كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

كتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

أخبرنا الفقيه العالم الكامل فخر الدين عبد الله بن حسن بن عطية الشغدري الشاوري رحمه‌الله إجازة في شوال سنة عشر وسبعمائة .. قال أنبأنا الفقيه أحمد بن علي السرددي عن الفقيه أبي السعود بن حسن الهمداني عن شيخه الامام داود بن سليمان (١) قال .. [ قال أبو جعفر ] أحمد بن محمد بن إسماعيل الصفار المصنف النحوي رحمة الله عليهم أجمعين .. قال:

نبتدئ في هذا الكتاب وهو كتاب « الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم » بحمد الله الواحد الجبار. العزيز القهار. المعبّد خلقه بما يكون لهم في الصلاح. وما يؤذنهم اذا عملوا به الى الفلاح. وصلى الله على رسوله محمد الأمين. وعلى آله الطيبين. وعلى جميع أنبيائه المرسلين. بالحكم والنصح للأمم. فمن مرسل بنسخ شريعة قد كانت وإثبات أخرى قد كتبت. ومن مرسل بتثبيت شريعة من كان قبله. ومرسل بأمر قد علم الله عزّ وجلّ انه الى وقت يعينه ثم ينسخه بما هو خير للعباد في العاجل وأنفع لهم في الآجل أو بما هو مثله ليمحنوا ويثابوا كما قال جل ثناؤه ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (٢) قال ( وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (٣) .. فتكلم العلماء من الصحابة والتابعين في الناسخ والمنسوخ ثم اختلف المتأخرون فيه فمنهم من جرى على سنن المتقدمين فوفق .. ومنهم من خالف ذلك فاجتنب. فمن المتأخرين من قال ليس في كتاب الله عز وجل ناسخ ولا منسوخ وكابر العيان

__________________

(١) هكذا وقع في صدر النسخة التي وقعت لنا بعد البسملة فقط .. وسنفرد الكلام عليهم مع الأدفوي راوية الكتاب وكذا كل من يذكر قبل الأدفوي مع ترجمة المؤلف وذكر مؤلفاته ونؤخر ذلك الى آخر الكتاب إن شاء الله تعالى .. وأما ما يذكره المصنف في حلقات إسناده فانا نذكر المجهولين منهم في كراسة على حدتها بلفظ وجيز يدل على حاله من جرح أو تعديل ونكون بذلك إن شاء الله أحسنا الخدمة في طبع هذا الكتاب والله ولي التوفيق.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١٠٦

(٣) سورة : النحل ، الآية : ١٠١

٥

واتبع غير سبيل المؤمنين .. ومنهم من قال النسخ يكون في الأخبار والأمر والنهي .. [ قال أبو جعفر ] وهذا القول عظيم جدا يؤول إلى الكفر لأنّ قائلا لو قال قام فلان ثم قال لم يقم ثم قال نسخته لكان كاذبا .. وقد غلط بعض المتأخرين فقال إنما الكذب فيما مضى فأما المستقبل فهو خلف وقال في كتاب الله عز وجل غير ما قال. قال جل ثناؤه ( فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) وقال جل ثناؤه ( بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (٢) .. وقال آخرون بأنّ الناسخ والمنسوخ الى الامام ينسخ ما شاء .. وهذا القول أعظم لأن النسخ لم يكن الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا بالوحي من الله إما بقرآن مثله على قول قوم وإما بوحي من غير القرآن فلما ارتفع هذان بموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتفع النسخ .. وقال قوم لا يكون النسخ في الأخبار الا فيما كان فيه حكم واذا كان فيه حكم جاز فيه النسخ وفي الأمر والنهي .. وقال قوم النسخ في الأمر والنهي خاصة .. وقول سادس عليه أئمة العلماء وهو ان النسخ إنما يكون في المتعبدات لانّ لله عز وجل أن يتعبد خلقه بما شاء الى أي وقت شاء ثم يتعبدهم بغير ذلك فيكون النسخ في الأمر والنهي وما كان في معناهما وهذا يمر بك مشروحا في مواضعه اذا ذكرناه (٣) .. ونذكر اختلاف الناس في نسخ القرآن بالقرآن وفي نسخ القرآن بالقرآن والسنة وفي نسخ السنة بالقرآن .. ونذكر أصل النسخ في كلام العرب لنبني الفروع على الاصول .. ونذكر

__________________

(١) قلت : القول الخامس من هذه الأقوال حكاه هبة الله بن سلامة عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة بن عمار .. قال قالوا ولا يدخل النسخ إلا على الأمر والنهي فقط افعلوا أو لا تفعلوا واحتجوا على ذلك بأشياء منها قولهم ان خبر الله تعالى على ما هو به .. وأما القول الأول فهو شبيه لما حكاه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدي .. قال قالا قد يدخل النسخ على الأمر والنهي وعلى جميع الأخبار ولم يفصلا وتابعهما على هذا القول جماعة ولا حجة لهم في ذلك من الدراية وانما يعتمدون على الرواية .. وأما القول السادس فقد حكاه عن الضحاك بن مزاحم .. قال قال الضحاك يدخل النسخ على الأمر والنهي وعلى الاخبار التي معناها الأمر والنهي مثل قوله تعالى ( الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ) ومعنى ذلك لا تنكحوا زانية ولا مشركة وعلى الأخبار التي معناها الأمر مثل قوله تعالى في سورة يوسف عليه‌السلام قال ( تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً ) ومعنى ذلك ازرعوا ومثل قوله ( فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها ) يعني الروح ومثل قوله ( وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ ) أي قولوا له يا رسول الله قال واذا كان هذا معنى الخبر كان كالأمر والنهي .. ثم حكى قولا آخر لم يذكره المصنف .. قال وقال آخرون كل جملة استثنى الله تعالى منها بإلا فإن الاستثناء ناسخ لها.

