الوصية الممنوعة

علي صادق الزبيدي

الوصية الممنوعة

المؤلف:

علي صادق الزبيدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-364-0
الصفحات: ٧٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وتعالىٰ : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) (١). فما بالنا نلغي دور نبيِّنا وهو لا يزال بين ظهرانينا ؟!

وإلغاء دور النبوَّة هو الخطوة الأولىٰ للانحراف عن الدين وأهدافه المقدَّسة ، ويُخبر القرآن الكريم عن أقوام كثيرين بدَّلوا دينهم وحرَّفوه لأنَّهم أطاعوا أحبارهم ورهبانهم وتركوا تعاليم نبيِّهم.

وعبارة الخليفة الثاني صريحة جدَّاً في رفض وصيَّة الرسول وإلغاء دور النبوة بشكل كامل ، فضلاً عن رفضه لكلِّ ما ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أخلاق وسيرة وإدارة وحرب وعقائد و ... واستثنىٰ منها فقط ما يوجب عملاً في العبادات ، وذلك خلال منعه الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعقابه عليه ، وإلزامه المتحدِّثين بالشهود ، وحدَّد المسموح به في الأمور العبادية فقط ، وقال : بأنَّه يخشىٰ أن يختلط حديث النبيِّ بكلام الله.

ولكن ألا يتَّفق معي القارئ بأنَّ العرب كانوا أقدر منَّا علىٰ اللغة والفهم والتمييز ، وقد سمعنا مراراً أنَّهم كانوا يحفظون أشعار الجاهلية عن ظهر قلب ، ويتلون مئة بيت من الشعر كما لو أنَّهم يطالعونها في الصحائف.

وعلماء اللغة اليوم قادرون علىٰ فرز قصائد الشعر والتشكيك فيها وربَّما نسبتها إلىٰ قائلها من خلال السبك الشعري ومتانة اللفظة والانسيابية والجزالة.

فكيف كان القرآن بأُسلوبه اللغوي الفريد « يختلط » بالحديث علىٰ أولئك الذين لا يختلط عليهم آلاف الأبيات من الشعر ، ويمكنهم أن

__________________

(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٥.

٤١

ينسبوها إلىٰ أصحابها ؟!

التسليم السريع لأقوال الخليفة الثاني وتصويب نهجه ، والتماس الحجج له ، لا يتوافق مع سيرته هو ، ذلك أنَّه قال « حسبنا كتاب الله » فحسبنا كتاب الله ولا داعي لأقوال عمر وسيرته وموافقاته.

إنَّ سيرة عمر ترفض الاقتداء بالرسول وهو حيٌّ ، فكيف نقتدي نحن بعمر وهو ميِّت ؟! ولو سار الخلفاء بعده بسيرته ، بحيث يجتهدون قبال النصِّ الإلهي أو النبويِّ ، لما وصل إلينا من الإسلام شيء. ذلك أنَّ القليل يتجمَّع فيصبح كثيراً. ألا ترىٰ إلىٰ مياه الأنهار الطاغية ، أنَّها من قطرات المطر اللطيفة.

الاختلاف السادس :

كما مرَّ فإنَّ هناك حذفاً طال أغلب الرواية ، فلم تنقل بعض الروايات ما حدث بعد مقولة عمر. بينما تصوِّر روايات كثيرة وضعاً شاذَّاً وغريباً لم نتعوَّده من الصحابة طيلة حياة النبيِّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فالطبيعي أنَّ الصحابة كانوا يُجلُّون النبيَّ ويوقّرونه ، ويستلهمون من تعاليمه صلاحهم ، ويستنيرون بسيرته لدينهم ودنياهم ، ويتعبَّدون باتِّباعه وطاعته وبالاستجابة لأوامره حتَّىٰ أنَّ ابن عمر أدار راحلته بين مكَّة والمدينة في موقع ما ، ثُمَّ رجع إلىٰ مسيره الأوَّل. فسأله الناس : ما هذا الذي فعلته ؟ فقال : إنَّما شاهدتُ رسول الله يفعل ذلك ففعلت مثله.

وخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوف إحدىٰ الليالي فصلَّىٰ في المسجد ، وصلَّىٰ رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدَّثوا ، فاجتمع أكثر منهم ، فصلَّىٰ

٤٢

فصلَّوا معه ، فأصبح الناس فتحدَّثوا ، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلَّىٰ فصلَّوا بصلاته ، فلمَّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله (١).

