مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

خلاف الشرط ، فلا يجوز شرط عدمه ، كتزويج الزيادة على الواحدة ، بقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (١) ؛ أو بالعموم ، فيجوز ، كتزويج المرأة الفلانية ، وهو كما ترى مجازفة صرفة.

وقال المحقق القمي (٢) : المناط في مخالفة السنة اشتراط ترك مباح على وجه القاعدة الكلّية دون خصوصية فرد ، نظرا إلى أنّ متعلّق الحكم الشرعي هو الكلّي ، وتعلّقه بالجزئيات باعتبار تحقق الكلّي في ضمنها ، فشرط ما يخالف الكلّي يخالف السنة ، مثل ترك التزويج والتسري وجعل الخيرة في الطلاق والجماع بيد الزوجة ، المخالف لقوله تعالى ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (٣) ؛ وأما ما يخالف الجزئي ، كعدم تزويج امرأة معينة ، فليس مخالفا لما تعلّق به الكتاب والسنة.

وفيه المناقشة ـ أيضا ـ : أمّا أوّلا ، فلأنّه لا شاهد للفرق بهذه الاعتبارات مع التساوي في صدق تعلّق الحكم الشرعي بهما لغة وعرفا ، ولو هو بواسطة الكلّي أيضا ، وأمّا ثانيا فلأنّ انتفاء الحكم عن الجزئى بالشرط ينافي كلّية الحكم الشاملة له الثابتة بالشرع ، فيخالف الشرط الحكم الكلّي ـ أيضا ـ ، وأمّا ثالثا ، فلأنّ كلّ شرط لا ينفكّ عن خصوصية لم يعتبر في الحكم الكلّي ، ولو هي خصوص المشروط له ، فلم يبق مورد للاستثناء ، والتفرقة بين الخصوصيات تحكّم.

وقال والدي العلّامة (٤) : إنّ المراد بالشرط المخالف للكتاب والسنة أن يشترط حكما خالف حكمها ، سواء كان من الأحكام الطلبية أو الوضعية ، وذلك كما أنّه

__________________

(١) النساء (٤) : ٣.

(٢) رسالة الشروط المطبوعة مع غنائم الأيّام : ٧٣٢.

(٣) النساء (٤) : ٣٤.

(٤) عوائد الأيام : ١٤٤.

١٠١

ثبت منهما أنّ أمر المرأة ليس بيدها ، فشرط كونه بيدها ، وثبت أن الطلاق بيد الزوج ، فيشترط أن لا يكون بيده ، وثبت أنّ الناس مسلطون على أموالهم ، فيشترط أن لا يكون مسلطا على أمواله أو على مال معيّن ، وثبت أنّ الخمر حرام ، فيشترط أن يكون حلالا ، إلى غير ذلك ، وأمّا اشتراط أن لا يتصرّف المشتري في المبيع مدّة معلومة ، فهو ليس مخالفا للكتاب أو السنة ، إذ لم يثبت منهما تصرّفه ، بل إنّما ثبت جواز تصرّفه ، والمخالف له عدم جواز تصرّفه ، فلو شرطه كان باطلا.

فإن قلت : شرط عدم تصرّفه يستلزم عدم جواز تصرّفه ، فيخالف السنة ـ أيضا.

قلت : لا نسلّم أنّ الشرط يستلزم عدم جوازه. نعم ، إيجاب الشارع للعمل بالشرط يستلزم عدم جواز التصرف ، وليس المستثنى شرطا خالف إيجابه أو وجوبه الكتاب أو السنة ، انتهى خلاصة ما أوردناه.

وحاصله : أنّ المراد من الاستثناء بطلان شرط كان متعلّقه حكما طلبيا أو وضعيا خالف ما ثبت قبله من الكتاب والسنة ، لا نفس الفعل ، وإن صار بعد إنفاذ الشرط مخالفا لحكمه السابق ، وبه فسّر الشرط الآتي ـ أيضا ـ أي ، ما حلّل حراما أو حرّم حلالا ، كما سنشير إليه ، وهذا التفسير وإن كان أقرب بالاعتبار ، وأوفق بأكثر الأخبار من غيره ، إلّا أنّه غير مسلم عن بعض المناقضة أيضا ، لانتقاضه طردا بمثل شرط سقوط خيار المجلس أو الحيوان ، وثبوت الخيار مدّة معلومة ، المجمع على صحّته ، ونحو ذلك ، مما ليس بفعل العبد ، وعكسا بشرط فعل ثبت حرمته بالكتاب أو السنة ، أو ترك ما ثبت وجوبه ، كشرط شرب الخمر ، واسترقاق الحرّ ، وترك فريضة ، وأمثالها ، وبشرط فعل مباح أو ترك مباح كان لزومه ولو بالشرط مخالفا للسنة ، كشرط عدم التزويج والتسري ، فإنّه غير جائز على ما تكرّر عليه نقل الإجماع.

١٠٢

ودفعه بأن شرط فعل الحرام وترك الواجب ليس من جهة مخالفة السنة أو تحليل الحرام وعكسه ، بل بوقوع التعارض ـ حينئذ ـ بين ما دلّ على حرمة الفعل أو الترك ، وبين أدلّة وجوب الوفاء بالشرط.

