أصول الفقه - ج ١٢

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٢

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-85-0
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤١٥

الأربعة عند تقديم طرفه عليه.

ثمّ لا يخفى أنّ الأنسب هو عدّ القسم الثاني من هذه الملحقات من قبيل القدر المتيقّن الخارجي ، وعدّ الأوّل والرابع منها من قبيل القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فإنّ كلاً منهما يكون مكتنفاً بما يصلح للقرينية ، أمّا الأوّل فهي مناسبة الحكم والموضوع كما شرحناه فيما حرّرناه عنه قدس‌سره ، وأمّا الثاني فهي كون العام وارداً في مورده ، ولكن مع ذلك لا فائدة فيه في المطلوب ـ أعني تقديمه على المطلق الآخر ـ إلاّمن ناحية كون المورد متيقّن الارادة ، ومجرّد أنّ مورد الاجتماع متيقّن الارادة من أحد العامين لا يوجب تقدّمه على العام الآخر ، مثال ذلك ما لو قال : كلّ مائع طاهر ، ثمّ قال : المسكر نجس ، ونحن من الخارج نعلم بأنّه لا يمكن أن يريد من الثاني خصوص الجامد ، بل هو ـ أعني الحكم بالنجاسة على المسكر ـ إمّا شامل للمائع والجامد ، أو أنّه مختصّ بخصوص المائع الذي هو مورد المعارضة ، لا من جهة أنّ الجامد نادر ، ولا من ناحية أُخرى توجب كون المائع قدراً متيقّناً في مقام التخاطب ، بل ليس المثال إلاّمن قبيل القدر المتيقّن الخارجي ، وليس ذلك بمجرّده موجباً للتقديم.

ولو فتحنا هذا الباب لانسدّ علينا باب التعارض في المطلقات المتباينة ، إذ ما من مطلق إلاّوفيه قدر متيقّن مثل اعتق رقبة ولا تعتق رقبة ، فإنّ المؤمنة قدر متيقّن من الأوّل والكافرة قدر متيقّن من الثاني ، وكذا مثل « ثمن العذرة سحت » ومثل « لا بأس بثمن العذرة » فالأوّل قدر متيقّن في العذرة النجسة والثاني قدر متيقّن في الطاهرة ، ومثل الزوجة لا ترث من غير المنقول والزوجة ترث منه فالأوّل قدر متيقّن في غير ذات الولد والثاني قدر متيقّن في ذات الولد وهكذا.

وقد احترز شيخنا قدس‌سره عن أمثال ذلك بأنّه لابدّ في القدر المتيقّن من منشأ

٤١

عقلائي يفهمه أهل اللسان بحيث يكون قابلاً لأن يكون قرينة على التصرّف في الآخر. ولكن لا يخفى أنّه إن كان بمرتبة من الظهور على وجه يوجب الاختصاص خرج عمّا نحن فيه ، لكونه من قبيل التخصيص فيما هو خاصّ الدلالة ، وإلاّ فلا يكون قرينة على التصرّف في الآخر.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : إنّ مورد لزوم تخصيص الأكثر يوجب انقلاب النسبة إلى كون العام الذي يلزم من تخصيصه تخصيص الأكثر أخصّ من العام الآخر ، فإنّا لو فرضنا أنّ العالم غير الشاعر أقل قليل بالنسبة إلى العالم الشاعر ، وقال : أكرم العلماء ولا تكرم الشعراء ، يكون أكرم العلماء أخصّ من لا تكرم الشعراء ، نظراً إلى قلّة انفراد العالم عن الشاعر على وجه يلحق بالعدم ، وذلك كما يقال في الفرض إنّه لو قال : لا تكرم العالم الشاعر ، يكون هذا القول بحسب نظر أهل اللسان مبايناً لقوله : لا تكرم العلماء ، نظراً إلى أنّه لا يزيد عليه إلاّفي فرد واحد وهو العالم غير الشاعر ، وهو لقلّته بحكم العدم ، ويجري على المثالين حكم التباين لا العام والخاصّ المطلق.

وبعد إخراج الصورة المشار إليها عمّا نحن فيه يبقى الكلام في باقي الصور ، ويمكن القول فيها بتقديم صاحب المزية لا من جهة النصوصية ، بل من جهة كونه في نظر أهل اللسان من قبيل القرينة على التصرّف في الآخر ، لكن لابدّ من كون تلك الجهة داخلة في هذه العلّة ـ أعني القرينية العرفية عند أهل اللسان ـ لا مجرّد اعتبار صرف ، فلا يرد النقض بالمتباينين اللذين يكون القدر المتيقّن فيهما متعاكساً ، كما في مثل الزوجة ترث ومثل الزوجة لا ترث ، فتأمّل.

أمّا القسم الثالث ، أعني كون أحدهما وارداً مورد التحديد ، فقد قال قدس‌سره فيما حرّرته عنه : الثالث أن يكون أحد العامين أو الاطلاقين المتعارضين وارداً في مقام

٤٢

التحديد ، بحيث يفهم منه لأجل كونه وارداً في ذلك المقام أنّ المراد منه تمام الأفراد ، وأنّ المتكلّم لم يعتمد في إرادة خلاف الظاهر على القرينة المنفصلة ، إذ ليس للحكيم أن يعتمد في ذلك المقام على القرينة المنفصلة ، فيكون العام أو المطلق الوارد في ذلك المقام بمنزلة النصّ في شموله لتمام الأفراد ، على وجه لا يقدّم عليه ما يعارضه إلاّ إذا كان في أقصى درجات قوّة الدلالة ، فيلحق التعارض الواقع بين مثل هذا المطلق أو العام وبين غيره ممّا لم يكن في ذلك المقام بباب النصّ والظاهر ، انتهى.

