الوصية الممنوعة

علي صادق الزبيدي

الوصية الممنوعة

المؤلف:

علي صادق الزبيدي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-364-0
الصفحات: ٧٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

حديث الوصية

يمكن مراجعة حديث الوصيَّة والتمعّن في ايحاءاته بدقَّة أكثر لقتل الشكِّ باليقين والخروج من دائرة الحيرة والتردُّد ، وهذا بحقٍّ هو الطريق الأمثل في التفكير السليم والمنهجي ، بعيداً عن فلان يقول ، والعالم الكذائي ينقل ، وسمعت ، و ... و ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا ) (١) ؟.

عليك أنت بنفسك أن تطَّلع وتمحِّص وتناقش وتصل إلى قناعاتك أنت ، لا قناعات غيرك. فإلىٰ متىٰ تقلِّد في كلِّ شيء ؟ وتتَّبع أقوال هذا وذاك ولا رأي لك ؟ لا أقول أن يكون لك رأي مقابل القرآن والسُنَّة ... لا تفهم ذلك لأنَّني أدعوك إلى التأمّل والتفكير لا إلىٰ البدعة.

وفي ما يلي نشير إلىٰ أحاديث الوصيَّة مستخرجةً من أهم مصادرها ، لتتمكَّن من مراجعتها وإخراج النص الأكثر صحَّة ودقَّة من النصوص الأخرىٰ :

الحديث الأول :

عن ابن عبَّاس ، قال : لمَّا حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطَّاب ، قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هلمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده » ، فقال عمر : إنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا

__________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٣٦.

٢١

يكتب لكم النبيُّ كتاباً لا تضلُّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قاله عمر ، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيِّ ، قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قوموا » ، فكان ابن عبَّاس يقول : إنَّ الرزية كلُّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (١).

الحديث الثاني :

عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس ، أنَّه قال : يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس ! ثُمَّ بكىٰ حتى خضب دمعه الحصباء ، فقال : اشتدَّ برسول الله وجعه يوم الخميس ، فقال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « دعوني فالذي أنا فيه خير ممَّا تدعوني إليه » وأوصىٰ عند موته بثلاث : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم » قال : ونسيت الثالثة (٢).

الحديث الثالث :

عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبَّاس ، قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثُمَّ جعل تسيل دموعه حتَّىٰ رؤيت علىٰ خدَّيه كأنَّها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني بالكتف والدواة ، أو اللوح والدواة ، أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » ، فقالوا : إنَّ رسول الله

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ : ٩ و ٨ : ١٦١ ، صحيح مسلم ٥ : ٧٥ طبعة محمَّد علي صبيح ، مسند أحمد بن حنبل ٤ : ٣٥٦ / ٢٩٩٢ ـ دار المعارف بمصر.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٣١ ، صحيح مسلم ٢ : ١٦ طبعة عيسىٰ الحلبي ، مسند أحمد ٣ : ٢٨٦ / ١٩٣٥ و ٥ : ٤٥ / ٣١١١.

٢٢

يهجر (١).

الحديث الرابع :

عن عمر ، قال : لمَّا مرض النبيُّ قال : « ائتوني بصحيفة ودواة ؛ أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » ، فقال النسوة من وراء الستر : ألا تسمعون ما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال عمر : فقلت : إنَّكن صويحبات يوسف ، إذا مرض رسول الله عصرتنَّ أعينكنَّ ، وإذا صحَّ ركبتنَّ عنقه ! قال : فقال رسول الله : « دعوهنَّ فإنَّهنَّ خير منـكم » (٢).

الحديث الخامس :

عن ابن عبَّاس قال : لمَّا اشتدَّ بالنبيِّ صلَّىٰ الله عليه ( وآله ) وسلَّم وجعه قال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده ». قال عمر : إنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وأكثروا اللغط قال : « قوموا عنِّي ولا ينبغي عندي التنازع ». فخرج ابن عبَّاس يقول : إنَّ الرزيَّة كلُّ الرزيَّة ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين كتابه (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ١٦ طبعة عيسىٰ الحلبي ، مسند أحمد بن حنبل ٥ : ١١٦ / ٣٣٣٦ ، تأريخ الطبري ٣ : ١٩٣ ـ مصر ، الكامل في التاريخ / ابن الأثير ٢ : ٣٢٠ ، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي الحنفي : ٦٢ ـ الحيدرية ، سرُّ العالمين وكشف ما في الدارين / أبي حامد الغزالي : ٢١ ـ طبعة النعمان.