يمكن المناقشة فيه بأنّ هذا التعارض واقع غالبا في المباحات ـ أيضا ـ كشرط عدم تزويج امرأة مدّة معيّنة ، دلّ على إباحته قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ ) ، ونسبة التعارض بين أدلّة وجوب الوفاء بالشرط وبينه مثل النسبة بينها وبين أدلة الوجوب والحرمة في الأوّل ، وكون الإجماع مرجّحا في الأوّل لا ينضبط به القاعدة الكلّية ، بل يقتصر به على مورد اليقين ، فلا يرتفع به الإشكال ، بل وجب الرجوع في الثاني في غير ما علم صحّته بالخصوص بالإجماع إلى ما يقتضيه الأصل ، لكون التعارض بين الدليلين بالعموم من وجه ، فلا يحصل بذلك الضابط الكلّي في الشروط الجائزة وغير الجائزة ، والتفرقة بين الأمور المحرّمة ، إلّا أن يجعل الإجماع مناطا فيهما ، وهو ـ مع كونه منافيا لمقتضى الخبر ـ غير مطرد في موارد الخلاف والشبهة ، ومع ذلك كلّه فحمل المخالفة للكتاب أو السنة على معنى اشتراط حكم يخالف حكمها مما يستدعي الدليل.

هذا ما وقفت عليه من كلماتهم في توجيه الحديث ، وهو ـ مع بعده غالبا ـ لا يهتدي إلى أمر محصّل مضبوط حاسم لمادّة الإشكال ، والذي يختلج ببالي وأظنّه أسلم ، بل سالما عن النقض والإيراد ، أنّ فائدة الشرط المقصود من قولهم : المؤمنون عند شروطهم ، ما تعاهد عليه المشترطان ، وحيث إنّ هذا يعمّ جميع ما تعلّق به الشرط ووقع عليه الإلزام ، استثنى عليه‌السلام منه ما يخالف مقتضى الشرع من الأفعال والأحكام.

وتفصيل ذلك : أن ما يلتزم به بالشرط : إمّا من باب الأفعال والتروك ، أو من قبيل

١٠٣

الأحكام الطلبية أو الوضعية. والأوّل : إمّا عمل سائغ شرعا أو محرّم ، من فعل معصية كشرب الخمر ، أو ترك فريضة كترك الصوم ، أو تشريع حكم يلتزم بفعله بعد الشرط ، ونحو ذلك ، والثاني : أي اشتراط الحكم إمّا يكون مما يتحقّق شرعا باشتراط الفعل الجائز ، ويلزمه كاشتغال الذمة بالمبلغ للمشروط له اللازم للالتزام بإعطائه ، وعدم تسلط الزوج على إخراج الزوجة من بلدها اللازم للالتزام بعدم إخراجها ، وسقوط الخيار اللازم بشرط عدم الفسخ ، والخيار اللازم بشرط الفسخ متى شاء ، ووجوب الكون اللازم بشرط ترك الحركة ، وحرمة الإقامة اللازمة للالتزام بالسفر ، وأمثال ذلك ، من الأحكام التي يكفي في تحققها شرعا مجرد الالتزام بالفعل الجائز ، أو لا يترتّب شرعا على مجرد الإلزام بالفعل السائغ ، بل هو إمّا لا يتغيّر عما هو في أصل الشرع باختيار من المكلّف ، كالتوريث والطهارة والنجاسة ونحوها ، أو يتغيّر بسبب اختياري من المكلّف في الكتاب والسنة ، غير مجرد الشرط ، كحرّية الرقّ المسببة شرعا عن تحريره بالعتق ، والرقية المسببة عن الاختلاس من دار الحرب ، والوقفية المسببة عن صيغة الوقف ، وأمثال ذلك.

فهذه اقسام أربعة لا شك في دخول الأوّل ـ أي الفعل السائغ ـ في المستثنى منه ، وكونه شرطا جائزا. نعم ، إذا كان الفعل واجبا كصلاة الفريضة ، كان الشرط يؤكّد وجوبه ، ولا ضير في الواجبات الشرعية ، كما في نذر الواجب ، ولا ينافي لزوم الشرط مقتضى الكتاب والسنة الدال على عدمه قبل الشرط ، كقوله تعالى : ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (١) ؛ المنافي للزوم عدم تزويج امرأة بالشرط ، و ( الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى النِّساءِ ) (٢) ؛ المنافي لشرط عدم إخراجها من البلد ونحو

__________________

(١) النساء (٤) : ٣.

(٢) النساء (٤) : ٣٤.

١٠٤

ذلك. لأن لزومه ليس متعلّق الشرط ، بل هو مقتضى دليل وجوب الوفاء به ، والمفروض هو ترجيحه على ما ينافيه ، والفراغ عنه بما مرّ في المطلب السابق ، بل لا تعارض بينهما حقيقة ؛ فإنّ الأحكام الشرعية يتغيّر بتجدّد الأسباب ، كحكم إباحة الفعل قبل الشرط ، فإنّه كان حكمه الأصلي ، وصار لازما بسبب الشرط ، وهل النسبة بينهما إلّا كنسبة « الناس مسلّطون على أموالهم » ، و « أحلّ الله البيع » ، الرافع للتسلط ، فلا يلاحظ الترجيح في خصوص الموارد ، بل هما من باب الوارد والمورود.

وكذا لا شكّ في دخول الأخير في المستثنى ، أي المخالف للكتاب أو السنة ، كشرط عدم الإرث ، ورقّية الحرّ ، وحرّية العبد.

والظاهر أنّه لا ينبغي الشك في دخول الثاني ـ أي شرط فعل الحرام ـ في المستثنى ـ أيضا ـ ، ولكونه المتبادر بالأذهان ومتفاهم الأصحاب ، فإنّه يصدق على شرب الخمر المتعاهد فعله والإلزام به كونه مخالفا لمقتضى الكتاب والسنة.