(٢) سورة : الأنعام ، الآية : ٢٧

(٣) سورة : الأنعام ، الآية : ٢٨

٦

اشتقاقه .. ونذكر على كم يأتي من ضرب .. ونذكر الفرق بين النسخ والبداء فإنّا لا نعلم أحدا ذكره في كتاب ناسخ ولا منسوخ وإنما يقع الغلط على من لم يفرق بين النسخ والبداء والتفريق بينهما مما يحتاج المسلمون الى الوقوف عليه لمعارضة اليهود والجهال فيه .. ونذكر الناسخ والمنسوخ على ما في السور ليقرب حفظه على من أراد تعلمه فاذا كانت السورة فيها ناسخ ومنسوخ ذكرناها والا أضربنا عن ذكرها الا أنا نذكر إنزالها أكان بمكة أم بالمدينة وان كان فيه إطالة نضطر الى ذكرها أخرناها وبدأنا بما يقرب ليسهل حفظه .. ونبدأ بباب الترغيب في علم الناسخ والمنسوخ عن العلماء الراسخين والأئمة المتقدمين.

باب

الترغيب في تعلم الناسخ والمنسوخ

حدثنا أبو العباس أحمد بن علي بن الحسن بن اسحاق المصري البزاز المعروف بالكسائي بمكة حرسها الله قال حدثنا أبو بكر محمد بن علي بن أحمد الأدفوي النحوي قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل الصفار النحوي قال حدثنا محمد بن جعفر بن أبي داود الأنباري بالأنبار قال حدثنا يحيى بن جعفر قال حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي اسحاق عن عطاء بن السائب عن أبي البحتري قال .. دخل علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه المسجد فاذا رجل يخوّف الناس فقال ما هذا قالوا رجل يذكّر الناس فقال ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول انا فلان ابن فلان فاعرفوني فارسل اليه أتعرف الناسخ والمنسوخ فقال لا قال فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه (١). وحدثنا محمد بن جعفر قال أنبأنا عبد الله بن يحيى قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال .. انتهى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه الى رجل يعظ الناس فقال أعلمت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت. وحدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن دسيم قال حدثنا سليمان قال حدثنا شعبة عن أبي حصين عن عبد الرحمن السلمي .. قال مر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برجل يعظ قال هل عرفت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت. وحدثنا بكر بن سهل الدمياطي قال حدثنا ابو صالح عبد الله بن صالح قال حدثني

__________________

(١) قلت : ذكر هذا الخبر ابن سلامة وسمي الرجل بعبد الرحمن بن داب وقال كان صاحبا لأبي موسى الاشعري وقد تحلق الناس عليه يسألونه وهو يخلط الأمر بالنهي والاباحة بالحظر فقال له أتعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت أبو من أنت؟ فقال له أبو يحيى فقال أنت أبو اعرفوني وأخذ أذنه ففتلها وقال لا تقص في مسجدنا بعد.

٧

معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قول الله عز وجل .. ( وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ) (١) قال المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحرامه وحلاله وأمثاله. حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا عبد الله بن يحيى قال أنبأنا أبو نعيم عن سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم قال .. مر ابن عباس بقاص يعظ فركله برجله وقال أتدري ما الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت. حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن دسيم عن موسى عن أبي هلال الراسبي قال سمعت محمدا وحدثت عنه قال قال حذيفة .. إنما يفتي الناس أحد ثلاثة : رجل تعلم منسوخ القرآن وذلك عمر رضي‌الله‌عنه ورجل قاض لا يجد من القضاء بدا ورجل متكلف فلست بالرجلين الأولين وأكره أن أكون الثالث. وحدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن دسيم عن موسى عن حماد بن سلمة عن عطاء عن أبي البحتري ان عليا رضي‌الله‌عنه .. دخل مسجد الكوفة فرأى قاصا يقص فقال ما هذا قالوا رجل محدث قال ان هذا يقول اعرفوني سلوه هل يعرف الناسخ من المنسوخ فسألوه فقال لا فقال لا تحدث.

