الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

اسلام الموسوي

الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

المؤلف:

اسلام الموسوي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧

عليه، فأخذ برقبتي، فقال : إنَّ هذا أخي ـ وكذا وكذا ـ فاسمعوا له وأطيعوا » (١).

ثم قال : « تفرّد به عبدالغفَّار بن القاسم أبو مريم، وهو كذَّاب شيعي، اتهمه عليُّ بن المديني بوضع الحديث وضعَّفه الباقون » (٢).

ثمَّ يضيف ـ في الصفحة ذاتها ـ قائلاً : «ولكن روىٰ ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه، عن الحسين بن عيسىٰ بن ميسرة الحارثي، عن عبدالله بن عبدالقدُّوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، وعن عبدالله بن الحارث قال : قال عليٌّ عليه‌السلام : « لمَّا نزلت هذه الآية : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٣) قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إصنع لي شاةً بصاع من طعام، وإناء لبناً، وادعُ لي بني هاشم ؛ فدعوتهم وإنَّهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل » فذكر القصَّة إلىٰ قوله : « فبدرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام، فقال : أيُّكم يقضي عنِّي دَيني، ويكون خليفتي في أهلي »؟

فسكتوا وسكت العبَّاس، خشية أن يحيط ذلك بماله، وسكتُّ أنا لسنِّ العبَّاس.

ثمَّ قالها مرَّةً أُخرىٰ، فسكت العبَّاس، فلمَّا رأيت ذلك، قلت : أنا يا رسول الله.

قال : أنت؟!

قال : وإنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئةً، وإنِّي لأعمش العينين، ضخم البطن،

_______________________

١) البداية والنهاية ٣ : ٤٠.

٢) نفس المصدر.

٣) الشعراء : ٢٦.

٤١

حمش الساقين!»» (١)

فلنتناول هذا الكلام من جميع وجوهه، لنعرف أين محله :

١ ـ فأمَّا عبدالغفَّار بن القاسم أبو مريم، الذي طعن عليه، فقد وصفه ابن حجر العسقلاني، فقال : كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال ـ قال ـ وقال شعبة : لم أرَ أحفظ منه، وقال ابن عدي : سمعت ابن عقدة يثني علىٰ أبي مريم ويطريه وتجاوز الحدَّ في مدحه، حتىٰ قال : لو ظهر علىٰ أبي مريم ما اجتمع الناس إلىٰ شعبة.

أمَّا تضعيفهم له فإنَّما جاء من وصفه بالتشيُّع، قال ابن حجر (٢) ـ في ترجمته ذاتها ـ : قال البخاري : عبدالغفَّار بن القاسم ليس بالقويِّ عندهم، حدَّثنا أحمد بن صالح حدَّثنا محمَّد بن مرزوق، حدَّثنا الحسين بن الحسن الفزاري، عن عبدالغفَّار بن القاسم، عن عَدي بن ثابت، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عبَّاس، قال حدَّثني بُريدة : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليٌّ مولىٰ من كنت مولاه »!! ـ فمن هنا جاء طعنهم عليه.

٢ ـ وأمَّا قوله : إنَّ الحديث فيه عبدالغفَّار بن القاسم، فقد ورد الحديث من طرق أُخرىٰ ليس فيها عبدالغفَّار كما في (مسند أحمد) و(الخصائص) للنسائي، و(تاريخ الطبري) و(تاريخ دمشق) و(شواهد التنزيل) (٣).

_______________________

١) نفس المصدر.

٢) لسان الميزان / ابن حجر ٤ : ٤٢ ط مؤسسة الأعلمي.

٣) اُنظر : مسند أحمد ١ : ١٥٩، الخصائص : ١٨، تاريخ الطبري ٢ : ٢١٩، ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق ١ : ٩٩ / ١٣٧، شواهد التنزيل ١ : ٤٢٠ / ٥٨٠. وراجع منهج في الانتماء المذهبي / الأستاذ صائب عبدالحميد : ٨٠ ـ ٨٣.

٤٢

٣ ـ شعب أبي طالب :

اتخذت قريش شتىٰ الأساليب لردع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتباعه من المسلمين، ولمَّا أنّ رأت أنّ الإسلام يفشو ويزيد، اتفقوا بعد تفكير طويل علىٰ قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وأجمع مَلَؤُها علىٰ ذلك، وبلغ أبا طالب فقال :

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتَّىٰ أُغيَّب في التراب دفينا

ودعوتني وزعمت أنَّك ناصِحٌ

ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أميناً

وعرضت ديناً قد علمتُ بأنَّه

من خير أديان البرية دينا (١)

ولمَّا علمت أنَّها لا تقدر علىٰ قتله، وأنَّ أبا طالب لا يسلّمه، وسمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة التي تنصُّ علىٰ مقاطعة بني هاشم واتباعهم وحصرهم في مكان واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، وألّا يناكحوهم حتَّىٰ يدفعوا إليهم محمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقتلوه، وإلَّا يموتوا جوعاً وعطشاً، وختموا علىٰ الصحيفة بثمانين خاتماً.

