مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

١
٢

٣

باسمه تعالى

كتابهايى كه توسط كنگرهء بزرگداشت ملا مهدى نراقى (ره) وملا محمد نراقى (ره) با بودجه وزارت ارشاد اسلامى در ده مجلد در سال ١٣٨٠ ش چاپ شده است :

١ ـ معتمد الشيعة في أحكام الشريعة. تأليف ملا مهدى نراقى (ره) ، فقه است وفقط كتاب طهارت آن تأليف شده.

٢ ـ شهاب ثاقب. تأليف ملا مهدى نراقى (ره). بحث امامت وفارسي است.

٣ ـ جامعة الأصول. تأليف ملا مهدى نراقى (ره) أصول فقه است.

٤ ـ الحاشية على الشفاء. تأليف ملا مهدى نراقى (ره) حاشية الهيات شفاء ابن سينا است.

٥ ـ رسائل ومسائل. تأليف ملا احمد نراقى (ره). سؤال وجواب فقهى وغيره است بضميمه چند رساله ( فارسي وعربي ) در سه مجلد.

٦ ـ مشارق الأحكام. تأليف ملا محمد بن ملا احمد نراقى (ره). قواعد فقهى است.

٧ ـ شعب المقال في درجات الرجال. تأليف ميرزا أبو القاسم بن ملا محمد بن ملا احمد نراقى (ره). رجال حديث است.

٨ ـ كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء. تأليف ملا محمد حسن قزوينى (ره). در علم اخلاق است. وشايد بتوان آن را مختصر جامع السعادات ملا مهدى نراقى (ره) بشمار آورد.

٩ ـ شرح أحوال وآثار ملا مهدى نراقى وملا احمد نراقى وخاندان ايشان بضميمه برخى از رساله‌هاى مختصر آن.

١٠ ـ ضمناً جامع الأفكار ملا مهدى نوافى (ره) ( كلام وفلسفه است ) نيز توسط يكى از دانشگاهيان در دست تحقيق وانتشار است.

٤

المؤلف :

هوا لعالم المحقق المدقّق الممجد عبد الصاحب عليه السلام الحاجّ المولى محمّد بن الفاضل النراقي الحاج المولى أحمد

قال صاحب لباب الألقاب : وقد عاصرناه وتشرفنا بخدمته كان عالماً فاضلاً فطيناً ، جامعاً للمعقول والمنقول ، رئيساً على علماء كاشان ، معروفاً بحجة الاسلام في البلدان وكان متولّياً على المدرسة السلطانية التي بناها السلطان فتح علي شاه في كاشان.

وكان مجازاً عن والده المعظم ، ومسلّم الفضل بين أحبائه وأعدائه ـ والفضل ما شهدت به الأعداء ـ

ومن مصنفاته :

١ ـ كتاب مشارق الأحكام في جملة من القواعد المهمّة الفقهية

٢ ـ وكتاب المراصد في مهمّات المسائل الأصولية

٣ ـ وكتاب أنوار التوحيد في الكلام

ولد في سنة ١٢١٥ وتوفّى في سنة ١٢٩٧ وطوبقت مع « يا غفور ». ـ انتهى ـ

أقول : ومن تأليفاته ايضاً :

٤ ـ رسالة حجية المظنّة

٥

٥ ـ رسالة اجتماع الأمر والنهي

٦ ـ مناسك الحجّ

٧ ـ خلاصة المسائل

٨ ـ فهرست سيف الامّة لوالده

٩ ـ شرح حديث رأس الجالوت

١٠ ـ الإجازات

١١ ـ ديوان الاشعار

طريق التحقيق

اعتمدنا في تصحيح هذا الكتاب على النسخة المطبوعة باطبع الحجري في سنة ١٢٩٤ ق في حياة المؤلف ، وعلى نسختين مخطوطتين :

إحداهما محفوظة في مكتبة آية الله المرعشي النجفي بقم ـ وهي ناقصة ـ وقد رمزنا لهذه النسخة بحرف « م ».

والأخرى محفوظة في مكتبة المدرسة السلطانية في كاشان وقد رمزنا لهذه النسخة بحرف « س ».

ولتتميم الفائدة بذلنا غاية الجهد في استخراج المصادر الروائية وما تيسر من المصادر الفقهية.