(٢) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ٤٢٣ ـ ٤٢٤ ، كنز العمال / المتقي الهندي ٣ : ١٣٨ عن الطبراني في الأوسط.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٣٧.

٢٣

الحديث السادس :

عن ابن عبَّاس ، قال : يوم الخميس وما أدراك ما يوم الخميس ! اشتدَّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فقال : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع فقالوا : ما شأنه أهجر ؟ استفهموه ، فذهبوا يردُّون عليه فقال : « دعوني فالذي أنا فيه خير ممَّا تدعوني إليه » ، وأوصاهم بثلاث : قال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم » ، وسكت عن الثالثة ، أو قال : فنسيتها (١).

الحديث السابع :

عن سعيد بن جبير : سمع ابن عبَّاس رضي الله عنهما يقول : يوم الخميس وما يوم الخميس ! ثُمَّ بكىٰ حتَّىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ قلت له : يا ابن عبَّاس ، ما يوم الخميس ؟ قال : اشتدَّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فقال : « ائتوني بكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعده أبداً » فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : ما له أهجر ؟ استفهموه فقال : « ذروني فالذي أنا فيه خير ممَّا تدعوني إليه » فأمرهم بثلاث قال : « أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم » والثالثة إمَّا أن سكت عنها ، وإمَّا أن قال : فنسيتها (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٣٧.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٦٥ ـ ٦٦.

٢٤

الحديث الثامن :

عن عمر بن الخطَّاب ، قال : كنَّا عند النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اغسلوني بسبع قرب ، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » ، فقالت النسوة : أئتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحاجته ، قال عمر : فقلت : اسكتن فإنَّكنَّ صواحبه ، إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ ، وإذا صحَّ أخذتنَّ عنقه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « هنَّ خير منكم » (١).

الحديث التاسع :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعدي » فتنازعوا وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع وقالوا : ما شأنه أهجر ؟ استفهموه ، قال : « دعوني فالذي أنا فيه خير » (٢).

الحديث العاشر :

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « دعوني فالذي أنا فيه خير ممَّا تدعوني إليه » (٣).

هكذا انتقل إلينا الحديث عبر طرقه المتعددة ، وألفاظه التي تتحد

__________________

(١) كنز العمَّال / ١٨٧٧١ ، الطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ٢٤٣.

(٢) صحيح مسلم ٥ : ٧٥.

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٣١.

٢٥

أو تتقارب أحياناً وتختلف أحياناً من حيث الإجمال والتفصيل ، أو الزيادة والنقصان ، مع احتفاظها بالمحور الأصل الذي يدور حوله الموضوع.

وفي الجملة فإن المحصل من طرق هذه الرواية بألفاظها المختلفة ، صورتان لهذا الحديث ..

الأولى : إنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يوصي فمنعه عمر بن الخطَّاب ، وقال : حسبنا كتاب الله.

والثانية : إنَّه أراد أن يوصي فقال أحدهم ، أو بعضهم : إنَّ النبيَّ يهجر !

٢٦

دراسة في منطوق الوصيَّة

والروايات الضبابية

بعد تلك الأحاديث التي ترقى إلى درجة المتفَق عليه ، اندسّت في ثنايا هذه الحادثة أخبار وروايات اُخر من شأنها أن تثير شيئاً من الضبابية ، كثيراً أو يسيراً ، على تلك الصورة التي تشكّل بنفسها إدانة كبيرة للتاريخ السياسي الذي خلف رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم..

وفيما يلي دراسة في منطوق الوصية بأشكالها المختلفة.

الشكل الأول :

حاول فيه أصحابه أن يوجِّهوا الأنظار إلىٰ أمرٍ بعيد كلَّ البعد عن الوصية ولا علاقة له بها ولا بغيرها .. وصوَّروها وكأنَّها حادثة عائلية لا غير ، وكلامها مجمل لم يوضّح لسامعه أي المعاني يريد ، وإلىٰ أي المقاصد يرمي.