التساؤل الذي نطرحه هو أين هذا الاقتداء والحبُّ عندما قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني بكتف ودواة » ؟ فانَّ من الغريب جدَّاً أن يختلف القوم في أمرٍ يطلبه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

هناك روايات كثيرة تنقل أنَّ القوم ( اختلفوا ) أو ( تنازعوا ) فبعض يقول : قرِّبوا للنبيِّ الكتف والدواة ، والبعض الآخر يقول ما قاله عمر.

وحَذفُ هذا الجزء من الواقعة لا يخلو من تهميش وتخفيف لوقعها ، لكي لا تضطرب الأجيال للحدث فتتناوله بالبحث والتدقيق والتفسير ، ولكن ماذا نعمل لناقلي الواقعة بتمامها وبلا رتوش ، إنَّهم هم الذين دفعونا إلىٰ أن نقول في التأريخ وفي الشخصيات كلَّ هذا القول الجارح.

إذ يظهر من تفاصيل هذه الحادثة أنَّ الاختلاف الذي نحن فيه الآن ، كان قد حدث والرسول لا يزال حيَّاً يرىٰ ويسمع ، فهم تنازعوا واختلفوا منذ ذلك الحين.

ولنسأل : هل لهم الحقُّ في ذلك وهم الصحابة الأجلأَء المقرَّبون : والذين لا يُشكُّ في إخلاصهم لعقيدتهم وإسلامهم ؟! وسمعنا أنَّ من الصحابة من بُشِّر بالجنَّة ! وأنهم كالنجوم ! فإذا اختلف الصحابة وهم علىٰ ما هم عليه من الإيمان والرفعة والسمو ، فما الضير في أن نختلف نحن أيضاً ، وما الداعي إلىٰ نداءات الوحدة والأُلفة بين مذاهب

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٥٨ ـ باب فضل من قام رمضان ، صحيح مسلم ٦ : ٤١ أي : فصلّوا النوافل كما صلّى اقتداءً وتأسّياً به.

٤٣

المسلمين ؟!

والنزاع الذي زرعه الصحابة أليس نحن الآن نجني أشواكه وحناظله ، فلماذا يتَّهم أحدنا الآخر بأنَّه سلفي أو إخباري أو مغالٍ أو ناصبي أو رافضي أو وهَّابي أو سُنِّي أو شيعي ؟!

فالخلاف الذي أيَّده تأريخ المسلمين ولم يَرَ حرجاً من نقله إلينا ، هو نفسه الذي ننتهجه اليوم ونسير علىٰ خطاه ، تماماً كما كانوا هم أو من جاء بعدهم حتَّىٰ وصل الأمر إلينا ، وكما يحدث الآن في الهند والباكستان بشكل واضح وملموس ، فإذا أردنا أن نلقي باللائمة علىٰ أحد فعلينا أن نلقيها علىٰ مؤسسيه وباني أصوله ، أُولئك الذين تنازعوا واختلفوا في أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حيٌّ يسمع ويرىٰ.

لماذا اختلفوا ؟ أو لماذا تنازعوا ؟!

الرواية تخبرنا بأنَّ القوم انقسموا قسمين ؛ فمنهم من يقول : قدِّموا لرسول الله الكتف والدواة ليكتب لكم كتاباً لا تضلُّون بعده أبداً ، ومنهم من يقول ما قاله عمر.

الله أكبر ؛ ما أوضح العبارات ، وما أشدَّ بيانها ! وماذا نريد أكثر من هذا لنستبين الحقيقة ... ؟ حقٌّ أوضح من وضوح الشمس في رائعة النهار ... وصراحة مباشرة ليس فيها غموض ولا التباس.

الله أكبر ... هنا اختلفوا ، وهنا تنازعوا ، وهنا أصبحت أُمَّة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً وسبعين فرقة ... فانقسام القوم إلىٰ قسمين مع وجود الرسول ولأمرٍ أمره بنفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يمكن حمله علىٰ حسن النيَّة وطيبة القلب وشفافيَّة الإيمان وصدق اليقين ... بل القوم المنقسمون علىٰ أمرهم ، لابدَّ وأنَّ أحدهم علىٰ الحقِّ ، والثاني متحامل

٤٤

عليه ، باغٍ للفرقة والخلاف والنزاع.

فإن قلنا : إنَّ الذين قالوا : « قدِّموا لرسول الله الكتف والدواة ... » علىٰ باطل ، اتَّهمنا رسولنا بالباطل ، ورفضنا رسالته وشريعته وكلَّ ما جاء به من السماء.

