوها.

ثمّ إن ثبت الإجماع في غيره ، كان متبعا ، وإلّا ففي حكمه على أصل الإباحة.

__________________

(١) النهاية ونكتها ٢ : ٩٩.

(٢) مختلف الشيعة ٥ : ٤٩.

(٣) المراسم : ١٧٠.

(٤) كفاية الأحكام : ٨٥.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٦١ ـ ٦٣.

(٦) وسائل الشيعة ٦ : ٢١٠ ، الباب ٢٤ من أبواب قراءة القرآن ، الرواية ٧٧٥٤.

٢١٦

وقال في موضع آخر : واستثنى بعضهم مراثي الحسين عليه‌السلام إلى أن قال : وهو غير بعيد.

وقال صاحب الوافي (١) في باب كسب المغنّية وشراءها : لا بأس بسماع التغنّي بالأشعار المتضمّنة ذكر الجنّة والنار ، والتشويق إلى دار القرار ، ووصف نعم الله الملك الجبار ، وذكر العبادات ، والترغيب في الخيرات ، والزهد في الفانيات ، ونحو ذلك.

بل ربما يظهر منه اختصاص الحرمة بما اقترن على فعل محرّم ، دون ما سوى ذلك ، كما أشرنا إليه.

واختار والدي العلّامة (٢) ؛ إباحته في جميع ما ذكر من المستثنيات ، من القرآن والذكر والمناجاة والدعاء والرثاء.

ونحن نبحث أوّلا عما استدلّوا به على حرمة مطلق الغناء ، ثمّ عما هو حقّ القول في المستثنيات ، فقد استدلّوا على حرمة الغناء مطلقا بوجوه :

منها : الإجماع المحكيّ عن المفيد (٣) وغيره.

ومنها : قوله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (٤) بضميمة ما ورد في تفسير القمي (٥) عن الباقر عليه‌السلام : أنّه الغناء ، وشرب الخمر ، وجميع الملاهي. وفي معاني الأخبار (٦) عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام : عن قول الله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي

__________________

(١) الوافي ٧ : ٢١٨ ـ ٢٢٣.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٣٤٤.

(٣) المقنعة : ٥٨٨ ؛ قال : « وكسب المغنّيات حرام وتعلّم ذلك وتعليمه محظور في شرع الإسلام ».

(٤) لقمان (٣١) : ٦.

(٥) تفسير القمي ٢ : ١٦١.

(٦) معاني الأخبار : ٣٤٩ ، الحديث ١.

٢١٧

لَهْوَ الْحَدِيثِ ). قال : الغناء. وفي صحيح محمّد (١) : الغناء ممّا قال الله تعالى ( وَمِنَ النّاسِ ). الحديث. ونحوها رواية مهران بن محمد (٢) ، ورواية الوشاء (٣) ، عن الغناء ، قال : هو قول الله عزوجل ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) ورواية الحسن بن هارون : « الغناء مجلس لا ينظر الله تعالى إلى أهله ، وهو ممّا قال الله ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي ) الآية وفي الكافي (٤) ، عن الباقر عليه‌السلام : « الغناء مما أوعد الله سبحانه عليه النار » وتلى هذه الآية. وقريب منه الرضوي (٥).

ومنها : قوله تعالى ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (٦) والمراد به الغناء ، كما في رواية أبي بصير (٧) والشحام (٨) ، وابن أبي عمير (٩).

ومنها : قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) (١٠) وفسّر بالغناء في صحيح محمد (١١).

ومنها : الأخبار المستفيضة المانعة عن بيع المغنّيات وشرائهنّ وتعليمهنّ ، كرواية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٣٠٥ ، الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٥٩٩.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٠.

(٣) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٤.

(٤) نفس المصدر : الرواية ٢٢٥٩٩ ؛ وفي الكافي ٦ : ٤٣١ ، الحديث ٥.

(٥) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٤.

(٦) الحجّ (٢٢) : ٣٠.

(٧) نفس المصدر : الرواية ٢٢٦٠٢.

(٨) نفس المصدر : الرواية ٢٢٥٩٤.

(٩) نفس المصدر.

(١٠) الفرقان (٢٥) : ٧٢.

(١١) نفس المصدر : الرواية ٢٢٥٩٨.

٢١٨

الطاطري (١) ، عن بيع الجوار المغنّيات ، فقال : بيعهنّ وشراؤهنّ حرام ، وتعليمهنّ كفر ، واستماعهنّ نفاق. وقريب منها خبر ابن أبي البلاد (٢) ، وفي معناه ما ورد من اللعن على المغنّية ، وعلى من أكل من كسبها أو ثمنها (٣).

