الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

اسلام الموسوي

الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

المؤلف:

اسلام الموسوي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧

إنِّي لأرجو أن أُقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقىٰ

صيتها بعد الهزاهز»

فلمَّا انتهىٰ إليه قال : « يا عمرو إنَّك في الجاهلية تقول : لا يدعوني أحدٌ إلىٰ ثلاث إلَّا قبلتها، أو واحدة منها ». قال : أجل. قال : « فإنِّي أدعوك إلىٰ شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، وأن تُسلم لربِّ العالمين ». قال : يا ابن أخ، أخِّر هذه عنِّي. فقال له عليٌّ : « أمَّا إنَّها خيرٌ لك لو أخذتها ».

ثُمَّ قال : « فها هنا أُخرىٰ » قال : ما هي ؟ قال : « ترجع من حيث جئت ». قال : لا تَحدَّث نساء قريش بهذا أبداً.

قال : « فها هنا أُخرىٰ ». قال : ما هي ؟ قال : « تنزل تقاتلني » فضحك عمرو وقال : إنَّ هذه الخصلة ما كنت أظنَّ أنَّ أحداً من العرب يرومني مثلها، إنِّي لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، وقد كان أبوك لي نديماً (١).

قال عليٌّ عليه‌السلام : « ولكنِّي أُحبُّ أن أقتلك، فانزل إن شئت ».

فغضب عمرو ونزل فضرب وجه فرسه حتىٰ رجع (٢)، وحمل علىٰ عليٍّ عليه‌السلام وضربه علىٰ رأسه فاتَّقاها بالدرقة، فقدَّها السيف ونفذ منها إلىٰ رأسه فشجَّه، وبقي محتفظاً بثباته، وتوالت عليه الضربات وهو يحيد عنها، ثُمَّ كرَّ عليه عليٌّ عليه‌السلام فضربه علىٰ حبل عاتقه ضربةً كان دويُّها كالصاعقة،

_______________________

١) قال أبو الخير أستاذ أبن أبي الحديد : «والله ما طلب عمرو الرجوع من عليٍّ إلّا خوفاً منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأُحد، وعلم إن هو بارز علياً قتله عليٌّ، فاستحىٰ أن يظهر الفشل، فأظهر هذا الإدِّعاء، وإنَّه لكاذب». أنظر فضائل الإمام علي : ١١٣.

٢) الارشاد ١ : ١٠٢، وإعلام الورىٰ ١ : ٣٨١.

٨١

ارتجَّ له العسكران، فسقط يخور بدمه كالثور، وارتفعت غبرة حالت بينهما وبين الجيشين.

علىٰ أنَّ هناك رواية أُخرىٰ (١) تذهب إلىٰ أن الامام ضرب عمراً علىٰ ساقيه فقطعهما جميعاً، فسقط الى الأرض، فأخذ عليٌّ عليه‌السلام بلحيته وذبحه، وأخذ رأسه بيده هدية إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وأقبل والدماء تسيل علىٰ وجهه من ضربة عمرو، ورأس عمرو بيده يقطر دماً، وكان وجه علي عليه‌السلام يتهلَّل فرحاً، فألقاها بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليٍّ عليه‌السلام، فعانقه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ودعا له، فقال عمر بن الخطَّاب لعليٍّ عليه‌السلام : هلا استلبت درعه، فليس للعرب درع خير منها؛ فقال عليٌّ : « ضربته فاتَّقاني بسوأته فاستحييت أن أسلبه ».

وعلىٰ أيِّ حال فقد علت أصوات المسلمين بالتكبير، بعد أن أصابهم الخوف في بادئ الأمر، وانهزم الذين كانوا مع عمرو بن عبد ودٍّ، واقتحمت خيولهم الخندق، وكبا بنوفل بن عبدالله بن المغيرة فرسه، فجعلوا يرمونه بالحجارة، فقال لهم : قتلة أجمل من هذه، ينزل إليَّ بعضكم أقاتله، فنزل إليه عليٌّ عليه‌السلام فضربه حتَّىٰ قتله، وبعث الله عليهم ريحاً في ليالٍ شاتية شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم، فانصرفوا هاربين لا يلوون علىٰ شيء، حتَّىٰ ركب أبو سفيان ناقته وهي معقوله! فلمَّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الله ذلك : قال : « عوجل الشيخ ».

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في قتل عليٍّ عليه‌السلام لعمرو : « لضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».

_______________________

١) ارشاد القلوب ٢ : ٢١٨.

٨٢

قال جابر : «فما شبهت قتل عليٍّ عمراً إلَّا بما قصَّ الله تعالىٰ من قصة داود وجالوت، حيث قال : ( فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ) (١) » (٢).

نعم لقد قلبت ضربة عليٍّ عليه‌السلام لعمرو الوضع تماماً، بعدما كان النصر حليف قريش بقوَّتها الجبَّارة، وصدق سبحانه حيث قال : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً ) (٣).