ونقدم بالشكر إلى الأعزة الذين آزرونا في هذا المشروع :

مرتضى موسوى نژاد ، احمد رضا فيض پور ، حسن حسينى ، مجتبى سلطاني ، مصطفى هاشمي ، محمود مدنى بجستانى. والحمد لله رب العالمين

٦

دليل الكتاب

المشرق الأول : في بيان ما يقتضيه الأصل في المعاملات............................... ١١

المشرق الثاني : في بيان حكم العقد الفضولي......................................... ٥٩

المشرق الثالث : في حكم العقود المتبعضة............................................ ٧٩

المشرق الرابع : في شروط ضمن العقد............................................... ٨٥

المشرق الخامس : في بيان حكم المعاملات الإضرارية................................ ١١٩

المشرق السادس : في بيان حكم المال المجهول مالكه................................ ١٢٧

المشرق السابع : في أحكام الأموال الخراجية........................................ ١٣٣

المشرق الثامن : فيما يتعلق بالعدالة الشرعية......................................... ١٥٧

المشرق التاسع : في أحكام الغناء................................................... ٢٠٩

المشرق العاشر : في صحة صلح الزوج عن حق رجوعه............................ ٢٣٣

المشرق الحادي عشر : في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه...................... ٢٤٣

المشرق الثاني عشر : في أن الأحكام تابعة الأسماء................................... ٢٥٧

المشرق الثالث عشر : في تداخل الأسباب الشرعية.................................. ٢٦١

المشرق الرابع عشر : في بيان نفي الضرر........................................... ٢٦٥

٧

المشرق الخامس عشر : في بيان قاعدة نفي الغرر................................... ٢٩٧

المشرق السادس عشر : في خيار المجلس............................................. ٣١٥

المشرق السابع عشر : في خيار الحيوان.............................................. ٣٢١

المشرق الثامن عشر : في خيار الشرط.............................................. ٣٢٩

المشرق التاسع عشر : في خيار الغبن................................................ ٣٢٩

المشرق العشرون : في الأحكام الملحقة بالخيارات................................... ٣٥٩

المشرق الحادي وعشرون : في الشبهة الموضوعية التحريمية.......................... ٣٧٩

المشرق الثاني وعشرون : في بيان كيفية الاحتياط................................... ٤٠٣

المشرق الثالث وعشرون : في حكم الإعراض عن الملك............................ ٤٠٩

المشرق الرابع وعشرون : في بيان قاعدة الضمان................................... ٤١٩

المشرق الخامس وعشرون : في الوكالة............................................. ٤٣٩

المشرق السادس وعشرون : في اقتضاء اليد الملكية.................................. ٤٥٩

المشرق السابع وعشرون : في وجوب ترتب الحواضر على الفوائت................ ٤٧١

فهرس الموضوعات.......................................................................

فهرس أهمّ مصادر التحقيق..............................................................

٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ، فيّاض عوارف المعارف والمتفضّل بفوائد الأيادي وحقائق اللطائف ، المتوحّد في ذاته فلا يدركه انسان (١) كلّ عارف ، والمتجلّي بصفاته فلا يغيب عن المشاهد والمواقف ، والصلاة على من أرسله بالكتاب المبين ونسخ به الصحائف محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الطاهرين ، الذين فضّلهم على العالمين وخصّهم بما لا يلحقه لاحق ولا سالف.

وبعد فيقول الفقير إلى ربّه الباقي عبد الصاحب محمّد بن أحمد بن محمّد مهدي النراقي ، أنالهم الله سبحانه من فضله يوم التلاقي :

هذه فوائد جمّة ومطالب مهمّة في تنقيح نبذ من الضوابط الكلّية الشرعيّة ، وتحقيق مدارك لجملة من أمّهات المسائل الفرعية التي لا مناص عنها للفقيه الراشد والطالب المسترشد ، ممّا زلّت فيه أقدام أقوام واتّسع فيه ميدان النظر لفرسان الكلام ، وضاق منه المخرج على من دخله ودار المقام ، استطرفتها من غنائم الدهر واقتطفتها من ثمار عوائد الأيّام.

