مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

وكذا الظاهر أنّ القول الثالث أيضا مبنيّ على أنّ التعويل على حسن الظاهر والمعروفية بالستر والعفاف ، من باب الكشف عن العدالة والدلالة عليها ، لا كونه نفسها تنزيلا لحسن ظاهر الحال في المعاشرات منزلة الواقع ، أعني الاجتناب الواقعي عن القبائح الذي هو القول الثاني ، كما لا يخفى على المتأمل في كلام القائلين به. فيبقى الاحتمال في أصل معنى العدالة وحقيقتها بين أحد الأوّلين ، أعني الملكة النفسانية المشتهرة بين المتأخرين ، ونفس تقوى الجوارح من الأفعال والتروك المعروفة بين المتقدّمين.

ثمّ من الظاهر أن ليس المراد من الثاني مجرّد الفعل والترك من حيثهما ، ولو لعدم المقتضي أو وجود المانع ، كالعنين التارك للزنا واللواط ، والأخرس والأعمى والأصمّ بالنسبة إلى معاصي تلك الجوارح ، وغيرهم ممّن لم يتمكّن من آلات المعاصي ، بل المراد كونه لتقوى الله عزوجل وغرض ديني ، لا للرياء والسمعة أو الخوف من الناس أو مصلحة دنيوية أخرى ، لعدم كونه ممدوحا ـ حينئذ ـ فليس من العدالة المأمور بها المثاب عليها إجماعا ، بل العمل ـ حينئذ ـ في بعض تلك الوجوه بنفسه معصية يخالف العدالة ، فلا بدّ أن يكون العمل المزبور منوطا بنيّة خالصة وفضيلة نفسانية.

وكذا ليس المراد مجرّد التلبس بهذه الأوصاف الصادق على مثل ساعة أو يوم أو على زمان الشهادة ، بل مرادهم التلبّس بها دائما أو في زمان طويل ، كشهر بل أكثر ، من غير تخلّف عنه فيه.

ولعلّه إجماعيّ أيضا ، بل هو مدلول كلمات القائلين به ، فإنّه لا يصدق عرفا تلك الأوصاف التي ذكروها على الإطلاق إلّا على المواظب المداوم عليها.

١٦١

ألا ترى أنّ من قال : اشتر لي عبدا عفيفا ورعا مجتنبا عن مجالسة الأراذل ، أو عابدا مصلّيا ساعيا إلى المساجد ، وأمثال ذلك من التروك والأفعال ، لا يفهم منه عرفا إلّا المواظب الملازم لها.

وحيث إنّ المواظبة على تلك الأوصاف في المدة الكثيرة بالنيّة الخالصة ، لا بدّ وأن يكون لها مبدأ في النفس باعثة على النية واستعمال الجوارح أو كفّها ، فلا ينفكّ عن صفة حسنة ثابتة نفسانية يمنع ما دام وجودها عن التخلف عن تلك الآثار ، سواء بلغت تلك الصفة الكامنة حدّ الملكة بالمعنى المذكور في القول الأوّل أم لا.

فبين هذين القولين عموم من وجه ؛ لاختصاص الأوّل بكون تلك الملكة مما يقتدر به على ترك المعاصي وملازمة التقوى بسهولة ، ولكن لا ينافيها التخلّف أحيانا بفعل معصية دفعة أو أكثر ، فإنّ تلك الملكة مما لا يحصل إلّا بمجاهدة وتكرير ومزاولة ، وبعد حصولها لا تزول بفعل خلافها مرّة أو مرّات عديدة ، واختصاص الثاني بكون الصفة النفسانية الباعثة على التقوى بحيث لم يتخلّف عنها الأثر ، فينافيها المعصية ، كأن يكون خوفا من الله عزوجل أو طمعا في ثوابه أو إجلالا له ، فإنّها يزول عند المعصية ، وإلّا لم يتخلّف عن أثرها الذي هو ترك المعصية ، وإن عادت ثانيا ، ولكن لا ينافيها كون ترك المعصية بمشقة ومجاهدة ، حيث لم يحصل بعد التكرار للبالغ حدّا يوجب حصول الملكة وسهولة التقوى ، نظير الخوض في الأحوال والمعارك المنبعث عن غيرة أو حميّة أو حبّ شخص أو بغضه ، لا عن ملكة الشجاعة والجراءة.

فيشترك القولان في كون الآثار منبعثة عن صفة راسخة في النفس ، ويختلفان في أنّ العدالة هل هي نفس تلك الآثار المنبعثة عن الهيئة النفسانية ، فينقضها التخلّف في الآثار ، أو هي نفس الملكة الباعثة على سهولة الآثار ، فلا ينقضها

١٦٢

المخالفة أحيانا على حدّ لا تزول به الملكة بل ينقضها زوال نفسها.

فالاختلاف في القولين من وجهين.