وكان الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبدمناف بن عبدالدار، فشلَّت يده (٢) وقيل. وقَّعها أربعون من زعماء مكَّة، ثُمَّ علَّقوا الصحيفة في جوف الكعبة وحصروهم في شعب أبي طالب ست سنين (٣)، وذلك في أول المحرم من السنة السابعة لمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيل : استمر نحواً

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣١.

٢) و ٣) نفس المصدر.

٤٣

من سنتين أو ثلاث (١)، حتَّىٰ أنفق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماله وأنفق أبو طالب ماله، وأنفقت خديجة بنت خويلد مالها، وصاروا إلىٰ حدِّ الضرِّ والفاقة، واشتدت بهم الضائقة، حتىٰ اضطرتهم إلىٰ أكل الأعشاب وورق الأشجار، ومع ذلك فلم يضع أبو طالب وولده علي عليه‌السلام وأخوه الحمزة شيئاً في حسابهم غير النبيّ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورعايته، حتَّىٰ لا يتسلَّل أحد من المكِّيين ليلاً لاغتياله، وكانت هذه الخاطرة لا تفارق أبا طالب في الليل والنهار.

جاء في تاريخ ابن كثير (٢) : أنَّ أبا طالب قد بلغ من حرصه علىٰ حياة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّه كان اذا أخذ الناس مضاجعهم في جوف الليل، يأمر النبي أن يضطجع علىٰ فراشه مع النيّام، فإذا غلبهم النوم أمر أحد بنيه أو اخوته فأضجعهم علىٰ فراش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر الرسول أن يضطجع علىٰ فراشهم حرصاً منه عليه، حتَّىٰ لو قدِّر لأحد أن يتسلَّل إلىٰ الشعب ليلاً لاغتياله يكون ولده فداءً لابن أخيه.

وفي رواية ابن أبي الحديد أنَّه قرأ في أمالي أبي جعفر محمَّد بن حبيب : أنَّ أبا طالب كان إذا رأىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياناً يبكي، ويقول : إذا رأيته ذكرت أخي عبدالله، وكان عبدالله أخاه لأمِّه وأبيه.

وأضاف إلىٰ ذلك أنَّه كثيراً ما كان يخاف عليه البيات ليلاً، فكان يقيمه ليلاً من فراشه ويضجع ابنه علياً مكانه، ومضىٰ علىٰ ذلك أيام الحصار وغيرها، وأحسَّ عليٌّ عليه‌السلام بالخطر علىٰ حياته، ولكنَّه كان طيِّب النفس

_______________________

١) الكامل في التأريخ ١ : ٦٠٤.

٢) البداية والنهاية ٣ : ٨٤، بتصرف.

٤٤

بالموت في سبيل محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال لأبيه يوماً : «يا أبت أني مقتول»، فأوصاه بالصبر، وأنشد :

أصبرن يا بني فالصبر أحجىٰ

كلُّ حيٍّ مصيره لشعوب (١)

قدّر الله والبلاء شديد

لفداء الحبيب وابن الحبيب

إن تصبك المنون فالنبل تبرىٰ

فمصيب منها وغير مصيب

كلُّ شيءٍ وإن تملَّىٰ بعمر

آخذ من مذاقها بنصيب (٢)

وهذه الأبيات تؤكِّد إيمانه العميق برسالة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستعداده لأن يضحّي بولده في سبيلها، ولقد أجابه ولده أمير المؤمنين عليه‌السلام بأبيات يرويها شارح النهج عنه تحمل نفس الروح التي كان يحملها أبوه، حيث يرىٰ أنَّ وجوده وحياته متمِّمان لحياة محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته، لذلك لم يكن غريباً عليه أن يضحّي ويبذل حتىٰ نفسه ليسلم محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته، تلك التّضحية التي لم يعرف التاريخ أروع وأجمل منها.

يقول عليه‌السلام :

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد

ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنَّني أحببت أن ترىٰ نصرتي

وتعلم أنِّي لم أزل لك طائعا

سأسعىٰ لوجه الله في نصر أحمد

نبي الهدىٰ المحمود طفلاً ويافعا (٣)

فنزل جبريل علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره أنَّ الله سبحانه وتعالىٰ أرسل علىٰ صحيفة المقاطعة دودة الأرضة أكلت ما فيها من ظلم وقطيعة

_______________________

١) الشعوب : المنية.

٢) شرح نهج البلاغة ١٤ : ٦٤ بتصرف.

٣) نفس المصدر.

٤٥

رحم، وتركت ما فيها من أسماء الله تعالىٰ. فقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمِّه أبي طالب وكلِّ من في الشعب، حتَّىٰ صاروا إلىٰ الكعبة الشريفة، واجتمع الملأ من قريش من كلِّ أوب فقالوا : قد آن لك أن تذكر العهد وتدع «اللجاج في ابن أخيك»!