بسيف عليٍّ عليه‌السلام كان النصر حليف المسلمين وهنا يسكت القلم، ولا يدري ماذا يكتب عن شجاعة ابن أبي طالب عليه‌السلام فقد كفىٰ الله المؤمنين القتال به عليه‌السلام.

ولمَّا نُعي عمرو بن عبد ودٍّ إلىٰ أخته عمرة، قالت : مَن قتله؟ ومن الذي اجترأ عليه؟ فقيل لها : قتله عليُّ بن أبي طالب. فقالت : لقد قتل الأبطال وبارز الأقران، وكانت ميتته علىٰ يد كفءٍ كريم من قومه، وأنشأت تقول :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكي عليه دائم الأبد

لكنَّ قاتله من لا يعاب به

قد كان يدعىٰ أبوه بيضة البلد

من هاشم في ذراها وهي صاعدة

إلىٰ السماء تميت الناس بالحسد

قوم أبى الله إلَّا أن تكون لهم

كرامة الدين والدنيا بلا لدد

يا أم كلثوم ابكيه ولا تدعي

بكاء معولة حرّىٰ علىٰ ولد (٤)

هكذا اكتسح عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام فرسان المعارك وشجعان الفلا..

_______________________

١) سورة البقرة : ٢٥١.

٢) انظر إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٢.

٣) سورة البقرة : ٢٤٩.

٤) ارشاد القلوب ٢ : ٢١٨ بتفاوت.

٨٣

حتَّىٰ لم يعد له مثيل بين أبطال العرب، يسابق الأسود، ويقطع الرؤوس، ولا يخاف في الله لومة لائم، فهو الوحيد الذي بدَّد آمال الأحزاب في الخندق، وبثَّ في صفوفهم الرعب، وهنا أنزل الله تعالىٰ علىٰ رسوله الآية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) (١).

وقعة بني قريظة :

بنو قريظة : هي فخذ من جذام اخوة النضير، ويقال : إنَّ تهوُّدهم كان في أيام عاديا أبي السموأل، ثُمَّ نزلوا بجبل يقال له : قريظة، فنُسبوا إليه، وقد قيل : إنَّ قريظة اسم جدِّهم بعقب الخندق (٢).

وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة خمس (٣) من الهجرة، وكان بين بني قريظة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلح فنقضوه، ومالوا مع قريش، فوجَّه إليهم سعد بن معاذ وعبدالله بن رواحه وخوَّات بن جُبير، فذكَّرهم العهد وأساءوا الإجابة، فلمَّا انهزمت قريش يوم الخندق دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليَّاً عليه‌السلام، فقال له : « قدِّم راية المهاجرين إلىٰ بني قريظة » وقال : « عزمت عليكم ألَّا تصلُّوا العصر إلَّا في بني قريظة » ثُمَّ سار إليهم في المسلمين وهم ثلاثة آلاف، والخيل ستة وثلاثون فرساً، وذلك يوم الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة.

_______________________

١) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٩.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٢.

٣) طبقات ابن سعد ٢ : ٥٧.

٨٤

وحاصر المسلمون بني قريظة شهراً أو خمساً وعشرين ليلة (١) أشدَّ الحصار.. فدنا منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقيه عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : « يارسول الله لا تدنُ »، فقال : « أحسب أنَّ القوم أساءوا القول »، فقال : « نعم يا رسول الله »، فيقال : إنَّه قال بيده كذا وكذا، فانفرج الجبل حين رأوه، وقال : « يا عبدة الطاغوت، يا وجوه القردة والخنازير، فعل الله بكم وفعل ».. فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياماً حتَّىٰ نزلوا علىٰ حكم سعد بن معاذ الأنصاري، وقد حكم انَّه تقتل مقاتلتهم، وتُسبىٰ ذراريهم، وتجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال رسول الله : « لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ـ سماوات ـ ».

ومن مواقف أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي التي تعنينا بالبحث : انَّه ضرب أعناق رؤوساء اليهود أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، منهم : حُيي بن أخطب، وكعب بن أسد، بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

عمرة الحديبية :

خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعمرة في ذي القعدة سنة ست للهجرة (٣)، ومعه ألف وأربعمئة (٤) من أصحابه، وساقَ من الهدي سبعين بدنة (٥)، كما ساق أصحابه أيضاً. ومعهم السيوف في أغمادها، وأعلن في أكثر أنحاء

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٢ : ٧٥.

٢) انظر إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٢.

٣) الطبقات الكبرىٰ لابن سعد ٢ : ٧٢.

٤) الكامل في التاريخ ٢ : ٨٦.

٥) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٤.

٨٥

الجزيرة بأنَّه لا يريد حرباً ولا قتالاً، وبلغ المشركين خروجه، فأجمع رأيهم علىٰ صدِّه عن المسجد الحرام..

فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، بأصحابه حتَّىٰ دنا من الحديبية، وهي علىٰ تسعة أميال من مكَّة، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأىٰ في المنام أنَّه دخل البيت وحلق رأسه وأخذ المفتاح (١).

أرسلت إليه قريش مِكرز بن حفص، فأبىٰ أن يكلِّمه، وقال : « هذا رجل فاجر »، فبعثوا إليه الحُليس بن علقمة من بني الحارث بن عبد مناة، وكان من قوم يتألَّهون، فلمَّا رأىٰ الهدي قد أكلت أوبارها، رجع؛ فقال : يا معاشر قريش إنِّي قد رأيت ما لا يحلُّ صدُّه عن البيت..

وكان آخر من بعثوا سهيل بن عمرو ليصالحه علىٰ أن يرجع عنهم عامه ذلك، فأقبل إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلَّم رسول الله وأرفقه، ثُمَّ جرىٰ بينهم الصلح، فدعا رسول الله عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : « أكتب بسم الله الرحمن الرحيم » (٢)، فقال سهيل : لا نعرف هذا ولكن اكتب.. باسمك اللَّهمَّ، فكتبها. وقيل : قال عليه‌السلام : « لولا طاعتك يا رسول الله لما محوت ».

ثُمَّ قـال : « اكتب : هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله سهيل بن عمرو » (٣) فقال سهيل : لو نعلم أنَّك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال لعليٍّ : « امحُ رسول الله » فقال : « لا أمحوك

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٤.

٢) حسب رواية ابن الأثير في الكامل في تاريخ ٢ : ٩٠.

٣) إعلام الورىٰ ١ : ٣٧٢.

٨٦

أبداً » (١)، فمحاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وقال له موضع رسول الله : محمَّد بن عبدالله، وقال لعليٍّ : « لتبلينَّ بمثلها » (٢)، واصطلحا علىٰ وضع الحرب عن الناس عشر سنين، وانَّه من أتىٰ منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير إذن وليِّه ردَّه إليهم، ومن جاء قريشاً ممَّن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يردُّوه عليه، ومن أحبَّ أن يدخل في عهد رسول الله دخل (٣)...

روىٰ ربعي بن خراش عن أمير المؤمنين عليه‌السلام، أنَّه قال :

« أقبل سهيل بن عمرو ورجلان ـ أو ثلاثة ـ معه إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديبية، فقالوا له : إنَّه يأتيك قوم من سلفنا وعبداننا فارددهم علينا، فغضب حتَّىٰ احمارَّ وجهه، وكان إذا غضب عليه‌السلام يحمارُّ وجهه، ثُمَّ قال : لتنتهنَّ يا معشر قريش، أو ليبعثن الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه للإيمان، يضرب رقابكم وأنتم مجفلون عن الدين. فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا، قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا، ولكنَّه ذلكم خاصف النعل في الحُجرة. وأنا خاصف نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحُجرة ».

ثمَّ قال عليٌّ عليه‌السلام : « أما انَّه قد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كذب عليَّ متعمَّداً فليتبوَّأ مقعده من النار » (٢).

_______________________

١) ذكر في إعلام الورىٰ ١ : ٣٧٢ انَّه قال : «إنَّه والله لرسول الله علىٰ رغم أنفك»، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «امحها يا علي»، فقال له : «يا رسول الله، إنَّ يدي لا تنطلق تمحو اسمك من النبوَّة».

٢) «ستدعىٰ إلىٰ مثلها فتجيب، وأنت علىٰ مضض»، كذا ذكرها مسلم في صحيحه ٣ : ١٤٠٩ / ٩٠.

٣) انظر تفاصيل ذلك في : الكامل في التاريخ ٢ : ٩٠، طبقات ابن سعد ٢ : ٧٤.

٤) صحيح الترمذي ٥ : ٦٣٤ / ٣٧١٥، إرشاد المفيد ١ : ١٢٢، مستدرك الحاكم ٤ : ٢٩٨، إعلام الورىٰ ٢ : ٢٧٣، باختلاف.

٨٧

وقعة خيبر :

غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، خيبر في جمادىٰ الأولىٰ سنة سبع من مهاجره، وهي علىٰ ثمانية بُرُد من المدينة (١)، أي أربعة ليال ـ علىٰ التقريب ـ (٢)، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالتهيُّؤ لغزوة خيبر، وخرج معه ألف واربعمائة رجل، معهم مائتا فارس، وأعطىٰ لواءه لعليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام (٣).

ومضىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، يجدُّ السير باتِّجاه خيبر، ونزل عليها ليلاً، ولم يعلم أهلها، فخرجوا عند الصباح إلىٰ عملهم بمساحيهم، فلمَّا رأوه عادوا، وقالوا : محمَّد والخميس، يعنون الجيش، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الله أكبر خربت خيبر، إنَّا إذا نزلنا بساحة قوم ( فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ ) ! » (٤).