وهل الترجيح للأوّل أو الثاني؟

مقتضى عدّها في فنّ الأخلاق من الصفات والملكات ـ بل عرفوها فيه بما يناسب الملكة المذكورة كقولهم إنّها ملكة لزوم الاقتصاد في كلّ شي‌ء من الأعمال والصفات من غير ميل إلى طرفي الإفراط والتفريط ، أو هي ملكة يقتدر بها العقل العمليّ على ضبط جميع القوى تحت إشارة العقل النظريّ ـ كونها الأوّل ، إلّا أنّ الملكة ـ كما عرفت ـ لا ينافيها التخلّف مرّة في العمل أو مرّتين ، ولا تزول به ، وهو مناف للعدالة المعتبرة في الشرع إجماعا ، وجعل عدم التخلّف شرطا زائدا عن نفس العدالة ينافيه ظاهر كلماتهم بل صريحها ، من سقوط العدالة بفعل الكبيرة إلى أن يحصل العلم بعودها بالتوبة. وهذا يقوى كون الثاني عدالة ، مع أنّه أيضا يرجع إلى صفة راسخة نفسانية هي منشأ ظهور الآثار في الجوارح ـ كما سمعت ـ مع أنّه يستبعد في العقول إسقاط من تحمل نفسه على ترك محارم الله تعالى بالجهد والمشقّة طول السنة خوفا من الله سبحانه بحيث لا يبادر إليها ، عن حكم العدالة ، وجعله من عداد الفسّاق ، مع أن مثله قد يعدّ أعلى مرتبة وأكثر ثوابا وأعظم درجة من ذي الملكة المذكورة ، على أنّ الأخبار الواردة في الباب مفسّرة بها بنفس الأفعال والتروك ، ككلمات أكثر القدماء.

وقول الصادق عليه‌السلام في صحيح عبد الله بن أبي يعفور ، في جواب قول السائل : بم يعرف عدالة الرجل؟ : « أن تعرفوه بالستر والعفات وكفّ البطن والفرج واليد واللسان » (١) وقوله : « يعرف باجتناب الكبائر » (٢) لا ينافي كون حقيقة العدالة نفس

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٧ ، الباب ٢ ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر.

١٦٣

العمل ، بل دلالته على المطلوب أشبه ، فإنّه من قبيل أن يقال : نعرف الكتاب الفلانيّ بالمسائل الفلانية.

وبالجملة بملاحظة الشواهد المذكورة تقوى القول الثاني.

ويوافقه في المعنى التفسير بالصفة الراسخة في النفس المقرونة بتلك الأعمال والتروك ، كما عرفت ، فمعنى العدالة مركّب منهما.

وكيف كان ، فهو غير الملكة ، والقول بها لا شاهد له من لغة أو حديث ، والتبادر العرفيّ الذي ادّعاه جمع من القائلين له ممنوع.

وإن سلّم كونها من الصفات في المتفاهم العرفيّ ، فغايته كونها صفة راسخة باعثة على التقوى ، ولو هي الخوف من الله سبحانه.

نعم ، يستلزم ذلك بعد تكرّر العمل حصول الملكة غالبا.

تتميم : لا خلاف في أنّ الفسق ضدّ العدالة الشرعية ، كما أنّ العدالة بالمعنى المصطلح عند أئمة الحكمة ـ أعني تعديل الملكات النفسانية ـ ضدّها الجور بمعنى الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ، فلا يجتمعان.

وهل بينهما واسطة؟

والتحقيق أنّ الفسق إن فسّر بما يخالف العدالة ، فلا واسطة بينهما ، لكون التقابل بالوجود والعدم ، وإن فسّر بالخروج عن طاعة الله سبحانه وارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغيرة ، أو بملكة ذلك وإن لم يتّفق له المعصية لمانع ، من تعذر أسباب المعصية أو خوف أو مرض ونحوها لا لورع دينيّ ، فعلى القول بكون العدالة ملكة ، ففاقد الملكتين المجتنب عن الذنوب ولو طاعة لله واسطة بينهما.

١٦٤

وكذا على القول بحسن الظاهر يكون غير ذي ملكة الفسق ، المجتنب عن الذنوب والمعاصي لعذر ، واسطة.

وحيث إنّ الظاهر المتبادر من الفسق أحد الأخيرين ، بل الأوّل منهما ، فالظاهر وجود الواسطة هذا بحسب الواقع ، وأمّا بحسب الحكم في الظاهر فسيأتي الإشارة إلى ما يقتضيه الأصل منهما.

البحث الثاني : قد علمت أنّ اجتناب المعصية جزء العدالة أو لازمها.

واختلفوا في أنّ المعتبر هو الاجتناب عن جميع المعاصي من الكبائر والصغائر ، أو من الكبائر فقط. وهذا الخلاف بعد اختلافهم في تقسيم الذنوب إليهما.

والمعروف بين أكثر المتأخّرين بل عامتهم الانقسام إليهما. وإليه ذهب كثير ممّن تقدم ، بل عن الصيمري والبهائي الإجماع عليه. وعن جماعة من القدماء كالحلبي والقاضي والشيخ في العدّة والطبرسي أنّ الذنوب كلّها كبائر ، بل عن الأخير نسبته إلى الأصحاب ، مشعرا بدعوى الإجماع عليه (١).