وقال لهم : إنَّ ابن أخي أخبرني أنَّ الله تعالىٰ أرسل علىٰ صحيفتكم الأرضة، فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم، وتركت اسم الله تعالىٰ، فإن كان كاذباً سلَّمته إليكم لتقتلوه، وعلمنا أنَّكم علىٰ حقٍّ، ونحن علىٰ باطل، وإن كان صادقاً علمتم أنَّكم ظالمون لنا، قاطعون لأرحامنا. فقالوا : قد أنصفتنا.

وقاموا سراعاً وأحضروها وإذا الأمر كما قال أبو طالب، فبهتوا ونكسوا رؤوسهم ثُمَّ قالوا : إنَّ هذا لسحر وبهتان !!

فقويت نفس أبي طالب واشتدَّ صوته، وقال : «قد تبيَّن لكم أنَّكم أولىٰ بالظلم والقطيعة» (١).

٤ ـ مؤامرة قريش في دار الندوة :

ضاق الأمر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتراكمت عليه الأحداث بعد خروجه من محنة الحصار في شعب أبي طالب، ولم تكن سوىٰ أيام قلائل حتىٰ توفِّي عمُّه أبو طالب، ناصره ومعينه علىٰ أمره، أقبلت قريش المذعورة علىٰ إيذائه بشتَّىٰ الأساليب ـ بأبي أنت وأمِّي يا رسول الله ـ فقد مات

_______________________

١) الكامل في التاريخ ١ : ٦٠٦.

٤٦

أبو طالب، ولم يعد بمكَّة من تهابه قريش وترعىٰ له حرمة.. فخرج صلوات الله عليه إلىٰ الطائف، وهذه أول رحلة قام بها من مكَّة للدعوة إلىٰ الإسلام، فعمد إلىٰ ثقيف يطلب منها النصر، لكنَّها رفضت أن تسمع له، ولم تكتفِ بذلك، بل أرسلت صبيانها يرشقوه بالحجارة، حتىٰ أُدميت قدماه الشريفتان، كما أُصيب علي وزيد بن حارثة، حيث كانا معه في تلك الرحلة، وعليٌّ يتلقَّىٰ الأحجار بيديه وصدره حتَّىٰ أُثخن بالجراح، فكان رسول الله يقول : « ما كنت أرفع قدماً ولا أضعها إلَّا علىٰ حجر » (١)!

وبذلك قرَّروا الرجوع إلىٰ مكَّة؛ فكلابها أهون من وحوش البراري! رجع يائساً من ثقيف وأحلافها، واستطاع الدخول إلىٰ مكَّة بإجارة المطعم بن عدي له.

وحينما خافت قريش أن يقوىٰ ساعده ـ ويصبح له أنصاراً جدداً، وحذروا من خروجه سيّما بعد أن أذن لأصحابه بالهجرة إلىٰ يثرب ـ اجتمعت في دار الندوة، وتشاوروا في أمره وأعدُّوا العدَّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان، فقالوا : ليس له اليوم أحد ينصره وقد مات عمُّه!

وكان اجتماعهم هذا قبيل شهر ربيع الأول عام ٦٣٣ م، عام الهجرة، وبعد أن أعطىٰ كلُّ واحد منهم رأيه، قال أبو جهل : أرىٰ أن نأخذ من كلِّ قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كلَّ فتىً منهم سيفاً، ثُمَّ يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، كي لا يتحمَّل قتله فرد ولا قبيلة وحدها، بل يتفرق دمه في

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٦.

٤٧

القبائل كلِّها، فلم يقدر آله وعشيرته علىٰ حرب قومهم جميعاً، فيصعب الثأر له.. فتفرَّقوا علىٰ ذلك بعد أن اتَّفقوا علىٰ الليلة التي يهاجمونه فيها وهو في فراشه.

فأتىٰ جبرائيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بمكيدة قريش وأحلافها، كما تشير إلىٰ ذلك الآية : ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) (١).

ومكر الله في الآية يعني : أنَّه سبحانه قد فوَّت عليهم مكرهم وتخطيطهم بما أخبر به نبيَّه، وبما أمره به من الخروج في تلك الليلة، ومبيت علي عليه‌السلام علىٰ فراشه ليفوّت عليهم تدبيرهم الذي أجمعوا عليه.

ولما علم عليٌّ عليه‌السلام بتخطيط قريش لاغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكىٰ، ورحَّب بالمبيت في فراشه فداءً له وللإسلام وقال له : « أو تَسْلَم أنت يارسول الله إن فديتك بنفسي »؟ قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نعم، بذلك وعدني ربِّي » فانشرح صدره لسلامة أخيه رسول الله.

