الوصية الممنوعة

علي صادق الزبيدي

الوصية الممنوعة

المؤلف:

علي صادق الزبيدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-364-0
الصفحات: ٧٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١).

كانوا يسارعون لنيل رضاه ؛ لأنَّهم علموا أنَّ رضاه من رضىٰ الله سبحانه وتعالىٰ.

فلماذا إذاً لم يأمرهم بكتابة وصيَّته ـ التي لا ضلال بعدها ـ إلاَّ قبل أيَّام من رحيله عن هذه الدنيا ؟! وهل كان يجب عليه أن يتمهَّل في الأمر إلىٰ حين من الزمن قد يُثار فيه شكٌّ من نوع الشكِّ الذي ألقاه عمر بين الصحابة ؟

فهل حقّاً أنّه لم يشر إلىٰ الوصيَّة من قريب أو بعيد في حياته الشريفة كلِّها ؟!

ذكرنا أنَّ أصل الوصيَّة أن تكون مشهودة ، ولا يشترط فيها أن تكون مكتوبة ، وإنما يلجأ صاحبها إلى الكتابة إذا خشي عليها أن تُضيّع .. وهذه الحالة لا تكون على الأغلب إلاّ ساعة الاحتضار كما جاء في الآيتين التي أوردناهما هناك ، التعبير بحضور الموت ، وهذا ما نسمّيه بالاحتضار. ولكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتفِ بهذا ، بل وهذا ما فعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. وأوصىٰ بالوصيَّة لعدَّة مرَّات وأمام جمع غفير من المسلمين ، وذكرها مراراً وتكراراً لتكون درعاً واقياً للأُمَّة من الاختلاف والنزاع.

ومع هذا حدث ما حدث من اللغط والهرج أثناء دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتف والدواة ؛ لأنَّ الصحابة يعلمون علماً يقيناً لا يشوبه أيُّ شكٍّ بما سيوصي به الرسول ، لذلك كان عليهم أن يقفوا منه موقفاً مناسباً من آخر إشارة يطلقها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويمنعوا من

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٣.

٦١

تحرير تلك الوصيَّة علىٰ الورق ؛ لكي لا تكون حجَّة ينتفع بها غيرهم.

فمتىٰ أوصىٰ الرسول قبل مرضه ؟

هناك أكثر من موضع أدلىٰ فيه الرسول بما يريده في هذا الصدد ، وفيه كله يخرج حديثه مخرج الوصية ، بكل إيحاءاتها وكامل فحواها :

١ ـ ففي بواكير دعوته ، في الحديث الشهير بحديث الانذار ، أو حديث الدار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بني عبد المطّلب ، والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر ، على أن يكون أخي ، ووَصِيّي ، وخليفتي فيكم ؟ ».

قال عليّ عليه‌السلام ـ والرواية عنه ـ فأحْجَم القوم عنها جميعاً ، وقلت ـ وأنا لأحدثهم سِنّاً ـ : أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه.

فأخذ برقبتي ، ثمّ قال : « إنّ هذا أخي ، ووصيّي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

٢ ـ وفي أواخر أيام دعوته ، في أيام حجة الوداع ، وفي خطبة الغدير المشهورة قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : « ألست أولىٰ بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى ، قال : فمن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ، اللَّهمَّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، واخذل من خذله ، وانصر من نصره » وحديث الغدير هذا حديث صحيح (٢) قد بلغ حدّ التواتر عند جميع

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ : ٢١٧ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٦٢ ـ ٦٤ ، السيرة الحلبيّة ١ : ٤٦١ ، معالم التنزيل / البغوي ٤ : ٢٧٨ ، شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢١٠.

(٢) أنظر : مسند أحمد ٤ : ٢٨١ ، ٣٦٨ ، صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الصحابـة

٦٢

المسلمين (١).

٣ ـ وأيام حجة الوداع ، في خطبتها الشهيرة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما جاء في سياق الوصية ومنها : « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما ». ولهذا الحديث ألفاظ عديدة جداً تتفق كلها على مضمون واحد وهو حديث متواتر كذلك (٢).