والظاهر أنّ مراد هؤلاء أن ليس للذنوب معيارا معيّنا محدّدا يعدّ به الكبائر والصغائر على الإطلاق ويختلف بهما الأحكام الشرعية ، كالقدح في العدالة ونحوه ، لا أن ليس لها اختلاف في الشدة والضعف وزيادة العقاب ونقصانه ، فإنّ من الضروريّ أن ليس عقاب ترك ردّ السلام كقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدم الكعبة.

وبهذا يختلف الذنوب في الكبر والصغر بإضافة بعضها إلى بعض ، كما نبّه به

__________________

(١) الحلبي في الكافي : ٤٣٥ ؛ والقاضي في المهذب البارع ٣ : ٥٥٢ ؛ والشيخ في العدّة : ٣٧٩ ؛ والطبرسي في مجمع البيان ٣ : ٣١.

١٦٥

الحلّي (١) بعد نفيه التقسيم ودعواه عدم الخلاف فيه بقوله : لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي إلّا بالإضافة إلى غيرها.

وعن بعضهم جعل الإضافة على أقسام ثلاثة :

أحدها : الإضافة إلى الطاعة ، فإن زاد عقابها على ثواب تلك الطاعة فهي كبيرة بالنسبة إليها ، وإن نقص فهي صغيرة.

وثانيها : بالإضافة إلى معصية أخرى ، فهي كبيرة بالنسبة إلى ما هي أشدّ عذابا منه ، وصغيرة بالنسبة إلى ما هي أقلّ منه.

وثالثها : بالنسبة إلى فاعلها ، فإن صدرت عن شريف عالم فهي كبيرة ، وإن صدرت عمن دونه فهي صغيرة.

وربما قيل : إنّ الصغيرة لا تطلق على الذنوب إلّا على القول بحبط الطاعة الكبيرة (٢) ، وأنت خبير بأنّ القسمة معروفة بين أصحابنا ، والقول بالإحباط خلاف المعروف بينهم ، فكيف يناط به عند أرباب القسمة؟

والحقّ في المسألة ما عليه المعظم ، لظاهر الآيتين ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٣) و ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ) (٤).

والنصوص المستفيضة المتضمّنة للتقسيم بهما ، وإيعاده للكبائر بطائفة من

__________________

(١) السرائر ٢ : ١١٨.

(٢) في « م » هكذا : وربما قيل : إنّ الصغيرة قد يطلق على الذنب إلّا على القول بالإحباط ، وهو موازنة العمل الصالح والمعصية ، فكلّ ذنب يحبط بالطاعة فهي صغيرة وكلّ ذنب يحبط الطاعة فكبيرة.

(٣) النساء (٤) : ٣١.

(٤) الشورى (٤٢) : ٣٧.

١٦٦

المعاصي ، والمصرّحة ببعض الأوصاف للكبائر ، كمرسلة الفقيه : « من اجتنب الكبائر كفّر الله عنه جميع ذنوبه » (١).

وفي خبر آخر : « الأعمال الصالحة يكفّر الصغائر » (٢) وفي ثالث : « لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار » (٣). وأمثال ذلك ممّا دلّ على القسمة على الإطلاق.

واستدلّ النافون باشتراك الجميع في مخالفة أمره سبحانه ونهيه ، وبالاستشهاد بظهور بعض الأخبار فيه ، مثل ما دلّ على أنّ كلّ معصية شديدة ، وما دلّ على أنّ كلّ معصية قد توجب لصاحبها النار ، وما دلّ على التحذير من استحقار الذنب واستصغاره (٤) ، ونحو ذلك.

ويضعّف الأوّل بأنّه مبنيّ على كون الكبر والصغر باعتبار مجرّد المخالفة التي هي غير قابلة للشدّة والضعف ، وليس كذلك ، بل مناط الافتراق بهما المفسدة التي أوجب النهي ، وهي قابلة للشدّة والضعف بتفاوت العقاب كما أشرنا إليه ـ وإن اشتركا في النهي ـ كما يشاهد هذا الفرق في النواهي العرفية.

والثاني بعدم دلالة شي‌ء من تلك الأخبار على الاشتراك فيما عنوا به من معنى الكبيرة ، وهو كونه غير مكفّر بالأعمال الصالحة ، أو ما يوعد عليه النار مطلقا ، أو قادحا في العدالة.

وحيث تبيّن أنّ الذنوب ينقسم إلى الكبائر والصغائر ، على ما سننبّه على تفصيل

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ١٦ ، الباب ٥ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٢٢.

(٢) لم نقف عليه بهذه العبارة.

(٣) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٣٨ ، الباب ٨ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٨١.

(٤) الكافي ٢ : ٢٦٩ ، الحديث ٧ ؛ وسائل الشيعة ١٥ : ٢٩٩ ، الباب ٤٠ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٥٦٧ ؛ و ٣١٠ ، الباب ٤٣ ، الرواية ٢٠٦٠٤.

١٦٧

كلّ منهما ، فاعلم أنّه لا خلاف في توقّف العدالة على اجتناب الكبائر.

واختلفوا في توقّف اجتناب غيرها أيضا وترك الجميع. اختاره المفيد (١) والحلّي (٢) والحلبي (٣) والقاضي (٤) والشيخ في العدّة (٥) والطبرسي (٦) في المحكيّ عنهم ، بل عن ظاهر الثاني والأخيرين كونه مجمعا عليه بين الطائفة.