قلت : ومثال ذلك أن يقول : إنّ الميزان في وجوب الاكرام الذي يكون عليه المدار وجوداً وعدماً هو كون الشخص عالماً ، وبمثل هذا اللسان أو هذا المقام يقدّم هذا الدليل على مثل قوله لا تكرم الفسّاق بالنسبة إلى مورد المعارضة أعني العالم الفاسق ، ولعلّ هذا المورد وأمثاله هو أحد الموارد التي يقال عنها إنّ هذا العام آب عن التخصيص. وعلى كلّ حال إنّ هذا المطلب لا دخل [ له ] بما في التحرير (١) من المقادير والأوزان والمسافة ، فلاحظ.

ثمّ لا يخفى أنّ الذي حرّرته عنه قدس‌سره في الأوّل الذي هو كون القدر المتيقّن في مقام التخاطب ولو بمعونة مناسبة الحكم والموضوع مناسبة عرفية ، ومثّل لذلك بما في هذا التحرير من قوله : أكرم العلماء وقوله : لا تكرم الفسّاق ، وشرحه بما في هذا التحرير (٢) من أنّ المتكلّم لا يحبّ إكرام فاسق العلماء ، ثمّ قال ما هذا لفظه على ما حرّرته عنه : وإنّما قيّدنا المناسبة بكونها عرفية احترازاً عمّا ذكره

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٩.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٢٨.

٤٣

الشهيد قدس‌سره (١) في الأخبار الدالّة على إرث الزوجة مطلقاً والأخبار الدالّة على عدم الإرث ، بحمل الأُولى على ذات الولد والثانية على غير ذات الولد ، من جهة مناسبة الحكم للموضوع المستفادة من التعليل الوارد في بعض أخبار المنع بأنّها تدخل عليهم من لا يحبّون ، فإنّه يستفاد منه كون غير ذات الولد قدراً متيقّناً ، وإنّما احترزنا عنه لأنّ هذه المناسبة ليست مناسبة عرفية يطلع عليها كلّ أحد ، فلا تكون موجبة لكون موردها قدراً متيقّناً في مقام التخاطب كي يكون نصّاً فيها ، انتهى.

فهو قدس‌سره لم يناقش في مرجّحية القدر المتيقّن في مقام التخاطب ولم ينكره أصلاً ، وإنّما ناقش في صغرى خاصّة ممّا ادّعاه الشهيد قدس‌سره من صغرياته ، وهي ما أفاده في الأخبار المذكورة.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما نسبه إليه السيّد سلّمه الله في تحريره من قوله : ولكنّك عرفت في بحث المطلق والمقيّد ـ إلى قوله ـ فالحقّ سقوط هذا المرجّح عن المرجّحية من أصله (٢) ، فراجع وتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا المثال وهو قوله الزوجة ترث وقوله الزوجة لا ترث ، خارج عمّا نحن فيه من تحقّق القدر المتيقّن في أحد الدليلين اللذين بينهما العموم من وجه دون الآخر ، فإنّ هذا المثال من قبيل المتباينين اللذين يكون

__________________

(١) [ لعلّه قدس‌سره استفاد ذلك من عبارة الشهيد الثاني رحمه‌الله في شرح اللمعة : « والتعليل الوارد فيها له وهو الخوف من إدخال المرأة على الورثة من يكرهون ، شامل لهما أيضاً وإن كان في الخالية من الولد أقوى » فراجع الروضة البهيّة ٨ : ١٧٦ أو من عبارته رحمه‌الله في رسالته المفردة في إرث الزوجة : « ووجه الجمع حمل تلك الأخبار على غير ذات الولد وهذه على ذات الولد لمناسبة كلّ واحدة لحكمها دون العكس ». فراجع رسالة في إرث الزوجة ( ضمن رسائل الشهيد الثاني رحمه‌الله ) ١ : ٤٦٨ ].

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٢٩٢.

٤٤

لأحدهما قدر متيقّن في صنف وللآخر قدر متيقّن في صنف آخر. نعم إن لازم ما ذكره قدس‌سره فيما نحن فيه من تقديم ذي القدر المتيقّن على غيره هو لزوم الجمع في المتباينين ، بحمل كلّ منهما على ما يكون قدراً متيقّناً فيه.

ومن ذلك ما حكاه الشيخ قدس‌سره في نكاح الإماء من ملحقات المكاسب فيما لو شرط مالك الجارية على زوجها الحرّ رقّية أولادها منه ، من الجمع بين الأخبار القائلة بأنّ الأولاد أرقّاء مثل رواية أبي بصير ، قال عليه‌السلام : « لو أنّ رجلاً دبّر جارية ثمّ زوّجها من رجل فوطئها كانت جاريته وولده منها مدبّرين ، كما لو أنّ رجلاً أتى قوماً فتزوّج إليهم مملوكتهم ، كان ما ولد لهم مماليك » (١) فإنّ ظاهرها الحكم برقّية الولد ، لكنّه محمول على ما إذا اشترط على الأب رقّية الولد ، لأنّ الأخبار (٢) المستفيضة الدالّة على حرّية الولد بحرّية أحد أبويه ناصّة في الحرّية مع عدم اشتراط الرقّية ، لأنّه المتيقّن من أفرادها ، ظاهرة فيها مع اشتراط الرقّية ، وهذه الرواية نصّ في الرقّية في صورة الاشتراط ، لأنّها المتيقّنة من إطلاقها ، ظاهرة فيها في صورة عدم الاشتراط ، فينبغي رفع اليد من ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر ـ إلى أن قال ـ لكن الإنصاف أنّ روايات الحرّية على الاطلاق أقوى دلالة وأكثر عدداً ، مع أنّ الجمع المذكور لا شاهد عليه ـ إلى أن قال ـ وأمّا حديث وجوب الوفاء بالشروط والعقود المتضمّنة لها فلا ربط له بما نحن فيه ، لأنّ رقّية الولد ليس ممّا يملكه الشخص حتّى يلتزم به ، فإنّ الحقّ فيه لله سبحانه ولا تسلّط للعباد عليه ، فليس رقّية الولد قابلاً لأن يلتزم به الشخص حتّى يجب الوفاء به ، كما لا يجوز

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢١ : ١٢٣ / أبواب نكاح العبيد والإماء ب ٣٠ ح ١٠ ( مع اختلاف يسير ).