باب

اختلاف العلماء في الذي ينسخ القرآن والسنة

للعلماء في هذا خمسة أقوال .. منهم من يقول القرآن ينسخ القرآن والسنة وهذا قول الكوفيين .. ومنهم من يقول ينسخ القرآن القرآن ولا يجوز أن تنسخه السنة وهذا قول الشافعي في جماعة معه .. وقال قوم تنسخ السنة القرآن والسنة .. وقال قوم تنسخ السنة السنة ولا ينسخها القرآن .. والقول الخامس قاله محمد بن شجاع قال الاقوال قد تقابلت فلا أحكم على أحدها بالآخر [ قال أبو جعفر ] وحجة أصحاب القول الأول في ان القرآن ينسخ بالقرآن والسنة قول الله تعالى ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (٢) وقال ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (٣) وقال ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (٤) الآية .. وقد أجمع الجميع على ان القرآن اذا نزل بلفظ مجمل ففسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينه كان بمنزلة القرآن المتلو فكذا سبيل

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٦٩

(٢) سورة : الحشر ، الآية : ٧

(٣) سورة : النور ، الآية : ٦٣

(٤) سورة : النساء ، الآية : ٦٥

٨

النسخ واحتجوا بآيات من القرآن تأولوها على نسخ القرآن بالسنة ستمر في السور إن شاء الله تعالى .. واحتج من قال لا ينسخ القرآن إلا بقرآن بقوله عز وجل ( نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (١) وبقوله ( قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ) (٢) .. وأصحاب القول الاول يقولون لم ينسخه من قبل نفسه ولكنه بوحي غير القرآن .. وهكذا سبيل الاحكام إنما تكون من قبل الله عز وجل .. وقد روى الضحاك عن ابن عباس نأت بخير منها أو مثلها نجعل مكانها أنفع لكم منها وأخف عليكم أو مثلها في المنفعة أو ننساها يقول أو نتركها كما هي فلا ننسخها .. واحتج أصحاب القول الثالث في ان السنة لا ينسخها الا سنة لأن السنة هي المبيّنة للقرآن فلا ينسخها والحجة عليهم أن القرآن هو المبين نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بطاعته فكيف لا ينسخ قوله .. وفي هذا أيضا أشياء قاطعة قال الله تبارك وتعالى ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) (٣) فنسخ بهذا ما فارق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين عليه .. ومن هذا أن بكر بن سهل حدثنا قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود جاءوا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا إن رجلا منا وامرأة زنيا فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا نجلدهم ويفضحون فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم ان فيها الرجم فذهبوا فأتوا بالتوراة فنشروها فجعل رجل منهم يده على آية الرجم ثم قرأ ما بعدها وما قبلها فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفعها فاذا فيها آية الرجم قالوا صدق يا محمد إن فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجما قال عبد الله بن عمر فرأيته يجني على المرأة هنها الحجارة .. حكى أهل اللغة انه يقال جنى فلان على فلان اذا أكب عليه (٤) ومنه الحديث أن أبا بكر الصديق رضي‌الله‌عنه جنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موته وقبل بين عينيه وقال طبت حيا وميتا .. [ قال أبو جعفر ] وهذا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يكون إلا من قبل أن ينزل عليه في الزناة شيء ثم نسخ الله تعالى فعله هذا بقوله عز وجل ( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ ) (٥) وما بعده (٦).

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٠٦

(٢) سورة : يونس ، الآية : ١٥

(٣) سورة : الممتحنة ، الآية : ١٠

(٤) قلت : قال ابن الأثير في النهاية .. وقيل هو مهموز وقيل الأصل فيه الهمز من جنأ يجنأ اذا مال عليه وعطف ثم خفف وهو لغة في أجنأ .. ووجدت في هامش الأصل ما نصه يجنأ بالجيم مهموز.

(٥) سورة : النساء ، الآية : ١٥

(٦) قوله وما بعده خبر قوله ونبدأ بباب الترغيب الخ وما بعده باب أصل النسخ واشتقاقه.

٩

باب

أصل النسخ واشتقاقه

اشتقاق النسخ من شيئين .. احدهما يقال نسخت الشمس الظل اذا أزالته وحلّت محله ونظير هذا ( فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ) (١) .. والآخر من نسخت الكتاب اذا أنقلته من نسخته وعلى هذا الناسخ والمنسوخ (٢) .. وأصله أن يكون الشيء حلالا الى مدة ثم ينسخ فيجعل حراما أو يكون حراما فيجعل حلالا أو يكون محظورا فيجعل مباحا أو مباحا فيجعل محظورا يكون في الامر والنهي والحظر والاطلاق والاباحة والمنع.

باب

النسخ على كم يكون من ضرب

أكثر النسخ في كتاب الله تعالى على ما تقدم في الباب الذي قبل هذا أن يزال الحكم بنقل العباد عنه مشتق من نسخت الكتاب ويبقى المنسوخ متلوا. كما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري قال حدثنا الحسن بن محمد الصباح قال حدثنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد .. ما ننسخ من آية قال نزيل حكمها ونثبت خطها .. ونسخ ثان. كما حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا ابن ديسم (٣) قال حدثنا أبو عمرو الدوري عن الكسائي ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (٤) قال في تلاوته فينسخ الله ما يلقي الشيطان فانه يزيله ولا يتلى ولا يثبت في المصحف [ قال أبو جعفر ] وهذا مشتق من نسخت الشمس الظل .. وقد زعم أبو عبيد ان هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السورة فترفع فلا تتلى ولا تثبت واحتج أبو عبيد بأحاديث صحيحة السند وخولف أبو عبيد فيما قال والذين خالفوه على قولين .. منهم من قال لا يجوز ما قال ولا يسلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من القرآن بعد ما أنزل عليه واحتجوا بقوله تعالى ( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) (٥) .. والقول الآخر ان أبا عبيد قد جاء بأحاديث إلا أنه غلط في تأويلها لأن تأويلها

__________________

(١) سورة : الحج ، الآية : ٥٢

(٢) قلت الأول الذي حكاه يتناول معنى الرفع وبه قال ابن سلامة مقتصرا عليه .. قال النسخ في كلام العرب هو الرفع للشيء وجاء الشرع بما تعرف العرب اذ كان الناسخ يرفع حكم المنسوخ فليتأمل.