وحيث إنَّنا لم نقرأ في القرآن الكريم ما يدلُّ علىٰ جواز عصيان النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومخالفته ، بل ما وجدناه دعوة صريحة لطاعته والانقياد لأمره وعدم التفرقة بينه وبين أمر الله سبحانه وتعالىٰ ... ولم نجد آية من الله العليم الحكيم تحدِّثنا عن احتمال هذيان النبيِّ وتأمرنا بعدم طاعته إذا هجر وهذىٰ.

فهؤلاء الذين قالوا « قرِّبوا للنبيِّ ... » اعتقدوا بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما هو موصوف في القرآن ، وكما هو فعلاً كإنسان يعيش بينهم بفضائله وسماته ونفسه الكبيرة ، كما أنَّهم لم يعبأوا بالملاحظة التي أخبر عنها عمر ، بل لم يلحظوا ما وصفه عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث إنَّ لهم نفس النصيب في الملاحظة والحكم ، فرأوا أنَّ ذلك تحاملاً منه ، وأصرُّوا علىٰ تقديم الكتف والدواة.

أمَّا القسم الآخر فقد اعتقد ما اعتقده عمر من هذيان النبيِّ فقالوا ما قاله ، وهنا لابدَّ من وقفة مع موقف هؤلاء ، وبحث السبب الذي دعاهم إلىٰ ذلك ، فهناك احتمالات لهذا الأمر :

الأوَّل : إنَّهم فعلاً لاحظوا ما لاحظه عمر ، فحرصوا أن لا تضيع الرسالة هباءً لنزوة مريض لا يدري ما يريد ، وحاشا رسول الله من ذلك.

الثاني : إنَّ شخصية عمر كانت من القوَّة بحيث دفعتهم لتأييده ،

٤٥

لأنَّهم افتتنوا بهذه الشخصية وتيقَّنوا عدم خطئها وشططها.

الثالث : إنَّهم أهل خلاف ونزاع ليس إلا ، فلمَّا وجدوا منفذاً صاحوا وماجوا لا لهدف ولا لغاية.

الرابع : إنَّهم يخافون من الوصيَّة التي سيوصي بها النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنَّها ستسبِّب ضرباً لمصالحهم ومنافعهم المستقبلية ، أو أنها ستفضحهم وتنبِّه الآخرين لسوء مقاصدهم.

الخامس : لم ينتبهوا لأهمية الوصيَّة وضرورتها لوجود القرآن الكريم كما نبَّه عليه عمر.

وقد تكون هناك احتمالات أخرىٰ إذا ما دقَّقنا أكثر ، إلاَّ أنَّها تنضوي تحت ما ذكرنا.

ويمكن تقسيم هذه الاحتمالات إلى قسمين فقط. فإمَّا أنَّهم لاحظوا هذيان النبيِّ ، أو قالوا ما قالوا متابعةً لعمر بدون ملاحظة ذلك.

وعندما نرجع إلىٰ الروايات نرىٰ :

١ ـ إنَّهم قالوا ما قاله عمر.

٢ ـ إنَّهم قالوا : هَجَر رسول الله ... أهَجَرَ رسول الله ؟

٣ ـ هل هَجَرَ رسول الله ؟! استفهموه.

أو إنَّها لا تذكر شيئاً.

فأصل القضية ترجع إلىٰ عمر لا غير ، لأنَّهم قالوا ما قاله عمر ، أو قالوا : أهَجَرَ رسول الله ؟ أو استفهموه ، وهذه العبارات تدلُّ علىٰ عدم يقينهم بمقولة عمر.

فإنَّ قال قائل : إنَّ عبارة « قالوا ما قاله عمر » لا تستظهر الأخذ برأيه ، لأنَّهم ربَّما لاحظوا ملاحظته فقالوا بقوله. وهذا الكلام له وجه

٤٦

إن لم يكن هناك لغط ونزاع حول تقديم الكتف والدواة ، فالقوم انقسموا كما قلنا ، فبعض يقول : « قدِّموا لرسول الله الكتف والدواة ... » والبعض الآخر يقول ما قاله عمر ، وهذه الجمل لا تدلُّ علىٰ أنَّهم كانوا يقولون بهذيان النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنَّما كانوا يقولون ( حسبنا كتاب الله ) لأنَّها العبارة الوحيدة المقابلة ل‍ « قدِّموا لرسول الله الكتف والدواة ... ».