(٢) المصدر المتقدّم : ب ٣٠.

٤٥

اشتراط رقّية ولد الحرّين ، وهذا واضح (١) ، انتهى كلامه قدس‌سره.

ولا يخفى أنّه لو تمّ ذلك ـ أعني لزوم حمل كلّ من المتباينين على ما هو القدر المتيقّن منه ـ لانسدّ باب التعارض في المتباينين حتّى في مثل أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، بحمل الأوّل على خصوص العدول منهم والثاني على خصوص الفسّاق منهم ، إذ ما من متباينين إلاّولكلّ منهما قدر متيقّن.

ولكن شيخنا قدس‌سره احترز عن ذلك بكون القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فيخرج عنه ما له قدر خارجي لا في مقام التخاطب كما في مثل الأمثلة المذكورة ، بل إنّه قدس‌سره ضيّق الدائرة بما هو أزيد من ذلك ، وذلك باعتبار كون القدر المتيقّن في مقام التخاطب الذي هو عبارة عمّا يكون مقروناً بما يحتمل القرينية من قبيل [ ما ] يقتنع به العرف على وجه يكون صالحاً للقرينية بنظر العرف ، فلا عبرة بالاعتبارات الاحتمالية الصرفة التي لا يحتملها العرف ، وذلك مثل ما أفاده الشهيد قدس‌سره من التعليل بأنّها تدخل عليهم من لا يحبّون.

ولا يخفى أنّ ما أفاده قدس‌سره من القرينة في مثال أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من أنّ المتكلّم لا يريد إكرام العالم الفاسق ، وأنّه بنظره أسوأ حالاً من الفاسق غير العالم ، هي أضعف احتمالاً من القرينة التي أفادها الشهيد قدس‌سره ، لإمكان أن يقال إنّ القرينة بالعكس ، فلعلّ الفاسق غير العالم أسوأ حالاً من الفاسق العالم باعتبار اشتماله على صفة العلم ، فلعلّ أن يكون مبغوضية الفسق في غيره أقوى منها فيه ، وإن كانت كلّها احتمالات لا يعتنى بها في مقام الجمع والتقديم ، فلاحظ.

ولو سلّمنا كون الفاسق غير العالم أبغض عليه من الفاسق العالم لم يكن ذلك موجباً لتقديم أكرم العلماء عليه ، إذ لا يكون مورد الاجتماع هو القدر

__________________

(١) كتاب النكاح : ١٨٢ ـ ١٨٣.

٤٦

المتيقّن ، وإنما يكون مورد انفراد لا تكرم الفسّاق قدراً متيقّناً وهو غير نافع في مورد الاجتماع.

والخلاصة : هي أنّ القدر المتيقّن الخارجي بل وكذلك القدر المتيقّن في مقام التخاطب (١) لا أثر له ما لم يكن موجباً لقوّة الظهور في مورد المعارضة بحيث يكون أقوى ظهوراً ولا ينفع في التقديم ، ولأجل ذلك لم يعتنوا به في مقام التباين كما في مثل ثمن العذرة سحت ، ومثل لا بأس بثمن العذرة ، وجعلوا ذلك من الجمع التبرّعي. نعم في مثل مورد العام ، ومثل ما لو كان موجباً لبقائه على فرد نادر ، ربما كان موجباً لأقوائية الظهور على الطرف المقابل فيقدّم عليه.

قوله : ولكن شمول العام الأُصولي لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له ، لأنّ شمول العام لمادّة الاجتماع يكون بالوضع ، وشمول المطلق له يكون بمقدّمات الحكمة ، ومن جملتها عدم ورود ما يصلح أن يكون بياناً للتقييد والعام الأُصولي يصلح لأن يكون بياناً ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ هذا الأخير هو العمدة في توجيه التقديم ، وأمّا مجرّد الأظهرية وكون أحدهما بالوضع والآخر بالاطلاق فلا أثر له ، فالعمدة هو كون العام الأُصولي رافعاً لمقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي ، وشرح هذا يتوقّف على تفسير البيان في قولهم : إنّ المتكلّم في مقام البيان ولم يبيّن.

فتارةً يكون المراد منه هو البيان في هذه الجملة ، بمعنى أنّه كان بصدد إفادة

__________________

(١) كما لو قال أكرم العالم ، وقال : لا تكرم الفاسق ، واعتن بالكاتب ، وصدّق المخبرإذا كان عالماً ، فينحصر حجّية قوله : لا تكرم الفاسق بما إذا كان عالماً من جهة القرينة في مقام التخاطب [ منه قدس‌سره ].

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٠.

٤٧

جميع ما له الدخل في موضوع حكمه في هذه الجملة التي ألقاها إلى السامع ، ولو بمعونة القرائن الظاهرة الحالية أو المقالية التي تعدّ من القرائن المتّصلة ، بحيث تكون بياناً في مقام التخاطب.