__________________

(١) انسان العين : ما يرى في سواد العين أو هو سوادها. ( المنجد )

٩

وأرجو من الله تعالى أن يكون بيانا لكنوز حقائقها وتبيانا لرموز دقائقها ، وإن كنت معترفا ـ والصدق منجاة ـ بأنّ الباع قصير والبضاعة مزجاة ، جعلتها تذكرة لنفسي وتبصرة لمن أراد ، وسمّيتها بمشارق الأحكام والله الموفّق للسداد.

١٠

[ المشرق الأوّل ]

[ في بيان ما يقتضيه الأصل في المعاملات من الصحّة أو الفساد ]

مشرق : في بيان ما يقتضيه الأصل في المعاملات من الصحّة أو الفساد ، وتعيين مواردهما وما يتبع ذلك ، وفي هذا البحث تحقيق أمور :

الأوّل : ما يقتضيه الأصل الأوّلي من الصحة والبطلان في الشبهة الحكمية ، سواء كان الشكّ في شرعية أصل المعاملة أو في شرائطها وموانعها.

الثاني : ما ثبت خروجه منه وانقلب إلى أصل ثانويّ شرعيّ ، وفيه تحقيق معنى آية ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١).

الثالث : ما يتحصّل من الأصلين ، من لزوم الصيغة أو عدمه في العقود ، وشرائط الصيغة فيما تحقّق لزومها ، فهنا مطالب ثلاثة :

المطلب الأوّل : فيما يقتضيه الأصل الأوّلي الحكمي من الصحّة والفساد في المعاملات. فاعلم أنّه قد استمرّت بين الناس منذ استقرّت العادات ووضعت السياسات ، معاملات بينهم في العقد والحلّ والربط والفكّ فيما يحتاجون إليه في تمدّنهم وانتظام معاشهم ، من التجارات والمناكحات والعطيّات والعهود والمواثيق

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

١١

وأشباهها ، وأكثرها غير مختصّة بالشرائع والديانات ، فضلا عن شريعة الإسلام ، بل تعمّ الأديان والعادات ، واختلف حكمها فيها في بعض الخصوصيات والشرائط وأسباب الانعقاد والآثار والأحكام المترتّبة عليها ، كالبيع الشائع في الكلّ المختلف أحواله فيها بالانعقاد بالصيغة أو بالصفقة أو بمثل الملامسة أو المنابذة أو الحصاة ، والاشتراط بعدم الغرر وعدمه ونحو ذلك ، فمهيّات أمثال تلك العقود غير مخترعة ولا موضوعة بالأصل في شريعتنا ، بل أمضاها الشارع بشرائط قرّرها. نعم ، يختصّ بعضها بالشرائع أو بشريعتنا.

وجملة تلك المعاملات والعقود المعتبرة هي المعهودة المتداولة المدوّنة التي ضبطها الفقهاء سلفا وخلفا في كتبهم ومسفوراتهم ، ووضعوا لها أبوابا ولها أسماء معروفة ، كالبيع والصلح والرهن والإجارة والمزارعة والمضاربة والضمان والحوالة والكفالة والوكالة والنذر والوقف والنكاح والطلاق والظهار واللعان وغيرها.

ثم إنّ ماهيّات تلك المعاملات كيفيات خاصّة وروابط معهودة في الشرع والعرف والعادة متمايزة بأنفسها ، سواء كانت متباينة بالآثار المترتبة عليها أيضا ، كالبيع والإجارة والنكاح والطلاق ، أو متناسبة بالعموم والخصوص المطلقين ، كالبيع والصلح ، أو من وجه كالصلح والضمان ، أو بالتساوي كالبيع والهبة المعوّضة.

ويظهر ثمرة الفرق حينئذ بالاختلاف في بعض الأحكام المتفرّعة عليها ، بل قد يتفق بحسب تعاهد المتعاقدين في القيود والشروط توافق اثنين منها في فرد في جميع الآثار والأحكام المترتّبة عليها ، فتميّزها حينئذ بمجرّد نفس مفهوم المعنى المعهود من المعاملة الحاكي عنه اسم المعاملة المخصوص بها ، بحيث لا يصحّ ولا ينعقد أحدهما بقصد معنى الآخر منه.