وفي أيام حجة الوداع أيضاً كانت آية التبليغ كما في الغدير وغيره ، كما يسمّيها المفسرون ، والتي تقول :

( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٣). ونريد أن نقف قليلاً عند هذا البلاغ ..

فالآية غريبة في دلالتها لأنَّها نزلت قبل أشهر قليلة من وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبمعنىٰ آخر أنَّها نزلت وأحكام الدين كاملة تماماً. فالصلاة مفروضة ، والصيام كذلك ، والحجُّ والزكاة وكل الواجبات

__________________

٤ : ١٨٧٣ ح / ٢٤٠٨ من عدَّة طرق ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٨ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٤٨.

(١) اُنظر : البداية والنهاية ٥ : ٢٣٣.

(٢) مسند أحمد ٥ : ١٨٢ ، ١٨٩ و ٣ : ١٧ ، صحيح مسلم / كتاب فضائل الصحابة ٤ : ١٨٧٣ / ٢٤٠٨ بعدّة طرق ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٨ ـ كتاب المناقب وقبله / ٣٧٨٦ ، مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٨ ، الخصائص / النسائي : ٢١ ، مصابيح السنة ٤ : ١٨٥ / ٤٨٠٠ و ١٩٠ / ٤٨١٦ ، ومجمع الزوائد ٩ : ١٦٣ ـ ١٦٤ ، الجامع الصغير ١ : ٢٤٤ / ١٦٠٨ ، الصواعق المحرقة باب ١١ فصل ١ : ١٤٩ ، الخصائص الكبرى / السيوطي ٢ : ٤٦٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١٢.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.

٦٣

والمحرَّمات كانت قد وصلت الىٰ أسماع المسلمين ففهموها ووعوها وعملوا بها ، وعاقبوا من تخلَّف وعصىٰ ، وسار الدين سيراً انسيابياً لطيفاً ملأ القلوب بأنواره ، وسحر العقول بأفكاره ، وعجز الكفَّار والمشركون عن مواجهته ومحاربته.

فماذا تريد هذه الآية وإلىٰ أي شيء تشير ؟!

الآية أولاً : تلغي أتعاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن لم يبلغ ما أوحي إليه من ربِّه.

وثانياً : إنَّ الرسول كان يبلغ ما يوحيه الله سبحانه إليه ، ولا يمنع فيض السماء علىٰ أهل الأرض. وكيف يمنع الفيض الإلهي وهو الرحمة للعالمين. أليس هو الموصوف في الذكر الحكيم ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) (١).

فماذا حدث حتىٰ يأمر الله سبحانه وتعالىٰ رسوله أن ( يبلِّغ ) .. وكأنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يُحاذر ويخاف أن يبلِّغ الناس ذلك الأمر. فجاء الخطاب بصيغة التهديد ، بقوله تعالىٰ : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) فيجعل تبليغ أمره هنا مساوياً لكلِّ المشاقِّ والآلام والمعاناة التي عاناها طوال أكثر من عقدين كاملين من عمره الشريف.

وثالثاً : يقول سبحانه وتعالىٰ : ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) وكأنَّ هناك خطراً من تبليغ ذلك الأمر كان يحسُّه النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضمن له ربُّه حمايته وحراسته.

__________________

(١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

٦٤

فماذا يا ترىٰ ذلك الأمر الحائز علىٰ تلك الأهميَّة العظمىٰ ؟!

نُرجع فهم هذه الآية إلىٰ وقت نزولها. فآية التبليغ هي من آخر ما نزل من القرآن باتفاق العلماء ، وليس بينها وبين وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ثمانين يوماً أو نحو ذلك.

وقد وردت عند المفسرين روايات متعدّدة وتعطي دلالات مختلفة لهذه الآية ، لكنها للأسف روايات لا تتوفر على دواعي القبول ، ولا تقوم بها حجة ، ليس فقط لكونها عارية عن الأسانيد المعتبرة أو ذات القيمة ، بل أيضاً لأنها لا يمكن أن تنسجم مع تاريخ نزول الآية المتفق عليه ، فهي روايات تفيد ان الآية نزلت لتطمين الرسول من أعدائه ، وأمرته بالانذار وبتبليغ أحكام الإسلام ، وأعلمته أن الله يعصمه من الكافرين ، ولكن هذا كلّه قد حصل قبل نزول الآية بزمن غير قليل ، وعلى امتداد حياته الشريفة (١).

