الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

اسلام الموسوي

الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

المؤلف:

اسلام الموسوي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧

الوليد علىٰ كتف رسول الله ليلقي بها أرضاً، تحت بطون الأقدام!!

تلك ولادة أكرمه الله بها، فشاركته أمُّه الكريمة في فخرها..

إنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد لمَّا ضربها الطلق، جاءت متعلِّقة بأستار الكعبة الشريفة، من شدة المخاض، مستجيرة بالله وَجِلةً، خشية أن يراها أحد من الذين اعتادوا الاجتماع في أُمسياتهم في أروقة البيت أو في داخله، فانحازت ناحية وتوارت عن العيون خلف أستار البيت، واهِنةً مرتعشة أضنتها آلام المخاض؛ فألصقت نفسها بجدار الكعبة وأخذت تقول :

«يا ربِّ، إنِّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، وإنِّي مصدِّقة بكلام جدِّي إبراهيم وأنَّه بنىٰ البيت العتيق، فبحقِّ الذي بنىٰ هذا البيت وبحقِّ المولود الذي في بطني إلَّا ما يسرت عليَّ ولادتي».

قال يزيد بن قعنب : فرأيت البيت قد انشقَّ عن ظهره، ودخلت فاطمة فيه، وغابت عن أبصارنا وعاد إلىٰ حاله، فرمنا أن ينفتح لنا قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا أنَّ ذلك من أمر الله تعالىٰ، ثُمَّ خرجت في اليوم الرابع وعلىٰ يدها أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

وهو حديث جدير كذلك أن يخلّده الشعراء :

أنشد الحميري (ت ١٧٣ هـ) :

وَلدَتْهُ في حرم الإله وأمنه

والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة

طابت وطاب وليدها والمولد

ما لُفَّ في خِرَقِ القوابِل مِثلُه

إلّا ابن آمنةَ النبيِ محمّد

_______________________

١) كشف الغمَّة ١ : ٦٠.

٢١

وله أيضاً في أمير المؤمنين عليه‌السلام :

طبتَ كهلاً وغلاماً

ورضيعاً وجنينا

ولدىٰ الميثاق طيناً

يوم كان الخلقُ طينا

وببطن البيت مولوداً

وفي الرمل دفينا (١)

وقال عبدالباقي العمري في عينيته الشهيرة :

أنت العليّ الذي فوق العُلىٰ رُفعا

ببطن مكة عند البيت إذ وُضعا

وعقّب عليه أبو الثناء الآلوسي في شرحه هذه القصيدة ـ شرح عينية عبدالباقي العمري ـ ما نصه : «وفي كون الأمير كرّم الله وجهه ولد في البيت أمر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة ... ولم يشتهر وضع غيره كرّم الله وجهه كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه، وأحرىٰ بإمام الأئمّة أن يكون وضعه في ما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يصنع الأشياء، وهو أحكم الحاكمين» (٢).

صفته :

نشأ عليه‌السلام مكين البنيان، شاباً وكهلاً، حافظاً لتكوينه المكين حتىٰ ناهز الستين من عمره الشريف، كان قوي البنية، ممتلىء الجسم، كثير الشعر، ربعة في الرجال لا هو بالطويل ولا بالقصير، عريض المنكبين، له مشاش كمشاش السبع الضاري، يغلظ من أعضائه ما استغلظ من أعضاء الأسد ويدقُّ منها ما استدقّ ..

_______________________

١) علي وليد الكعبة / الأوردبادي : ١١ ط النجف الأشرف.

٢) علي وليد الكعبة : ٣.

٢٢

هذا وتدلُّ أخباره ـ كما تدلُّ صفاته ـ علىٰ قوَّة جسدية، فربَّما رفع فارساً بيده فجلد به الأرض غير جاهد، وما صارع أحداً إلَّا وصرعه..

يتكفَّأ في مشيته علىٰ نحو ما يقارب مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي جعله أُسوته وقدوته منذ أن نشأ وحتَّىٰ مات.