ومنها : الروايات الدالّة على ذمّ فاعل الغناء ومستمعه وبيته ومجلسه ، كصحيح الشحام (٤) : بيت الغناء لا يؤمن فيه الفجيعة ، ولا يجاب فيه الدعوة ، فلا يدخله الملك » ومرسلة المدني (٥) : سئل عن الغناء وأنا حاضر ، فقال : « لا تدخلوا بيوتا الله معرض عن أهلها » ورواية الشحام (٦) : « الغناء مثير النفاق » والخبر (٧) : « استماع الغناء ينبت النفاق في القلب » وفي الخصال (٨) : « الغناء يورث النفاق ويعقّب الفقر » وفي جامع الأخبار ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحشر صاحب الغناء من قبره أعمى وأخرس وأبكم » وفيه عنه عليه‌السلام : « ما رفع أحد صوته بغناء إلّا بعث الله سبحانه شيطانين على منكبه ، يضربون بأعقابهما على صدره حتّى يمسك » ورواية يونس (٩) : أنّ العياشي

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ١٢٤ ، الباب ١٦ من أبواب ما يكتسب به. الرواية ٢٢١٥٥.

(٢) نفس المصدر : الرواية ٢٢١٥٢.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر ١٧ : ٣٠٥ ، الباب ٩٩ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٥٩٤.

(٥) نفس المصدر.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر.

(٨) الخصال : ٢٤ ، الحديث ٨٤ ؛ ورواه في الوسائل ١٧ : ٣٠٩ ، الرواية ٢٢٦١٦.

(٩) ونقل في حاشية الوسائل عن عيون الأخبار هكذا : إذا جمع الله تعالى بين الحقّ والباطل مع أيّهما يكون الغناء؟ فقال الرجل : مع الباطل ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : حسبك فقد حكمت على نفسك ، فهكذا كان قولى له. ( وسائل الشيعة ١٢ : ٢٢٧ و ٢٢٨ ـ طبع تهران ، المكتبة الإسلامية ـ ).

٢١٩

ذكر أنّك ترخّص الغناء ، قال : كذب الزنديق ، ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء ، فقلت له : إنّ رجلا أتى أبا جعفر عليه‌السلام ، فسأله عن الغناء ، فقال : يا فلان إذا ميّز الله تعالى الحقّ من الباطل ، فأين يكون الغناء؟ فقال : مع الباطل ، فقال : قد حكمت. ومرسلة الفقيه (١) : سأل رجل عليّ بن الحسين عليهما‌السلام عن شراء جارية لها صوت ، فقال : « ما عليك لو اشتريتها ، فذكرت الجنة ، يعنى بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء ، وأمّا الغناء فمحظور » ورواية ابن سنان (٢) : « اقرءوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإيّاكم ولحون أهل الفسق والكبائر ، فإنّه سيجي‌ء بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانية لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة » الحديث.

أقول : في دلالة تلك الأدلّة على حرمة الغناء مطلقا نظر :

أمّا الإجماع ، فالمحقّق منه غير ثابت في المستثنيات المذكورة ، بل كلام المقدّس الأردبيليّ (٣) ، والمحقق الخراساني (٤) ، ووالدي العلّامة (٥) كما عرفت ، يشعر بل يدلّ على وقوع الخلاف فيها ، بل سمعت نقل الشهرة في إباحته في الحداء ، ومخالفة جمع من أعيان الطائفة في زفّ العرائس ، واشتهار فعله في مراثي سيّد الشهداء ، في جميع الأعصار والأمصار من غير نكير غالبا ، حدّا يحصل الجزم بعدم وقوع مثل ذلك الاشتهار ، مع عدم الاستنكار في خلاف الإجماعيات ، بل كان ينبغي أن يكون في الاستنكار مثل ضرب العيدان والقصب والمزامير في مجالس المؤمنين

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٦٠ ، الباب ٢ ، الرواية ٥٠٩٧.

(٢) الكافي ٢ : ٦١٤ ، الحديث ٣ ؛ كان في الأصل : « فقلوبهم مقلوبة » وفي الكافي كما أثبتناه وفي بعض المصادر : « قلوبهم مفتونة » مكان « قلوبهم مقلوبة ».

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ٦١.

(٤) كفاية الأحكام : ٨٦.

(٥) مستند الشيعة ٢ : ٣٤٤.

٢٢٠