أما الذي ورد مسنداً ، والذي يمكن التعويل عليه لكونه التفسير الوحيد الذي لا يتعارض مع تاريخ نزولها ، فهو قول الكثير من المفسرين وأصحاب الحديث ، إنها نزلت بعد تبليغ جميع الفرائض ، واختصَّت بتبليغ أمر الخلافة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن رواياتها :

١ ـ أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خُمٍّ في عليِّ بن أبي طالب (٢).

__________________

(١) راجع : حجم التناقض والاضطراب في الحكايات والروايات الواردة فيها بشكل مفصل في كتاب منهج في الانتماء المذهبي / صائب عبد الحميد : ١٣٣ ـ ١٤٤ ـ مركز الغدير ـ قم.

(٢) شواهد التنزيل / الحسكاني ١ : ١٨٨ ـ ١٩٣ في عدّة طرق ، تفسير المنار

٦٥

٢ ـ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنَّا نقرأ علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( يا أيُّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك من ربِّك ـ أنَّ عليَّاً مولىٰ المؤمنين ـ وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (١).

٣ ـ عن الإمام محمَّد الباقر عليه‌السلام : « أنَّ المراد بما أُنزل إليه من ربِّه النصُّ علىٰ خلافة عليٍّ بعده ، وأنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخاف أن يشقَّ ذلك علىٰ بعض أصحابه فشجَّعه الله تعالىٰ بهذه الآية » (٢).

٤ ـ عن ابن عبَّاس ، أنَّ الله أمره أن يخبر الناس بولاية عليٍّ فتخوَّف أن يقولوا : حابىٰ ابن عمِّه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه. فلمَّا نزلت الآية عليه في غدير خُمٍّ أخذ بيد عليٍّ وقال : « من كنت مولاء فعليٌّ مولاه ، اللَّهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه » (٣).

٥ ـ عن أبي جعفر ـ الباقر ـ وأبي عبد الله ـ الصادق ـ عليهما‌السلام : « إنَّ الله أوحىٰ الىٰ نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستخلف عليَّاً عليه‌السلام فكان يخاف أن يشقَّ ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله هذه الآية تشجيعاً له علىٰ القيام بما أمره الله بأدائه » (٤).

٦ ـ عن الأعمش ، عن عطيَّة قال نزلت هذه الآية علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليِّ بن أبي طالب ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) وقد قال الله تعالىٰ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

__________________

٦ : ٤٦٣ ، الدرُّ المنثور ٢ : ٢٩٨ ، أسباب النزول / الواحدي : ١١٥ ـ عالم الكتب ـ بيروت.

(١) الدرُّ المنثور ٢ : ٢٩٨ ، فتح القدير / الشوكاني ٢ : ٦٠ ـ دار إحياء التراث العربي.

(٢) تفسير المنار ٦ : ٤٦٤.

(٣) مجمع البيان في تفسير القرآن / الطبرسي ٣ : ٣٤٤ ، دار المعرفة ـ بيروت ـ ط ١ ـ ١٩٩٥ م ، تفسير المنار ٦ : ٤٦٤.

(٤) مجمع البيان ٣ : ٣٤٤.

٦٦

نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) (١).

٧ ـ عن ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي : نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولمّا نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعاد من عاداه » فلقيه عمر بن الخطاب فقال : هنيئاً لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولىٰ كل مؤمن ومؤمنة (٢).