وأمّا الثالث : أي شرط نفس الحكم المترتّب على إلزام فعل جائز ، كشرط اشتغال الذمّة وسقوط الخيار ونحو ذلك ، فالظاهر جوازه ـ أيضا ـ ؛ لعموم أدلّة الشرط ، وعدم مخالفته للكتاب أو السنّة ، بل هو موافق للسنة الواضعة لحكم الشرع بالسببية الرافعة للحكم السابق ، كما علمت ، ومنع اشتراط القدرة على نفس متعلّق الشرط ، بل يكفي القدرة على سببه الذي هو الإلزام الذي هو المقدور له ، فهو من قبيل التعبير عن الملزوم باللازم ، فلا يخرج الحكم المشروط عن قدرته حقيقة.

ولا يتوهم أنّ اشتغال الذمّة إنّما يحصل بعد الشرط والإلزام واعتبار المتعلّق قبله ، فجعله متعلّقا لا يخلو عن دور ، لأنّ ذلك يستحيل فيما كان من باب الأخبار والقضايا ، دون ما هو من الإنشاء الذي يعتبر في العقود الشرعية ، فإنّ تحقق المتعلّق إنّما هو بنفس الإنشاء كما في الرهن بنحو جعلته مرهونا ، وفي الطلاق بقوله هي

١٠٥

طالق ، وفي الضمان بأنا ضامن ، وغير ذلك ، والشروط الشرعية من باب الإنشاء أيضا.

وأمّا الشرط الثالث ، أي الذي أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، فقد وقع التصريح بعدم الاعتداد به في موثق إسحاق بن عمّار (١) ، بل لا كلام في عدم جوازه ، والإشكالات الواردة في الشرط السابق يتأتّى هنا أيضا ، نظرا إلى أنّ بناء الشرط على تحريم ما استبيح وإباحة ما حرّم ، لكونه مقتضى الإلزام ، فإنّه يحلّ للمشروط له المطالبة بالشرط ولو جبرا ، ويحرم على المشروط عليه الامتناع عنه على عكس حكمهما قبل الشرط ، وكذا يرد عليه ظاهرا النقض بكثير من الأمثلة المتقدمة ، وتكلّفوا في تفسيره بما تكلّفوا به في الشرط السابق ، ولا يخلو شي‌ء منه عن النقض والإشكال. والصواب ما حقّقنا فيه من أنّ المراد به الإلزام بفعل محرّم كاسترقاق الحرّ وشرب الخمر وتزويج الخامسة ، أو بترك حلال لا يجوز في الشرع الإلزام بتركه ، كترك وطء الزوجة ، أو الالتزام بحكم يستلزم العمل بأحد هذين المحذورين ، ويظهر لك بالتأمل الصادق تطبيق ذلك على التفصيل السابق في فقه الحديث.

وأمّا الرابع : أي الشرط المؤدّى إلى جهالة أحد العوضين ، وفي حكمها الجهل الغير المغتفر في العقد وإن لم يؤدّ إليها ، فالتحقيق فيها أنّ الجهل المتعلّق بالشرط على وجوه :

أحدها : كونه مؤدّيا إلى جهالة أحد العوضين ، بمعنى تردّده بحسب الواقع في أحد الأمرين أو أكثر سواء كانت في عينه ، كأن يبيع بدينار عراقي وشرط : « إن حدث كذا كان الثمن فرس كذا » ، أو في قدره ، كأن شرط : « إن حدث كذا كان الثمن دينارين » ، أو في صفة ، كأن شرط : « إن حدث كذا ، كان الدينار روميا » ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ١٧ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٣٤.

١٠٦

وهذا الشرط باطل اجماعا ، ووجهه ـ مضافا إلى استلزامه في الأكثر الغرر المنهيّ عنه غالبا ـ أمران :

أحدهما : كونه منافيا لمقتضى العقد ، وقد عرفت فساده.

والثاني : أنّه يوجب عدم تعيّن العوض حال العقد ، وتوقف تعيينه على أمر سيوجد ، وهو ينافي استقلال العقد في السببية ، الذي هو مقتضى الأدلة ، حسب ما تقدّم.

ومنه ما إذا باع إلى سنة وشرط : « إن حدث كذا كان الثمن معجّلا عنده » لمدخلية المدّة في العوض ، ولا يذهب عليك أنّه أن شرط هبة بعض الثمن أو إعطاء دينار مضافا إليه إذا حدث كذا ، أو إعطاؤه معجّلا عنده ، ليس هو مما يؤدّى إلى جهالة العوض.

ولا يتوهم اتحاد مآل الشرطين بما تقدّم بيانه في تفصيل الشرط المخالف للكتاب ، فلازمه بطلان الثاني ـ أيضا.

لأنّ وجوب الإعطاء أو الإبراء بالشرط في الثاني ، لازمه اشتغال الذمّة بالمشروط به أو التزامه عنه ، لا صيرورة الثمن زائدا أو ناقصا ، والمبطل هو التردد والتعليق في الثمن ، لا في حصول المشروط به.

وكون الشرط قسطا من العوض لا يوجب الجهل به ، إذ القسط منه هو الاشتراط ، وهو الإلزام بالمبلغ أو نحوه عند حدوث كذا ، لا نفس المبلغ ، وشتّان ما بينهما.

وثانيها : كون الجهل مستلزما للغرر المنهيّ عنه ، وإن لم يرجع إلى الجهل بأحد العوضين بعينه ، بل إلى ما يتعلّق بالعقد ، مما يتفاوت به النفع والضرر ، ويختلف فيه الأغراض عرفا المجهول (١) عند المتعاقدين ، وإن تعيّن بحسب الواقع ، وسيجي‌ء تحقيق القول في الغرر والشرط الغرري ، ودليل فساده في بعض المشارق الآتية ـ

__________________

(١) في نسخة : عرفا أو المجهول.

١٠٧

إن شاء الله تعالى ـ (١).