وذهب جمهور المتأخّرين ، بل عامّتهم وأكثر المتقدّمين ـ بل قيل عليه اتفاق كلّ من قسّم الذنوب إلى قسمين ـ إلى عدم قدح فعل الصغيرة فيها إلّا مع الإصرار الموجب لصيرورتها كبيرة ، وهو الحقّ ، لدلالة صحيح ابن أبي يعفور الآتي عليه في قوله : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله سبحانه عليها النار » (٧) الظاهر في عدم توقفها على غيرها ، باعتبار كونه في مقام التحديد والتعريف ، بل لو لا الاختصاص كان التخصيص به إغراء قبيحا ، مع أنّ مقتضى الأصل عدم تقييده بوصف غيره.

فإن قلت : قوله عليه‌السلام في جواب السائل : بم يعرف عدالة الرجل؟ « أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان » يعمّ جميع الذنوب ، وحصول القدح في العدالة ، سيما الصادرة عن الجوارح الأربعة ، وإن كانت صغائر ، ونحوه قوله عليه‌السلام بعده ، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساترا لجميع عيوبه الشامل للصغير.

قلت : كلامه عليه‌السلام مقتض للمتعلّق ، ضرورة أن ليس المراد ما صدق عليه الستر

__________________

(١) مختلف الشيعة ٨ : ٤٩٨.

(٢) السرائر ٢ : ١١٨.

(٣) الكافي في الفقه : ٤٣٥.

(٤) المهذب البارع ٢ : ٥٥٦.

(٥) عدّة الأصول : ٣٧٩.

(٦) مجمع البيان ٣ : ٣١.

(٧) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩١ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٣٢.

١٦٨

وكفّ الأعضاء ، فلا عموم له.

والحمل على العموم عند حذف المتعلّق فيما يحمل عليه ، إنّما هو لدليل الحكمة ، من عدم المرجّح ولزوم الإغراء لولاه ، وهي هنا منتفية ، لأنّ قوله عليه‌السلام عقيب ذلك : « ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار » قرينة ظاهرة بل صريحة مبيّنة للمتعلّق ، وإلّا لما صحّ التخصيص ، خصوصا مع ما فيه من التفصيل.

مضافا إلى أنّ فعل الصغيرة مرّة أو مرتين لا ينافي صدق وصف المعروفية بالستر والعفاف والكفّ على وجه الإطلاق ، كما سنشير إليه.

ولعلّ هذا وجه تخصيص اجتناب الكبائر بالذكر ثانيا ، تنبيها على قدحها في العدالة مطلقا ولو مرّة ، مع أنّه جعل في الصحيحة الستر والكفّ معرفا لاجتناب الكبائر ، والمعرّف يعتبر حيث لم ينكشف المعرّف ـ بالفتح ـ فلو فرض العلم بالاجتناب عن الكبائر لم يكن المعرّف معتبرا ، ولو مع صدور الصغيرة.

مضافا إلى أنّ اشتراط ستر العيب ولو كان صغيرة لا يستلزم قدح فعل الصغيرة ، فإنّهم جعلوا من أسباب صيرورة الصغيرة كبيرة عدم المبالاة بإعلانها ، واستدلّوا على المطلوب ـ أيضا ـ باستلزام قدح الصغيرة في العدالة للحرج العظيم ، وسقوط الشهادات ، وتعطيل الأحكام المسبّبة لوجود العدل ، وتضييع الحقوق.

وردّه الحلّي (١) بإمكان الرفع بالتوبة. واعترض عليه في المختلف (٢) : بأنّ من شرط التوبة العزم على ترك المعاودة ، ولا شكّ أنّ الإنسان لا ينفكّ عن الصغائر ، فلا يصحّ هذا العزم منه غالبا.

وأورد عليه بأنّه ينافي وجوب التوبة عنها على كلّ أحد.

__________________

(١) شرائع الإسلام ٢ : ١١٨.

(٢) مختلف الشيعة ٨ : ٤٨٤.

١٦٩

أقول : إمكان العزم وصحّة التكليف به لا يرفع المحذور ، فإنّ المعترض مستظهر بعدم وقوعه غالبا ، والمحذور ناش عن عدم الوقوع في الغالب ، لا عن عدم التكليف به ، إلّا أن يمنع غلبة عدم وقوع العزم على الترك ، وإن لم ينفكّ الإنسان غالبا عن الصغائر ، فإنّ حالة حصول العزم المصحّح للتكليف بالتوبة ممكن الوقوع للإنسان كثيرا ، وإن كان النقض له متكثر الوقوع أيضا.

كيف وإلّا لم يقع التكليف بترك الصغائر ، وبطلانه ظاهر.

وكيف كان ، فالاستدلال المذكور لا يخلو عن تأييد واعتضاد للأوّلين من وجوه :

منها : الأصل والاستصحاب.

وفيه الخروج عنهما بما مرّ من الدليل ، مع أنّ في جريان الأصل مطلقا ، تأمّل.

ومنها : فحوى ما دلّ على اشتراط المروّة التي لا إثم فيها.

وفيه منع الأولوية ، لعدم العلم بالعلّة.