فقد نقل عن عمر بن الخطَّاب أنَّه قال : « كنَّا عند النبيِّ وبيننا وبين النساء حجاب ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اغسلوني بسبع قرب ، وأتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً ، فقالت النسوة : ائتوا رسول الله بحاجته ، قال عمر : فقلت : اسكتن فإنَّكنَّ صواحبه إذا مرض عصرتنَّ أعينكنَّ ، وإذا صحَّ أخذتنَّ عنقه. فقال رسول الله : « هنَّ خير منكم » (١).

وهذا الحديث محرَّف عن حديث الصلاة التي أقامها أبو بكر ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ٢٤٣ ، كنز العمَّال / ١٨٧٧١.

٢٧

فأسرع النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتهادىٰ بين العبَّاس وعليٍّ حتَّىٰ أقام الصلاة بنفسه. كما أنَّ في هذا الحديث جرأة وتدخُّل في شؤون النبيِّ الخاصَّة لا ينبغي لأحد فعلها.

وهناك حديث آخر ، ولكنَّهم ينقلونه عن عليٍّ عليه‌السلام ، وهذا الأُسلوب معروف مسبقاً ، إذ يبغون فيه تثبيت شيء على لسان صاحب القضية نفسها ، ليقولوا للناس : انظروا إنَّه هو نفسه يقول بهذا الرأي.

عن عليٍّ عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمَّا ثقُلَ قال : « يا علي ، إئتني بطبق أكتب فيه ما لا تضلُّ أُمَّتي بعدي » ، فخشيت أن تسبقني نفسه ، فقلت : إنِّي أحفظ ذِرعاً من الصحيفة ، فكان رأسه بين ذراعي وعضدي ، فجعل يُوصي بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم ، قال ذلك حتَّىٰ فاضت نفسه ، وأمر بشهادة أن لا إله إلا الله وأنَّ محمَّداً عبده ورسوله ، من شهد بها حُرِّم على النار » (١).

وبقي أن ننقل في هذا القسم حديث عائشة الذي يتناول الموضوع نفسه ، ولا يخفىٰ ما لها ، من موقف واضح وصريح في عداوتها وبغضها لعليٍّ عليه‌السلام.

عن الأسود بن يزيد قال : ذكروا عند عائشة أنَّ عليَّاً كان وصيّاً ، فقالت : متىٰ أوصىٰ إليه ! فقد كنت مسندتَهُ إلىٰ صدري ـ أو قالت حجري ـ فدعا بالطست ... ، فلقد انخنث في حجري ، وما شعرت أنَّه مات ، فمتى أوصىٰ إليه ؟! (٢).

وهي بالطبع محقَّة في بعض ما روت ؛ لأنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفعل

__________________

(١) كنز العمَّال / ١٨٧٩٦.

(٢) صحيح مسلم ٥ : ٧٥.

٢٨

لم يوصِ ساعة موته ، غير أنَّها لم تذكر أنَّه أراد أن يوصي لشخص أو بشيءٍ ما ـ هذا علىٰ أقلِّ تقدير ـ غير أنَّ أحدهم منعه أو صرفه أو راجعه ، فترك الرسول الوصيَّة ، فلو أنَّها ذكرت ذلك لكان أقرب إلىٰ الحقيقة من إنكارها التامّ هذا.

وهذا الإنكار للوصيَّة جهد ذهب أدراج الرياح ولم يمنحه التأريخ أيَّ أهمية ، فقد نقل مسلم الذي نقل هذا الحديث أحاديث أُخرىٰ بعده تماماً توضح الحادثة بشكل أكثر واقعية ودقَّة.

وأخرج البخاري أنَّ طلحة بن مُصَرِّف سأل عبدالله بن أبي أوفىٰ قال : هل كان النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصىٰ ؟ فقال : لا. فقال : كيف ، كتب علىٰ الناس الوصيَّة ، أو أُمِروا بالوصيَّة ؟ قال : أوصىٰ بكتاب الله (١).

وفي رواية مسلم عن طريق آخر يقول : قُلت : كيف كتب علىٰ المسلمين الوصيَّة ؟ (٢).

فهذا السؤال طرحه قبلنا المسلمون ، وأنكروا أن يترك الرسول الناس بلا وصيَّة ، كيف ذلك وجاءهم هو بالوحي من الله بأن يوصوا ؟!

ولهذا لاحظنا في الحديث المتقدّم أنه لمَّا لم يجد محيصاً لأنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولىٰ من غيره بطاعة الله ، تراجع وقال : « أوصىٰ بكتاب الله ».