ومن هذا ينقدح عدم كفاية قصد إنشاء مجرّد الآثار المترتّبة عليها بالألفاظ

١٢

والقرائن الدالّة على تلك الآثار ، بل يجب قصد مفهوم العقد المعهود ماهيّته. وحيث إنّ الدال على تلك الماهيّة هو اللفظ المخصوص الذي يسمّى به فينعقد به. ويظهر منه اختصاص انعقاده به ، دون مطلق ما دلّ على ما يفيد أثره وأحكامه ، من التجارات الغير المتداولة فيه ولو مع القرائن المنضمّة ، وسيجي‌ء تفصيله إن شاء الله تعالى.

ثم العقد إن علم صحّته شرعا فهو ، وإن شك فيها سواء لم يعلم كونه مما تداول بين الناس ، أو علم ولم يعلم كونه من الموظّفة الشرعية ، أو علم ولم يعلم اشتراطه بما وقع فيه الشك ، فمقتضى الأصل الأوّلي فساده بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود منه شرعا ، لأنّ الصحّة من الأمور الشرعية المتوقفة على التوظيف الذي هو أمر حادث ، ينفيه الأصل إلى أن يثبت بدليل.

وما أفاده بعض المحققين من تصحيح المعاملة بأصل البراءة ، باعتبار اقتضاء إباحة ما تعاقد عليه المتعاملان وإن لم يفد اللزوم ، من الغرائب ، فإنّ الإباحة الشرعية هنا فرع ترتّب الأثر شرعا المتوقف على الجعل الشرعي المسبوق بالعدم ، ولو هو إمضاء الشارع ما تداول عليه عادة الناس في ترتّب الأثر عليه ، والاستصحاب يقتضي عدمه ، ولا يعارضه أصل البراءة ، لأنّ متعلّقه نفي السبب ومتعلّقها ثبوت السبب ، والأوّل مزيل للثاني ومقدّم عليه ، بل لا تعارض بينهما حقيقة كما حقّقناه في الأصول ويأتي الإشارة إليه هنا في بعض الفوائد ، وعليه عمل الفقهاء وسيرتهم في الفقه حتى الفاضل القائل وإن خالفه قولا في أصوله.

ونظيره في الشك الموضوعي ما إذا شكّ في إذن المالك ، فلا يجوز حينئذ تناول مال الغير بأصل الإباحة ، أو شكّ في التطهير أو التذكية فلا يتناوله بأصل الطهارة أو البراءة.

ولا يتوهّم أنّ الإباحة الشرعية في كلّ مورد يتمسّك بها بالأصل حكم شرعي

١٣

مسبوق بالعدم ، فيعارضه الاستصحاب فلم يبق للأصل مورد أصلا ، إذ ليس تعارض الاستصح‌اب لأصل البراءة بالمزيلية في جميع صور التعارض ، كما إذا شك في الإباحة الاستقلالية الغير المترتّبة على حدوث سبب ، فإنّ مقتضى الاستصحاب ليس هنا نفي السبب بل يمكن القول بكون الأصل حينئذ مزيلا للاستصحاب ، نظرا إلى ثبوت التوظيف للإباحة الاستقلالية الظاهرية بمثل قوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي » (١) و « الناس في سعة مما لا يعلمون » (٢) ، وغيرهما من أدلّة البراءة المقتضية للعلم الشرعيّ الرافع للاستصحاب كما بيّناه في مقامه.

المطلب الثاني : في بيان ما ثبت خروجه من الأصل الأوّلي وانقلب فيه بالأصل الثانوي المقتضى للصحّة.

فاعلم أنّ ظاهر أكثر الأصحاب بل المعروف منهم ، انقلاب أصل الفساد في أغلب صور الشك في اشتراط شي‌ء أو مانعيّته لمعاملة من المعاملات الموظفة ، إلى أصل ثانوي اجتهادي يقتضي صحّة جميع ما صدق عليه اسم تلك المعاملة الموظفة عرفا ، بل ربما يظهر من بعضهم أصالة الصحة عند الشك في شرعية أصل المعاملة وتوظيفها بالخصوص أيضا ، وبها يستدلّ على تأسيس عقد المعاوضة المطلقة بلفظ « عاوضت ». ومنشأ هذا الأصل في المشهور عموم قوله سبحانه في سورة المائدة :

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧.