ولا ريب أن مفتاح فهم هذه الآية وتفسيرها هو معرفة وقت نزولها ، فإن كانت قد نزلت أوَّل البعثة فتفسيرها سيكون بشكل يختلف تماماً عمَّا لو كانت نزلت آخر حياة الرسول الكريم ؛ لأنَّ نزولها في بواكير البعثة يحتمل كثيراً أن تفسَّر علىٰ أساس الاحتمالات الأولى ، أمَّا إذا كانت قد نزلت ضمن أواخر ما نزل من القرآن ، فإنَّ شأنها سيختلف تماماً ، وسيدعونا إلىٰ التدقيق في معناها أكثر ؛ لأنَّ الأمر الذي يريد أن يبلِّغه سبحانه وتعالىٰ في آخر ما أنزله إلىٰ نبيِّه يجعله مساوقاً لتمام نبوَّته ورسالته ، وهو الذي تدلّ عليه أحاديث هذه الطائفة ، فالواضح أنّ أحاديث هذه المجموعة صريحة في الدلالة على سبب نزول الآية وبيان مرادها ، لاتحادها الزماني والمكاني مع الآية ، ومطابقتها تماماً لنصّ الآية ودلالتها ، وسلامتها من الاضطراب والتناقض.

__________________

(١) الميزان ٦ : ٥٨ عن كتاب نزول القرآن للحافظ أبي نعيم. وهناك ثلاثون مصدراً ذكرت أنَّ الآية نزلت في يوم الغدير ، راجع تفصيل ذلك في كتاب الغدير للعلأَمة الأميني ١ : ٢١٤.

(٢) تفسير الرازي ١١ : ٢٣٣.

٦٧

أسف على الفكر

لا يمكن لأحد أن ينكر ما قدّمه الأستاذ عباس محمود العقاد للمكتبة العربية والإسلامية ، وإثراءه لها بمجموعته الخالدة ، وقد سمعنا كثيراً في إطراء أدبه وأفكاره. إلاّ أننا نقول إن الحبّ يجعل صاحبه يطري ويفتتن ، والكره أو البغض يدفع صاحبه إلى الذمّ والازدراء.

وقال الشاعر :

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

وربّما يكون مفكرنا العقاد قد سقط هنا سقطته الكبيرة لمثل هذه العلّة ، حيث إنه أحبّ الخليفة الثاني وعظمت شخصيته عنده ، وخلبت لبه ، فأصبح لا يمكنه أن يقضي القضاء الصحيح على قضية واضحة ، إذ فتنته تلك الشخصية فلم يجد بُدّاً إلاّ أن يوجه أفعالها على أحسن ما يكون التوجيه ، رغم أنه قال : « ولا يحسبنّ القارئ أننا نتعسف التأويل والتخريج ، لننظر إلىٰ عمر في أجمل الصور ، ونوجه أعماله أحسن التوجيه ».

ولا ضير عليه إن كانت قضيتنا ليست بهذه الأهمية وهذه الحساسية العظيمة ، حتى قيل : ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية كما سُلّ على الإمامة في كل زمان ، ذلك لأنّها قضية مصير المسلمين ومستقبلهم وقيادتهم وأئمتهم ، و ( لابدّ للناس من إمام ... ).

٦٨

القضية لا تحتمل التساهل والتغاضي ، كيف وهي الشرارة التي أشعلت الفتن بين المسلمين علىٰ مر التأريخ.

فكيف لنا أن نغفر للأستاذ العقاد وهو يصور مسألة الوصية تصويراً واهناً ، هشاً ، لا اعتبار له ولا أهمية. ويصور أو يركز على مسألة واحدة وهي أن هذه الوصية لم تكن في مسألة الخلافة لعلي عليه‌السلام ؟!

ولا يهمنا هنا إن كانت الوصية لعلي ، أو لشأن آخر ، ولكن الذي يهمنا أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل بالرغم من مرضه الآلام وطلب كتفاً ودواة ليكتب لهم شيئاً لن يضلوا بعده أبداً. وليكن ذلك الشيء ما يكون ، إلاّ أننا نقول إن كلمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لن تضلوا بعده أبداً » لها أهمية عظيمة تحرضنا على البحث عن حقيقة تلك الواقعة ومأساتها.

فإصرار الأستاذ العقاد على توجيه اللوم لفئة من الناس لادعائهم الوصية لخلافة علي عليه‌السلام ليس مهماً عندنا هنا في البحث بقدر الأهمية التي نقولها بمنع هذه الوصية النبوية مهما كانت.