وشاءت الأقدار أن يفتح عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام صفحةً مشرقةً من بطولاته لأنَّه تلميذ الرسالة الحقَّة وربيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وسليل بني هاشم، وتقدّم مطمئن النفس، رابط الجأش، متَّشحاً ببرد الرسول الحضرمي، ونام ثابت الفؤاد لا يخاف في الله لومة لائم.

وكان ذلك سبباً لنجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظ دمه، ولولا فداء أمير المؤمنين نفسه للرسول لما تمَّ تبليغ الرسالة والصدع بأمر الله تعالىٰ.

_______________________

١) سورة الأنفال : ٣٠.

٤٨

فلمَّا كانت العتمة اجتمعوا علىٰ بابه يرصدونه، وودَّع رسول الله عليَّ ابن أبي طالب عليه‌السلام ، وأمره أن يؤدِّي ما عنده من وديعة وأمانة إلىٰ أهلها ويلحق به.

وفي بعض الروايات : أنَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج فأخذ حفنةً من تراب، فجعله علىٰ رؤوسهم، وهو يتلو هذه الآيات من ( يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ) إلىٰ قوله : ( فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) (١). ثمَّ انصرف فلم يروه (٢).

هكذا، فإنّ القوم أحاطوا بالدار، وهم من فتيان قريش الاشداء، وجعلوا يرصدونه ليتأكَّدوا من وجوده، فرأوا رجلاً قد نام في فراشه التحف ببرد له أخضر.

أمَّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد خرج في الثلث الأخير من الليل من الدار، وكان قد اختبأ في مكان منها، وانطلق جنوباً إلىٰ غار ثور، وكمن فيه ومعه أبو بكر، فأقاما فيه ثلاثاً.

ولمَّا حان الوقت الذي عيَّنوه لهجومهم علىٰ الدار، هجموا عليها، فوثب عليٌّ عليه‌السلام من فراشه، ففرُّوا بين يديه حين عرفوه..

وفي بعض الروايات أنَّهم قبل هجومهم عليه جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساكن لا يتحرَّك ولا يبالي بما يصيبه من الأذىٰ، ثُمَّ هجموا عليه بسيوفهم وخالد بن الوليد في مقدمهم، فوثب علي عليه‌السلام من فراشه وهمزه بيده، ففرَّ خالد واستطاع علي عليه‌السلام أنَّ يأخذ السيف منه، فشدَّ عليهم

_______________________

١) سورة يس : ١ ـ ٩.

٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٤.

٤٩

وانهزموا أمامه إلىٰ الخارج (١).

وسأل الرهط عليَّاً : أين ابن عمِّك؟

قال : « أمرتموه بالخروج فخرج عنكم » (٢)، وقيل : إنَّه قال : « لا علم لي به » (٣).

وأخرج اليعقوبي وابن الأثير وغيرهما : أنَّ الله عزَّ وجلَّ أوحىٰ في تلك الليلة إلىٰ جبرئيل وميكائيل أنِّي قضيت علىٰ أحدكما بالموت، فأيِّكما يواسي صاحبه؟ فاختار الحياة كلاهما، فأوحىٰ الله إليهما : هلَّا كنتما كعليِّ بن أبي طالب... آخيت بينه وبين محمَّد، وجعلت عمر أحدهما أكثر من الآخر، فاختار عليٌّ الموت وآثر محمَّداً بالبقاء وقام في مضجعه، اهبطا فاحفظاه من عدوِّه. فهبط جبرئيل وميكائيل فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه يحرسانه من عدوِّه، ويصرفان عنه الحجارة، وجبريل يقول : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب مَن مثلك يباهي الله بك ملائكة سبع سموات! (٤).

ولم يشرك أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه المنقبة أحد من أهل الإسلام، ولا اختصَّ بنظير لها علىٰ حال، وفيه نزل قوله تعالىٰ في هذه المناسبة : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (٥).

وعقَّب الأستاذ عبدالكريم الخطيب في كتابه (علي بن أبي طالب) ـ

_______________________

١) أمالي الشيخ الطوسي : ٤٦٧ / ١٠٣١، بحار الأنوار ١٩ : ٦١ ـ ٦٢.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩، الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٣.

٣) الطبقات الكبرى ١ : ١١٠.

٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٩، أُسد الغابة ٤ : ١١٣.

٥) سورة البقرة : ٢٠٧، وذكرها الرازي في تفسيره أنَّها نزلت بشأن مبيت عليٍّ عليه‌السلام علىٰ فراش رسول الله.