(٣) قلت هكذا ضبط بالاصل وقد تقدم في باب الترغيب في تعلم الناسخ والمنسوخ بلفظ بن دسيم مكررا فلا أدري أهو هو أم هذا غيره وكلا الاسمين لم أقف له على ذكر فليحرر.

(٤) سورة : الحج ، الآية : ٥٢

(٥) سورة : الإسراء ، الآية : ٨٦

١٠

على النسيان لا على النسخ .. وقد تأول مجاهد وقتادة أو ننسأها على هذا من النسيان وهو معنى قول سعد بن أبي وقاص وفيه قولان آخران عن ابن عباس قال ما ننسخ من آية نرفع حكمها أو ننسأها نتركها فلا ننسخها وقيل ننسأها نبيح لكم تركها وعلى قراءة البصريين ننسأها أحسن ما قيل في معناه أو نتركها ونؤخرها فلا ننسخها .. ونسخ ثالث وهو من نسخت الكتاب لم يذكر أبو عبيد إلا هذه الثلاثة .. وذكر غيره رابعا قال تنزل الآية وتتلى في القرآن ثم تنسخ فلا تتلى في القرآن ولا تثبت في الخط ويكون حكمها ثابتا .. كما روى الزهري عن عبد الله بن عباس قال خطبنا عمر بن الخطاب قال كنا نقرأ الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة [ قال أبو جعفر ] وإسناد الحديث صحيح إلا أنه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ولكنه سنة ثابتة .. وقد يقول الإنسان كنت اقرأ كذا لغير القرآن .. والدليل على هذا أنه قال ولو لا أني أكره أن يقال زاد عمر في القرآن لزدته (١).

باب

الفرق بين النسخ والبداء

(٢) الفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العباد من شيء قد كان حلالا فحرم أو كان

__________________

(١) قلت ساق هذا الحديث ابن سلامة وغيره ونص ابن سلامة وقد جعله ثاني الأضرب الثلاثة التي اقتصر عليها وحصر وجوه النسخ بها .. قال وأما ما نسخ خطه وبقي حكمه فمثل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه انه قال لو لا أن أكره أن يقول الناس ان عمر زاد في القرآن ما ليس فيه لكتبت آية الرجم وأثبتها والله لقد قرأتها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ترغبوا عن آبائكم فان ذلك كفر بكم الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم .. قلت والنسخ الأول الذي حكاه ابن سلامة هو النسخ الثاني الذي زعمه أبو عبيد .. قال وهو ما نسخ خطه وحكمه ومثل له بما روي عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أنه قال .. كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة نعدلها بسورة التوبة ما أحفظ منها غير آية واحدة وهي لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى اليهما ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى اليه رابعا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب .. الثالث ما نسخ حكمه وبقي خطه وهو النسخ الأول الذي أورده المؤلف .. انتهى.

(٢) قلت قد أشار المصنف رحمة الله تعالى في مقدمة كتابه الى أنه سيذكر الفرق بين النسخ والبداء لمعارضة اليهود والجهال فيه .. وقد وفى فيما أتى به هنا ولكني وجدت في ذلك كلاما لابن حزم أذكره هنا .. قال وأنكر اليهود النسخ وقالوا أنه يؤذن بالغلط والبداء وهم قد غلطوا لأن النسخ رفع عبادة قد علم الأمر أن بها خيرا ثم أن للتكليف بها غاية ينتهي إليها ثم يرفع الإيجاب .. والبداء هو الانتقال عن المأمور به بأمر حادث لا بعلم سابق ولا يمتنع جواز النسخ عقلا لوجهين أحدهما أن للأمر أن يأمر بما شاء وثانيهما أن النفس اذا مرنت على أمر ألفته فاذا نقلت عنه الى غيره شق عليها لمكان الاعتياد المألوف فيظهر منها إذعان الانقياد لطاعة الآمر انتهى بتصرف قليل.

١١

حراما فيحلل أو كان مطلقا فيحظر أو كان محظورا فيطلق أو كان مباحا فيمنع أو ممنوعا فيباح إرادة الاصلاح للعباد .. وقد علم الله جل ثناؤه العاقبة في ذلك وعلم وقت الأمر به أنه سينسخه الى ذلك الوقت فكان المطلق على الحقيقة غير المحظور .. والصلاة كانت إلى بيت المقدس إلى وقت بعينه ثم حظرت فصيرت الى الكعبة .. وكذا قوله ( إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) (١) قد علم عز وجل أنه إلى وقت بعينه ثم ينسخه في ذلك الوقت .. وكذا تحريم السبت كان في وقت بعينه على قوم ثم نسخ وأمر قوم آخرون بإباحة العمل فيه .. وكان الأول المنسوخ حكمة وصوابا ثم نسخ وأزيل بحكمة وصواب كما تزال الحياة بالموت وكما تنقل الأشياء .. وكذلك لم يقع النسخ في الأخبار لما فيها من الصدق والكذب .. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه كقولك فامض الى فلان ثم تقول لا تمض إليه فيبدو لك عن القول وهذا يلحق البشر لنقصانهم .. وكذا إن قلت ازرع كذا في هذه السنة ثم قلت لا تفعل فهذا البداء .. وان قلت يا فلان ازرع فقد علم أنك تريد مرة واحدة وكذا النسخ اذا أمر الله عز وجل ثناؤه بشيء في وقت نبي أو في وقت يتوقع فيه نبي فقد علم أنه حكمة وصواب إلى أن ينسخ .. وقد نقل من الجماعة من لا يجوز عليهم الغلط نسخ شرائع الأنبياء عليهم‌السلام من لدن آدم عليه‌السلام إلى وقت نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين نقلوا علامات الأنبياء عليهم‌السلام .. وقد غلط جماعة في الفرق بين النسخ والبداء كما غلطوا في تأويل الأحاديث حملوها على النسخ أو على غير معناها.