(٢) لم نظفر على رواية بهذا التعبير في الجوامع الروائية ، بل الوارد فيها تعبيران آخران : أحدهما رواية السكوني بهذا التعبير : « هم في سعة حتّى يعلموا ». ( المحاسن للبرقي : ٤٥٢ ؛ وسائل الشيعة ٣ : ٤٩٣ ، الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الرواية ٤٢٧٠ ).

والآخر ما نقل مرسلا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا التعبير : « الناس في سعة ما لم يعلموا ».

( مستدرك الوسائل ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدمات الحدود ، الرواية ٢١٨٨٦ ).

١٤

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (١) ، فيستدلّون به على صحة العقود أو لزومها ، وتداولوا عليه حتى قيل أنه المجمع عليه بينهم وقد يتأمّل فيه.

وجملة القول في الاستدلال بالآية أنّهم بين من يستدلّ بها على تأسيس العقود مطلقا ، أي كلّما كان عقدا لغة وعرفا سواء كان من الموظفة الشرعية بخصوصها ، كالعقود المدوّنة في كتب الفقه ، أو غيرها فيتمسّك بها على ترتّب الأثر المقصود من وضعه عليه ، وعلى تصحيح العقود الموظفة إذا شكّ في اشتراط شي‌ء أو مانعيّته فيها إلّا ما ثبت فساده من أصل كالمغارسة أو لفقدان شرط معلوم كالرباء والمحاقلة والشغار ومشاركة الأبدان ونحوها ، وبين من يستدلّ بها على تصحيح الموظفة خاصّة حملا للعقود عليها ، فيستدلّ بها على نفي اشتراط ما شكّ فيه ، وبين من ترك الاستدلال بها على الصحّة مطلقا ، سواء كان من الموظفة أم لا ، زعما لإجمال العقود في الآية ، وهو الظاهر من والدي العلّامة (٢) ، ويظهر منهم خلاف آخر في دلالتها على لزوم العقد وعدمه يأتي الإشارة إليه.

وجه استدلال الأوّل :

دلالة الجمع المحلّى باللام على العموم حقيقة الشامل لكلّ ما صدق عليه العقد لغة أو عرفا ، فثبت توظيفه في الشرع بهذا العموم.

واستشكل باستلزامه خروج الأكثر إذا كثر ما يسمّى عقدا في اللغة أو العرف مما لا يجب الوفاء به إجماعا ، والباقي في جنب المخرج كالمعدوم.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

(٢) مستند الشيعة ٢ : ٣٦٦.

١٥

وأجيب عنه بأنّ تخصيص الأكثر إنّما يلزم لو كان المقصود من عموم العقود العموم النوعيّ وهو خلاف التحقيق ، بل المراد العموم الأفرادي فإذا لوحظ الأفراد فلا شكّ أنّ أفراد العقود المتداولة أكثر من أفراد غيرها ، سيّما في مثل البيع والإجارة والنكاح وأمثالها.

وفيه أنّ المناط في الأكثرية إنّما هو بالنسبة إلى أفراد المدلول الوضعيّ من حيث كونها أفرادا له ، فإنّها مورد تعلّق الحكم ، ولا شكّ أنها غير مختصّة بالأفراد الواقعة في زمان الخطاب ، بل يعمّ المتوقّعة الفرضية ، بل كلّها أو أكثرها متوقّعة من وقت الصدور ، وأكثريتها بأكثرية الأنواع والأصناف التي هي تحتها ، إلّا أن يقال بأنّ الجهة المقتضية لأكثرية وقوع الأفراد الواقعة مطّردة وحاصلة بحكم الحدس والوجدان للمتوقعة أيضا ، كما يشهد به العيان في الأفراد المتجدّدة بعد نزول الآية ، ولكنه غير مفيد أيضا ، لأنّ أكثرية وقوع تلك المعاملات الموظفة إنّما هي باعتبار فساد غيرها شرعا ، فلا يناط بها الاستعمال الموجب لتلك الكثرة الذي به تأسيس الصحة ، مع أنّ أكثرية المتداولة الشرعية بالنسبة إلى غيرها من الواقعة بين جميع فرق الأنام في العالم في أزمنة الخطاب وقبلها وبعدها إلى الآن غير مسلّمة ، بل خلافها معلوم.