٥٠

على تضحيته عليه‌السلام ومبيته علىٰ فراش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة تآمرت قريش علىٰ قتله ـ بقوله : وهذا الذي كان من عليٍّ عليه‌السلام ليلة الهجرة، إذا نظر إليه في مجرىٰ الأحداث التي عرضت للإمام عليٍّ عليه‌السلام في حياته بعد تلك الليلة، فإنَّه يرفع لعيني الناظر أمارات واضحة، وإشارات دالّة علىٰ أنَّ هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن أمراً عارضاً بالإضافة إلىٰ عليٍّ عليه‌السلام بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها، فلنا أن نتساءل : أكان لإلباس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيَّته لعليٍّ عليه‌السلام تلك الليلة ما يوحي بأنَّ هناك جامعة، تجمع بين الرسول وعليٍّ أكثر من جامعة القرابة القريبة التي بينهما؟ وهل لنا أن نستشفَّ من ذلك، أنَّه اذا غاب شخص الرسول كان عليٌّ عليه‌السلام هو الشخصية المهيَّأة لأن تخلفه وتمثل شخصه وتقوم مقامه.

وأحسب أنَّنا لم نتعسَّف كثيراً حين نظرنا إلىٰ عليٍّ عليه‌السلام وهو في برد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي مثوىٰ منامه الذي اعتاد أن ينام فيه، وقلنا : هذا خليفة رسول الله والقائم مقامه.

وأضاف : إنَّ هذا الذي كان من عليٍّ عليه‌السلام ليلة الهجرة، في تحدِّيه لقريش هذا التحدِّي السافر، وفي استخفافه بها، وقيامه بينها ثلاثة أيام يغدو ويروح، إنَّ ذلك لا تنساه قريش لعليٍّ عليه‌السلام أبداً، ولولا أنَّها وجدت في قتله يومئذٍ إثارة فتنة تمزِّق وحدتها وتشتِّت شملها، دون أن يكون في ذلك ما يبلغ بها غايتها في محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، لقتلته وشفت ما بصدرها منه، ولكنَّها تركته وانتظرت الأيام لتسوّي حسابها معه.

ألا يبدو من هذه الموافقات، ما نستشفُّ منه أنَّ لعليِّ بن أبي طالب

٥١

شأناً في رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودوراً في دعوة الإسلام، ليس لأحد غيره من صحابة الرسول؟ (١)

وأخرج الحاكم النيسابوري : أنَّ الإمام زين العابدين كان يقول : « إنَّ أول من شرىٰ نفسه ابتغاء رضوان الله عليُّ بن أبي طالب، قال علي عند مبيته علىٰ فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وقيتُ بنفسي خير من وطأ الحصىٰ

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجَّاه ذو الطول الإله من المكر

وبات رسول الله في الغار آمناً

موقىٰ وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتُّ أراعيهم ولم يتهمونني

وقد وطنت نفسي علىٰ القتل والأسر » (٢)

٥ ـ عليٌّ والركب الفاطمي إلىٰ المدينة :

بقي عليٌّ عليه‌السلام في مكَّة ثلاث ليال، أدَّىٰ خلالهنّ ـ بطل التأريخ ـ ما عهد إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ردِّ الأمانات والودائع التي كان يحتفظ بها النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل مكَّة، ليلحق بعدها برسول الله..

في هذه الأثناء كان النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وصل إلىٰ يثرب، بعد أن قطعوا الجبال والأودية علىٰ مقربة من المدينة ـ علىٰ ساكنها السلام ـ قال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن معه : « من يدلنا علىٰ الطريق إلىٰ بني عمرو بن عوف »؟ ولمَّا بلغ منازلهم نزل ضيفاً عليهم لإحدىٰ عشرة أو لاثنتي عشرة ليلة خلت

_______________________

١) عن سيرة الأئمة الاثني عشر١ : ١٦٨ ـ ١٦٩، وأيضاً : علي سلطة الحق ٢٦ ـ ٢٧، الامام علي١ : ٥٥ ـ ٥٦.

٢) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٥.

٥٢

من ربيع الأول، وكان قد استقبله منهم نحو من خمسمائة (١).

وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ عليٍّ عليه‌السلام مع أبي واقد الليثي، يحثُّه بالمسير إليه بعد أداء ما أوصاه به، ولمَّا وصله الكتاب تهيَّأ للخروج، وردَّ كلَّ وديعةٍ إلىٰ أهلها، وأمر من كان قد بقي من ضعفاء المؤمنين أن يتسلَّلوا إلىٰ ذي طول ليلاً..

وخرج هو بالركب الفاطمي : فاطمة بنت رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطَّلب، وفاطمة بنت حمزة، وأم أيمن، وأبو واقد الذي أخذ يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال له عليٌّ : « ارفق بالنسوة يا أبا واقد » ثُمَّ جعل يسوق بهنَّ ويقول :

ليـس الا الله فارفع ظنَّكا

يكفيك ربُّ الخلق ما أهمَّكا

وكان يسير ليلاً، ويكمن نهاراً وكان ماشياً غير راكب حتَّىٰ تفطَّرت قدماه (٢)، ولقد ظلَّ في رحلته تلك ليالٍ أربع عشرة (٣)، يحوطهم من الاعداء ويكلؤهم من الخصماء، فلمَّا قارب ضَجَنان أدركه الطلب وكانوا ثمانية فرسان ملثمين، معهم مولىٰ لحرب بن أُميَّة يُدعىٰ : جناح ؛ فقال عليٌّ عليه‌السلام لأيمن وأبي واقد : « أنيخا الإبل واعقلاها » وتقدَّم هو فأنزل النسوة

_______________________

١) و ٢) أنظر سيرة الأئمة الاثني عشر ١ : ١٧١.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١، اُسد الغابة ٤ : ١٠٥، الكامل في التاريخ ٢ : ٧.