وأُخرى يكون المراد منه هو إظهار مراده ولو بمعونة القرائن المنفصلة ، فلو قال : اعتق رقبة ، ولم يذكر الإيمان فيها ، ثمّ بعد ذلك عثرنا على دليل يدلّ على اعتبار الإيمان فيها ، فعلى الأوّل يكون هذا الدليل الثاني كاشفاً عن خطئنا في المقدّمة الأُولى القائلة إنّ المتكلّم في مقام بيان مراده في مقام التخاطب وإظهاره بواسطة تلك الجملة السابقة ، من دون فرق في ذلك بين كون ذلك الدليل على التقييد سابقاً على تلك الجملة وكونه لاحقاً لها ، وعلى هذا التقدير لو صدر منه قوله : أكرم العالم ، ثمّ بعد ذلك عثرنا على قوله : لا تكرم الفسّاق ، فقوله : لا تكرم الفسّاق ، نظراً إلى أنّ عمومه لا يتوقّف على مقدّمة من المقدّمات لفرض كونه وضعياً ، ومع فرض هذا الدليل الحاكم بمقتضى أصالة العموم فيه أنّه يحرم إكرام كلّ فاسق حتّى العالم الفاسق ، تكون المقدّمة الأُولى من مقدّمات إطلاق قوله أكرم العالم ساقطة ، لأنّ هذا العموم كاشف عن أنّ مراده هو خصوص العالم غير الفاسق ، وبناءً عليه نقول إنّه لم يكن عند صدور قوله « أكرم العالم » في مقام بيان مراده. هذا من ناحية العام الأُصولي.

وأمّا من ناحية ذلك المطلق الشمولي فلا يمكن أن نجعله قرينة على التصرّف في قوله لا تكرم الفسّاق ، بإخراج العالم منهم أو معارضته له فيه ، إلاّبعد ثبوت إطلاقه المتوقّف على جريان المقدّمة الأُولى التي عرفت أنّ العام الأُصولي رافع لها وكاشف عن عدم تحقّقها ، من دون فرق في ذلك بين كون هذا العام الأُصولي سابقاً على ذلك المطلق أو كونه لاحقاً له ، هذا بناءً على التفسير الأوّل

٤٨

للبيان المذكور في مقدّمتي الحكمة.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني فالأمر أيضاً كذلك ، غير أنّه بناءً عليه يكون العثور على دليل التقييد المنفصل كاشفاً عن الخطأ في المقدّمة الثانية لو كان سابقاً على المطلق وعن الخطأ في المقدّمة الأُولى لو كان لاحقاً ، إن كان المراد بالمقدّمة الأُولى هو خصوص البيان المقارن الأعمّ من المتّصل والمنفصل ، وإن كان المراد منها هو الأعمّ من البيان المتّصل والبيان المنفصل الأعمّ من المقارن والمتأخّر ، فلا يكون كاشفاً إلاّعن خطأ الثانية القائلة إنّه لم يبيّن ، استناداً إلى أصالة عدم القرينة الأعّم من السابقة واللاحقة بمعنى عدم لحوقها.

وعلى كل ، يكون العام الأُصولي رافعاً لإحدى مقدّمتي الحكمة في المطلق الشمولي فيقدّم عليه ، بخلاف المطلق الشمولي فإنّ معارضته للعام الأُصولي أو تخصيصه له لا يمكن إلاّبعد ثبوت ظهوره الاطلاقي المتوقّف على تمامية المقدّمات التي يكون ذلك العام الأُصولي رافعاً لها.

ومن ذلك كلّه تعرف أنّ الوجه في هذا التقديم ليس هو صلوح العام الأُصولي للقرينية ، بل هو كونه رافعاً لمقدّمة الحكمة في المطلق الشمولي ، كما أنّك عرفت أنّ هذا التقديم لا يبتني على كون المراد بالبيان هو البيان الواقعي أو البيان في مقام التخاطب ، فإنّك قد عرفت التقديم على كلّ من الوجهين المذكورين.

وأمّا ما أفاده المرحوم صاحب الكفاية قدس‌سره في فوائده (١) من أنّ اللازم علينا جمع كلمات الأئمّة عليهم‌السلام المتفرّقة الخ فهو غير مناف لهذا الذي حرّرناه من الحكومة والتقديم ، وكذلك ما نقله عنه شيخنا قدس‌سره بقوله : ودعوى ـ إلى قوله ـ

__________________

(١) المطبوع مع حاشية كتاب فرائد الأُصول : ٣٢٨.

٤٩

واضحة الفساد (١) لا ينافي أيضاً ما حرّرناه ، فإنّه لو سلّمنا أنّ المراد من البيان هو البيان في مقام التخاطب ، وهذا المتأخّر وإن لم يمكن أن يكون بياناً في مقام التخاطب ، فلا يكون هادماً للمقدّمة الثانية ، إلاّ أنّه بأصالة الظهور يكشف عن أنّ مراد المتكلّم من العالم هو غير الفاسق ، فيهدم المقدّمة الأُولى ، من دون صلاحية للمطلق الشمولي أن يعارضه لكونه رافعاً لموضوعه.

ولا يخفى أنّ هذا الذي نقله شيخنا قدس‌سره هو عين مطلبه في الكفاية في باب التعادل والتراجيح ، فإنّه بعد أن ذكر الوجه في تقديم العام الأُصولي على المطلق ، بكون ظهور العام تنجيزياً ، وظهور الاطلاق معلّقاً على عدم البيان والعام يصلح للبيانية ، قال ما نصّه : وفيه أنّ عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدّمات الحكمة إنّما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد (٢).