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سلَّم أبابكر راية الجيش، ولكنَّ أبابكر عاد بالراية دون أن يصنع شيئاً فرجع، ثُمَّ جعل القيادة لعمر بن الخطَّاب بعده، قال الطبري والحاكم : فعاد يجبّن أصحابه ويجبنونه (٥)، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « والله لأعطينَّها غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله (٦)،

_______________________

١) طبقات ابن سعد ٢ : ٨١.

٢) فضائل الإمام علي : ١١٦.

٣) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٨١.

٤) انظر الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٠، طبقات ابن سعد ٢ : ٨١.

٥) تاريخ الطبري ٣ : ٩٣، المستدرك وتلخيصه للذهبي ٣ : ٣٧.

٦) طبقات ابن سعد ٢ : ٨٥، وزاد علىٰ ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون) : ٢٢٨ :

٨٨

يأخذها عنوةً » (١). وفي رواية أخرى : « لأُعطينَّ الرآية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله علىٰ يديه ليس بفرّار » (٢).

فتطاولت لذلك الأعناق ورجا كلُّ واحد أن يكون المقصود بهذا القول.

وفيها جاء عن عمر بن الخطَّاب انَّه قال : فما أحببت الإمارة قبل يومئذٍ، فتطاولت لها واستشرفت رجاء أن يدفعها إليَّ، فلمَّا كان الغد دعا عليَّاً فدفعها إليه، فقال : « قاتل ولا تلتفت، حتىٰ يفتح الله عليك » (٣).

وفي تفصيل الخبر أن علياً عليه‌السلام كان قد أُصيب بالرمد، فبصق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عينيه، ثم أعطاه الراية (٤)، فما شكا وجعاً حتَّىٰ مضىٰ لسبيله، فنهض بالراية وعليه حلَّة حمراء (٥)، إنطلق مهرولاً، فركز رايته بين حجرين أمام الحصن، فأشرف عليه رجل من يهود يخطر بسيفه، فقال له : مَن أنت؟ قال : « أنا عليُّ بن أبي طالب »، فقال اليهودي : غُلبتم يا معشر يهود، وخرج مرحب اليهودي، صاحب الحصن، وعليه مغفر يماني، قد نقبه مثل البيضة علىٰ رأسه، وكان مزهوّاً بشجاعته وبطولاته، خرج يتبختر في

_______________________

«ويفتح الله علىٰ يديه»، صحيح البخاري ـ كتاب الفضائل ٥ : ٨٧ / ١٩٧ و١٩٨، صحيح مسلم ـ كتاب الفضائل ٤ : ١٨٧١ / ٣٢ ـ ٣٤، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٨ / ٣٧٢٤، سنن ابن ماجة ١ : ٤٣ / ١١٧، مسند أحمد ١ : ١٨٥، ٥ : ٣٥٨، المستدرك ٣ : ١٠٩، الخصائص للنسائي : ٤ ـ ٨، تاريخ الاسلام للذهبي ـ المغازي : ٤٠٧، الاستيعاب ٣ : ٣٦.

١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٠١.

٢) ابن هشام / السيرة البوية ٣ : ٢٦٧ (ذكر المسير إلىٰ خيبر).

٣) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٨٤.

٤) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ٨٥، سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدون) : ٢٢٨.

٥) ابن الأثير في تاريخه : ١٠١.

٨٩

مشيته، وهو يقول :

قد علمت خيبرُ أنِّي مرحبُ

شاكي السلاح بطلٌ مجرَّبُ

اذا الحروبُ أقبلتْ تلهَّبُ

فقال عليٌّ صلوات الله عليه وبركاته :

« أنا الذي سمَّتني أُمِّي حيدرة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة

ليثُ بغاباتٍ شديدٌ قسورة» (١)

فاختلفا ضربتين، فبدره عليٌّ عليه‌السلام فضربه فقدَّ الجحفة والمغفر ورأسه، وشقَّه نصفين حتىٰ وصل السيف إلىٰ أضراسه، فوقع علىٰ الأرض، وكان لضربته عليه‌السلام دويٌّ كدوي الصاعقة، فلمَّا رأىٰ اليهود صنيع عليٍّ عليه‌السلام بفارسهم مرحب ولَّوا هاربين، وكان الفتح علىٰ يديه عليه‌السلام.

قال أبو رافع مولىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خرجنا مع عليٍّ عليه‌السلام حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برايته إلىٰ خيبر، فلمَّا دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم، فضربه يهوديٌّ فطرح ترسه من يده، فتناول عليٌّ عليه‌السلام باباً كان عند الحصن فتترَّس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل، حتىٰ فتح الله عليه، ثُمَّ ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر سبعة، أنا ثامنهم، نجهد علىٰ أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه» (٢).