يقول عباس محمود العقاد : « أما مسألة الخلافة فالذي يزعمه فيها الذين يخوضون في القضايا والمخاصمات أن عمر رضي‌الله‌عنه تعمد أن يحول بين علي والخلافة بصرفه النبي عن كتابة الكتاب الذي أراد أن يبسط فيه وصاياه فلا يضل المسلمون بعده ... ».

ويقول : « فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع بالكتاب الذي طلبه ليوصي بخلافة علي أو خلافة غيره ، لأن الوصية بالخلافة لا تحتاج إلىٰ أكثر من كلمة تقال أو إشارة كالإشارة التي فهم المسلمون منها إيثار أبي بكر بالتقديم ، وهي إشارته إليه أن يصلي بالناس » (١).

__________________

(١) عبقرية عمر : ٥٣٩.

٦٩

ولعمري كيف يخطأ الأستاذ مثل هذا الخطأ الفظيع ، وكيف يكبو هذه الكبوة المهلكة ؟!

فمن يعلم بأمرٍ أراده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم منعوه عنه إلاّ الرسول نفسه ، فكيف ينكر أن تكون في الخلافة مثلاً ، لأننا لا نعلم من الوصية شيئاً ؟!

ثم هل غفل استاذنا المرحوم أن أبا بكر كتب وصيته بكتاب ولم يتركه كلاماً ولا إشارة ؟!

فإن أردنا أن ننكر أن يكتب النبي وصيته بالخلافة ، فعلى الخليفة الأول أن يقتدي بنبيه في ذلك ولا يكتب وصيته هو أيضاً.

والأستاذ ينقل الحادثة ويعللها بعلل سطحية غير قابلة للهضم والاقناع ، يقول « فلما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غمرة الموت ودعا بطرس يملي على المسلمين كتاباً يسترشدون به بعده ، أشفق عمر من مراجعته فيما سيكتب وهو جد خطير ( !! ) ، وقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، ومال النبي إلى رأيه فلم يعد إلىٰ طلب الطرس وإملاء الكتاب ... ».

الإشفاق الذي نعرفه رحمة ورأفة وودّ ، وليس انتهاكاً وتجاوزاً واستخفافاً ، كما في قوله : غلبه الوجع و ( عندنا كتاب الله حسبنا ).

ومن قال بأن النبي مال إلى رأي عمر كما تصور الأستاذ ؟! ولعله استنتجه من عدم طلبه للطرس. واستنتاج العقّاد بعيد وإن لم يحدث ما حدث بعد كلام عمر. (١)

__________________

(١) راجع ما ذكرناه في تحليل مقولة ( حسبنا كتاب الله ) وما فيها من معنى يصدنا عن الأخذ بقول الأستاذ.

٧٠

فالميل إلى رأي عمر كما رآه العقّاد بعيد جداً وغير مقبول إذا كانت الحادثة منتهية بكلام عمر ، فكيف ونحن نرىٰ أغلب الروايات تذكر مسألة النزاع والخلاف وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم : « قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع » كما ذكرها الأستاذ نفسه في كتابه (١).

أما لماذا لم يكتب النبي وصيته بعد ممانعة عمر ؟

فإنّ التدقيق في كلمات الحادثة وعباراتها ـ من قبيل الادِّعاء بأنَّ النبيَّ يهجر أو حسبنا كتاب الله ـ كافية جداً لسحب البساط من تحت كلِّ وصيَّة يوصي بها ، فالقول بهذيان مريض يوشك أن يرحل مانعٌ للأخذ بكلامه.

إنَّ كتابة أيِّ وصيَّة بعد انطلاق هذه الكلمة غير قابلة لقبول الناطق بها أوَّلاً ، ومن الذي سيسمع منه ثانياً ؟ سيحدث بعد ذلك الجدال والشجار حول هل أنَّ هذه الوصيَّة قابلة للتنفيذ أم أنَّها هذرمة إنسان يهجر ؟! أي هل إنَّه قالها وهو بكامل وعيه ، أم أنّ سكرات الموت غلبت عليه فانطلق لسانه بهذه الكلمات ؟ وبدل أن يجمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس علىٰ هدىً بوصيَّته ، تصبح الوصيَّة بحدِّ ذاتها أساساً للتقاتل والفرقة.