وهذا الكلام منه قدس‌سره وإن كان منافياً لما نقله عنه شيخنا قدس‌سره في فوائده ممّا ظاهره توسعة البيان للبيان المنفصل ولو متأخّراً ، إلاّ أنّك قد عرفت أنّ ردّه لا يتوقّف على تفسير البيان بالبيان الواقعي ، لما عرفت من حكومة العموم على الاطلاق برفع إحدى مقدّماته حتّى لو كان المراد به البيان في مقام التخاطب الذي هو عبارة عن القرينة المتّصلة.

ولكن مع ذلك كلّه فللتأمّل فيما ذكرناه من وجه التقديم مجال ، فإنّ المطلق الشمولي وإن توقّف على مقدّمات الحكمة وكان العام الأُصولي رافعاً لإحداها ، إلاّ أنّ العام الأُصولي ليس بحجّة بالذات ، بل يحتاج في حجّيته إلى أصالة عدم القرينة بناءً على توقّفه على ذلك ، أو لا أقل من عدم ثبوت حجّة على الخلاف بناءً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣١.

(٢) كفاية الأُصول : ٤٥٠.

٥٠

على اعتبار أصالة الظهور كاشفة بنفسها عن المراد ، والمطلق الشمولي مع قطع النظر عن العام الأُصولي صالح للحجّية على خلاف العام الأُصولي ، كما أنّ العام الأُصولي مع قطع النظر عن المطلق الشمولي صالح للبيانية ، إلاّ أن نقول إنّه يكفي في حجّية العام الأُصولي عدم ثبوت حجّة على الخلاف ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ ما أفاده شيخنا قدس‌سره هنا من أنّ العام الأُصولي يكون رافعاً لمقدّمات الحكمة في العام الاطلاقي لكونه صالحاً للبيانية ، لعلّه مناف لما أفاد سابقاً في تقديم ظهور القرينة وإن كان بالاطلاق على ظهور ذي القرينة وإن كان بالوضع ، لأنّ كونه قرينة إنّما يثبت بعد فرض تمامية ظهوره ، والمفروض أنّ تمامية ظهوره متوقّفة على عدم البيان ، والظهور الوضعي من ذي القرينة رافع لعدم البيان لكونه صالحاً للبيانية.

ومن ذلك يظهر أنّ المدار في التقديم على الأظهرية بالنظر العرفي ، سواء كان من قبيل المتّصل أو كان من قبيل المنفصل ، فتأمّل.

قوله : لأنّ المطلوب في الاطلاق البدلي صرف الوجود ، فلا يصلح لأن يعارض ما يكون المطلوب فيه مطلق الوجود ... الخ (١).

هذه الجهة ـ أعني كون المطلوب بالمطلق البدلي مثل أكرم عالماً صرف الوجود ، والمطلوب في العام الأُصولي هو مطلق الوجود مثل لا تكرم الفسّاق ، بمعنى أنّ الممنوع عن إكرامه هو تمام أفراد الفاسق ـ إنّما تصلح مرجّحة في مقام التزاحم ، فإنّ الفرد من العالم الفاسق يكون مشمولاً للنهي على نحو التعيين وللأمر على نحو البدلية ، وما ليس له البدل مقدّم في مقام التزاحم على ما له.

أمّا ما نحن فيه من التعارض ، فإنّ الإشكال فيه إنّما هو من حيث دلالة قوله

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٢.

٥١

أكرم عالماً على أنّه لا فرق في مقام الامتثال بين كون ذلك الفرد من طبيعة العالم متّصفاً بالفسق وكونه غير متّصف به ، فيكون فيه الدلالة على أنّ للمكلّف أن يختار العالم الفاسق لامتثال قوله أكرم عالماً ، مع أنّ قوله لا تكرم الفسّاق له الدلالة على أنّه لا يجوز إكرام ذلك الفرد ، فوقع التنافي بين هذين الدليلين.

وهذا التنافي لا يرفعه ما أُشير إليه من تقديم ما ليس له البدل على ما له ، لأنّه إنّما ينفع في مقام التزاحم ، فلابدّ في رفع هذا التنافي من سلوك الطريقة السابقة من تحكيم قوله لا تكرم الفسّاق على إطلاق أكرم عالماً ، من جهة كونه رافعاً لمقدّمة من مقدّمات دليل حجّية إطلاقه.

قوله : لأنّ من مقدّمات الحكمة في الاطلاق البدلي كون الأفراد متساوية الأقدام ، ومقدّمات الحكمة في الاطلاق الشمولي تمنع من ذلك ... الخ (١).

لا يخفى أنّ مقدّمات الحكمة المسوقة لإثبات الاطلاق البدلي في مثل أكرم عالماً لا تزيد على المقدّمات المسوقة لإثبات الاطلاق الشمولي في مثل لا تكرم الفاسق أو يحرم إكرام الفاسق. نعم بعد ثبوت الاطلاق في المثال يحكم العقل بالتخيير بين الأفراد لكونها متساوية الأقدام في الدخول تحت صرف الطبيعة المطلوبة ، كما أنّ العقل يحكم بلزوم ترك إكرام جميع أفراد الفاسق لتساويها أيضاً في الدخول تحت صرف الطبيعة الممنوع عنها ، نعم إنّ الحكم العقلي الثاني يكون مقدّماً على حكمه الأوّل ، لكن هذا التقديم أيضاً في مقام التزاحم لا في مقام التعارض بين الدليلين.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٢.

٥٢

قوله : ومنها ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الغاية كقوله : يجب الامساك إلى الليل ، وقوله : إن جاءك زيد فلا يجب الامساك في الليل ... الخ (١).