الشكل الثاني :

تكلَّف البعض كثيراً ، وأراد أن يوجِّه الأنظار إلىٰ شخصية إسلامية بعينها ، ويقطع علىٰ المخالفين الأقوال ، فنقل عن رسول

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٨٦.

(٢) صحيح مسلم ٥ : ٧٤.

٢٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه قال : « ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لأبي بكر ... » (١).

وأخرج مسلم عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي مات فيه : « ادعي لي أباك وأخاك حتَّى أكتب كتاباً ، فإنِّي أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويقول : أنا أولىٰ ، ويأبىٰ الله والمؤمنون إلاَّ أبا بكر » (٢).

وفي رواية أُخرى : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرضه الذي مات فيه : « ادعي لي عبدالرحمن بن أبي بكر ، أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه أحد ». ثُمَّ قال : « دعيه معاذ الله أن يختلف عليك يا أبا بكر » (٣).

ولكن كما ترى أنَّ الناس قد اختلفوا في أبي بكر ، فماذا يكون نصيب هذا الحديث وأشباهه ؟

ثُمَّ إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكتب ولم يقل أحد أنَّه كتب ثُمَّ ضاع الكتاب مثلاً ، فأين الكتاب الذي كتبه لأبي بكر ؟ وقد تمنَّىٰ الخلافة غيره كثير حتَّى قال الخليفة الثاني « إنَّ بيعة أبي بكر كانت فلتة ، وقىٰ الله شرَّها ».

غير أنَّ هذا السعي لم يلقَ نصيباً من التوفيق ، فكان بين ما رواه الآخرون شاذّاً وغريباً ، فلم يرجع إليه إلا من يبحث في بطون المصنَّفات عمَّا يدعم نظريَّته ومعتقداته بغض النظر عن الأُصول المتَّبعة في استخراج الحديث النبوي.

الشكل الثالث :

وعليه أغلب الروايات ، حيث اتَّفقوا علىٰ نصٍّ متقارب رغم عدم

__________________

(١) إتحاف السادة المتَّقين ٢ : ٢٢٢.

(٢) الصواعق المحرقة : ٢٠.

(٣) الصواعق المحرقة : ٢٠.

٣٠

دقَّته ، وتسالموا علىٰ صحَّته وتواتره ، ولكنَّهم أيضاً اختلفوا في بعض فقراته.

الاختلاف الأوَّل :

وقع أوَّل اختلاف في الشخص الذي منع الرسول بسبب إغفال بعض الرواة ذكر ذلك الشخص ، حيث أنّهم نقلوا كلمة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطلبه للكتاب ، ثُمَّ أردفوها ب‍ « فتنازعوا ولا ينبغي عند النبيِّ تنازع ... » (١).

وأحسب أنَّ إغفال ذكر المتصدِّي لمنع الوصيَّة في بعض الروايات سببه إبعاد شبهة الصدِّ عن تبليغ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما ينفع المسلمين ، وهذا لعمري أمر خطير والتهاون فيه والتسامح معه لا ينبئ إلاَّ عن ضحالة وسذاجة مفضوحة لا يسترها ساتر.

وأحسب أيضاً لو أنَّ الروايات وصلت إلينا بدون اسم ، ولم تعيِّن بشكل تامٍّ ـ لا في هذه التي أوردناها أعلاه ولا في غيرها ـ المانع لوصيَّة الرسول ، لتبارىٰ كثيرون من مختلف المذاهب في رمي هذه التهمة علىٰ إخوانه الآخرين ، ولأشبع بعضنا بعضاً تقريعاً وتجريحاً ، ولنالت الشبهة جميع الصحابة من مختلف الأذواق.

غير أنَّ ذلك لم يحدث والحمد لله ، وفقأت عين الفتنة روايات متواترة تذكر بدون تلجلج مانع الوصيَّة ، وحيث إنَّ مانع الوصيَّة شخصية ينظرون إليها بعين الإكبار والتجليل ، تسامحوا معه ، وعلَّلوا منعه بكلِّ ما يمكنهم أن يعلِّلوا له.

ولا ريب أنَّ عدم ذكر مانع الوصيَّة فيما نقلناه والاعتذار له من قبل بعض الباحثين ، هو اعتراف منهم بأنَّ مانع الوصيَّة قد عمل شيئاً

__________________

(١) صحيح مسلم ٥ : ٧٥.