وقيل : «إنَّ الباب كان حجارة طوله أربع أذرع في عرض ذراعين في سمك ذراع، فرمىٰ به عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام خلفه ودخل الحصن ودخله

_______________________

١) انظر : ابن الأثير في تاريخه ٢ : ١٠١، وابن سعد في طبقاته ٢ : ٨٥، مع اختلاف يسير.

٢) ابن الأثير في تاريخه ٢ : ١٠٢.

٩٠

المسلمون» (١).

ومهما يكن الحال فإن دلَّت هذه الروايات علىٰ شيءٍ، فإنَّما تدلُّ علىٰ شجاعة الإمام وقدرته الخارقة العجيبة في بدنه، مع قوة إلهيّة معنوية عالية، وعليٌّ عليه‌السلام نفسه يقول عن هذا الحادث : « والله ما قلعت باب الحصن بقوَّة جسدية، ولكن بقوَّة ربَّانية » (٢).

وعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : «لمَّا قدم عليٌّ عليه‌السلام علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح خيبر قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لولا أن يقول فيك طوائف من أُمَّتي ما قالت النصارىٰ في عيسىٰ بن مريم، لقلت فيك اليوم قولاً لا تمرُّ بملأ إلَّا أخذوا من تراب رجليك ومن فضل طهورك فيستشفون به، ولكن حسبك أن تكون منِّي وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنَّك منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي، وأنَّك تؤدِّي ذمَّتي، وتقاتل علىٰ سُنَّتي، وأنَّك في الآخرة غداً أقرب الناس منِّي، وأنَّك غداً علىٰ الحوض خليفتي... إلى آخره ».

فخرَّ عليٌّ عليه‌السلام ساجداً، ثُمَّ قال : « الحمد لله الذي منَّ عليَّ بالإسلام، وعلَّمني القرآن، وحبَّبني إلىٰ خير البريَّة، خاتم النبيِّين وسيِّد المرسلين، إحساناً منه إليَّ، وفضلاً منه عليَّ ».

فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ذلك : « لولا أنت يا عليُّ لم يُعرف المؤمنون بعدي »» (٣).

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٦، وانظر : سير أعلام النبلاء (الخلفاء الراشدين) : ٢٢٩.

٢) ارشاد القلوب ٢ : ٢١٩.

٣) إعلام الورىٰ ١ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧، ابن المغازلي / المناقب : ٢٢٧ / ٢٨٥ وقطعة منه في مجمع الزوائد ٩ :

٩١

وقعة ذات السلاسل :

وتسمَّىٰ أيضاً وقعة وادي الرمل. وكان سببها أنَّ عدداً من الأعراب قد اجتمعوا لغزو المدينة ـ في وادي الرمل ـ علىٰ حين غفلة من أهلها، فوفد أعرابي علىٰ نبيِّ الله وأخبره بالأمر، وخرج أمير المؤمنين ومعه لواء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن خرج غيره إليهم، ورجع عنهم خائباً، ثُمَّ خرج صاحبه وعاد بما عاد به الأول (١)، ثُمَّ أرسل عمرو بن العاص (٢)، فعاد كما عاد صاحباه، فمضىٰ عليه‌السلام نحو القوم، يكمن النهار ويسير الليل، حتىٰ وافىٰ القوم بسحر، وصلَّىٰ بأصحابه صلاة الغداة، وصفَّهم صفوفاً واتَّكأ علىٰ سيفه وانقضَّ بمن معه علىٰ القوم علىٰ حين غفلة منهم، وقال : « يا هؤلاء، أنا رسولُ رسولِ الله، أن تقولوا : لا إله إلَّا الله محمَّد رسول الله، وإلَّا ضربتكم بالسيف ».

فقالوا له : إرجع كما رجع صاحباك.

قال : « أنا أرجع! لا والله حتَّىٰ تسلموا، أو لأضربنَّكم بسيفي هذا، أنا عليُّ بن أبي طالب بن عبدالمطَّلب » (٣).

فاضطرب القوم، وأمعنوا بهم قتلاً وأسراً، حتَّىٰ استسلموا له، وتمَّ الفتح علىٰ يده.

_______________________

١٣١، ومناقب الخوارزمي : ٢٢.

١) إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٢.

٢) انظر : الكامل في التاريخ ٢ : ١١٠ وفيها اختلاف حيث لم يذكر من كان قبله!.

٣) الإرشاد ١ : ١١٣ ـ ١١٦، إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٢.

٩٢

وعن أمُّ سلمة قالت : كان نبيُّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً في بيتي ؛ إذ انتبه فزعاً من منامه، فقلت : الله جارك، قال : « صدقت، الله جاري، ولكن هذا جبرئيل يخبرني أنَّ عليَّاً قادم ». ثمَّ خرج إلىٰ الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليَّاً، وقام المسلمون صفَّين مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فلمَّا بصر به عليٌّ عليه‌السلام ترجَّل عن فرسه، وأقبل عليه يقبِّله. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إركب، فإنَّ الله ورسوله عنك راضيان » فبكىٰ عليٌّ عليه‌السلام فرحاً وانصرف إلىٰ منزله.