لا يخفى أنّ مفهوم القضية الأُولى هو أنّه لا يجب الامساك في الليل سواء جاء زيد أو لم يجئ ، ومفهوم القضية الثانية هو أنّه إن لم يجئ زيد وجب الامساك في الليل ، والثاني أخصّ من الأوّل ، لأنّ موضوعهما هو الليل ، وقد حكم في الأوّل بأنّه لا يجب الامساك فيه سواء جاء زيد أو لا ، وحكم في الثاني بأنّه يجب الامساك فيه إن لم يجئ زيد (٢) ، فلابدّ من إسقاط لفظ « الليل » من منطوق الثانية ليكون مفهومها هو أنّه إن لم يجئ زيد وجب الامساك سواء كان في الليل أو في النهار ، فيكون هذا المفهوم أعمّ من وجه من مفهوم الأُولى الذي هو الغاية ، لانفراد مفهوم الغاية في مجيء زيد ليلاً ، ومقتضاه عدم وجوب الامساك ، وهو موافق لمنطوق القضية الثانية ، وينفرد الثاني في عدم مجيء زيد في النهار ، ومقتضاه وجوب الامساك فيه ، وهو موافق لمنطوق الأُولى ، ويجتمعان في صورة عدم مجيء زيد ليلاً. ومقتضى الأوّل ـ أعني عدم مجيء زيد الذي هو شرط المفهوم في القضية الثانية ـ وجوب الامساك ، ومقتضى الثاني ـ أعني الليل الذي [ هو ] موضوع المفهوم في القضية الأُولى ـ عدم وجوب الامساك ، وهذه الصورة أعني صورة الاجتماع غير داخلة في منطوق الأُولى ، لأنّه متعرّض لحكم النهار ، فلا يدخل فيه الليل ، كما أنّها غير داخلة في منطوق الثانية ، لأنّ منطوق الثانية متعرّض لحكم مجيء زيد ، فلا تدخل فيه صورة عدم مجيء زيد الذي هو

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٢.

(٢) [ في الأصل : إن جاء زيد ، والصحيح ما أثبتناه ].

٥٣

المفروض في هذه الصورة.

ولكن لا يخفى أنّ التعارض الأوّلي واقع بين المنطوقين ، لأنّ بينهما العموم من وجه مع اختلافهما في الحكم ، فلابدّ من إصلاح التعارض بينهما ، ولا دخل لهذا التعارض بكون مفهوم الغاية وضعياً ومفهوم الشرطية إطلاقياً.

ولو كانت القضية الشرطية بهذه الصورة ، وهي إن جاء زيد وجب الامساك ، كان مفهومها إن لم يجئ زيد لم يجب الامساك سواء كان بالليل أو بالنهار ، وحينئذ يكون مفهوم كلّ من القضيتين معارضاً لمنطوق الأُخرى ، ولابدّ من الجمع بينهما ، إمّا بجعل منطوق كلّ منهما مقيّداً بمنطوق الأُخرى ، فيكون مناط الامساك هو مجموعهما ويكونان راجعين إلى قضية واحدة ، فلا يجب الامساك إلاّعند اجتماعهما ، ويسقط عند انتفاء أحدهما أو انتفائهما معاً ، أو بجعل الملاك هو أحد المنطوقين ، فيجب الامساك عند تحقّق أحد المنطوقين ولا يسقط إلاّ بانتفائهما معاً ، وقد تقدّم الكلام على أمثال هذا المقام مفصّلاً في مبحث المفاهيم (١).

قوله : ومنها ما إذا وقع التعارض بين مفهوم الشرط ومفهوم الوصف ... الخ (٢).

مثل أكرم العالم العادل ، فإنّ مفهومه أنّه لا يجب إكرام العالم الفاسق ، سواء كان نحوياً أو غير نحوي ، في قبال قوله : إن كان العالم نحوياً لم يجب إكرامه ، فإنّ مفهومه أنّ العالم إذا كان غير نحوي وجب إكرامه ، سواء كان عادلاً أو كان فاسقاً ، فيتعارض المفهومان في العالم الفاسق غير النحوي ، وينفرد الأوّل في الفاسق

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب الصفحة : ٦ وما بعدها.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٣.

٥٤

النحوي والثاني في العادل [ غير ] النحوي.

والأولى التمثيل له بما تقدّم بتبديل الغاية بالوصف بأن يقال : يجب الامساك النهاري ، ثمّ يقول : إن جاء زيد لم يجب الامساك ، ولكن مفهوم الثانية أعمّ مطلقاً من منطوق الأُولى ، وإن شئت فقل : إنّ بين المنطوقين عموماً من وجه ، فلابدّ من إصلاحه ، وبإصلاحه يرتفع الإشكال عن المفهومين.

قوله : يعتبر في النسخ أن يكون وارداً بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ (١).

هذا بناءً على أنّه يعتبر في الأحكام التبعيةُ لمصالح في المتعلّقات كما هو مختاره قدس‌سره (٢) ، وإلاّ فلو قلنا يكفي المصلحة في نفس الجعل ، لكان النسخ قبل حضور وقت العمل بمكان من الامكان ، راجع ما حرّرناه في ذلك في مباحث العموم والخصوص (٣).

قوله : ثانيها أن تكون كاشفة عن اتّصال كلّ عام بمخصّصه وقد اختفت علينا المخصّصات المتّصلة ، ووصلت إلينا هذه المخصّصات المنفصلة (٤).

الأولى أن لا يقتصر على صورة الاتّصال ، لإمكان أن يكون ذلك العام عند صدوره مسبوقاً أو ملحوقاً بالمخصّص المنفصل الوارد قبل حضور وقت [ العمل ] فإنّ هذا الاحتمال يرفع إشكال الحكم على هذه المخصّصات المتأخّرة بأنّها مخصّصة.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٣.