ومن هذا الباب ما اتفقوا على بطلانه من شرط الخيار في مدّة مجهولة أو محدودة بحدّ غير مضبوط يحتمل الزيادة والنقيصة ، كقدوم الحاجّ وإدراك الثمرات ، ونحوه التحديد بما لم ينضبط به مبدأ الخيار ، كإتيانه إلى سنة من حين التفرق. نعم ، إذا كانت المدّة مضبوطة ، ولكن علّق الخيار على اقتران الفسخ بأمر لا نعلم وقت حصوله في أثناء المدّة المعينة ، سواء كان من فعل المشروط له أو غيره ، صحّ الشرط ، كقسط (٢) المدّة إلى سنة ونحوها ، بشرط أداء الثمن فيها ، كما ورد في النصوص المستفيضة (٣).

ومنه يظهر الفرق بين تعليق الفسخ على قدوم الحاجّ إلى سنة ، أو على حياة المشروط له فيها فصحّ الشرط ، وبين تحديد المدّة بقدومه أو حياته ونحوها فبطل ، وإن اشتركا في الجهل بزمانه ، وسنذكر وجه الفرق بينهما في البحث الآتي ـ إن شاء الله تعالى ـ وأنّ الجهالة في أصل المدّة يرجع الغرر فيه إلى نفس العقد ، بخلاف الثاني ، فانتظر.

وثالثها : كون الجهل واقعيا ، بمعنى عدم تعين المشروط المجهول في نفس الأمر ، وإن لم يرجع إلى أحد العوضين ، كأن يبيع بمائة وشرط له سكنى هذا الدار ، من غير تعيين المدّة.

__________________

(١) عبارات هذا المشرق مختلفة في النسختين في بعض المواضع وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة « س ».

(٢) كبسط ( خ ).

(٣) كرواية سعيد بن يسار ؛ أنظر وسائل الشيعة ١٨ : ١٨ ، الباب ٧ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠٤٥.

١٠٨

والتحقيق فيه : أنّ الجهل ـ حينئذ ـ إن كان مؤدّيا إلى العوض أو الغرر ، فحكمه ما مضى من البطلان ، وإلّا فالمشروط : إمّا نفس الفعل الملتزم به ، كإعطاء دينار أو إسكان دار ونحوهما ، فالمتّجه فيه الصحّة ، لعموم الأدلّة ، وعدم احتمال مانع سوى لزوم تعين متعلق الشرط على ما سيجي‌ء ، وهو مدفوع بتعيّنه على الوجه الكلّي ، وهو ما صدق عليه فعل الشارط على حسب ما تعلّق به لفظ الشرط ، ولزوم تعيينه بالفرد عند الوفاء به من باب المقدمة ، وهو موكول بحسب دلالة اللفظ إلى خيرة الفاعل.

وبالجملة متعلّق الشرط ـ حينئذ ـ غير متعلق الفعل ، والأوّل متعين ، والثاني غير لازم التعيّن في الشرط ، والفرق بينهما ظاهر ، ولذا لا يصحّ الرهن بما يعادل من ماله الدين من غير تعيين ، ويصحّ ذلك في الشرط ، كأن يقول : بعتك هذا بعشرة دنانير ، وشرطت عليك أن تجعل لى مرهونا يعادلها من مالك.

أو يكون متعلّق الشرط غير فعل الشارط ، وهو : إمّا كلّي تساوت أفراده ، كأن يشترط له دينارا عراقيا أو رطلا من الحنطة ، فالوجه فيه الصحة ـ أيضا ـ لتعيين الحقّ الذي تعلّق به الشرط ، وهو الكلّي بما هو كلّي ، وعرفت أنّ لزوم التعيين بالفرد عند الوفاء به إنّما هو من باب المقدمة ، وحيث لا اختلاف في خصوصيات الأفراد المختلف به الأغراض ، لا يضرّ عدم تعيّنه في الشرط ، بل على الشارط الواجب عليه الوفاء تعيينه بواحد منها ، كما لا يضرّ عدم تعيينه في العقد إذا كان أحد العوضين ، كبيع رطل من الحنطة بهذا ، أو بيع هذا بدينار.

أو هو كلّيّ مختلف الأفراد ، كأن يشترط له فرسا ، فلا يبعد فيه البطلان ، فمتعلّق غرض المتعاقدين في مثل ذلك إلى الخصوصية ـ أيضا ـ عادة ، وهي غير متعينة ، وليس في لفظ الشرط ما دلّ على كونه بتعيين الشارط ، فيستحيل تعلّق الحقّ بها.

نعم ، لو فرض كون المقصود مجرّد الماهيّة بأي فرد تحققت ولو على تفاوت مراتبها ،

١٠٩

لم يبطل بذلك ، وإن بطل من جهة الغرر.

أو جزئيّ مردّد بين شيئين أو أكثر ، كأن يشترط له أحد هذين العبدين ، فإنّه ظاهر في عدم تعلّق الشرط بالمفهوم الكلّي ، بل بالخصوصية الغير المتعينة ، فيتّجه فيه البطلان لما ذكر ، كما يبطل العقد إذا جعل ذلك أحد العوضين.

ورابعها (١) أن يكون الجهالة بغير ما ذكر من الوجوه الثلاثة مقتضى عموم الأدلّة صحة الشرط حينئذ وعدم بطلانه بها إلّا إذا ثبت بطلانه بها بدليل فيقتصر على مورده كما في وجوب ضبط آخر المدّة في خيار الشرط بما لا يحتمل الزيادة والنقصان الثابت بالإجماع وبطلانه بالتحديد بقدوم الحاجّ وادراك الثمرات ونحوهما ولا هكذا ضبط أوّل المدّة كما في شرط حصول اختيار للبائع بردّ الثمن ودلّ عليه النصوص كالموثّق عن رجل مسلم احتاج إلى بيع ولو لا مشى إلى أخيه فقال : أبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن يكون لغيرك على أن تشترط لي أن جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّها عليّ. قال : لا بأس بهذا إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه.