ويكرّر العقاد كثيراً مراجعة عمر للنبي ويعتبرها مكرمة وفضل وخير لا ضرر فيه !! فيما لا يدع الحقّ لأحد أن يسمّي وقفة عمر تلك يوم الوصية مراجعة ، لأن المراجعة أخذ وعطاء ، وليس شتماً وتجاوزاً وجفاءً ..

فكلامه شتم ؛ لأنه قال : « إنّه يهجر » !! أو قال : « غلبه الوجع » أي لا يفقه ما يقول ، أو بعبارة أكثر وضوحاً ( يهذي ) !! وتجاوز ؛ لأنّه مكلّف

__________________

(١) عبقرية عمر : ٤٤١.

٧١

بالطاعة لقوله تعالى : ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (١) ومكلّف بأن لا يرفع صوته فوق صوت النبيّ ولا يردّ له قولاً : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) (٢) وتحقير لأنّه رفض كلامالنبي وقال : « حسبنا كتاب الله ».

فأين المراجعة إذاً ؟!

سامح الله الأستاذ علىٰ شططه في الحب ، وكان الأجدر به أن يحبّ نبيه أكثر من حبّه لأيّ شخص آخر.

ونذكر هنا أيضاً الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ عبد الفتاح عبد المقصود صاحب الكتاب الرائع « المجموعة الكاملة علي بن أبي طالب ». هذا الأستاذ الذي بدأنا بحثنا بكلامه حيث قال في كتابه ( السقيفة والخلافة ) : لكن ذلك العاصم من الضلال ... ضيعوه ... ذلك الكتاب الذي ود محمد أن يمليه ، أبوا عليه أن يخرج إلى النور .. حجبوه ... لكأنما مزقوه ... فعلى من تقع تبعة هذه الخسارة التي تكبدتها ، منذ تلك اللحظة أُمّة الإسلام ، وما زالت إلى اليوم تتكبّدها ، وتدفع ثمنها من دمها وعرقها ونصيبها في الحياتين ، جيلاً وراء جيل ... من المسؤول ؟ ... وهل عمر وحده الملوم ؟ ... ولأي غاية كان هذا السلوك ؟! (٣)

__________________

(١) سورة المائدة : ٥ / ٩٢.

(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١ ـ ٢.

(٣) السقيفة والخلافة : ٢٤٠.

٧٢

فيا لها من عبارات رائعة تذيب القلب حسرة وأسىً علىٰ تلك الوصية الضائعة أو المحجوبة أو الممنوعة.

غير أنك ما أن تكمل الموضوع الذي اقتطعنا منه تلك الفقرة حتى تعلم أن الأستاذ يبرّر للخليفة الثاني منعه ، فيقول : ( لقد يقال إنه أشفق على محمد وقد غلبه الوجع أن ينهكه في وعكته الشديدة تلك ، أن يتحدّث ويملى ، أوجز أو أطال في الحديث والإملاء ...

ولقد يقال إنه خشي عليه أن يرهقه جدال أولئك الذين أكبوا عليه ، والتفوا بفراشه ، وزاحموا هواء حجرته بأنفاس حرى ، ولفظ صخاب لا يحتملها مريض ... ولقد يقال إنه ، بقولته تلك ، أراد أن يضيق على الزائرين فسحة المكث ، فينفضّ جمعهم لكي لا يتضاعف ألم النبي ، وتشتد عليه وطأة المعاناة إن هو ، صلوات الله عليه ، انتبه في وجوههم الباسرة إلى دمعة باكٍ ، وعبسة محزون وحسرة ملهوف. (١)

ويقول : فالذي يبدو صواباً وقد وقع من هذا ، قد يبدو خطأ لو وقع من سواه. ما يظهر كالخطأ من شخص ، لا يبعد أن يظهر من آخر كصواب ، ذلك لأننا في تقديرنا لحقيقة الموقف لا ينبغي أن نحتكم إليه إلاّ وهو منسوب إلىٰ من وقع منه.