(٢) فوائد الأُصول ٣ : ٥٧ وما بعدها ، أجود التقريرات ٣ : ٦٦ وما بعدها.

(٣) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٥٥ ، ٣٩١.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٤.

٥٥

بل يمكن أن يقال : إنّه لا يتوجّه عليه الاستبعاد الذي ذكره الشيخ (١) الناشئ من الاعتماد على ضبط الرواة القرائن المتّصلة ، فإنّا لو سلّمنا الاعتماد عليهم في ضبط القرائن المتّصلة لم يكن ذلك موجباً للاعتماد عليهم في ضبط القرائن المنفصلة ، على وجه نحكم ولو ظنّاً بأنّهم قد أوصلوا إلينا جميع ما صدر في الصدر الأوّل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عنهم عليهم‌السلام من المخصّصات أو المقيّدات المتصّلة.

قوله : وقد وردت أخبار عديدة في تفويض دين الله تعالى إلى الأئمّة عليهم‌السلام ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ مفاد هذه الأخبار (٣) هو أمر آخر غير كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أودع عندهم الحكم الناسخ ، فتأمّل.

ويمكن الناسخية بوجه ثالث وهو إظهار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للناسخ لكنّه قد اختفى علينا ولم يصلنا إلاّفي زمان العسكري عليه‌السلام. نعم يمكن أن يقال : إنّ هذا ليس بناسخ في الاصطلاح ، وإنّما هو تخصيص أزماني.

قوله : نظير الأخذ بالبراءة العقلية قبل ورود البيان من الشارع ... الخ (٤).

لعلّ نظر الشيخ قدس‌سره في عدم ذكر البراءة الشرعية المستفادة من حديث الرفع إلى احتمال اختصاصها بما إذا احتمل ورود البيان ولم يصل إلينا ، كما هو مفاد

__________________

(١) لاحظ فرائد الأُصول ٤ : ٩٥.

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٤.

(٣) الكافي ١ : ٢٠٧.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٦.

٥٦

« رفع ما لا يعلمون » ، دون ما لو حصل لنا القطع بعدم البيان واحتملنا وجود الحكم الواقعي لكن الشارع لم يظهره لمصلحة في إخفائه.

أمّا احتمال كون البراءة الشرعية من بيان العدم كما أُفيد في الحاشية (١) ، فينبغي القطع بعدمه وإلاّ لكانت دليلاً اجتهادياً أو أصلاً إحرازياً ، كما أنّه ينبغي القطع بأنّ العموم ولو كان إطلاقياً لا يكون من مجرّد عدم البيان وإلاّ لم يكن دليلاً اجتهادياً ، وكان حينئذ أصلاً عملياً غير إحرازي ، بل إنّ العموم وإن كان إطلاقياً ناشئاً من عدم البيان إلاّ أنّ عدم البيان في مقام البيان يكون دليلاً على العدم وبياناً له ، وأنّ المراد هو المطلق أو العموم.

قوله : فإنّا نرى أنّ كثيراً من المخصّصات المنفصلة المروية من طرقنا عن الأئمّة عليهم‌السلام مروية عن العامّة بطرقهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علينا ... الخ (٢).

هذا يحتاج إلى تتبّع وإثبات ، ومع فرض الحصول على مثل ذلك فهل ما ورد من طرق العامّة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان من قبيل القرينة المتّصلة لكنّها جاءت في طرقنا منفصلة ليكون شاهداً وكاشفاً عن أنّه ربما أو كثيراً ما يصلنا العام ولم تصل إلينا قرينته التي كانت متّصلة به ، أو أنّ ما ورد من طرق العامّة كان أيضاً من قبيل القرينة المنفصلة ، فيكون شاهداً على ما قدّمناه من أنّه ربما كان العام مخصّصاً بدليل منفصل قد ورد ذلك الدليل المنفصل قبل حضور وقت العمل ولكنّه لم يصل إلينا ، وإنّما وصل إلينا المخصّص المنفصل من أحد أئمّتنا المتأخّرين عليهم‌السلام بعد أن عملنا مدّة بذلك العام.

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٦ ( الهامش ).

(٢) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٧.

٥٧

قوله : بل يمكن أن يقال باستحالة الوجه الثالث ، فإنّه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصّصات المنفصلة تامّة فلابدّ من إظهاره والتكليف به ، وإن لم تكن تامّة ـ ولو بحسب مقتضيات الزمان حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم ـ فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتّى يكون مفاد العام حكماً ظاهرياً ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاصّ ، ولا محالة يكون الخاصّ ناسخاً لا مخصّصاً ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأوّل وهو النسخ ، وقد عرفت أنّه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني (١).

لا يخفى أنّه يمكن الالتزام بأنّ مصلحة الحكم الواقعي الذي هو على طبق الخاصّ تامّة ولكن لم يمكن إظهاره وبيانه لمفسدة في الإظهار والبيان ، وهذه المفسدة لا تكون كاسرة لمصلحة الحكم الواقعي ، غايته أنّ المولى بعد لحاظه المفسدة في الاظهار والبيان يكون سكوته عن إظهار ذلك الحكم تفويتاً على المكلّفين مصلحة ذلك الحكم الواقعي ، لكنّه تفويت قهري فلا يكون قبيحاً على المولى ، ويكون المكلّفون معذورين في ذلك لعدم علمهم بالحكم الواقعي ، وحينئذ يكون أخذهم بذلك العموم حكماً ظاهرياً محقّقاً لعذرهم بالنسبة إلى مخالفة الحكم الواقعي في ناحية الخاصّ لعدم علمهم بمراد المولى ، ويكون الحاصل من مجموع ذلك من قبيل ما عن المحقّق الطوسي في حقّ صاحب الأمر ( أرواحنا فداه ) من أنّ وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر ومنعه منّا (٢)

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٧٣٧.