٣) أنظر : عليٌّ سلطة الحقِّ : ٢٣.

٥٣

واستقبل القوم بسيفه، فقالوا : أظننت يا غُدر أنَّك ناجٍ بالنسوة؟! ارجع بهن لا أبا لك!! فقال : « فإن لم أفعل ؟! »، فقالوا : لترجعنَّ راغماً!!

ودنوا من المطايا، فحال عليٌّ عليه‌السلام بينهم، وأهوىٰ له جناح بسيفه، فراغ عن ضربته، وضرب جناحاً علىٰ عاتقه فقدَّه نصفين، حتَّىٰ وصل السيف إلىٰ كتف فرسه، ثُمَّ شدَّ علىٰ أصحابه، وهو علىٰ قدميه وأنشد :

خلُّوا سبيل الجاهد المجاهد

آليت لا أعبد إلَّا الواحد

فتفرَّق القوم عنه، وقالوا : إحبس نفسك عنَّا يابن أبي طالب، ثُمَّ قال لهم : « إنِّي منطلق إلىٰ أخي وابن عمِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فمن سرَّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منِّي » ثُمَّ أقبل علىٰ أيمن وأبي واقد، وقال لهما : أطلقا مطاياكما، وسار الركب حتَّىٰ نزل ضجنان، فلبث بها يوماً وليلة حتَّىٰ لحق به نفر من المستضعفين، فلمَّا بزغ الفجر سار بهم حتَّىٰ قدموا قباء (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مكث فيها هذه المدة، ولم يغادرها بعد إلىٰ المدينة، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ادعوا لي عليَّاً »، قيل : لا يقدر أن يمشي، فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، واعتنقه وبكىٰ، رحمةً لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرَّهما علىٰ قدميه، فلم يشتكهما بعدُ حتَّىٰ قُتل (٢).

_______________________

١) سيرة الأئمة الاثني عشر ١ : ١٧١ ـ ١٧٢.

٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٧.

٥٤

المبحث الثاني : في المدينة المنوَّرة

المدخل :

في شهر ربيع الأول (١)، وصل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ليباشر في وقت مبكر توطيد الأوضاع الجديدة فيها، حيث سيعيش المهاجرون الجدد مع سكان المدينة الأصليين، فكانت أولىٰ الخطوات التي قام بها النبيُّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي بناء المسجد، الذي عمل فيه مع سائر أصحابه، في جوٍّ مفعم بالمحبَّة والإيمان، وهناك أثنىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ أصحابه ثناءً عامَّاً في لحمتهم وحماسهم، وفي أجواء الحماس تلك كان عمّار بن ياسر يسابق غيره في العمل والبناء، الأمر الذي شدَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكشف عن سرٍّ خطير، ينتظر عمَّاراً وينتظره عمَّار، ذلك قوله في تلك الأثناء : « ويهاً ابن سُميَّة تقتلك الفئة الباغية » (٢)، هذه الكلمة التي ستكون لها دلالتها الكبيرة في مستقبل غير بعيد.

١ ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار :

من الأعمال التي قام بها رسول الله بعد بناء المسجد الشريف : المؤاخاة ولقد سبق منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن آخىٰ بين المهاجرين بعضهم ببعض قبل الهجرة،

_______________________

١) يوم الاثنين لثمان ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول، وقيل : لليلتين منه، وقيل : آخر يوم الخميس، لاثنتي عشرة ليلة خلت منه. انظر الطبقات الكبرىٰ ١ : ١٨٠، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١.

٢) الطبقات الكبرىٰ ١ : ١٨٥.

٥٥

وآخىٰ بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة، هكذا رواه الترمذي والبغوي والحاكم (١) وفي كلِّ مرَّة كان يقول لعليٍّ عليه‌السلام : « أنت أخي في الدنيا والآخرة ». ورواه أحمد في مسنده بنصِّ : « أنت أخي وأنا أخوك » (٢).

ورواه أصحاب السير والتاريخ من أمثال : ابن اسحاق، وابن هشام، وابن سعد، وابن حجر العسقلاني، وابن حبَّان، وابن عبدالبرِّ، وابن الأثير، وابن أبي الحديد، وابن كثير، والسيوطي (٣)، وغيرهم من أصحاب الجوامع (٤).