ومنها : أنّ فعل المعصية خروج عن طاعة الله سبحانه ، وهو فسق ، كما في مجمع البيان (١) وكنز العرفان (٢) والقاموس (٣) ، والفاسق يضادّ العادل ، للاتفاق على عدم صدقه على من صدق عليه العادل.

وفيه منع كون الفسق مطلق الخروج عن الطاعة ، واحتمال إرادة من ذكر [ ه ] الخروج المطلق ، لا مطلق الخروج ، بل لعلّه الظاهر ، لظهور العبارة المطلقة في الاستمرار ، كما أشرنا إليه في نحو الستر والاجتناب ، مع أنّ التعويل في المقام على ظاهر كلام من ذكر ، مع معارضته بتخصيص غيره الفسق بفعل معصية مخصوصة

__________________

(١) مجمع البيان ٣ : ٣١.

(٢) كنز العرفان ٢ : ٣٨٤.

(٣) القاموس المحيط ٣ : ٣٩٩.

١٧٠

كظاهر السيوري والشهيد الثاني غير مقبول ، سيما بملاحظة مصير المعظم إلى عدم كون الصغيرة قادحة ، مع كونها منافية عندهم للفسق ، خصوصا بملاحظة تبادر الغير وصحّة سلب الفاسق عن المطيع الصالح الصادر عنه صغيرة في عرض سنة.

ومنها : أنّ فعل الصغيرة تعدّ عما حدّه الله تعالى ، والمتعدّي عنها ظالم ، والظالم غير مقبول الشهادة ، فهو غير عادل.

أمّا الأوّل ، فظاهر.

وأمّا الثاني ، فلقوله تعالى ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (١).

وأمّا الثالث ، فلقوله تعالى ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (٢) ، والركون مطلق الاعتماد.

وأمّا الرابع ، فللاتفاق عليه.

وفيه منع كون كلّ متعدّ ظالما ، والآية تدلّ على صدق الظالم بالتعدّي عن جميع حدود الله سبحانه ، فهو بالمفهوم دلّ على خلاف المدّعى ، ومنع صدق الركون على مجرّد قبول الشهادة ما لم يتضمّن الميل والرضا بالفعل الغير المرضي ، كما نصّ به بعض اللغويين.

ومنها : أنّ المقصود من جعل العدالة شرطا ليس إلّا حصول الاطمئنان ، وهو لا يحصل مع ظهور المعصية.

وفيه منع اطّراد القضيتين.

ومنها : مفهوم ما روي في عرض المجالس : « من لم تره بعينك يرتكب ذنبا ، ولم يشهد عليه بذلك شاهدان ، فهو من أهل العدالة والستر ، وشهادته مقبولة ، وإن كان

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٢٩.

(٢) هود (١١) : ١١٣.

١٧١

في نفسه مذنبا » (١).

وفيه ضعفه سندا ، مع خلوّه عن الجابر ، سيما مع تضمّنه لما ليس له قائل ، ودلالة ، لأنّها بالمفهوم وهو نكرة مثبتة غايتها الإطلاق ، وهو في المقام غير مفيد للعموم ، لظهوره في بيان حكم آخر ، وهو عدم العلم بالذنب ، فتأمّل.

ومع التسليم فهو أعمّ مطلقا من الصحيح المتقدّم ، فيخصّص به.

تتميمات :

الأوّل : اختلفوا في تفسير الكبائر تحديدا وتعديدا على مذاهب شتّى ، أكثرها خال عن الدليل. والمشهور بين أصحابنا : أنّها ما توعّد عليه بالخصوص.

والنصوص الواردة في المقام بين قسمين :

أحدهما : المفسّر بها بالوصف ، وهو ما أوعد الله سبحانه عليه بالنار ، كصحيح ابن أبي يعفور (٢) الآتي ، وفيه : « يعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عزوجل عليها بالنار ، من شرب الخمر والزنا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك ».

ورواية الحلبي (٣) في قوله تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ) الآية.

قال : « الكبائر التي أوجب الله عليها النار ».

وصحيح أبي بصير (٤) في بيان من يؤتي الحكمة ، قال : « معرفة الإمام عليه‌السلام واجتناب الكبائر التي أوعد الله سبحانه عليها النار ».

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٠ : ٢ ، الباب ٣٩ ، الحديث ٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٩١ ، الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الرواية ٣٤٠٣٢.

(٣) نفس المصدر ١٥ : ٣٢٦ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٤٨ ( الرواية عن عليّ بن جعفر ).

(٤) نفس المصدر ١٥ : ٣١٥ ، الباب ٤٥ ، الرواية ٢٠٦١٩.

١٧٢

وصحيح السرّاد (١) عن الكبائر كم هي وما هي؟ فكتب : « الكبائر ما أوعد الله عزوجل عليها النار ، وكفّر عنه سيّئاته إذا كان مؤمنا ، والسبع الموجبات : قتل النفس الحرام ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا ، والتعرّب بعد الهجرة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف ».

وصحيح محمّد (٢) : « الكبائر سبع : قتل المؤمن متعمّدا ، وقذف المحصنة ، والفرار من الزحف ، والتعرّب بعد الهجرة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وكلّما أوجب الله سبحانه عليه بالنار ».