فأُس كلام القوم هو مقولة عمر ، فإمَّا أن يكون شاهد ولاحظ فعلاً ، وإمَّا أن يكون ادَّعىٰ ذلك لغاية ما ، واسمحوا لنا أن نسكت هنا عن الاجابة ، ونترك الحكم للقارئ اللبيب من خلال قراءته للبحث بدقَّة وتأنٍّ.

الاختلاف السابع :

وحدث هذا الاختلاف في عبارة « قوموا عنِّي ... ولا ينبغي عندي التنازع » ، فنرىٰ أنَّ البعض حذفها كما حذف كلَّ ما بعد مقولة عمر ، ونرىٰ آخرين نقلوا « قوموا عنِّي » فقط ، أو أشكال أُخرىٰ مختلفة للمقولة أهمُّها « ولا ينبغي عند نبيٍّ التنازع ». فهذه العبارة أكثر وقعاً في النفوس وأوضح في الدلالة على حرمة التنازع عند النبي من « ولا ينبغي عندي التنازع ».

وكانوا قد أُمروا أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، فقد قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) (١) أمَّا التنازع فقد ذكره الله سبحانه مشفوعاً بالفشل والانهيار ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ

__________________

(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٢.

٤٧

رِيحُكُمْ ... ) (١) ولكنَّهم تنازعوا واختلفوا حتَّىٰ حجبوا تلك الوصيَّة الهادية من الضلال والاختلاف.

ولنفكر قليلاً في وضع الرسول وهو مريض والصورة التي تكلم بها عندما طلب الكتف والدواة ، وأصوات الصحابة وهم يكثرون اللغط والنزاع ، حتَّىٰ قال الرسول غاضباً : « قوموا عنِّي ».

فكم آلموه ، وكم آذوه حتَّىٰ تكلَّم بكلام لم يتكلَّمه طوال حياته ، وهو الموصوف في الذكر الحكيم بالخُلق العظيم ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) فسيرته بعيدة كلَّ البعد عن هذا التصرُّف الحادِّ والغاضب.

إنَّه صلوات الله وسلامه عليه لم يعامل الكفَّار والمنافقين بمثل هذه المعاملة ، وكان مثالاً لقوله تعالىٰ : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) (٣) ولم يكن فضَّاً في لحظة من حياته ، وقد أخبر تعالىٰ عن خلقه هذا في قوله : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٤).

فلماذا يغضب النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الغضب ويطردهم عنه إن كان قد قبل رأي عمر وترك كتابة الوصيَّة ؟!

ونتردَّد كثيراً في قبول القائل بمراعاة الصحابة لخفض الصوت أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه كيف هان للصحابة أن يتنازعوا أمام نبيِّهم ويختلفوا ويكثر لغطهم ؟!

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٤٦.

(٢) سورة القلم : ٦٨ / ٤.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١٥.

(٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٥٩.

٤٨

النبيُّ الكريم .. المحبوب .. القدوة .. المرتبط بالسماء ، يطلب أمراً. والصحابة الكبار .. المؤمنون .. الصالحون ، يختلفون في أمر نبيِّهم ، هل ينفِّذوه ... أو يمنعوه.

فإن كان الصحابة يعتبرون نبيَّهم قدوة ، فلماذا اختلفوا ؟! وإن كانوا مؤمنين صالحين فلماذا عصوا ؟!

الاختلاف الثامن :

وهو في عبارة « فإنَّ الذي أنا فيه خير ممَّا تدعوني إليه » حدث معها مثلما حدث لأخواتها السابقات ، ولنا في توضيحها تفسيران :

التفسير الأوَّل :

إنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يقول بأنَّ الذي هو فيه من وحدتهم وأُلفتهم وصفِّهم الواحد الذي هو كالبنيان المرصوص ، خير ممَّا يدعونه إليه من الفرقة والاختلاف والنزاع ، فالإسلام يقوم بالوحدة وإن منعوا وصيَّته ، ولكنَّه يتقوَّض بالاختلاف والفرقة إن هو كتب لهم بعد اختلافهم. فهم كانوا يدعونه ليشاركهم في نزاعهم ، وقد دعاهم مراراً للوحدة والأُلفة والمحبَّة ، فالنتيجة الحاصلة بعد كلِّ هذه السنين من الجهاد والدعوة إلىٰ الله ، لا يمكنه أن يخسرها بإشعال نار خلافهم ونزاعهم.