ونحوه الصحيح.

وينقدح من هذا أنّه لو شرط الخيار إلى مدّة حياة أحدهما أو ثالث بطل ولو شرط إلى عشرين سنة بشرط حدوث كذا أو بشرط موت فلان يصحّ ولو شرط إلى عشرين بشرط حياته ففيه إشكال لوقوع (٢) الجهل إلى آخر المدّة حقيقة حيث يفيد تحديد الغاية بأمرين :

أحدهما مجهول هو ثبوت المشروط له ، والأخرى معيّن هو انقضاء العشرين.

__________________

(١) ليس في النسخة المطبوعة ونسخة « س » قوله : « رابعها » إلى قوله : « وأمّا الخامس » ، وأوردناه من نسخة « م » في المتن.

(٢) لرجوع ( خ ).

١١٠

نعم ، إن قصد من شرط الحياة عدم الانتقال إلى الوارث يبطل من جهة أخرى هي مخالفته للسنّة. ولو شرط الفسخ بلفظه إلى عشرين ففيه وجهان : من انقطاع اللفظ بالموت الذي هو مجهول فرجع الجهل إلى الغاية ومن عدم تقييد المدّة به ، بل هو قيد للشرط. ولعلّ الأوجه فيه الصحة ومراعاة الاحتياط أولى ، بل ينبغي الاحتياط بالاحتراز عما كان الجهل فيه مثار النزاع مطلقا وإن لم يكن منع الغرر فيه ثابتا ، بل قيل بالمنع ، لأنّه لم يعهد نظيره في الشرع بل المعلوم منه خلافه.

وأمّا الخامس : أي الشرط الغير المقدور ، فلا خلاف في بطلانه واشتراط القدرة عليه ولو في بعض المدّة بقدر ما أمكن الوفاء به. ووجهه ـ مضافا إلى الإجماع وظهور الأخبار فيه ـ أنّ المراد بالشرط ـ كما عرفت ـ هو الإلزام والالتزام ، ومعنى شرعيته تحقّق اللزوم ، ووجوب الخروج عن عهدته مطلقا ، أو إنشاء بقاء لزوم العقد على المشروط له ، كما ربما يظهر عن بعضهم ، من أنّ فائدته جعل العقد اللازم جائزا ، كما سيجي‌ء ، وهو فرع القدرة عليه أو على سببه ، كان يكون فعلا مقدورا أو حكما يكفي في ثبوته مجرد الالتزام به حسب ما مرّ ، فلا ينعقد اللزوم بما ليس بمقدور.

ثمّ عدم المقدورية إمّا من جهة تعذّر الفعل مطلقا ، أو بالنسبة إلى المشروط عليه ، أو من جهة كونه فعل الغير ، كمجي‌ء زيد يوم كذا ، من غير أن يكون سببه مقدورا لمن شرط عليه ، ومنه بيع الزرع على أن يجعله الله تعالى أو المشتري سنبلا ، والرطب على أن يجعله تمرا ، إلّا أن يقصد به إبقائه إلى بلوغه سنبلا أو تمرا ، مع أنّه لا يخلو عن شناعة ـ أيضا ـ ، لخروجه عن صورة الشرط المقدور ، وعن المطابقة بين اللفظ والمقصود ، على ما أشرنا اليه في بعض ما تقدّم ، ولا بأس به مع وضوح المراد ، أو كونه من الأحكام المخالفة للكتاب والسنة ، أو المتوقّفة على سبب خارج من الشرط ، كاشتراطه حلية بضع أو فرقة زوجته أو حرّية عبده ،

١١١

من غير قصد سبب إيجاد سببهما من الشرط ، فهذه كلّها من الشروط الغير المقدورة ، وتكون باطلة.

ويقع الإشكال في بعض الأمثلة ، إلا أنّه بعد ما اتضح المناط يمكن دفعه بتأمّل دقيق فيه ، كما إذا اشترط البيع من ثالث باعتبار توقّفه على رضاه ، فهو من غير المقدور ، والظاهر أنّه يبنى على الخلاف في معنى البيع ، فإن قلنا أنّه نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول ، لم يصحّ الشرط ، لأنّ المركّب من فعله وفعل الغير ليس من فعله ، فليس مقدورا ، وتنزيله على الإيجاب خاصّة خروج عن حقيقة اللفظ ، وإن قلنا بأنّه نقل الملك بعوض معلوم ـ كما هو المشهور ـ صحّ ، لكونه من فعله ، وإن كان من شرط تحققه قبول الغير. نعم ، يتوقّف صدق القدرة على العلم أو الظنّ بحصول القبول من الغير مطلقا ، إن لم يعيّن المشتري أو خصوص شخص إن عيّنه ، فإذا اتّفق أن لا يرضى بالقبول كان للمشروط له الخيار.

المطلب السابع (١) في حكم العقد إذا فسد الشرط وفيه قولان : الصحة والبطلان ، والحقّ الثاني ، وفاقا للمحكيّ عن الأكثر.

ولنبيّن :

أوّلا لتحقيق المرام ، ما تداول بينهم من أنّ العقود تابعة للقصود ، وما اشتهر من أنّ الأصل في المعاملات الصحة ، والتوفيق بينه وبين أصل الفساد الذي هو معقد الإجماع.

فنقول : العقود أسباب شرعية لآثار مخصوصة جعلها الشارع مترتّبة عليها ، واللازم على الفقيه في ذلك معرفة أمور ثلاثة : العقد الذي هو السبب والأثر المسبّب له ، وشرائط تأثيره وكيفية ترتّبه عليه ، فإن علم الثلاثة بدليل خاص ، أو عام فهو ،

__________________

(١) في الأصل : المطلب الثامن ، والصحيح ما أثبتناه.