ورواية عباد (٣) عن الكبائر قال : « كلّما أوعد الله تعالى عليه بالنار ».

وثانيهما : ما اشتمل على عدّها من غير تحديد بوصف ، كصحيح عبيد (٤) : وفيه أنّها الكفر والقتل والعقوق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف والتعرّب.

وموثق أبي بصير (٥) ورواية عبد الرحمن (٦) ، على اختلاف يسير في بعض المعدودات. ونحوها رواية مسعدة (٧) ، إلّا بزيادة القنوط من رحمة الله تعالى والأمن من مكر الله. وفيما رواه الصدوق في العيون (٨) عن الفضل بن شاذان ، فيما كتب به مولانا الرضا عليه‌السلام للمأمون في عدّ الكبائر ما يزيد عن ذلك إلى ما بلغ ثلاث وثلاثين

__________________

(١) نفس المصدر ١٥ : ٣١٨ ، الباب ٤٦ ، الرواية ٢٠٦٢٨.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣١٥ ، الباب ٤٥ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٢٠.

(٣) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦١٩.

(٤) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٢٨.

(٥) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٥٤.

(٦) نفس المصدر.

(٧) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٤٠.

(٨) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٦٣.

١٧٣

آخرها الإصرار على الصغائر ، وخبر عبد العظيم (١) المشتمل على ما تجاوز العشرين ، ونحوهما.

ويمكن الجمع بين القسم الأوّل والأوّل من الثاني ، بحمل الأخير على إرادة أعظم الكبائر ، بشهادة الأخبار الأخيرة المعتضدة بصحيحي السرّاد ومحمّد المتقدّمين المصرّحين للسبع بالخصوص ، بعد ذكر تعريف الكبيرة أو قبله ، بما أوعد الله سبحانه عليه النار ، وصحيح عبيد المصرّح بأنّ هذا السبع أكبر المعاصي ، نظرا إلى ظهوره في الأكبرية الإضافية.

ويدلّ على ذلك صريحا رواية أبي الصامت (٢) : « أكبر الكبائر سبع : الشرك بالله العظيم ، وقتل النفس التي حرّم الله عزوجل إلّا بالحقّ ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، وإنكار ما أنزل الله تعالى ».

ويخصّص (٣) عموم النفي المستفاد من الحصر في تلك الأخبار بالأخبار المفسّرة بما أوعد الله ، وبإيعاده لها بأزيد من ذلك ، وبهذا يرتفع التعارض ، ويكون المناط في الكبيرة ما عليه المعظم ، من كونه ما أوعد الله عزوجل عليه.

نعم ، يبقى الإشكال فيما هو المراد من هذه العبارة ، وفي شموله لجميع ما ذكر في رواية العيون وغيرها من الذنوب. وكلماتهم مختلفة في بيان كيفية هذا الإيعاد.

ففي النهاية (٤) والقواعد (٥) والإرشاد (٦) والمسالك (٧) : إنّها ما أوعد الله عليها بالنار.

__________________

(١) نفس المصدر : الرواية ٢٠٦٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٣٦ ، الباب ٢ من أبواب الأنفال ، الرواية ١٢٦٦١.

(٣) في « م » : أو بتخصيص.

(٤) نهاية الإحكام : ٣٢٥.

(٥) قواعد الأحكام ١ : ٢٢٤.

(٦) إرشاد الأذهان ٢ : ١٥٦.

(٧) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

١٧٤

وفي التنقيح (١) ـ نفلا عن الأكثر ـ إنّه ما يوعد عليه بعينه وبخصوصه. وفي الدروس (٢) : كل ذنب يوعد عليه بخصوصه العقاب. وفي قواعد الشهيد (٣) ؛ كلّما توعّد الشرع عليه بخصوصه. وقريب منه ما في الروضة (٤).

وفي الكفاية : إنّها كلّ ذنب أوعد الله عزوجل عليه بالعقاب في الكتاب العزيز ، ونسبه إلى المعروف بين أصحابنا ، قائلا بعدم وجدان اختيار قول آخر في كلامهم.

وعن بعض المحقّقين أنّ ما ذكره في الكفاية هو مراد الكلّ.

وظاهر تلك الكلمات يشير إلى الاختلاف في اشتراط كون الإيعاد منه ـ سبحانه ـ أو بما يعمّ إيعاد الحجج.

وعلى الأوّل ، هل يعتبر إيعاده بما في كتابه العزيز خاصة ، أو بما يعمّ كلامه مطلقا ، أو به وبإخبار الحجج عليهم‌السلام ـ عنه سبحانه وتعالى ـ بأنّ الله أوعد كذا؟

وعلى الأوّل ، هل يعتبر إيعاده فيه ـ سبحانه ـ بالخصوص ، أو بما يعمّ العموم مثل قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها ) (٥).

وعلى التقادير ، هل يعتبر الإيعاد بالنار أو بمطلق العقاب أو مطلقا؟

والتحقيق : أنّ ما في الأخبار المفسّرة بالإيعاد هو ما أوعد الله سبحانه عليه النار ، فهو المناط في ذلك. اللازم بيان ما يصدق عليه تلك العبارة.