لقد علم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ إصراره علىٰ كتابة الوصيَّة غير نافع ، لأنَّه سيذكي نار الخلاف ولا يُطفِئُها. ذلك لأنَّ القائلين بهذيان الرسول لن يسكتوا بعد كتابة الوصيَّة ، وسوف يدَّعون بأنَّه كتبها وهو في هلوساته وهذيانه ـ حاشاه ـ. وبهذا سيكون الخلاف أعمق ، وستنهار

٤٩

شخصية الرسول وينالها الهتك والجرح.

التفسير الثاني :

إنَّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فإنَّ الذي أنا فيه خير ممَّا تدعوني إليه » ، هو احترامهم له وتبجيلهم لمقامه ، خير له من كتابة الوصيَّة التي ستدعوهم إلىٰ النيل من شخصيَّته وادعائهم عليه ما مرَّ ، وهذا يدعو بالطبع إلىٰ التشكيك في كلِّ ما أتىٰ به وينجرُّ إلىٰ التشكيك في الإسلام كلِّه ... وتضييع الأتعاب.

في الختام لم نشأ أن تكون دراستنا في الرواية مملَّة ومطوَّلة ، وحاولنا أن نشير إلىٰ مداخلاتها المهمَّة ليتبيَّن للقارئ مدىٰ التفات أصحاب ( الرواية ) إلىٰ أهميَّتها وحراجتها فتفنَّنوا في الحذف والتعديل ، ولكن طالما سمعنا بأنَّ الحقَّ لا يخفيه شيء و« الشمس لا يحجبها غربال ».

٥٠

رزية الخميس

إننا لا ندعي اكتشافنا لأهمية وصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والضرر الجسيم الذي تحملته أُمة الإسلام نتيجة لذلك المنع ، ولا ندعي البتة مثل هذا الادعاء ، ولا نقول بالسبق في فهم هذه الواقعة وتداخلاتها.

ثم إننا أيضاً لا نقول بإغفال المسلمين لها وإهمالها ، ذلك إن الكثيرين كانوا قد انبروا لتحليل هذه الواقعة محاولين إدراك ما كان يدور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساعتها.

التأريخ يحدثنا بأن ابن عباس رضي‌الله‌عنه ، ذلك الصحابي الجليل ، والمعتمد أيضاً عند جميع المسلمين ، كان أول من هتف « الرزية كل الرزية » ، ويكرّر علىٰ سامعيه « رزية يوم الخميس ». فماذا حدث يوم الخميس ؟ هل توفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخميس ؟

كانت وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الاثنين ، فابن عباس لم يسمِّ وفاة الرسول رزية ؟ فلعله قرأ قوله تعالىٰ : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (١) والموت حق. أو قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) (٢) فالدين كامل والنعمة تامة صحيح ان افتقاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصيبة وفاجعة ، إلاّ إن لكل إنسان ساعته ، يودع فيها هذه النشأة.

بل سمّىٰ ابن عباس قضية يوم الخميس ب‍ « الرزية ».

__________________

(١) سورة الزمر : ٣٩ / ٣٠.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣.

٥١

فماذا حدث يوم الخميس ؟! ولماذا يصفه بهذا الوصف الفظيع ؟!

فيالعظمة المصيبة التي يريد أن يخبر عنها.

إنه يقول : « الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ». أو كان يقول بحسرة « يوم الخميس ، وما أدراك ما يوم الخميس ! » ويطلق علىٰ تلك الحادثة « رزية يوم الخميس ».

فرزية ابن عباس الكبرىٰ هي منع كتابة الوصية.

وقلنا إننا لا ندّعي السبق في ذلك ، وقد أعلنها ابن عباس في وقتها ، وتناقلها أهل السير والحديث حتىٰ وصلت إلينا.

فابن عباس رضي‌الله‌عنه أدرك ـ كما أدرك تماماً كل من يهمه مصير الإسلام ـ الخسارة والفاجعة التي ستحل بالمسلمين من جراء منع وصية الرسول.

فالنظرة الثاقبة النافذة لحدود الزمان والمكان ، استطاعت أن تستشفّ المستقبل ، وتتنبأ بالرزية والمصيبة التي انطلقت شرارتها منذ يوم الخميس ، ذلك اليوم الذي دعا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكتف والدواة ، فحال دونه عمر.

وهذا الاختلاف والتناحر الموجود حالياً بين الفرق الإسلامية ، رزية عظمىٰ ، ومصيبة كبرىٰ ، شاهدها ابن عباس رضي‌الله‌عنه ببصيرته ، قبل أن يشاهدها أي إنسان ببصره ، كان يحس بأن الاختلاف الذي حدث والرسول لا يزال حياً ، على أمرٍ أراد فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدم ضلالهم بعده أبداً ، سيتطور ويتشعب ويتكاثر ويتفرع ، حتى تصل أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ثلاث وسبعين فرقة.