١١٢

وإلّا يجب الاقتصار في كلّ منها على المعلوم ، عملا بأصل الفساد المتّفق عليه ، واستصحاب عدم ترتّب الأثر ، وقد يكون الأثر الثابت من الشرع مما يختلف كيفيته باختلاف إطلاق العقد ، أو تقييده بشرط ، أو خصوصية للعوضين أو أحدهما ، ككونه حيوانا أو نقدا ونحوهما ، كما أن نقل الملك الذي هو أثر البيع يختلف لزوما وتزلزلا إلى مدّة من طرف أو الطرفين ، ومستتبعا للمنافع أو مجردا عنها إلى مدّة معينة ، إلى غير ذلك من الوجوه والاعتبارات ، واللازم في جميع ذلك الاقتصار في الصحة على القدر الثابت بالأدلّة الشرعية.

ثمّ إنّه مما ثبت بالإجماع ويطابقه الأصل المذكور ، اشتراط قصد إنشاء الأثر الذي رتّبه الشارع عليه ، فلو صدر بلا قصد ، أو بقصد الإخبار أو إنشاء أثر آخر ، كان باطلا.

ويعتبر في هذا القصد أمران :

أحدهما : أن يكون من لفظ العقد ، فقصد به إنشاء الأثر المترتّب عليه ، فلا أثر لقصد لم يتعلّق بإنشاء العقد به ، وإن كان الرضا بالعقد معلقا عليه ، وكان من العلل الداعية عليه ، سواء كان هو من بعض الأحكام المترتبة على أثر العقد ، كأن يكون غرضه من التزويج مجرد حلّية النظر إلى أمّ الزوجة ، أو من الأمور الخارجة ، كأن تزوّجها طمعا في مالها أو استخدامها ، أو من بيع داره شراء دار المشتري باعتقاد كونه وسيلة له ، بل وإن وقعت المساومة بينهما عليه ، فأمثال هذه الأغراض والقصود لا دخل لها بقصد الإنشاء المعتبر في العقود ، ولا يتبعها العقد ، وإن كان الرضا معلقا عليها ، بل لا يؤثر في العقد ، وإن كان اعتقاد المتعاقدين أو أحدهما ترتّبه على العقد شرعا ، على خلاف الواقع ، كما إذا رضيت المتمتعة بعقد الانقطاع ، بظنّ استحقاقها القسم والنفقة كالدائمة ، بحيث لو لا هذا الاعتقاد لما رضيت بالتمتع.

١١٣

ولعلّه لم يتأمل في ذلك أحد من أهل العلم ، فما قد يستشكل ـ بأنّ العقود تابعة للقصود ، وما قصد به هو التزوّج حال كونها مستحقة للقسم والنفقة ، فلا يصحّ العقد ـ مردود ، بأنّ مرادهم من تلك العبارة ، هو المقصود من العقود ، أي القصد المعتبر في لفظ العقد الذي يتحقّق به الإنشاء ، لا مطلق القصد.

وتوهّم أنّ الرضا بالعقد يتوقف عليه ، فمع عدمه لا مراضاة ، ولا هو تجارة عن تراض ، ولأجله يكون باطلا ، مدفوع بأنّ الرضا الفعليّ حاصل على الفرض ، وهو كاف في صدق التراضي المشروط في العقد ، وحصول الإنشاء على الرضا ، وما ليس فيه هو الرضا الفرضي ، وحصول الضرر في بعض الفروض غير مانع عن الصحة ، بل عن اللزوم أيضا ، لإقدام نفسه عليه ، ومثله غير منفيّ ، وإن كان للجهل بالمسألة ، كما في نظائر الفرض من موارد الأحكام ، وقد أشبعنا الكلام فيما يتعلّق بذلك في مسألة نفي الضرر ، في بعض الفوائد الآتية.

وثانيهما : قصد إنشاء الأثر الذي جعله الشارع بالأصالة مسبّبا له ، فلو قصد إنشاء غيره بالعقد ـ وإن كان من لوازم هذا الأثر ـ كان العقد باطلا ، لخروجه عن السببية الشرعية التي وضعها الشارع ، وهو من مقتضى قولهم : العقود تابعة للقصود ، فإن المراد عموم السببية في الصحة والبطلان ، فلو قصد بعقد النكاح إنشاء محرّمية أمّ الزوجة ، وبعقد البيع استحقاق المنفعة ، كان باطلا وبالجملة صحة العقد تابعة لما قصد إنشاؤه.

ولو كان العقد بإطلاقه سببا لأثر شرعا ، وبتقيّده بشي‌ء سببا لأثر يخالف الأوّل نوعا أو وصفا (١) ، وإطلاقا وتقييدا ، أو بغير ذلك من الاعتبارات وجب تطبيق العقد (٢)

__________________

(١) في « م » : وضعا.

(٢) في النسخة المطبوعة : القصد.

١١٤

عليه ، ومع تخلفه لم يكن صحيحا ، كأن يقصد بالنكاح المجرد عن ذكر المدّة الزوجية المنقطعة ، أو بالعكس ، وبالبيع المطلق إنشاء الملك المتزلزل بالخيار ، وفي بيع الحيوان إنشاء الملك اللازم ، من غير ذكر الخيار في الأوّل ، وسقوطه في الثاني ، فمقتضى قاعدة السببية الموافق للأصل المتقدّم فساد العقد إلّا فيما خرج بدليل ، لأن الأثر المقصود غير ما يقتضيه العقد شرعا.