٣١

منكراً ! ولذلك غضُّوا الطرف عن ذكر اسمه ، لكي لا تناله ملامة اللائمين.

الاختلاف الثاني :

وقع الاختلاف الثاني في صدر عبارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعلىٰ رواية مسلم عن ابن عبَّاس ، قال : « ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلُّوا بعدي ... » (١).

وفي البخاري في باب الجهاد والسير عبارة : « ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده ... » (٢).

وأخرج أحمد في مسنده أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ائتوني بالكتف والدواة ـ أو اللوح والدواة ـ أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده » (٣).

ونقل أبو بكر أحمد بن عبدالعزيز الجوهري في كتاب ( السقيفة ) بإسناده إلىٰ ابن عبَّاس قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني بدواة وصحيفة أكتب كتاباً لا تضلُّوا بعده ... » (٤).

ونقل الطبراني العبارة هكذا : « ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً ... » (٥).

فالعبارة ليست واحدة في اللفظ ، وإن كانت واحدة في المعنىٰ.

وما يهمُّنا هنا هو أنَّ لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يحفظ ، وإنَّما حفظ معناه.

__________________

(١) صحيح مسلم ٥ : ٧٥.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٣١.

(٣) مسند أحمد ١ : ٣٥٥.

(٤) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد عنه ٢ : ٢٠.

(٥) المعجم الكبير ١١ : ٣٦ طبعة العراق.

٣٢

الاختلاف الثالث :

وقع الاختلاف الثالث في لفظة أثبتها بعض الرواة وأهملها آخرون ، وهي كلمة « أبداً » فهي منقولة بتواتر ، ويمكن اعتبار التسامح في عدم ذكرها تخفيفاً من الرواة وتهويناً من أمر الوصيَّة ، حيث لا يخفىٰ أنَّ ذكرها كم يؤكِّد ويثبت المعنىٰ ، وعدمه يهوّن من أمر ذلك التأكيد والاثبات.

ف‍ « أبداً » كما نراجعها في معاجم اللغة هي ظرف زمان للتأكيد في المستقبل نفياً أو إثباتاً ، والأبدي : ما لا نهاية له (١) قال تعالى : ( خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ) (٢) و ( إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا ) (٣).

فإنَّ إثبات أو انكار هذه الكلمة يغيِّر كثيراً في المعنىٰ ، فلو قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تضلُّوا بعده » وسكت ، فإنه يمكن أن نفهم أنَّ المسلمين لن يضلُّوا في اختيار الخليفة ، أو لن يضلُّوا في سياستهم العامة التي ستلي مرحلة الرسول مباشرة ، أو أنَّ تلك الوصيَّة حتَّىٰ ولو لم يكتبها فإنَّها ليست بذات خطر عظيم علينا نحن المتأخرين ، وحتَّىٰ لو كانت موجودة فإنَّنا لن ننتفع بها عملياً وإن كنَّا ننتفع بها روحياً ، تماماً كآيات القرآن المنسوخة التي نقرأها كلَّ حين ولا نعمل بها.

ففائدة تلك الوصيَّة فائدة محدودة انتهىٰ وقتها ، وإن كنَّا نؤاخذ علىٰ عمر بن الخطاب منعه لتلك الوصيَّة فإنَّ مؤاخذتنا لن تصل إلىٰ

__________________

(١) أقرب الموارد ـ أبد ـ ١ : ١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٧ ، سورة المائدة : ٥ / ١١٩ ، سورة التوبة : ٩ / ٢٢.

(٣) سورة المائدة : ٥ / ٢٤.

٣٣

حدِّ رفع دعوىٰ لمحاكمته لعدَّة قضايا نرىٰ أنَّه أوقع المسلمين فيها بسبب منعه لتلك الوصيَّة.

أمَّا والحال أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لن تضلُّوا بعده أبداً » فإنَّ الضلال الذي يغرق فيه المسلمون هذه الأيَّام يقع جزء منه بالتأكيد علىٰ عاتق مانع تلك الوصيَّة.

ولو علمنا أيضاً كما مرَّ عليك أنَّ جهوداً بُذلت لتهميش أهميَّة هذه الحادثة ، وهذه الجهود تناولت الحادثة من عدَّة جوانب كما لاحظت في الصفحات السابقة ، وكما ستلاحظ لاحقاً ، نفهم أو نستنتج أنَّ هذه الكلمة أُسقطت لكي لا ينال الرجل ملامة الأجيال وسخطها.