ونزلت علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة العاديات لهذه المناسبة (١).

فتح مكَّة :

كان الفتح في شهر رمضان، سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). وكان سبب هذه الوقعة : أنَّ قريشاً نقضت الوثيقة التي وقعتها مع النبي في الحديبية، وتمادت في ذلك، حتى ذهبت إلى تحريض حلفائها بني الدؤل من بني بكر علىٰ خزاعة حلفاء النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، واستطاع هؤلاء أن يتغلَّبوا علىٰ خزاعة بمساعدة قريش، فلمَّا وصل الخبر إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عزم علىٰ أن ينصر خزاعة..

فجهّز جيشه وأكد رغبته في التكتيم علىٰ هذا الأمر، لمداهمة قريش في مكة قبل أن تتجهز لحرب، وكان يقول : « اللَّهمَّ خُذ علىٰ أبصارهم فلا يروني إلَّا بغتةً »! (٣)، لكن الأمر تسرّب إلىٰ حاطب بن أبي بلتعة، فكتب كتاباً إلىٰ أهل مكَّة يطلعهم فيه علىٰ سرِّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسير إليهم،

_______________________

١) انظر : إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٣، إرشاد المفيد ١ : ١١٦ ـ ١١٧.

٢) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٠٢.

٣) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٠٢.

٩٣

وأعطىٰ الكتاب أمرأة سوداء وأمرها أن تأخذ علىٰ غير الطريق، فنزل بذلك الوحي.

فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً عليه‌السلام وقال : « إنَّ بعض أصحابي قد كتب إلىٰ أهل مكَّة يخبرهم بخبرنا وقد سألت الله أن يعمّي اخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت علىٰ غير الطريق، فخذ سيفك والحقها وانتزع الكتاب منها » وبعث معه الزبير بن العوَّام.

فمضيا علىٰ غير الطريق، فأدركا المرأة، فسبق إليها الزبير وسألها عن الكتاب فأنكرته، وحلفت أنَّه لا شيء معها، وبكت، فقال الزبير : يا أبا الحسن، ما أرىٰ معها كتاباً. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « يخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها وتقول : إنَّه لا كتاب معها »!

ثمَّ اخترط السيف وقال : « أما والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنَّك ثُمَّ لأضربنّ عنقك ».

فقالت له : اذا كان لابدَّ من ذلك، فأعرض يا ابن أبي طالب عنِّي بوجهك. فأعرض عنها، فكشفت قناعها فأخرجت الكتاب من عقيصتها، فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام وصار به إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ثمَّ مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكَّة في عشرة آلاف مقاتل، وأعطىٰ الراية سعد بن عبادة، وأمره أن يدخل بها مكَّة، فأخذها سعد وجعل يقول :

اليوم يوم المَلحمَه

اليوم تسبىٰ الحُرُمَه

_______________________

١) الارشاد ١ : ٥٧.

٩٤

فسمعها رجل من المهاجرين، فأعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمىٰ الحرمة » لعليِّ بن أبي طالب : « أدركه فخذ الراية منه، وكن أنت الذي تدخل بها » (١).

ومضىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع الطريق باتجاه مكَّة ودخلها عنوةً بهذا الجيش الهائل، الذي لم تعرف له مكَّة نظيراً في تاريخها من قبل، وأعلن العفو وهو علىٰ أبواب مكَّة، وقال لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء ».

وأباح دم ستة رجال، ولو كانوا متعلِّقين بأستار الكعبة، وأربع نسوة، هم : عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبدالله بن سعد بن أبي سرح، ومِقيس بن صُبابة الليثي، والحويرث بن نُقيذ، وعبدالله بن هلال بن خطل الادرمي، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وقينتان كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

فمضىٰ عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام يجدُّ في طلب أولئك الذين أهدر النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دماءهم فقتل منهم اثنين هم : الحويرث بن نقيذ، وسارة.

وأجارت أمُّ هانئ بنت أبي طالب حموين لها : الحارث بن هشام، وعبدالله بن ربيعة، فأراد عليٌّ عليه‌السلام قتلهما. فقال رسول الله : « يا عليُّ قد أجرنا من أجارت أمُّ هانئ » (٣) وتفرّق الباقون، ثم وفد بعضهم على النبي بعد أن أخذ الأمان.

ولم يترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صنماً داخل الكعبة وخارجها إلَّا وحطَّمه

_______________________

١) إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٥، وانظر ابن الأثير / الكامل في التاريخ ٢ : ١٢٢.