جاء في سيرة ابن إسحاق، وسيرة ابن هشام : آخىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فقال : « تآخوا في الله أخوين أخوين » ثُمَّ أخذ بيد

_______________________

١) سنن الترمذي (الجامع الصحيح) ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢٠، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت، مصابيح السُنَّة / البغوي ٤ : ١٧٣ / ٤٧٦٩، تحقيق د. يوسف عبدالرحمن المرعشلي، ومحمَّد سليم سمارة، وجمال حمدي الذهبي، دار المعرفة ط ١ ـ ١٤٠٧هـ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٤.

٢) مسند أحمد ١ : ٢٣٠، دار الفكر بيروت.

٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٠٩، تحقيق طه عبدالرؤوف سعد ـ دار الجيل ـ بيروت ١٩٨٥م، الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٦، تهذيب الكمال ١٣ : ٣٠١، السيرة النبوية لابن حبَّان : ١٤٩، تصحيح الحافظ سيد عزيز بك وجماعة من العلماء ـ مؤسسة الكتب الثقافية ط ١ ـ ١٤٠٧هـ، الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبر النمري ـ بهامش الإصابة ٣ : ٣٥، ط ١ ـ ١٣٢٨هـ دار إحياء التراث العربي، أُسد الغابة ٢ : ٢٢١، ٤ : ١٦، ٢٩، عيون الأثر، لابن سيد الناس : ٢٦٤ ـ ٢٦٥، مؤسسة عزالدين للطباعة والنشر ١٤٠٦هـ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ١٣٥، دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤٠٨هـ.

٤) جامع الأصول / ابن الأثير الجزري ٩ : ٤٦٨ / ٦٤٧٥، دار إحياء التراث العربي ط ٤ ـ ١٤٠٤هـ، تحقيق محمَّد حامد الفقي، مجمع الزوائد للهيثمي ٩ : ١١٢، دار الكتاب العربي، ط ٣ ـ ١٤٠٢هـ، الصواعق المحرقة / ابن حجر الهيتمي : ١٢٢، تحقيق عبدالوهاب اللطيف ـ مكتبة القاهرة، ط ٢ ـ ١٣٨٥هـ ـ ١٩٦٥م، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٨٧٩.

٥٦

عليِّ بن أبي طالب فقال : « هذا أخي » فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيِّد المرسلين وإمام المتَّقين ورسول ربِّ العالمين الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد، وعليُّ ابن أبي طالب رضي الله عنه أخوين (١).

أمَّا ابن حجر العسقلاني فذكر حديث المؤاخاة بنصِّ : « لمَّا آخىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أصحابه قال له [لعليِّ بن أبي طالب] : « أنت أخي » (٢).

وعن عباد بن عبدالله، عن عليٍّ عليه‌السلام قال : « أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصدِّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلَّا كذَّاب » (٣).

وعندما آخىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبين عليٍّ عليه‌السلام، آخىٰ بين حمزة وزيد ابن حارثة، وبين أبي بكر وخارجة الخزرجي، وبين عمر وعتبان بن مالك الخزرجي، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين الزبير وعبدالله بن مسعود، وبين عمَّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وبين طلحة وكعب بن مالك، وبين أبي ذرٍّ والمنذر بن عمر الخزرجي وهكذا.

هذا أول ما عمله رسول الله بالمدينة المنوَّرة «المؤاخاة الخاصة» غير الأخوة العامة التي جعلها الإسلام بين المسلمين إخوّةً في الله عزَّ وجلَّ.

وتهدف قصة المؤاخاة إلىٰ تمتين عُرىٰ الروابط بين المسلمين وتأكيدها، واستئصال جذور الجاهلية والتعصُّب، وهي رابطة تقوم علىٰ أساس الإيمان بالله عزَّ وجلَّ وباليوم الآخر ووحدة الهدف والغاية.

_______________________

١) سيرة ابن هشام ٢ : ١٠٩، الروض الأُنف / السهيلي ٤ : ٢٤٤، تحقيق عبدالرحمن الوكيل، دار إحياء التراث العربي ـ مؤسسة التاريخ ـ بيروت، ط ١ ـ ١٩٩٢م، عيون الأثر ١ : ٢٦٥.

٢) الإصابة في تمييز الصحابة / ابن حجر ٢ : ٥٠٧، ترجمة (عليُّ بن أبي طالب).

٣) رواه النسائي في خصائصه ٣ : ١٨، والمتَّقي في كنز العمَّال ٩ : ٣٩٤، كما رواه السيوطي في تفسير قوله عزَّ وجلَّ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ).

٥٧

قبل ذلك «كان الصراع داخل المدينة متوتراً بين الأوس والخزرج، ولكنَّ الإسلام جعلهم موحَّدين أنصاراً، وبمؤاخاتهم مع المهاجرين تحقَّقت للإسلام أرضية جديدة، كان مقدَّراً لها أن تغيِّر تأريخ المدينة أولاً، وجزيرة العرب فيما بعد ثانياً» (١).

هنا عند المؤاخاة رفع النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يد عليٍّ عليه‌السلام، قائلاً : « عليٌّ أخي ».