فنقول : الظاهر منها الإيعاد بالخصوص ، كما هو المتبادر المتفاهم للأصحاب فلا

__________________

(١) التنقيح الرائع ٤ : ٢١٩.

(٢) الدروس الشرعية ٢ : ١٢٤.

(٣) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٤.

(٤) الروضة البهية ٣ : ١٢٩.

(٥) الجنّ (٧٢) : ٢٣.

١٧٥

يشمل ما أوعد عليه عموما ، كيف وجميع المعاصي من الكبائر والصغائر داخل في عموم قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ). وكذا الظاهر أنّ الإيعاد بالنار يعمّ الإيعاد بها صريحا أو التزاما وضمنا ، فيشمل ما دلّ عليه بالالتزام ، كما جعل الله سبحانه وتعالى العاق ( جَبّاراً شَقِيًّا ) (١) وأوعد الشقيّ بالنار في قوله عزوجل ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) (٢). أو بالظهور الإطلاقيّ ، كالعذاب والعقاب ونحوهما.

بل لا يبعد جعل أكثر إيعادات الكتاب في الآخرة من هذا الباب ، كاللعنة وسوء الدار والخسران وبئس المصير ونحوها ، إذ الغالب على ما يستفاد من مطاوي الأخبار كون الجزاء بالسوء في الآخرة بالنار ، فينصرف إليه الإطلاق.

ويشهد به الاستشهاد في رواية عبد العظيم إيعاده للكبائر التي هي بالنار في حدّ الكبائر على ما في مستفيضة الأخبار بالآيات الدالّة على مطلق الذمّ عليها.

نعم ، مثل قوله تعالى ( وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٣) غير ظاهر في الإيعاد.

وأما كون الموعد هو الله تعالى ، فالظاهر أنّه لا يصدق هذا على إيعاد.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ولو بالإخبار عن الله عزوجل ، أو في السنّة المتواترة ـ كما عن بعضهم ـ أو مطلق الحديث الصحيح ، كما عن آخر. إذ المتبادر من تخصيص ذلك به سبحانه ، مع أنّ جميع الشرائع صدرت منه ، كون الإيعاد بالنار مذكورا في كلامه ، بل في كتابه فارقا بذلك بين الكبائر والصغائر ، كيف والصغيرة كثيرا ما يوعد بالنار في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام ، بل هو لازم العصيان ، غاية الأمر كونها

__________________

(١) مريم (١٩) : ٣٢.

(٢) هود (١١) : ١٠٦.

(٣) الزلزال (٩٩) : ٨.

١٧٦

مكفّرة بترك الكبائر.

ومن هذا صار المعظم إلى ذلك ، وفي الكفاية (١) ظهور الاتّفاق عليه ، وعرفت من بعضهم إرجاع الكلّ إليه.

ثمّ إنّ ما ذكرنا من كون الإيعاد بالنار يلزم أن يكون على الوجه الذي بيّناه من التصريح به في الكتاب أو التعريض ، إنّما هو على التعويل على متفاهمنا منه ، وإلّا فإذا استنبطه الإمام عليه‌السلام منه على وجه لا نعلمه ظاهرا ودلّ عليه خبر معتبر فهو المتبع ، ويعمل به ، كشرب الخمر المعلّل في رواية عبد العظيم ، لكونه كبيرة بأنّ الله سبحانه نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان ، استنباطا له من مقارنته لها في النهي موافقته لها في العقوبة ، وحيث إنّها النار في الشرك في موضع آخر من الكتاب ، فكانت له أيضا.

بل لو دلّ حديث معتبر على أنّ الذنب الفلاني كبيرة ، من غير ذكر علّة ، ولم نجد مصرّحا عليه بالإيعاد بالتدبّر في الكتاب ، لزم اتّباعه تعويلا على ثبوت الوعيد بها فيه على وجه لا نعلم ، للتوفيق بينه وبين الأخبار المتقدمة المعرّفة للكبائر بالتوعيد بالنار في الكتاب ، أو تخصيصا به بعموم مفهوم حصر تلك الأخبار النافي للكبيرة عن غير ما أوعد الله تعالى.

وعلى هذه الجملة ، فالصواب جعل المتّبع في معرفة الكبائر ما عدّ في حديث الفضل الذي أشرنا إليه ، المرويّ في عيون الأخبار بأسانيد متعدّدة ، فيما كتب به مولانا الرضا عليه‌السلام : أنّ الكبائر هي : قتل النفس التي حرّم الله تعالى ، والزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به من غير ضرورة ، وأكل الربا بعد

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٢٧٨.

١٧٧

البيّنة والسحت ، والميسر وهو القمار ، والبخس في المكيال والميزان ، وقذف المحصنات ، واللواط ، وشهادة الزور ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، ومعونة الظالمين ، والركون إليهم ، واليمين الغموس (١) ، وحبس الحقوق من غير عسر ، والكذب ، والكبر ، والإسراف ، والتبذير ، والخيانة ، والاستخفاف بالحجّ ، والمحاربة لأولياء الله سبحانه ، والاشتغال بالملاهي ، والإصرار على الذنوب (٢).