٢) طبقات ابن سعد ٢ : ١٠٣، وانظر الكامل في التاريخ ٢ : ١٢٣، وفيه ثمانية رجال وأربع نسوة.

٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٥٩، وانظر الطبقات لابن سعد ٢ : ١١٠.

٩٥

تحت قدميه أمام قريش..

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو بمكَّة ـ خالد بن الوليد إلىٰ بني جذيمة بن عامر، فقال لهم خالد : ضعوا السلاح. فقالوا : إنَّا لا نأخذ السلاح علىٰ الله ولا علىٰ رسوله ونحن مسلمون، قال : ضعوا السلاح، قالوا : إنَّا نخاف أن تأخذنا بإحنة الجاهلية، فانصرف عنهم وأذَّن القوم وصلَّوا، فلمَّا كان في السحر شنَّ عليهم الخيل فقتل منهم ما قتل وسبىٰ الذرية.

فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « اللَّهمَّ إنِّي أبرأ إليك ممَّا صنع خالد »! وبعث عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأدَّىٰ إليهم ما أخذ منهم حتَّىٰ العقال وميلغة الكلب، وبعث معه بمال ورد من اليمن فودىٰ القتلىٰ، وبقيت معه منه بقية، فدفعها عليٌّ عليه‌السلام إليهم علىٰ أن يحلِّلوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممَّا علم وممَّا لا يعلم. فقال رسول الله : « لما فعلت أحبُّ إليَّ من حمر النعم » ويومئذٍ قال لعليٍّ : « فداك أبواي » (١)، فتمَّ بذلك موادُّ الصلاح، وانقطعت أسباب الفساد.

وقعة حنين :

وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان من الهجرة، وحنين وادي بينه وبين مكَّة ثلاث ليال (٢).

وقد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كبيراً تريد غزو المسلمين وقتالهم، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش عظيم عدَّتهم اثنا عشر ألفاً، فقال بعضهم : ما نُؤتىٰ من قلَّة، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________________

١) انظر : تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦١، إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٦، إرشاد المفيد ١ : ٥٥.

٢) ابن سعد في طبقاته ٢ : ١١٤.

٩٦

ذلك من قولهم.

وكان لواء المهاجرين مع عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام (١)، ووزَّع بقية الرايات علىٰ قوَّاد الجيش وزعماء القبائل.

ويروىٰ عن جابر بن عبدالله الأنصاري، أنَّه قال : « لمَّا استقبلنا وادي حُنين، انحدرنا في وادٍ أجوف حَطُوطٍ، إنما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلىٰ الوادي، فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطُّون إلَّا والكتائب قد شدَّت علينا شدَّة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد علىٰ أحد.. إلَّا أنَّه قد بقي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته » (٢).

وعلىٰ أيِّ الأحوال فلقد اتَّفق المؤرِّخون علىٰ أنَّ عليَّاً عليه‌السلام وأكثر بني هاشم ثبتوا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الأزمة (٣)، وعليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام يذبُّ الناس بسيفه ويفرِّقهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كانت أكثر مواقفه في الحروب التي مضت، فلم يستطع أحد أن يدنو من النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلَّا جدله بسيفه.

وكان رجل من هوازن علىٰ جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه، ثُمَّ رفع رايته لمن وراءه فاتَّبعوه، فحمل عليه عليٌّ عليه‌السلام فقتله (٤)، فكانت الهزيمة، فقال رسول الله للعبَّاس : « صِحْ

_______________________

١) طبقات ابن سعد ٢ : ١١٤.

٢) انظر الكامل في التاريخ ٢ : ١٣٦.

٣) انظر : طبقات ابن سعد ٢ : ١١٥، ابن الأثير في تاريخه ٢ : ١٣٦، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٦٢، إعلام الورىٰ ١ : ٣٦٨.

٤) ابن الأثير في تاريخه ٢ : ١٣٧.

٩٧

للأنصار » وكان صيِّتاً، فنادىٰ : يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمُرة، يا أصحاب سورة البقرة! فأقبلوا كأنَّهم الإبل إذا حنَّت علىٰ أولادها، يقولون : يا لبَّيك يا لبَّيك! فحملوا علىٰ المشركين، فأشرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إلىٰ قتالهم فقال : « الآن حمي الوطيس »! وهو أول من قالها، ثُمَّ قال :

« أنا النبيُّ لا كذبْ

أنا ابن عبدالمطَّلب » (١)

واقتتل الناس قتالاً شديداً.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبغلته دُلدُل : « البِدي دلدل » فوضعت بطنها علىٰ الأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمىٰ بها في وجوههم، فكانت الهزيمة (٢)، وقيل : إنَّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قد قتل منهم أربعين رجلاً (٣)، واستشهد من المسلمين أيمن ابن أمِّ أيمن، ويزيد بن زَمعَة بن الأسود بن المطَّلب بن عبدالعُزَّىٰ وغيرهما (٤).