٥٢

والغريب كل الغرابة هو أن كل فرقة تدعي بأنها هي الناجية ، وتدبّج الأحاديث والأدلة لتلقي باقي الفرق من المسلمين في النار.

الأحاديث التي ذكرت لفظة الرزية ويوم الخميس :

١ ـ البخاري بسنده إلىٰ عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس ، قال ... ثم أورد حديث الوصية وقال : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١).

٢ ـ وأخرجه عن قبيصة ، حدثنا ابن عيينة ، عن سلمان الأحول ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، انه قال : يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس ، ثم بكىٰ حتىٰ خضب دمعه الحصباء ، فقال اشتد برسول الله وجعه يوم الخميس ، فقال : « ائتوني ... » وأورد الحديث (٢).

٣ ـ وأخرج مسلم عن سعيد بن جبير من طريق آخر عن ابن عباس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه حتىٰ رؤيت علىٰ خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني ... » ونقل حديث الوصية (٣).

٤ ـ عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه قال : « ائتوني ... » حتى قال : فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٩ ، صحيح مسلم ٥ : ٧٥ ، مسند أحمد ٤ : ٣٥٦ / ٢٩٩٢.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢١ ، صحيح مسلم ٥ : ٧٥ ، مسند أحمد ٥ : ٤٥ / ٣١١١.

(٣) صحيح مسلم ٥ : ٧٥ ، مسند أحمد ٥ : ١١٦ / ٣٣٣٦ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣ طبعة مصر ، الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٢ : ٣٢٠.

٥٣

حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابه (١).

٥ ـ قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما أدراك ما يوم الخميس ! اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فقال : « ائتوني ... » وأتمّ الحديث (٢).

٦ ـ عن سعيد بن جبير ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثمّ بكىٰ حتىٰ بلّ دمعه الحصىٰ ، قلت له : يابن عبّاس ، ما يوم الخميس ؟ قال : اشتدّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فقال : « ائتوني ... » إلىٰ آخر الحديث (٣).

ونقل هذه الأحاديث وأمثالها ابن سعد في الطبقات الكبرىٰ (٤) والشهرستاني في الملل والنحل (٥) وابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة (٦).

__________________

(١) صحيح البخارى ١ : ٣٧.

(٢) صحيح البخارى ٥ : ١٣٧.

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٦٥ ـ ٦٦.

(٤) الطبقات الكبرى ٢ : ٢٤٢ ـ ٢٤٤.

(٥) الملل والنحل ١ : ٢٢ طبعة بيروت.

(٦) شرح نهج البلاغة ١ : ١٣٣ افست بيروت.

٥٤

وقفة مع المعذِّرين لعمر بن الخطَّاب (١)

قالوا : لعلَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين أمرهم بإحضار الدواة لم يكن قاصداً لكتابة شيءٍ من الأشياء ، وإنَّما أراد مجرَّد اختبارهم لا غير.

فنقول : إنَّ هذه الواقعة إنَّما كانت حال احتضاره ـ بأبي هو وأُمِّي ـ كما هو صريح الحديث ، فالوقت لم يكن وقت اختبار ، وإنَّما كان وقت إعذار وإنذار ، ووصيَّة بكلِّ مهمَّة ، ونصح تامٍّ للأُمَّة ، والمحتضر بعيدٌ عن الهزل والمفاكهة ، مشغول بنفسه وبمهمَّاته ومهمَّات ذويه ، ولا سيَّما إذا كان نبيَّاً.

وإذا كانت صحَّته مدَّة حياته كلِّها لم تسع اختبارهم ، فكيف يسعها وقت احتضاره ، علىٰ أنَّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حين أكثروا اللغو واللغط والاختلاف عنده ـ : « قوموا » ، ظاهر في استيائه منهم ، ولو كان الممانعون مصيبين لاستحسن ممانعتهم ، وأظهر الارتياح إليها ، ومن ألمَّ بأطراف هذا الحديث ولا سيَّما قولهم : هجر رسول الله ، يقطع بأنَّهم كانوا عالمين أنَّه إنَّما يريد أمراً يكرهونه ، ولذا فاجأوه بتلك الكلمة ، وأكثروا عنده اللغو واللغط والاختلاف كما لا يخفى ، وبكاء ابن عباس بعد ذلك لهذه الحادثة ، وعدّها رزيةً ، دليل علىٰ بطلان هذا الجواب.