وقد ترى في كتاب الأستاذ انتقاداً لعمر لوقفته تلك ، إلاّ أنه لا يتركك تنهي كتابه حتى يقول لك بعد أن يربط وصية الرسول بيوم السقيفة : ثم لو قيل إنهم تلقّفوا التراث النبوي بعد أن رحل عن الدنيا صاحبه ، فقد تلقّفوه وهمّهم أن يصبح نهباً لمن لا يصونه من الناس. وإذن فقد راموا النفع العام ... ولا تثريب عليهم إن فعلوا ، ليحفظوه في

__________________

(١) السقيفة والخلافة : ٢٤٢.

٧٣

يد المهاجرين الأولين. بل إن ثمة من قد يراهم أحق بالتمجيد منهم بالعذل ، وبالحمد منهم باللوم ، لأنهم عرفوا ، إذ سارعوا إلى السقيفة ، كيف يحصرون إمرة المؤمنين يومئذ في المهاجرين القريبين من رسول الله في وقت غاب فيه عن الميدان أولى الناس بالإمرة وأدناهم قربى لرسول الله (١).

ولا أدري كيف يكونون أحق بالتمجيد منهم بالعذل ؟! وقد عزلوا أولى الناس بالإمرة وأدناهم قربىٰ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن أولى الناس بالإمرة وأدناهم قربىٰ لم يغب بعيداً عنهم ، ولم يخرج من المدينة ، ولم يكن طريح فراشه ، بل كان حاضراً عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منشغلاً بأمره ، ولم تمضِ ساعة على وفاته ، وهو بعد مسجىً علىٰ فراشه .. فهل يعد هذا غياباً يبرر ما حدث في السقيفة ليكون أصحابها أحق بالتمجيد منهم بالعذل ؟!

إن النظر الموضوعي إلى الأشياء ، والذي يتناول الحَدَث من جميع أطرافه ، ولا يغضّ الطرف عن بعض حقائقه ، هو الذي سيقود إلى التصور السليم الذي لا تعتريه الثغرات ، ولا يشوبه الباطل ..

وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربّ العالمين

* * *

__________________

(١) السقيفة والخلافة : ٢٧١.

٧٤

المحتويات

مقدمة المركز ...............................................................٥

رواية من عمق التأريخ .......................................................٩

بداية غاضبة ................................................................٩

من هو صاحب الوصية ؟ ....................................................... ١١

لماذا يوصي الرسول ؟ ....................................................... ١٦

الرسول يطيع القرآن ........................................................١٧

آية من آيات التنزيل .......................................................١٧

الوصيَّة ساعة الاحتضار ......................................................١٨

ضياع الأتعاب ..............................................................١٩

حديث الوصية ...............................................................٢١

الحديث الأول : ............................................................٢١

الحديث الثاني : ...........................................................٢٢

الحديث الثالث : ...........................................................٢٢

الحديث الرابع : ...........................................................٢٣

الحديث الخامس : ...........................................................٢٣

الحديث السادس : ...........................................................٢٤

الحديث السابع : ...........................................................٢٤

الحديث الثامن : ...........................................................٢٥

٧٥

الحديث التاسع : ...........................................................٢٥

الحديث العاشر : ...........................................................٢٥

دراسة في منطوق الوصيَّة .....................................................٢٧

والروايات الضبابية .......................................................٢٧

الشكل الأول : .............................................................٢٧

الشكل الثاني : ............................................................٢٩

الشكل الثالث : ............................................................٣٠

الاختلاف الأوَّل : ..........................................................٣١

الاختلاف الثاني : .........................................................٣٢

الاختلاف الثالث : .........................................................٣٣

الاختلاف الرابع : .........................................................٣٤

الاختلاف الخامس : .........................................................٤٠

الاختلاف السادس : .........................................................٤٢

الاختلاف السابع : .........................................................٤٧

الاختلاف الثامن : .........................................................٤٩

رزية الخميس ...............................................................٥١

الأحاديث التي ذكرت لفظة الرزية ويوم الخميس : ..............................٥٣

وقفة مع المعذِّرين لعمر بن الخطَّاب ...........................................٥٥

الوصية قبل الاحتضار .......................................................٦٠

أسف على الفكر .............................................................٦٨

المحتويات .................................................................٧٥

٧٦