باب

ذكر بعض الاحاديث

فمن ذلك ما حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال أنبأنا مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت .. كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن فنسخت بخمس معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن مما نقرأ من القرآن .. [ قال أبو جعفر ] فتنازع العلماء هذا الحديث لما فيه من الاشكال .. فمنهم من تركه وهو مالك بن أنس وهو راوي الحديث ولم يروه عن عبد الله سواه .. وقال رضعة واحدة تحرم وأخذ بظاهر القرآن قال الله تعالى ( وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ) (٢) .. وممن تركه أحمد بن حنبل

__________________

(١) سورة : المجادلة ، الآية : ١٢.

(٢) سورة : النساء ، الآية : ٢٣

١٢

وأبو ثور قالا يحرم ثلاث رضعات لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « لا تحرّم المصة ولا المصتان » .. [ قال أبو جعفر ] وفي الحديث لفظة شديدة الإشكال وهو قولها فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن مما نقرأ في القرآن .. فقال بعض جلّة أصحاب الحديث قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبد الله بن أبي بكر قلما يذكران هذا فيها وهما القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ويحيى بن سعيد الأنصاري .. وممن قال بهذا الحديث وانه لا يحرم الا بخمس رضعات الشافعي .. وأما القول في تأويل وهن مما نقرأ في القرآن فقد ذكرنا رد من رده ومن صححه قال الذي نقرأ من القرآن واخواتكم من الرضاعة .. وأما قول من قال إن هذا كان يقرأ بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعظيم لأنه لو كان مما يقرأ لكانت عائشة رضي‌الله‌عنها قد نبهت عليه ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها الجماعة الذين لا يجوز عليهم الغلط .. وقد قال الله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) (١) وقال ( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (٢) ولو كان بقي منه شيء لم ينقل إلينا لجاز أن يكون ما لم ينقل ناسخا لما نقل فيبطل العمل بما نقل ونعوذ بالله من هذا فإنه كفر .. ومما يشكل من هذا ما رواه الليث بن سعد عن يونس عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال .. قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة والنجم إذا هوى فلما بلغ أفرأيتم اللات والعزى قال فإن شفاعتهم ترتجى فسها فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال إنما ذلك من الشّيطان فأنزل الله عز وجل ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ) (٣) .. الآية وقال قتادة قرئ فإن شفاعتهم ترتجى وإنهم لهم الغرانيق العلا [ قال أبو جعفر ] الحديثان منقطعان والكلام على التأويل فيهما قريب. فقال قوم هذا على التوبيخ ليتوهمون هذا وعندكم إن شفاعتهم ترتجى ومثله وتلك نعمة تمنها عليّ .. وقيل شفاعتهم ترتجى على قولكم ومثله فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ومثله أين شركائي أي على قولكم .. وقيل المعنى والغرانيق العلا يعني الملائكة ترتجى شفاعتهم فسها بذلك عن هذا الجواب .. وقيل إنما قال الله تعالى ألقى الشيطان في أمنيته ولم يقل إنه قال كذا فيجوز أن يكون شيطان من الجن ألقى هذا ومن الإنس. ومما يشكل من هذا الحديث في أن قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو

__________________

(١) سورة : الحجر ، الآية : ٩

(٢) سورة : القيامة ، الآية : ١٧

(٣) سورة : الحج ، الآية : ٥٢

١٣

تخفوه يحاسبكم به الله نسخه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وهذا لا يجوز أن يقع فيه نسخ لأنه خبر ولكن التأويل في الحديث لأن فيه لما أنزل الله ( وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) (١) اشتد عليهم ووقع في قلوبهم منه شيء عظيم فنسخ ذلك ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (٢) أي فنسخ ما وقع في قلوبكم أي أزاله ورفعه. ومن هذا المشكل قوله تعالى ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا ) (٣) الى قوله ( وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ ) (٤) ثم نسخه ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ) (٥) وهذا لا يقع فيه ناسخ ولا منسوخ لأنه خبر ولكن تأويله إن صح نزل بنسخته (٦) والآيتان واحد يدلك على ذلك ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) (٧) ومن هذا ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (٨) قال عبد الله بن مسعود نسخهما ( فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (٩) أي نزل بنسختهما وهما واحد والدليل على ذلك قول ابن مسعود حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى [ قال أبو جعفر ] هذا لا يجوز أن ينسخ لأن الناسخ هو المخالف للمنسوخ من جميع جهاته الرافع له المزيل حكمه وهذه الاشياء تشرح بأكثر من هذا في موضعها من السور ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٤

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢٨٦

(٣) سورة : الفرقان ، الآية : ٦٨

(٤) سورة : الفرقان ، الآية : ٦٨ ـ ٦٩

(٥) سورة : النساء ، الآية : ٩٣

(٦) قوله نزل بنسخته .. يريد والله أعلم كما قاله الراغب في مادة ( نسخ ) ما نوجده وننزله من قولهم نسخت الكتاب .. وقد تقدم مثله للمصنف عن أبي عبيد وسماه النسخ الثالث.