وقالوا : إنَّ عمر كان موفَّقاً للصواب في إدراك المصالح ، وكان صاحب إلهام من الله تعالىٰ.

__________________

(١) استفدناه من كتاب المراجعات للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي ، المراجعة (٨٨).

٥٥

نقول : وهذا ممَّا لا يصغىٰ له في مقامنا هذا ، لأنَّه يرمي إلى أنَّ الصواب في هذه الواقعة إنَّما كان في جانبه لا في جانب النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنَّ إلهامه كان أصدق من الوحي الذي نطق به عن الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقالوا : بأنَّه أراد التخفيف عن النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشفاقاً عليه من التعب الذي يلحقه بسبب إملاء الكتاب في حال المرض.

نقول : أمَّا نحن فنرىٰ بأنَّ في كتابة ذلك الكتاب راحة قلب النبيِّ ، وبرد فؤاده ، وقرَّة عينه ، وأمنه علىٰ أُمَّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الضلال. علىٰ أنَّ الأمر المطاع ، والإرادة المقدَّسة ، مع وجوده الشريف ، إنَّما هما له ، وقد أراد ـ بأبي هو وأُمِّي ـ إحضار الدواة والبياض ، وأمر به ، فليس لأحد أن يردَّ أمره أو يخالف إرادته ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ) (١).

على أنَّ مخالفتهم لأمره في تلك المهمَّة العظيمة ، ولغوهم ولغطهم واختلافهم عنده ، كان أثقل عليه وأشقُّ من إملاء ذلك الكتاب ، الذي يحفظ أُمَّته من الضلال ، ومن يشفق عليه من التعب بإملاء الكتاب كيف يعارضه ويفاجئه بقوله : هجر ؟!

وقالوا : إنَّ عمر رأىٰ إن ترك إحضار الدواة والورق أولىٰ.

نقول : هذا من أغرب الغرائب ، وأعجب العجائب ، وكيف يكون ترك إحضارهما أولىٰ مع أمر النبيِّ بإحضارهما ؛ وهل كان عمر يرىٰ أنَّ رسول الله يأمر بالشيء الذي يكون تركه أولىٰ ؟

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٦.

٥٦

وقالوا : وربَّما خشي أن يكتب النبيُّ أُموراً يعجز عنها الناس فيستحقون العقوبة بتركها.

نقول : كيف يخشىٰ من ذلك مع قول النبيِّ : « لا تضلُّوا بعده » ، أتراهم يرون عمر أعرف منه بالعواقب وأحوط منه وأشفق علىٰ أُمَّته ؟ كلاّ .. وألف كلاّ ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا ) (١).

وقالوا : لعلَّ عمر خاف من المنافقين أن يقدحوا في صحَّة ذلك الكتاب ، لكونه في حال المرض ، فيصير سبباً للفتنة.

نقول : هذا محال مع وجود قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تضلُّوا » ، لأنَّه نصَّ بأنَّ ذلك الكتاب سبب للأمن عليهم من الضلال ، فكيف يمكن أن يكون سبباً للفتنة بقدح المنافقين ؟! وإذا كان خائفاً من المنافقين أن يقدحوا في صحَّة ذلك الكتاب ، فلماذا بذر لهم بذرة القدح حيث عارض ومانع ، وقال : هجر ؟

وقالوا في تفسير قوله : ( حسبنا كتاب الله ) ، إنَّه تعالىٰ قال : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (٢) وقال عَزَّ من قائل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (٣).

نقول : هذا غير صحيح ، لأنَّ الآيتين لا تفيدان الأمن من الضلال ، ولا تضمنان الهداية للناس ، فكيف يجوز ترك السعي في ذلك الكتاب اعتماداً عليهما ؟ ولو كان وجود القرآن العزيز موجباً للأمن من الضلال لما وقع في هذه الأُمَّة من الضلال والتفرُّق ما لا يرجىٰ زواله.

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٥.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٣.

٥٧

وقالوا : إنَّ عمر لم يفهم من الحديث أنَّ ذلك الكتاب سيكون سبباً لحفظ كلِّ فرد من أُمَّته من الضلال ، وإنَّما فهم أنَّه سيكون سبباً لعدم اجتماعهم ـ بعد كتابته ـ علىٰ الضلال ، وقد علم عمر أنَّ اجتماعهم علىٰ الضلال مما لا يكون أبداً ، كتب ذلك الكتاب أو لم يكتب ، ولهذا عارض يومئذٍ تلك المعارضة.