وتستمر صلات المودَّة والإخاء بين محمَّد وعليٍّ عليه‌السلام من أجل إنجاح الرسالة الإسلامية، وتوفير قدر أكبر من الضمان لمستقبلها.

٢ ـ زواج عليٍّ من فاطمة الزهراء عليها‌السلام :

في حدود السنة الثانية من الهجرة اجتمع عليٌّ عليه‌السلام مع الزهراء عليها‌السلام في بيت الزوجية، وكان جماعة من المهاجرين قد خطبوها قبله، لكنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردَّهم ردَّاً جميلاً، فكان ينتظر بها القضاء. كما صرَّحت بذلك عدَّة روايات نأتي علىٰ بعضها :

أخرج ابن سعد : أنَّ أبا بكر خطب فاطمة إلىٰ النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقال : « يا أبا بكر انتظر بها القضاء » فذكر ذلك أبو بكر لعمر، فقال له عمر : ردَّك يا أبا بكر. ثُمَّ إنَّ أبا بكر قال لعمر : أخطب فاطمة إلىٰ النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فخطبها؛ فقال له مثل ما قال لأبي بكر : « أنتظر بها القضاء »، أو قال : « انَّها صغيرة » (٢).

_______________________

١) عليٌّ سلطة الحقِّ : ٢٧.

٢) الطبقات الكبرىٰ لابن سعد ٨ : ١٦، وانظر أُسد الغابة ٧ : ٢٣٩، وفاطمة الزهراء والفاطميون / عباس محمود العقاد ٢٠.

٥٨

بل إن الآتي من خبر زواجها عليها‌السلام يؤكد النصّ الأول « أنتظر بها القضاء » إذ لم يكن زواجها إلّا بأمر من الله تعالى :

عن أنس بن مالك، قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فغشيه الوحي، فلمّا سري عنه قال : « يا أنس، أتدري ما جاءني به جبرئيل من عند صاحب العرش؟ » قال : الله ورسوله أعلم، قال : « إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ » (١).

وعن عبدالله بن مسعود، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « إن الله أمرني أن أزوّج فاطمة من عليّ، ففعلت » (٢).

وعن أبي أيوب الانصاري، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « أمرت بتزويجك من السماء » (٣).

أمَّا عليُّ بن أبي طالب فهو أخو رسول الله وربيبه الذي ما قام ركن الإسلام إلَّا بسيفه، وهو وزير الرسول ووصيُّه، فكَّر مراراً بفاطمة، لكنَّه خالي اليدين ليس لديه ما يقدِّمه مهراً لاجتماعهما الميمون، في هذه الاثناء تذكَّر صلته بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتقدَّم، ولنقرأ قصته في سطور التاريخ :

قال نفر من الأنصار لعليٍّ عليه‌السلام : عندك فاطمة. فأتىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلَّم عليه، فقال : « ما حاجة ابن أبي طالب »؟

[أجاب بكلِّ ثبات] :

« ذكرت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

_______________________

١) كنز العمال ١١ : ٦٠٦ / ٣٣٩٢٩، الرياض النضرة ٣ : ١٤٥.

٢) المعجم الكبير، للطبراني ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠٢٠، مجمع الزوائد ٩ : ٢٠٤.

٣) ابن شاهين / فضائل فاطمة عليها‌السلام : ٥٠ / ٣٧.

٥٩

قال : « مرحباً وأهلاً ». لم يزده عليهما.

فخرج عليٌّ علىٰ أولئك الرهط من الأنصار ينظرونه. قالوا : ما وراءك؟ قال : « ما أدري غير أنَّه قال لي : مرحباً وأهلاً ».

قالوا : يكفيك من رسول الله إحداهما، أعطاك الأهل أعطاك المرحب (١).

ثمَّ إنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرض «خطبة عليٍّ» علىٰ فاطمة، فقال لها : « إنَّ عليَّاً يذكرك » (٢)، فسكتت، فخرج يقول : « سكوتها إقرارها ».

وحين وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القبول من كلا الطرفين، سأل عليَّاً عليه‌السلام : « هل عندك شيء؟ » وكان لا يملك غير سيفه ودرعه وناضحه.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فأمَّا سيفك فلا غنىٰ بك عنه، تجاهد في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به علىٰ نخلك وأهلك، وتحمل عليه حلَّك في سفرك، ولكنِّي رضيتُ منه بالدرع » (٣).

فباعها وباع أشياء غيرها كانت عنده، فاجتمع له منها أربعمائة درهم، فكان هذا مهر فاطمة.

ولمَّا جاء عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام بالدراهم، وضعها بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فأمره أن يجعل ثلثي الدراهم في الطيب، والثلث الآخر في المتاع، ففعل (٤).

_______________________

١) الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٧، وانظر أُسد الغابة ٧ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

٢) الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٦.

٣) عليُّ بن أبي طالب سلطة الحقِّ : ٢٧.

٤) اتحاف السائل : ٤٤.

٦٠