وجه استدلال الثاني :

بطلان الحمل على العموم لما ذكر ، فيتعين حمل اللام على العهد والإشارة إلى جنس العقود المتداولة في زمان الصدور التي هي المدوّنة في الكتب ، لا خصوص أشخاص كلّ عقد متداول فيه بكيفياتها المخصوصة ، فيصحّ الاستدلال بها على الأفراد المشكوكة لدخولها في الجنس.

ويرد عليه أنّه لو سلّم صحّة الإشارة بلام العهد إلى أنواع الجنس دون فرده ،

١٦

فدعوى كونه المعهود في الآية يطالب بالدليل ، لاحتمال كونها الأفراد الصحيحة بكيفياتها المخصوصة ، بل هي أقرب بمعنى العهد المعروف في كتب الأدب. وحيث يحتمل كان متعيّنا في الاستدلال ، اقتصارا على القدر المتيقن ، مضافا إلى احتمال كون المعهود غير ذلك من المعاني الآتية.

وبهذا يظهر وجه ترك الثالث للاستدلال بالآية على الصحة رأسا ، وهو مشكل أيضا بملاحظة مخالفته لسيرة العلماء ومتفاهمهم قديما وحديثا ، بحيث يكاد أن يكون إجماعا منهم على الاستدلال بها ، بل صار من المسلمات بين جمهور الأصحاب. فاللازم تحقيق الحال وتصحيح الاستدلال على وجه لا يرد عليه الإشكال ، فأقول فاستمع وكن من الشاهدين :

وليعلم أوّلا أن العقد أصله لغة وعرفا الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال ، كما ذكره غير واحد ، وهو يشمل الحسّي كعقد الحبل وشدّ العناج ، وغير الحسّي وهو الذي يطلق عليه العهد الموثّق المتناول لمثل عقود المعاملات.

قال الجوهري (١) : عقدت الحبل والعهد والبيع وانعقد. وفي القاموس (٢) : عقد الحبل والبيع والعقد يعقده اشتدّه. وفي المصباح (٣) : عقدت الحبل فانعقد ، والعقد ما يمسكه ويحبسه ويوثقه ، ومنه قيل عقدت البيع ونحوه وعقدت اليمين ، والفرق بين العقد والعهد كما في المجمعين وآيات الأحكام وغيرها أنّ في العقد معنى الاستيثاق والشدة ، فلا يكون إلّا بين اثنين ، والعهد قد يتفرد به الواحد.

ومنه يعلم أن إطلاق العقد على العهد الموثق من باب الحقيقة لا المجاز ، وما

__________________

(١) صحاح اللغة : ٥١٠.

(٢) القاموس المحيط ١ : ٣٨٣.

(٣) في « س » : شدّه ؛ مصباح اللغة : ٤٢١.

١٧

يشعر به في الكشّاف (١) في قوله : « والعقد العهد الموثق شبه بعقد الحبل وغيره » من اختصاص الحقيقة بالأوّل (٢) إنّما هو إبداء للمناسبة بين الاستعمالات الحقيقية وربط الخفيّ بالجليّ ، كما هو دأب علماء اللغة في ربط المعاني المستعملة فيها تصاريف اللفظ بعضها إلى بعضها. ثم الظاهر اتفاق أئمة التفسير وغيرهم على أن المراد بالعقد في الآية العهد الموثق ، صرّح به في الكشاف (٣) والبيضاوي (٤) والطبرسي (٥) والطريحي (٦) والمحقق الأردبيلي في آيات الأحكام (٧) والمحدث الكاشاني في الصافي (٨) وغيرهم ، وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٩) بعد ذكر الآية عن الصادق عليه‌السلام : « أي العهود » ويشعر به الأمر بالإيفاء به ، فإنّه لا يناسب غير العهد ، نظير قوله تعالى ( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ ) (١٠).

ثم العهد الذي هو من معانى العقد من المعاهدة ، ما فيه شدّ وربط وتوثيق بين اثنين ، كما دلّ عليه كلام من ذكر وشهد به العرف ، لا من سائر إطلاقات العهد كالتقدم بالأمور والمعرفة والالتقاء والإصلاح والوصيّة. نعم ، بعض ما يطلق عليه

__________________

(١) الكشاف ٣ : ٥.

(٢) أي الحسّي.

(٣) الكشاف ٣ : ٥.

(٤) تفسير البيضاوي ١ : ٤٠٧.