(٧) سورة : طه ، الآية : ٨٢

(٨) سورة : آل عمران ، الآية : ١٠٢

(٩) سورة : التغابن ، الآية : ١٦

١٤

باب

السور التي يذكر فيها الناسخ والمنسوخ (١)

فأول ذلك السورة التي يذكر فيها البقرة (٢) حدثنا بكر بن سهل قال حدثنا أبو صالح قال حدثنا معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال .. فكان أول ما نسخ الله عز وجل من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما هاجر الى المدينة وكان أكثرها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود بذلك فاستقبلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه‌السلام فكان يدعو الله وينظر الى السماء فأنزل الله تعالى ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) (٣) الى قوله ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ) (٤) شطره يعني نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولا هم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله تعالى ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٥) وقال تعالى ( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ ) (٦) قال ابن عباس ليتميز أهل اليقين من أهل الشرك ، الشرك هنا الشك والريبة [ قال أبو جعفر ] وهذا يسهل في حفظ نسخ هذه الآية ونذكر ما فيها من الإطالة كما شرطنا. فمن ذلك ما قرأ عليّ أحمد بن عمر عن محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى بن حماد وحدثنا جعفر بن مجاشع قال حدثنا إبراهيم بن اسحاق قال حدثنا ابن نمير قال حدثنا يحيى بن حماد قال حدثنا أبو

__________________

(١) فائدة : لم يذكر المصنف رحمه‌الله تعالى السور التي لم يدخلها الناسخ ولا المنسوخ أسوة بغيره ممن صنف في ذلك كابن سلامة وابن حزم فانهما أفردا باب لذلك وكذا أفردا بابا لذكر السور التي دخلها الناسخ ولم يدخلها المنسوخ وكذا التي دخلها المنسوخ ولم يدخلها الناسخ .. وسنأتي على ذكر ذلك في آخر الكتاب في أبواب أخر من متممات هذا العلم لتكون خدمتنا لكتاب الله عز وجل في نشر هذا الكتاب وتسهيله خدمة لا يحتاج المطالع معها الى كتاب آخر ان شاء الله.

(٢) قال ابن سلامة وابن حزم ليس في أم الكتاب ناسخ ولا منسوخ .. وزاد ابن سلامة لأن أولها ثناء وآخرها دعاء .. وحكيا ان سورة البقرة مدنية بلا خلاف وقال ابن سلامة تحتوي على ثلاثين آية منسوخة وقد وافق المصنف في العدد وخالفه في ذكر الآيات وخالفهما ابن حزم .. فقال ففيها ستة وعشرون موضعا ولم يتفقوا الا في بضع عشرة آية وسأذكر أثناء ذلك بعض ما خالفاه فيه وما اختلفا هما فيه.

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ١٤٤

(٤) سورة : البقرة ، الآية : ١٤٤

(٥) سورة : البقرة ، الآية : ١٤٤

(٦) سورة : البقرة ، الآية : ١١٥

١٥

عوانة قال حدثنا الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة الى بيت المقدس والكعبة بين يديه وبعد ما هاجر الى المدينة ستة عشر شهرا ثم صرف الى الكعبة [ قال أبو جعفر ] قال وفي حديث البراء صلّى ستة عشر شهرا أو تسعة عشر شهرا. وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال صرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الى الكعبة في جمادى الأخرى وقال ابن اسحاق في رجب وقال الواقدي في النصف من شعبان [ قال أبو جعفر ] أولاها بالصواب الأول لأن الذي قال به أجل ولأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة في شهر ربيع الاول فاذا صرف في آخر جمادى الأخرى الى الكعبة صار ذلك ستة عشر شهرا كما قال ابن عباس .. وأيضا فاذا صلّى الى الكعبة في جمادى الاخرى فقد صلّى اليها فيما بعدها فعلى قول ابن عباس إن الله عز وجل كان أمره بالصلاة الى بيت المقدس ثم نسخه ..قال غيره بل نسخ فعله ولم يكن أمره بالصلاة الى بيت المقدس ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتبع آثار الأنبياء قبله حتى يؤمر بنسخ ذلك .. وقال قوم بل نسخ قوله .. فأينما تولوا فثم وجه الله بالأمر بالصلاة الى الكعبة [ قال أبو جعفر ] أولى الاقوال بالصواب الأول وهو صحيح والذي يطعن في إسناده يقول ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس وإنما أخذ التفسير من مجاهد وعكرمة [ قال أبو جعفر ] وهذا القول لا يوجب طعنا لأنه أخذه عن رجلين ثقتين وهو في نفسه ثقة صدوق. وقد حدثني أحمد بن محمد الأزدي قال سمعت عليّ بن الحسين يقول سمعت الحسن بن عبد الرحمن بن فهم يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول بمصر كتاب التأويل عن معاوية بن صالح (١) لو أن رجلا رحل الى مصر فكتبه ثم انصرف به ما كانت رحلته عندي تذهب باطلا .. فأما أن تكون الآية ناسخة لقوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) فبعيد لأنها تحتمل أشياء سنبينها في ذكر الآية الثانية.