تبوك والاستخلاف :

ثمَّ كانت غزوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ تبوك في رجب سنة تسع من مُهاجره (٥).

لمَّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام؛ لغزو المسلمين في ديارهم، لم يتردَّد في مواجهة تلك الجيوش، فأمر الناس

_______________________

١) طبقات ابن سعد ٢ : ١١٥، الكامل في التاريخ ٢ : ١٣٧.

٢) ابن الأثير في تاريخه ٢ : ١٣٧.

٣) إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٧، وروىٰ ذلك المفيد في الارشاد ١ : ١٤٤.

٤) الكامل في التاريخ ٢ : ١٣٩.

٥) الطبقات الكبرىٰ ٢ : ١٢٥.

٩٨

بالتجهُّز لغزو الروم، وأعلم الناس مقصدهم، لبعد الطريق وشدَّة الحرَّ وقوَّة العدو.. لذلك يسمىٰ بجيش العسرة، وهي آخر غزوات الرسول.

ومضىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسير في أصحابه، حتىٰ قدم تبوك في ثلاثين ألفاً من الناس، والخيل عشرة آلاف. واستعمل علىٰ المدينة علياً عليه‌السلام وقال له : (تقيم أو أقيم) «إنَّه لابدَّ للمدينة منِّي أو منك» (١)، « إن المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك » (٢).

وهذه هي الغزوة الوحيدة من الغزوات التي لم يشترك فيها عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم... وكان بقاؤه عليه‌السلام في المدينة أمر تفرضه مصلحة الإسلام، بعدما ظهر للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر المنافقين، فإنَّ بقاءهم بالمدينة يشكِّل خطراً علىٰ الدعوة.

فأرجف المنافقون بعلي عليه‌السلام وقالوا : ما خلَّفه إلَّا استثقالاً له ! فلمَّا سمع عليٌّ عليه‌السلام ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فأخبره ما قال المنافقون، فقال : « كذبوا، وإنَّما خلفتك لما ورائي، أما ترضىٰ أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ ؟ إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي » (٣). فقال : « قد رضيت، قد رضيت » (٤). ثُمَّ رجع إلىٰ المدينة وسار رسول الله بجيشه.

وفي رواية الشيخ المفيد ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : « ارجع يا أخي

_______________________

١) إعلام الورىٰ ١ : ٢٤٣.

٢) الارشاد ١ : ١٥٥.

٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٥٠، وانظر الاصابة في تمييز الصحابة ٢ : ٥٠٧ ترجمة الامام علي، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٢٩، وأخرجه الترمذي ٢٩٩٩ و٣٧٢٤ وقال : صحيح غريب.

وانظر طرق الحديث عن الصحابة في تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي ١ : ٣٠٦ ـ ٣٩٠.

٤) إعلام الورىٰ ١ : ٢٤٤.

٩٩

إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضىٰ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسىٰ، إلّا إنّه لا نبيّ بعدي » (١).

وجاء في طبقات ابن سعد (٢) انَّه قال : أخبرنا الفضل بن دُكين، قال : أخبرنا فضل بن مرزوق عن عطية، حدَّثني أبو سعيد، قال : غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزوة تبوك وخلَّف عليَّاً في أهله، فقال بعض الناس : ما منعه أن يخرج به إلَّا أنَّه كَرِهَ صحبته، فبلغ ذلك عليَّاً فذكره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقال : « يا ابن أبي طالب، أما ترضىٰ أن تنزل منَّي بمنزلة هارون من موسىٰ ».

وفي احدىٰ الروايات : قال : فأدبر عليٌّ مسرعاً، كأنِّي أنظر إلىٰ غبار قدميه يسطع.. وبلا شكٍّ لقد قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّ عليه‌السلام هذه المقالة، وقد استخلفه في المدينة وكشف عن منزلته منه، وعن منزلته بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.. أمّا لماذا راجع عليٌّ عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر استخلافه في المدينة فالأصح والأنسب «أن يكون عليٌّ عليه‌السلام قد عزَّ عليه أن تفوته معركة من معارك الإسلام، لاسيما وأنَّه يتَّجه إلىٰ عدوٍّ يفوق المسلمين بعدده وعتاده عشرات المرَّات، فكان يتمنَّىٰ أن يبقىٰ إلىٰ جانبه يفديه بنفسه وروحه، كما كان يصنع في بقية المعارك، وعندما أشعر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك أجابه بتلك الكلمات التي اتَّفق عليها المؤرِّخون والمحدِّثون» (٣).

_______________________

١) الارشاد ١ : ١٥٦.

٢) طبقات ابن سعد ٣ : ١٧.

٣) سيرة الأئمة الاثني عشر ١ : ٢٣٩.

١٠٠