(٥) مجمع البيان ٢ : ١٥٠.

(٦) مجمع البحرين ٣ : ١٠٣.

(٧) زبدة البيان في أحكام القرآن : ٤٦٢.

(٨) تفسير الصافي ٢ : ٥.

(٩) تفسير القمي ١ : ١٦٠.

(١٠) البقرة (٢) : ١٧٧.

١٨

كالضمان واليمين والأمان داخل فيما هو المراد من العهد الموثّق. وقال أمين الإسلام في المجمع (١) بعد تفسير العقود بالعهود : اختلف في هذه العهود على أقوال :

الأوّل : أنّ المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والموازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم أو بغاهم سوء ، وذلك هو معنى الحلف عن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والضحاك والسدى (٢).

الثاني : أنّها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده للإيمان به وطاعته فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم ، عن ابن عباس في رواية أخرى قال : هو ما أحلّ وحرّم وما فرض وحدّ في القرآن كلّه ، فلا تتعدّوا فيه ولا تنكثوا ، ويؤيّده قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) (٣) الآية.

الثالث : أنّ المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ويعقدها المرء على نفسه كعقد الأيمان والنكاح وعقد العهد وعقد البيع وعقد الحلف ، عن ابن زيد وزيد بن أسلم.

الرابع : أنّ ذلك أمر من الله سبحانه لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم بالعمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق نبيّنا وما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند ربّه ، عن ابن جريح وأبي صالح.

ثمّ قوّى من هذه الأقوال القول الثاني ، وقال : يدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر فيجب الوفاء بجميع ذلك إلّا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح ، فإنّ ذلك محذور بلا خلاف ، انتهى.

ومثله في مجمع البحرين (٤) ، وهو كما ترى ظاهر بل صريح في أنّ المراد بالعقود

__________________

(١) مجمع البيان ٢ : ١٥٠.

(٢) مجمع البيان ٢ : ١٥٠.

(٣) البقرة (٢) : ٢٧.

(٤) مجمع البحرين ٣ : ١٠٣.

١٩

التي يتعاقدها الناس بينهم ، أي عقود المعاملات في القول الثالث ليس كلّما يعقده المرء ولو اختراعا منه ، بل العقود المجوّزة الموظّفة في الشرع مثل البيع والنكاح واليمين والنذر ، كما استشعره والدي العلّامة من كلامه (١) ، إذ ليس ما يخترعه المرء داخلا في القول الثاني الذي قوّاه وجعله جامع الأقوال أعني عقود الله التي أوجبها على العباد ، ولا ينافيه استثناؤه المعاملات المحظورة عنه لأنّه استثناء ما فيه المنع للمعاونة على أمر قبيح من المعاملات الشرعيّة الموظفة كالبيع للظلمة وبيع الخمر وآلات اللهو والنذر في المعاصي ونحوها ، فالعقود المخترعة الغير الموظفة بخصوصها خارجة عن تلك الأقوال.

نعم ، لو أريد من العقود العموم أي مطلق العهود الموثقة أو مطلق عهود المعاملات خاصّة كانت الغير الموظفة داخلة فيها. والإيراد عليه (٢) باتفاقهم على اشتراط الاستيثاق والشدّة في معنى العقد ولا يثبت ذلك إلّا بعد ثبوت اللزوم الشرعي ، إذ مجرّد بناء المتعاقدين ليس إلّا نفس العهد ، والتوثيق محتاج إلى موجب ، وليس في أمثال المقام إلّا إلزام الشرع ، فلا يكون المعاملات الغير الموظفة داخلا في العموم.

ويمكن المناقشة فيه بأنّ مجرد بناء المتعاقدين وإن لم يكف في صدق التوثيق بل هو نفس العهد ، إلّا أنّ تسجيله بما تداول بينهم وتصافقا به عليه من لفظ أو فعل لتوثيق العهد وأحكامه عند قصدهم به تأكيدا للعهد وتقرّره كاف في صدق التوثيق العرفي. وبالجملة مفاد هذا القول الذي اختاره الطبرسي هو الذي ذكره سائر من ذكر من المفسّرين.

__________________

(١) مستند الشيعة ١ : ٢٨٢.

(٢) كذا ، والظاهر هكذا : ويمكن الإيراد عليه.

٢٠