(٢) كشف المراد : ٣٦٢ [ لا يخفى أنّ الموجود في بعض النسخ : وعدمه منّا ، وفي بعضها الآخر : وغيبته منّا ].

٥٨

وحاصل الأمر : أنّ المفسدة المانعة من إظهار الحكم الواقعي الذي هو على طبق الخاصّ لا توجب الخدشة في مصلحته الواقعية ، وأقصى ما فيها أن تكون مصحّحة لسكوت المولى عن بيانه ، ولمعذورية المكلّفين في مخالفته والأخذ في مورده بمقتضى عموم العام ، ولازم ذلك هو كون حكم العام في حقّهم في مورد الخاص حكماً ظاهرياً.

ثمّ لا يخفى أنّ هذه الجهة التي أفادها قدس‌سره ـ أعني كون مفسدة البيان كاسرة لمصلحة الواقع ـ لو تمّت لكانت جهة أُخرى مانعة من جعل الخاصّ المتأخّر مخصّصاً للعام المتقدّم غير جهة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، بل إنّ هذه الجهة لو تمّت لكانت جارية في كلّ خاصّ متأخّر عن صدور العام حتّى لو كان ذلك الخاصّ صادراً قبل حضور وقت العمل بالعام ، فإنّ العام الصادر قبل حضور وقت العمل به المقرون بالمفسدة في إظهار الخاصّ معه يكون حكماً واقعياً ، ونظراً إلى أنّ المفسدة في إظهار الخاصّ تكون كاسرة لمصلحته لابدّ أن نقول إنّ صدور الخاصّ بعده ولو قبل حضور وقت العمل بالعام يكون ناسخاً ورافعاً لحكم العام في مورد الخاصّ ، فيلزم عليه الالتزام بالنسخ قبل وقت العمل ، وأن لا يكون الخاصّ المتأخّر عن الخطاب بالعام مخصّصاً ، بل لابدّ أن يكون ناسخاً بقول مطلق ، سواء كان صدوره قبل حضور وقت العمل بالعام أو كان صدوره بعد ذلك فتأمّل. وقد حرّرنا ذلك كلّه وأوضحناه وشرحناه في مبحث العموم والخصوص (١) عند تعرّض شيخنا قدس‌سره لهذه المسألة هناك ، فراجع وتأمّل.

والانصاف : أنّ هذه المخصّصات التي كان زمان ظهورها متأخّراً كزمان العسكري عليه‌السلام بعد انسداد باب احتمال كونها ناسخة للعام يحتمل فيها وجوه ثلاثة

__________________

(١) راجع المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٣٥٩ وما بعدها.

٥٩

بمعنى أنّها قابلة للتوزيع على هذه الوجوه الثلاثة ، فبعضها كان متّصلاً بالعام من حين صدوره لكنّه لم يصل إلينا حتّى أعلمنا به العسكري عليه‌السلام ، وبعضها كان له وجود قبل العسكري عليه‌السلام لكن لم يصل إلينا أو نحن لم نصل إليه إلاّبعد أن أعلمنا به عليه‌السلام ، سواء كان وجود ذلك الخاصّ قبل صدور العام أو بعده لكن قبل العمل بالعام ثمّ اختفى علينا وعلى من كان قبلنا حتّى زمان العسكري عليه‌السلام ، وبعضها لم يكن له وجود وظهور أصلاً ، بل كان مخفياً عندهم عليهم‌السلام واحداً بعد واحد حتّى زمان العسكري عليه‌السلام ، وإنّما أخفوه لمصلحة في إخفائه ، بل هذا المعنى وهو الاخفاء لأجل مصلحة في الاخفاء ربما تأتي في الوجهين الأوّلين ـ أعني المتّصل الذي اختفى علينا أو المنفصل الذي اختفى علينا وعلى من كان قبلنا ـ بالنسبة إلى الأئمّة السابقين على العسكري ، فإنّهم عليهم‌السلام لم يبيّنوا ذلك لمصلحة في الاخفاء.

وحاصل الأمر : أنّ كلاً من المتّصل والمنفصل قد يكون عدم وصوله إلينا أو إلى من كان قبلنا من باب الاخفاء وقد يكون من باب الاختفاء ، والاخفاء قد يكون لمصلحة في الاخفاء وقد يكون لأجل مانع من الاظهار ، والمانع قد يكون عبارة عن المفسدة في الاظهار وقد يكون موقّتاً لأجل وجود تقية عند صدور العام من الإمام عليه‌السلام ويتّخذه السامع حكماً واقعياً ، ولا يتيسّر له بعد ذلك الحضور عند الإمام ، لكن يعلمه الإمام عليه‌السلام بأنّ ذلك العام كان تقية ، أو أنّه لا يتيسّر للإمام ولا لمن بعده من الأئمّة عليهم‌السلام الإعلام بأنّ ذلك العام كان تقية ، إلى غير ذلك من موجبات الخفاء أو الاخفاء أو الاختفاء ، وهي لا تدخل تحت [ ضابط ] ولا يحصرها حاصر ، وكلّها ممكنة ، بل الكثير منها واقع كما يشهد به تعاقب البيانات وتأخّر بعضها عن بعض ، والغرض أنّ ذلك لا يدخل تحت ضابط واحد ، سواء كان هو الوجه الأوّل ـ أعني اختفاء المتّصل ـ كما يظهر من شيخنا قدس‌سره ، أو هو الوجه

٦٠