الاختلاف الرابع :

يمكن اعتبار هذا الاختلاف من أكبر الاختلافات التي واجهت رواة هذا الحديث ، حيث إنَّهم تردَّدوا كثيراً في اختيارهم للعبارة التي يريدون أن ينقلوها ، فهم بعد أن اختلفوا كثيراً في صدر الحديث كما مرَّ عليك ، ولم يكن اختلافهم ذا أثر مهم في المعنىٰ ، اختلفوا هنا في مقالة عمر كمراجعة منه لكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فنرىٰ الكثير من المصادر تذكر عبارة « أنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع ». ولو سلَّمنا بما نقله هؤلاء الرواة في هذه الفقرة ، لأمكننا القول بأنَّ عمر أراد أن يمنع وصيَّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أن يراجعه كما يفسِّر البعض هذه الحادثة.

والسبب أنَّ عمر لم يقل لنبيِّه مثلاً : قد أوصيت يا رسول الله ... أو أنَّك خلّفت من المؤمنين رجالاً يمكنهم أن يختاروا ويُوفقوا ... أو أنَّنا

٣٤

تربَّينا علىٰ نهجك وصراطك وسُنَّتك ، وسنختار منَّا من يقود المسلمين ويصلح أمرهم ... أو أي شيء يشبه أو يقارب هذه العبارات.

فلمّا لم يقل من ذلك أو نظائره شيئاً ، بل قال مكانه : « إنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع ». فالذي يُفهم منه أنّه أراد أن يصوِّر للآخرين بأنَّ هذا المسجَّىٰ قد هاج عليه الوجع ، فلا فائدة ترتجىٰ من مقولته أو وصيَّته.

وعبارة « عندنا كتاب الله حسبنا » تدلُّ علىٰ ذلك بوضوح وصراحة ، فلا يمكننا أن نسمِّي مقالته مراجعة ، لأنَّه لم يتكلَّم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنَّما تكلَّم مع غيره.

وقد يتكلَّف البعض ويقول : إنَّ عمر شاهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحالة صعبة ، فشقَّ عليه ، وتألَّم كثيراً ، وأراد أن يريح الرسول فلا يتكلَّف الكلام في أمر قد عقلوه ، غير أنّ هذا لا يدلُّ عليه كلام عمر ، حيث إنَّ الرواة لم ينقلوا عنه مقالة عطف ورأفة بالنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. انظروا إلىٰ العبارة جيِّداً ، فهل تلاحظون ما استنبطه هؤلاء ؟

فلو قال عمر مثلاً : إنَّك تتألَّم ، وتأبىٰ نفوسنا أن نراك كذلك ، فلو هوَّنت عليك واسترحت ، وسنكفيك ما تريد ما استطعنا إلىٰ ذلك سبيلاً. أو عبارة نحو هذه ، أو ألطف منها وأرقُّ ، لكُنَّا الآن نمجِّد قلب عمر الرقيق ومحبَّته وحنانه.

ثُمَّ لنتصوَّر الحالة كما هي منقولة ، فنقول : إنَّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ائتوني بلوحٍ ودواة أكتب لكم كتاباً لن تضلُّوا بعده أبداً » وكان عنده خلق كثير ، وقد سمعوا طلب النبيِّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يريد أن يرحل عنهم ، فيخسروا وجوده الكريم المبارك. وهنا تصدَّىٰ عمر فتكلَّم مع الموجودين ـ لا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقال لهم : « إنَّ النبيَّ قد غلبه

٣٥

الوجع ».

ألا نفهم من هذه العبارة بأنَّه يوحي للسامعين أو يصوِّر لهم بأنَّ النبيَّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلَّم عن غير وعي ؟ وإلاّ فما معنىٰ كلمة « غلبه الوجع » ؟! وماذا يريد بها ؟!

ثُمَّ ألا ترىٰ معي أنَّ في ذلك تجاوزاً للأدب والأخلاق ، فالنبيُّ يقول : « ائتوني بكتاب ... » وعمر يقول للناس « إنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع ... » فأين قوله تعالىٰ ( لِّتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) ؟! (١).