وفي بعض النسخ (٣) : والإصرار على الصغائر من الذنوب ، فإنّ هذه الرواية أكثر جمعا من غيرها ، فيخصّص بها عموم النفي المفهوم من الحصر في غيرها ، أو يبنى على كون الجميع مما أوعد عليه بالنار في القرآن ، وإن لم نعلمه. وفي رواية أبي خديجة (٤) المعلّلة للكبائر بذكر آيات التوعيد لها ، بعض ما ليس في تلك الرواية ، وهو السحر ، معلّلا بقوله تعالى ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) (٥) وترك الصلاة متعمّدا ، أو شيئا مما فرض الله سبحانه ، وكتمان الشهادة.

وفي مرسلة الفقيه (٦) : إنّ الحيف في الوصية من الكبائر.

فيعتدّ (٧) بذلك كلّه.

الثاني : قد علمت من خبر الفضل أنّ من الكبائر الإصرار على الصغائر.

ويدلّ

__________________

(١) اليمين الغموس ( بفتح الغين ) ، أي الكاذبة التي يتعمّدها صاحبها.

(٢) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٢٩ ، الباب ٤٦ من أبواب جهاد النفس ، الرواية ٢٠٦٦٠.

(٣) نفس المصدر ١٥ : ٣٢٤ ، الرواية ٢٠٦٤٠.

(٤) نفس المصدر ١٥ : ٣١٨ ، الرواية ٢٠٦٢٩.

(٥) البقرة (٢) : ١٠٢.

(٦) نفس المصدر ١٥ : ٣٢٧ ، الرواية ٢٠٦٥٠.

(٧) فيعتمد ( خ ).

١٧٨

عليه ـ أيضا ـ ما في رواية الحسين (١) : لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.

وصرح به كثير من أعيان الطائفة ، بل قال مولانا الأردبيلي (٢) : لا خلاف فيه. وبه يجبر قصور سند الخبرين.

واختلفوا في حدّ الإصرار ، فعن بعضهم : أنّه المداومة على نوع واحد.

وعن الذخيرة (٣) والبحار (٤) والرياض (٥) : أنّه المناسب للمعنى المفهوم من الإصرار.

وعن آخر : أنّه الإكثار من جنس الصغائر بلا توبة ، سواء كان من نوع واحد أو أنواع مختلفة ، وبه صرّح في المسالك (٦) والروضة (٧) وكشف الرموز (٨) ، قائلين بتحقق الإصرار به.

وفي الكفاية (٩) والروض (١٠) ، وعن الذخيرة (١١) والبحار (١٢) ، وكونه قادحا في العدالة ، بل في المحكيّ عن الأوّل ، الإجماع عليه.

وعن الثاني : عدم الخلاف فيه.

__________________

(١) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٠ ؛ أصول الكافي ٢ : ٢٨٨ ، كتاب الإيمان والكفر ،

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٥١ ، كتاب القضاء ، الشروط العامة للشاهد.

(٣) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٤) بحار الأنوار ٨٨ : ٣٠.

(٥) رياض المسائل ٢ : ٣٩٠.

(٦) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٧) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٨) كشف الرموز ٣ : ٥١٧.

(٩) كفاية الأحكام : ٢٧٩.

(١٠) روض الجنان : ٢٨٩.

(١١) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(١٢) بحار الأنوار ٨٥ : ٢٥.

١٧٩

وكلام هؤلاء لا يدلّ على كونه داخلا في معنى الإصرار ، بل في التحرير (١) : ما يدلّ على التغاير واشتراكهما في القدح ، حيث قال : وعن الإصرار على الصغائر والإكثار منها.

وعن ثالث : حصوله بالعزم على فعل الصغيرة بعد الفراغ. صرّح بتحقّق الإصرار به المحقق الأردبيلي (٢) ؛ حاكيا إياه عن الأكثر. وصرّح بدخوله فيه في المسالك (٣) والروضة (٤) والكشف (٥) ، وقواه في البحار (٦).

وعن رابع : تحقّق الإصرار بالثلاثة ، ذهب إليه الشهيد في قواعده (٧) ، جاعلا للأوّلين إصرارا فعليا ، والأخير حكميا.

وعن خامس : أنّ المراد بالإصرار عدم التوبة ، نقله في الذخيرة (٨) وغيره عن بعضهم.

للأوّل ، تصريح أهل اللغة. قال في الصحاح : صررت على الشي‌ء : أي أقمت ودمت عليه ، نحوه ما في النهاية الأثيرية (٩) والقاموس.

وللثاني صدق الإصرار عليه عرفا ، بل صدق المداومة على الإكثار.

__________________

(١) تحرير الأحكام : ٢٠٨.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ٣٥١.

(٣) مسالك الأفهام ٢ : ٣٢١.

(٤) الروضة البهية ٣ : ١٣٠.

(٥) كشف الرموز ٣ : ٥١٧.

(٦) بحار الأنوار ٨٨ : ٢٩.

(٧) القواعد والفوائد ١ : ٢٢٧.

(٨) ذخيرة المعاد : ٣٠٤.

(٩) النهاية لابن الأثير ٢ : ٢٢.

١٨٠