والجواب :

نقول : إنَّ عمر لم يكن بهذا المقدار من البعد عن الفهم ، وما كان ليخفىٰ عليه من هذا الحديث ما ظهر لجميع الناس ؛ من أنَّ ذلك الكتاب لو كُتب لكان علَّة تامَّة في حفظ كلِّ فرد من الضلال ، وهذا المعنىٰ هو المتبادر من الحديث إلىٰ أفهام الناس ، وعمر كان يعلم يقيناً أنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن خائفاً علىٰ أُمَّته أن تجتمع علىٰ الضلال ؛ لأنَّه كان يسمع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجتمع أُمَّتي علىٰ ضلال ولا تجتمع على الخطأ » ، وقوله : « لاتزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين علىٰ الحقِّ ... » الحديث (١) ، وقوله تعالىٰ ( وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ) (٢) إلىٰ كثير من نصوص من الكتاب والسُنَّة الصريحين بأنَّ الأُمَّة لا تجتمع بأسرها علىٰ الضلال ، فلا يعقل مع هذا أن يسنح في خواطر عمر أو غيره أنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين طلب الدواة والبياض ، كان خائفاً من اجتماع أُمَّته على الضلال ، والذي يليق بعمر أن يفهم من

__________________

(١) كنز العمال / ح ٩١٠ و ١٠٣٠ و ١٠٣١.

(٢) سورة النور : ٢٤ / ٥٥.

٥٨

الحديث ما يتبادر إلىٰ الأذهان ، لا ما تنفيه صحاح السُنَّة ومحكمات القرآن.

علىٰ أنَّ استياء النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، المستفاد من قوله : « قوموا » ، دليل علىٰ أنَّ الذي تركوه من الواجب عليهم ، ولو كانت معارضة عمر عن اشتباه منه في فهم الحديث كما زعموا ؛ لا زال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شبهته وأبان له مراده منه ، بل لو كان في وسع النبيِّ أن يقنعهم بما أمرهم به لما آثر إخراجهم عنه ، وبكاء ابن عباس وجزعه من أكبر الأدلَّة علىٰ ما نقوله.

والإنصاف ، أنَّ هذه الرزية لمِمَّا يضيق عنها نطاق العذر ، ولو كانت قضية في واقعة ، كفرطة سبقت ، وفلتة ندرت ، لهان الأمر ، وإن كانت بمجرَّدها بائقة الدهر ، وفاقرة الظهر ، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.

٥٩

الوصية قبل الاحتضار

قد يتساءل البعض ؛ لماذا لم يوصِ الرسول بما يريد قبل مرضه ؟!

والتساؤل في محلِّه. ذلك أنَّ المرض ربَّما يكون قد أوحىٰ إلىٰ عمر أو غيره بما جرىٰ في حضرة الرسول الأعظم ، وما جرَّه من خلاف امتدَّ من ذلك اليوم إلىٰ يومنا هذا ، وربَّما يمتدُّ إلىٰ يوم القيامة.

فحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت كافية لإيجاد الوقت الأكثر مناسبة لظرفية تبليغ الوصيَّة.

وادَّعاؤنا لأهمية الوصيَّة وضرورتها جاء من تدقيقنا في أحداث تلك الواقعة التأريخية وأقوال الرسول فيها. فكيف ندرك نحن تلك الأهمية ، بينما لا تجد عند الرسول متَّسعاً من وقته إلا عند ساعة احتضاره ومرضه ؟!

ألا يحقُّ لنا أن نسأل عن السبب الذي دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ تأخير تلك الوصيَّة إلىٰ وقت حرج وعصيب ( ظنَّ ) معه عمر أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلبه الوجع ، ولا يملك القوَّة الذهنية اللازمة لإملاء مثل تلكم الوصيَّة الخطيرة ؟

لقد عاش الصحابة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردحاً من الزمن غير يسير ، وكانوا يسمعونه يتحدَّث معهم عن الحلال والحرام والصبر والقناعة والجهاد ، وعن كلِّ شاردة وواردة من شؤون الحياة ... كان يأمر فيطيعون ، وينهىٰ فينتهون ، ويدعوهم إلىٰ القتال فيرمون ما بأيديهم من تفاهات الدنيا ويلقون أنفسهم في لهوات الموت ( فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ

٦٠