ثمّ العقد إن كان مدلوله اللغويّ والعرفيّ متعيّنا ولو بتوسط القرائن المنضمّة ، لزم كونه المقصود بالإنشاء ، ولا يصحّ لو قصد به غيره ، للأصل المذكور ، ولعلّه لا خلاف فيه أيضا ، وإن لم يكن متعيّنا ، بل قابلا بحسب الدلالة اللفظية لوجوه أو أفراد مختلفة ، كان تعيّن أحدهما منوطا بقصد العاقد ، فترتّب الأثر الشرعيّ للعقد عليه ـ حينئذ ـ موقوف على تعيّنه في القصد ، وإلّا بطل العقد ، لاستحالة تعلق الحقّ بغير المعيّن وبطلان الترجيح بلا مرجّح ، كما إذا قال : زوّجتك ابنتي ، ولم يعيّنها من بين بناتها ، وإن عيّنه فهو المتعيّن ، ويلزم عدم التدافع بين قصدي المتعاقدين.

وهل يشترط اطلاع القابل على ما قصده الموجب؟

لا شك في الاشتراط فيما يكون الغرر فيه منهيا عنه ، وأمّا في غيره ففيه إشكال ، من كون القبول واقعا على ما قصده الموجب ، وهو متعيّن وإن لم يعلمه بعينه ، ومن كونه مثار النزاع المرغوب عنه في الشريعة في أكثر نظائر الفرض ، وعلى الجملة فمما بيناه في المقامين تبيّن ما هو المراد من قولهم : العقود تابعة للقصود.

وإذا اختلف المتعاقدان في ما قصدا به ، فالمعتبر ، وإن كان قول القاصد ، لأنّ القصد من الأمور القلبية التي لا يطّلع عليها غيره ، إلّا أنّ اللفظ إن كان له دلالة ظاهرة بحسب العرف واللغة ، ولو لأجل القرينة ، كما في القسم الأوّل ، نقدم قول من يطابق دعواه مدلول اللفظ ، لأنّ الشارع أقام الألفاظ الظاهرة في معانيها مقام العلم

١١٥

به إجماعا ، وإن كان مقتضى أصل الفساد فيما يخالفه عدم ترتّب الأثر إلّا مع العلم بقصده ذلك الأثر ، وإلى هذا ينظر قولهم : الأصل في المعاملات الصحة ، فلو قال : بعتك هذا وادّعى قصد الإجارة ، لم يسمع دعواه بمجردها إلّا بقرينة شاهدة عليه ، مثله ما إذا قال : بعتك هذا بدرهم على أن تكريني دابّتك هذه يوما ، فظهرت الدابّة مستحقّة للغير ، فمقتضاه نقل الملك منضمّا مع الإكراء ، فيبطل باستحقاق الدابّة للغير ، فلو ادّعى قصده إطلاق البيع لم يسمع ، وإن احتمل صدقه إلّا إذا فرض تساوي الاحتمالين بحسب الدلالة ، والقول بعدم سماع دعواه مع فرض التساوي ـ أيضا ـ مدفوع بما ذكرناه.

واذا عرفت هذا ، فلنرجع إلى المقصود ، أعني بطلان العقد بفساد الشرط ، ونقول : قد عرفت أنّ الشرط المأخوذ في ضمن العقد جزء له ، والعقد هو المركّب منه ، وعرفت أنّ اللفظ يحمل على مدلوله ، وكونه مقصود اللافظ ، فهذا التركيب ظاهر في قصد إنشاء الأثر ، مقيّدا بالالتزام بالشرط ، فالالتزام جزء الأثر المقصود بالإنشاء في هذا التركيب ، فإذا ظهر فساد الجزء فسد الكلّ ، لتعلّق القصد على وجه الجزئية ، فلم يبق الباقي مقصودا بالانفراد ، فلا يترتّب على العقد التركيبي أثر شرعيّ ، بل على ما سمعت ، من لزوم تطابق المدلول للقصد لو قصد الصحيح منفردا من مثل هذا التركيب ، لقلنا بفساده أيضا (١).

فإن قلت : ذكرت في بعض ما تقدم عدم فساد العقد بفساد بعض العوض ، بل لعلّه المتّفق عليه في البيع ، مع أنّ متعلّق القصد فيه المركّب أيضا.

قلت : ما ذكرنا ثمة ، لا تتأتّى في الشرط ، لأنّ وجهه فيما مرّ أنّ دلالة لفظ العقد

__________________

(١) عبارات هذا المشرق مختلفة في النسختين في بعض المواضع وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة « س ».

١١٦

على الأبعاض ـ وإن كانت تبعية ارتباطية ـ إلّا أنّها لا يستلزم التبعية في الحكم المدلول بها ، كما في قولنا : أكرم عشرة ، فإنّ دلالة العشرة على الوحدات بالتبعية التضمّنية ، ولا هكذا تعلّق وجوب الإكرام بها ، بل كلّ واحد منها مقصود بإنشاء الحكم عليه منفردا مستقلا ، ولذا لا ينتفي حكم الكلّ بانتفاء البعض ، وهو من قبيل قول الآمر : اكنس الدار ، وهي موضوعة للماهية المركبة من البيوت ، فلا يسقط الحكم عن بعضها بانهدام بعض ، إلّا مع قرينة ظاهرة.

وكون المراضاة على الكلّ ـ لو سلّم ـ لا يستلزم قصد الجزئية في إنشاء نفس النقل والانتقال ـ مثلا ـ في مثل البيع والصلح ونحوهما ، غاية الأمر حصول المقصود بوقوع الخيار عند ظهور التبعض ، لا بطلان العقد ، وكيف كان ، فلا يبطل البيع ـ مثلا ـ بالنسبة إلى الجزء الصحيح بما يقابله من العوض.