باب

ذكر الآية الثانية من هذه السورة

قال الله تعالى ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (٢) .. وللعلماء في هذه ستة أقوال .. قال قتادة هي منسوخة وذهب الى أن المعنى

__________________

(١) قلت يتوجه ذكر هذا تعديلا من الإمام أحمد لابن أبي طلحة على أنه قال فيه له أشياء منكرات حكي ذلك عنه في الخلاصة والله أعلم.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١١٥

١٦

صلوا كيف شئتم فإن المشرق والمغرب لله عز وجل فحيث استقبلتم فثم وجه الله لا يخلو منه مكان كما قال تعالى ( ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ ) (١) .. قال ابن زيد كانوا ينحون أن يصلوا الى أي قبلة شاءوا لأن المشارق والمغارب لله جل ثناؤه فأنزل الله تعالى فأينما تولوا فثم وجه الله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله تعالى يعني بيت المقدس فصلوا إليه فصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه بضعة عشر شهرا فقالت اليهود ما اهتدى لقبلة حتى هديناه فكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولهم ورفع طرفه الى السماء فأنزل الله تعالى ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) » (٢) [ قال أبو جعفر ] فهذا قول .. وقال مجاهد في قوله تعالى ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) معناه أينما تولوا من مشرق أو مغرب فثم جهة الله التي أمر بها وهي استقبال الكعبة فجعل الآية ناسخة وجعل قتادة وابن زيد الآية منسوخة .. وقال إبراهيم النخعي من صلّى في سفر ومطر وظلمة شديدة الى غير القبلة ولم يعلم فلا إعادة عليه فأينما تولوا فثم وجه الله .. والقول الرابع أن قوما قالوا لما صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النجاشي صلّى عليه وكان يصلي الى غير قبلتنا فأنزل الله عز وجل ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) (٣) .. والقول الخامس أن المعنى أدعوا كيف شئتم مستقبلي القبلة وغير مستقبليها فأينما تولوا فثم وجه الله يستجيب لكم .. والقول السادس من أجلها قولا وهو أن المصلي في السفر على راحلته النوافل جائز له أن يصلي الى قبلة والى غير قبلة [ قال أبو جعفر ] وهذا القول عليه فقهاء الأمصار ويدلك على صحته أنه قرأ على أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى وعمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن عبد الملك قال حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي وهو مقبل من مكة الى المدينة على دابته وفي ذلك أنزل الله ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (٣) قال أنبأنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن عبد الله بن دينار وعن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي على راحلته حيثما توجهت به [ قال أبو جعفر ] والصواب أن يقال إن الآية ليست بناسخة ولا منسوخة لأن العلماء قد تنازعوا القول فيها وهي محتملة لغير النسخ وما كان محتملا لغير النسخ لم يقل فيه ناسخ ولا منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها .. فأما ما كان يحتمل المجمل والمفسر والعموم

__________________

(١) سورة : المجادلة ، الآية : ٧

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ١٤٤

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ١١٥

١٧

والخصوص فعن النسخ بمعزل ولا سيما مع هذا الاختلاف وقد اختلفوا أيضا في الآية الثالثة (١).

باب

ذكر الآية الثالثة من هذه السورة

قال الله جل من قائل ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (١) الآية [ قال أبو جعفر ] أما ما ذكر في الحديث فالصلاة الوسطى صلاة العصر .. ويقال إن هذا نسخ أي رفع .. ويقال إن هذه قراءة على التفسير أي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر .. فأما ( وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) (٢) فمن الناس من يقول القنوت القيام .. ومنهم من يقول القنوت بحديث عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال .. « كل قنوت في القرآن فهو طاعة » .. وقال قوم وقوموا لله قانتين ناسخ للكلام في الصلاة [ قال أبو جعفر ] فهذا أحسن ما قيل فيه. كما قرأ عليّ أحمد بن شعيب عن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن اسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم .. قال كنا نتكلم في الصلاة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتكلم أحد منا بحاجته حتى نزلت ( وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) فنهينا حينئذ عن الكلام [ قال أبو جعفر ] وهذا اسناد صحيح وهو موافق للقول الاول ان القنوت الطاعة أي قوموا مطيعين فيما أمركم به من ترك الكلام في الصلاة فصح أن الآية ناسخة للكلام في الصلاة [ قال أبو جعفر ] فهذا ما في هذه السورة من الناسخ والمنسوخ في أمر الصلاة وهي ثلاث آيات والآية الرابعة في القصاص.

باب

ذكر الآية الرابعة

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ) (٣) الى آخر

__________________

(١) قال ابن حزم .. والآية الرابعة قوله تعالى ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) هذا محكم منسوخ منها قوله ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) الآية وناسخها قوله تعالى ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) .. وكذا قال ابن سلامة وهي عنده الآية الخامسة .. وحكى ذلك أيضا الواحدي في أسباب النزول معتمدا على رواية ابن أبي طلحة.