ثُمَّ إنَّ النبيَّ أمر بإخراجهم من عنده بعد أن تنازعوا ، فماذا يدلُّ أمره هذا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ألا يدلُّ علىٰ غضبه عليهم وعدم رضاه بما واجهوه به ؟ والقرآن يقول : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (٢) وهذا نزاع ، ولم يردُّوه إلىٰ الله حيث إنَّه سبحانه أمر بكتابة الوصيَّة ، ولم يردُّوه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حيٌّ يُرزق.

أليس في ذلك أذىٰ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يشهد هذا المشهد المحزن من رفض صحابته لأمر الله ولأمر نبيَّه ، والله سبحانه يقول : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ) (٣) والآية الأُخرىٰ تقول : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٤).

هذا نقاشنا باختصار إن كانت مقولة عمر « إنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع .. ». ولكن ينقل رواة آخرون أنَّ هذه العبارة ليست هي التي قالها

__________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٩.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٩.

(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٣.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٦١.

٣٦

عمر ، وإنَّما شيء يشبهها أحجموا هم عن ذكره ، انظر إلىٰ عبارة هذه الرواية « فقال عمر كلمة معناها أنَّ الوجع قد غلب علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... » (١).

وكما ترىٰ أن الاجتهاد في تهذيب هذه الرواية يلتمس لها كلَّ كلمة يمكنها أن تقلل من أهميَّتها ، فالخليفة الثاني لم يقل « غلبه الوجع » ـ حسب هذه الرواية ـ وإنَّما كلمة معناها ذلك. فماذا قال إذاً ؟!

هل يوجد من راقب الله واتَّقاه عندما نقل هذه الحادثة إلىٰ الأجيال ؟!

نعم ، والحمد لله ، هم كثيرون ، وقد نقلوا بتواتر لا يُردّ تلك الكلمة « القاصمة للظهر » !!.

فهل لنا أن نتصوّر كم هي خيبة الأمل التي عاناها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما تعرَّض لهذه الحادثة الأليمة ... ألا يحقُّ للأب بأن يوصي أبناءه بوصيَّة تحفظهم من الزلل ؟؟؟..

إنَّه أراد أن يبادر إلىٰ ذلك فأسكتوه ... أراد أن يمنحهم الإكسير فأراقوه ... أراد لهم العزَّة والهدىٰ والعلياء إلىٰ يوم القيامة ، فقدَّموا بين يديه وهو حيٌّ ، فرفضوا وصيَّته ومنعوه ...

قد يقول بعض الناس : لا تُهوِّلوا ... لا تُهوِّلوا ... وقولوا ما قال عمر لنفهم ، فربَّما تهويلكم في غير محلِّه.

فنقول لهم : إنَّه قال : « هجر رسول الله ... » ولننتظر قليلاً لنفهم مصادر هذه الرواية ، ولنقدِّم قبلها تعريفاً لكلمة « هجر » التي قلنا عنها ما قلنا. وهل هي حقَّاً ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ٢ : ٢٠.

٣٧

أَفْوَاهِهِمْ ) ؟؟ (١).

جاء في ( لسان العرب ) في مادة ( هجر ) ما يلي : هَجَرَ به في النوم يَهْجُر هجراً : حَلَمَ وهذىٰ. وفي التنزيل العزيز : ( مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ) (٢) .. وتهجرون : تهذون ... وهَجَرَ الرجل في منامه : إذا هذىٰ ، أي أنَّكم تقولون فيه ما ليس فيه وما لا يضرُّه ، فهو كالهذيان ... وروي عن إبراهيم أنَّه قال في قوله عزَّ وجلَّ : ( إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) (٣) قال : قالوا فيه غير الحقِّ ، ألم تَرَ إلىٰ المريض إذا هجر قال غير الحقِّ ؟ ...

وقال : هَجَرَ يَهجُر هجراً ، بالفتح ، إذا خلط في كلامه وإذا هذىٰ ... ونقل أيضاً قوله : وفي الحديث : قالوا : ما شأنه ، أهَجَرَ ؟ أي اختلف كلامه بسبب المرض ، علىٰ سبيل الاستفهام ، أي هل تغيَّر كلامه واختلط لأجل ما به من المرض ؟ قال ابن الأثير : هذا أحسن ما يُقال فيه ، ولا يُجعل إخباراً فيكون إمَّا من الفحش أو الهذيان ، قال : والقائل كان عمر ، ولا يظنُّ به ذلك !!! (٤).