وأمّا الشرط ، فإنّ الإلزام بما اشترط ليس مقصودا بالانفراد قطعا ، وليس (١) في مقابله للمشروط عليه عوض ، فكيف يلتزم به مجانا ، وبالجملة ظاهر اللفظ كون المعاوضة مقيدة ومرتبطة بالإلزام بالشرط فينتفي بانتفاء القيد ، ولو قصد منه إنشاء النقل لا على وجه التقييد ، فهو خروج عن مقتضى اللفظ. وبه يحصل إشكال آخر في صحة العقد.

فالفرق بين جزء العوض والشرط كالفرق بين قولنا : أكرم زيدا وعمروا ، وقولنا أكرم زيدا بشرط أن يكون معه عمرو ، فإنّه لا ينتفي حكم إكرام زيد بفقدان عمرو في الأوّل ، بخلافه في الثاني.

واتضح مما ذكرناه فساد الاحتجاج للقول الأوّل ، بأنّ كلّ واحد من العقد والشرط مستقلّ في إفادة معناه.

__________________

(١) في نسخة : كيف وليس ..

١١٧

ثمّ إنّ ما ذكرناه من فساد العقد والشرط إنّما هو من باب الأصل والقاعدة ، فلا ينافيه ما إذا ثبت في مورد صحة العقد مع فساد شرطه ، كما هو المشهور في شروط عقد النكاح ، مثل أن لا يتزوّج عليها ، أو لا يتسري ، أو شرط تسليم المهر إلى أجل ، عدم كون العقد باطلا مع التخلّف ، بل في المسالك ظاهرهم ـ هنا ـ الاتفاق على صحة العقد ، وورد فيه أخبار معتبرة ، وقيل لا يتمّ في النكاح أيضا قاعدة يعتمد عليها في هذا المطلب ، والله العالم بحقائق أحكامه.

١١٨

[ المشرق الخامس ]

[ في بيان حكم المعاملات الإضرارية ]

مشرق : في بيان حكم المعاملات الإضرارية ، وأعني بها الانتقالات المحاباتية الصادرة عمّن له دين لا يفي ماله به ، وإن كان الدين من قبيل المظالم.

فنقول : لا إشكال في صحّة تمليكاته بعوض المثل ، لعدم المانع مع وجود المقتضي ، وهو الملك. وكذا تمليكه بأقلّ منه أو مجانا ، إذا تمكّن من تحصيل ما يؤدّي به دينه ولو بالاستدانة ، إنّما الكلام في تمليكه كذلك ، أو إباحته ، مع عدم العلم أو الظنّ المعتدّ به بالتمكن منه ، ولو بعد حين.

وتحقيق المقام ، أنّ الكلام إمّا في جواز إتلاف المالك ماله بنفسه زائدا على قدر مئونته ، أو إباحته للغير وتسليطه على الإتلاف ، أو في حصول الحلّية للغير بإباحة المالك ، وجواز قبول جائزته وتصرّفاته وإتلافه له ، أو في صحّة العقد الناقل وحصول الانتقال الشرعي به ، فهنا مطالب ثلاثة :

أمّا الأوّل : فلا ينبغي الريب في حرمته ، لوجوب أداء الدين عليه ، وانحصار مقدمته على الفرض بصرف ما في يده من المال فيه ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب ، فيحرم ضدّه ، وهو إتلافه وصرفه في غيره ، وكونه ضدّا خاصّا ولا يقتضي

١١٩

الأمر النهي عنه ، ـ على ما هو المختار المشهور ـ غير نافع ، لاندفاعه باختصاص ذلك بما إذا لم يكن الضدّ الخاصّ رافعا للتمكّن من فعل المأمور به ثانيا مع بقاء وجوبه ، وإلّا ـ كما في محلّ الفرض ـ فمقتضى التحقيق حرمته ، كما بيّناه في الأصول ، ولا يعارضه عموم الناس ، لأنّ حرمته عقلية لا ينفكّ عن وجوب أداء الدين ، فلا ينتفي إلّا بانتفائه الباطل بالإجماع القطعي ، فلا يخصّص به ، ومع ذلك فالعموم المذكور ظاهر في الجواز الذاتيّ الأصليّ ، وهو لا ينافي الحرمة العرضية المسببة عن سبب متجدّد ، كما في نظائر المقام مما لا يحصى ، ويأتي بيانه فيما سيأتي.

وأمّا الثاني : فتفصيله أنّ من أباح له المالك ، إمّا يعلم عدم تمكّن المالك عن أداء الدين من غير هذا المال ، ومع هذا يحتمل صرفه فيه إن لم يقبل منه ، أو أخذ الدائن عنه جبرا أو تقاصّا ، أو لا يعلم ذلك ، وإن علم لا يحتمل صرفه في الدين أو اقتدار صاحب الدين عن استيفائه منه.

فعلى الأوّل : فالظاهر أنّه لا يحلّ له قبوله وإتلافه من غير التزام عوضه للدائن ، لا لما استدللنا به على المنع على المالك ، لعدم وجوب ذي المقدّمة على غيره حتى يحرم عليه ضدّ مقدّمته ، بل لصدق كونه مضارا على الدائن ـ حينئذ ـ بإتلاف ما ينحصر أخذ حقّه فيه ، وتفويت تمكّنه من وصول الحقّ ، وتمكّن المالك عن إيصاله ، وشهادة العرف بكون ذلك ضرر الدائن ، والضرر منفيّ ومحرّم بعموم أدلّته.

نعم ، لو عصى ـ حينئذ ـ وأتلف بإذن المالك فمقتضى النظر عدم ضمانه ، لعدم اقتضائه نفي الضرر ، كما يأتي تفصيله في قاعدة نفي الضرر ، ولأنّ قاعدة الإتلاف بعدم الضمان مع إذن المالك ، وإن كان التصرف محرّما ، كما في أكل طعامه بإذنه في نهار رمضان.

١٢٠