(٢) سورة : البقرة ، الآية : ٢٣٨

(٣) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٨

١٨

الآية .. في هذه الآية موضعان أحدهما الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فيه خمسة أقوال .. منها ما حدثنا عليل بن أحمد قال حدثنا محمد بن هشام السدوسي قال حدثنا عاصم بن سليمان قال حدثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس .. الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى قال نسختها وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس .. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال كان الرجل لا يقتل بالمرأة ولكن يقتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فنزلت ان النفس بالنفس [ قال أبو جعفر ] فهذا قول .. وقال الشعبي نزلت في قوم تقاتلوا فقتل بينهم خلق فنزل هذا لأنهم قالوا لا يقتل بالعبد منا إلا الحر ولا بالأنثى إلا الذكر .. وقال السدي في الفريقين وقعت بينهم قتلى فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقاص بينهم ديات النساء بديات النساء وديات الرجال بديات الرجال .. والقول الرابع قول الحسن البصري رواه عنه قتادة وعوف وزعم أنه قول عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه .. قال هذا على التراجع اذا قتل رجل امرأة كان أولياء المرأة بالخيار إن شاء واقتلوا الرجل وأدوا نصف الدية وان شاءوا أخذوا الدية كاملة واذا قتل رجل عبدا فإن شاء مولى العبد أن يقتل الرجل ويؤدي بقية الدية بعد ثمن العبد (١) واذا قتل عبد رجلا فان شاء أولياء الرجل أن يقتلوا العبد ويأخذوا بقية الدية وان شاءوا أخذوا الدية .. والقول الخامس أن الآية معمول بها بقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى بهذه الآية وبقتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل والحر بالعبد والعبد بالحر لقوله تعالى ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (٢) وبقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « الذي تقتله الجماعة المؤمنون تتكافأ دماؤهم » فهو صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. كما قرأ عليّ أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن قيس ابن عباد قال .. انطلقت أنا والاشتر الى عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقلنا هل عهد اليك نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس قال لا إلا ما في كتابي هذا فأخرج كتابا من قراب سيفه فاذا فيه المؤمنون تكافأ دماؤهم وهم يد على ما سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا

__________________

(١) قلت : هذا على ان دية العبد على النصف من دية الحر .. والمحفوظ عن علي رضي‌الله‌عنه كما حكاه الامام أبو بكر أحمد بن عمرو النبيل وأبو عاصم الضحاك في كتاب الديات له بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان أبا بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما كانا يقولان الحر يقتل بالعبد .. وقال وروي عن علي وعبد الله ( أي ابن عمر ) انهما قالا اذا قتل الحر العبد فهو قود .. ثم قال وحدثنا عن عبد الرحيم عن ليث عن الحكم وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي مثله.

(٢) سورة : الإسراء ، الآية : ٣٣

١٩

يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثا فعلى نفسه ومن آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ قال أبو جعفر ] فسوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المؤمنين في الدنيا شريفهم ووضيعهم وحرهم وعبدهم .. وهذا قول الكوفيين في العبد خاصة .. فأما في الذكر والأنثى فلا اختلاف بينهم الا ما ذكرناه من التراجع .. والموضع الآخر ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) (١) الآية .. قيل هي ناسخة لما كان عليه بنو اسرائيل من القصاص بغير دية. كما حدثنا أحمد بن محمد بن نافع قال حدثنا سلمة قال حدثنا عبد الرزاق قال أنبأنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عباس .. قال كان القصاص في بني اسرائيل ولم تكن الدية فقال الله عز وجل لهذه الأمة ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) قال عفوه أن يقبل الدية في العمد واتباع بالمعروف من الطالب ويؤدي اليه المطلوب باحسان ( ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) (٢) عما كتب على من كان قبلكم [ قال أبو جعفر ] يكون التقدير فمن صفح له عن الواجب عليه من الدم فأخذت منه الدية .. وقيل عفي بمعنى كثر من قوله عز وجل حتى عفوا .. وقيل كتب معنى فرض على التمثيل وقيل كتب عليكم في اللوح المحفوظ (٣) .. وكذا كتب في آية الوصية وهي الآية الخامسة.

باب

ذكر الآية الخامسة

قال جل ثناؤه ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٤) في هذه الآية خمسة أقوال .. فمن قال ان

__________________

(١) سورة : البقرة ، الآية : ١٧٨

(٢) قلت قوله حتى عفوا .. هكذا وقع لنا في الأصل وأما عفا بمعنى كثر فقد حكاه الراغب في مفرداته وابن الاثير في نهايته ومثلا له بحديث أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم باعفاء اللحى وهو أن يوفر شعرها فلا يقصه من عفا الشيء اذا كثر.

(٣) قلت قال ابن حزم وابن سلامة قوله تعالى ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ) قالا الى هنا موضع النسخ وباقي الآية محكم قالا واللفظ لابن سلامة وأجمع المفسرون على نسخ ما فيها من المنسوخ واختلفوا في ناسخها فقال العراقيون وجماعة ناسخها الآية التي في المائدة وهي قوله تعالى ( وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) الآية وقال الحجازيون وجماعة ناسخها الآية التي في بني اسرائيل ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ) قالا وقتل الحر بالعبد اسراف وكذلك قتل المسلم بالكافر .. ثم حكى ابن سلامة قول العراقيين بجواز قتل المسلم.

(٤) سورة : البقرة ، الآية : ١٨٠

٢٠