ولننكر ادِّعاء ابن الأثير واتهامه لعمر بهذه الشناعة ، رغم اعتذاره له وتخفيف وقع الكلمة علىٰ القارئ ، ولنرىٰ هل تحتمل الروايات قائلاً غيره ؟

قرأت آنفاً أنَّ عمر قد ثَبت عليه أنَّه قال : « إنَّ النبيَّ قد غلبه

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٥.

(٢) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٦٧.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٠.

(٤) لسان العرب / ابن منظور ١٥ : ٣٣ ، دار إحياء التراث العربي ـ طهران ـ ط ١ ـ ١٩٩٥ م.

٣٨

الوجع » (١) ، وتنقل الروايات التي فيها هذه العبارة أنَّ الموجودين تنازعوا وانقسموا إلىٰ فريقين ، فمنهم من يقول : « قرِّبوا لرسول الله يكتب لكم كتاباً » ومنهم من يقول ما قاله عمر.

وهناك روايات أُخرىٰ كما سترىٰ تذكر بعد طلب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّهم « قالوا : هَجَرَ رسول الله » (٢) وفي أُخرىٰ « وقالوا ما شأنه ، أهجر ؟ استفهموه » (٣).

فأين عمر في هذه الروايات ، ولماذا لم يذكروا له وجوداً ؟!

إنَّه مختبئ في عقول الرواة وتصانيفهم ، يريدون بالطبع أن لا يُذكر عمر في هذه الحادثة الأليمة ، ولا توجَّهُ إليه أصابع الاتهام ، هذا سعيهم كما فهمنا ذلك مسبقاً.

فهم إذا ذكروا عمر قالوا : « إنَّه قال : إنَّ النبيَّ قد غلبه الوجع ». وإن أرادوا أن يذكروا كلمة « هجر » القاصمة للظهر ، لم يذكروا معها عمر.

وتلك معادلة ذكية جعلت المسألة صعبة الحلّ ولا يمكن فكّ رموزها بسهولة.

وعلىٰ المؤمنين بهذه المعادلة الإجابة علىٰ الآيات الكثيرة الموجودة في القرآن الكريم التي تجمع طاعة الله مع طاعة الرسول ، والاستجابة لله مع الاستجابة للرسول ، واتِّباع أمر الله مع اتِّباع أمر الرسول ، ومثاله هذه الآيات : ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (٤).

__________________

(١) صحيح البخاري ١ : ٣٧ ـ كتاب العلم ، و ٨ : ١٦١ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ـ باب كراهة الخلاف.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٣١.

(٣) صحيح مسلم ٥ : ٧٥.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٩٢.

٣٩

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (١).

وقد جعل الله سبحانه طاعة الرسول هي طاعة له تعالىٰ : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ ) (٢).

ومهما يكن من اختلاف بين « غلبه الوجع » و« هجر » فإنَّ كلتا العبارتين جارحتان ، وفيهما تجاوز كبير علىٰ مقام النبوَّة.

الاختلاف الخامس :

وقع اختلاف آخر في عبارة « وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله » كما في البخاري (٣) وعنه أيضاً في باب العلم قال : « وعندنا كتاب الله حسبنا ». بينما نقل ابن أبي الحديد المعتزلي عبارة « عندنا القرآن حسبنا كتاب الله » (٤) وهناك عبارات متشابهة وردت في مصادر أُخرى كثيرة (٥).

ونصطدم مرَّة أُخرىٰ مع الرواة ، ونشاهد إهمالهم في إدراج هذه العبارة لمحذور شدّة وقعها علىٰ قلوب المسلمين ، وخطورتها على قائلها.

وخطورتها تنبع من إلغاء دور النبوَّة التي قال عنها الله سبحانه

__________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ٢٤.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٨٠.

(٣) صحيح البخاري ٧ : ٩ ـ باب قول المريض قوموا عنِّي من كتاب المرضىٰ.

(٤) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٥١ ط مصر بتحقيق محمَّد أبو الفضل.

(٥) راجع صحيح مسلم ٥ : ٧٥ ، مسند أحمد ٤ : ٣٥٦ / ٢٩٩٢ ، صحيح البخاري ١ : ٣٧ ـ كتاب العلم. و ٨ : ١٦١ و ٥ : ١٣٧ كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنَّة ـ باب كراهية الخلاف ، كتاب النبيِّ إلى كسرى وقيصر ـ باب مرض النبيِّ ووفاته.

٤٠