وذكر بعضهم أنَّه كان آدمَ ـ أي أسمر ـ شديد الأدمة، عظيم العينين غليظ الساعدين أقرب إلىٰ القصر من الطول، عريض اللحية..

ولم يصفه أحد بالخضاب، سوىٰ سواد بن حنظلة، قال ابن سعد : والصحيح أنَّه لم يخضب، وروي أنَّه كان يصفِّر لحيته بالحنَّاء ثُمَّ ترك (١).

أسماؤه وألقابه :

كثيرة أسماؤه وألقابه عليه‌السلام ومختلف في بعضها بين العلماء، فقال مجاهد : « إنَّ أُمُّه سمَّته عليَّاً عند ولادته.

وقال عطاء : إنَّما سمَّته أُمُّه حيدرة، بدليل قوله يوم خيبر : « أنا الذي سمَّتني أمِّي حيدرة »، فلمَّا علا علىٰ كتفي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسَّر الأصنام سُمِّي عليَّاً من العلو والرفعة والشرف» (٢).

وليس هذا بالمعتمد، فقد عُرف باسم «عليٍّ» منذ الصغر.

وعن ابن عبَّاس : «كانت أُمُّه إذا دخلت علىٰ هُبل لتسجد له وهي حامل به علىٰ بطنها فيتقوَّس فيمنعها من السجود فسُمِّي عليَّاً » (٣). ولا يصحُّ؛ لأنَّ أُمَّه فاطمة بنت أسد كانت تتعبَّد علىٰ ملَّة إبراهيم الخليل،

_______________________

١) أنظر : الطبقات الكبرىٰ ٣ : ١٨ ـ ١٩، تذكرة الخواص : ١٧.

٢) و ٣) تذكرة الخواص : ٣ ـ ٤.

٢٣

كما ذكرنا ذلك سابقاً.

وقال سبط ابن الجوزي : «وقول مجاهد أظهر؛ لأنَّه ثبت المستفيض بهِ، ولايمنعها من تسميته عليَّاً أن تسمِّيه حيدرة، لأنَّ حيدرة اسم من أسامي الأسد لغلظ عنقه وذراعه، وكذلك كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فيكون عليٌّ اسمه الأصلي، وحيدرة وصفاً له» (١).

وعنه أيضاً : «وقد سمَّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ذا القرنين» ذكر ذلك بإسناده المتَّصل إلىٰ سلمة بن الطفيل، عن عليٍّ عليه‌السلام ، قال : « قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّ لك في الجنَّة قصراً، وإنَّك ذو قرنيها » » (٢).

قال : «وهذا حديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند، وأخرجه أحمد أيضاً في كتاب جمع فيه فضائل أمير المؤمنين، ورواه النسائي مسنداً».

وقد عُرف عليه‌السلام بألقاب كثيرة، جاء كثير منها في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها : « يعسوب المؤمنين » وأصل اليعسوب هو ملك النحل، ومنه قيل للسيِّد : يعسوب، والمؤمنون يتشبَّهون بالنحل؛ لأنَّ النحل تأكل طيباً.

ويلقَّب أيضاً : الولي، والوصي، والتقي، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، وشبيه هارون، وصاحب اللوىٰ، وخاصف النعل، وكاشف الكرب، وأبو الريحانتين، وبيضة البلد، وغيرها كثير (٣).

وكنَّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي تراب لمَّا رآه ساجداً معفِّراً وجهه في التراب، فكان ذلك من أحبِّ ألقابه إليه.

_______________________

١) و ٢) تذكرة الخواص : ٤.

٣) نفس المصدر.

٢٤

وجاء في سبب تسميته ـ كما نقله ابن إسحاق عن عمَّار بن ياسر ـ أنَّه قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة، فلمَّا نزلها رسول الله وأقام بها، رأينا ناساً من بني مدلج يعملون في عين لهم، فقال لي عليٌّ عليه‌السلام : « يا أبا اليقظان، هل لك في أن نأتي هؤلاء القوم لننظر كيف يعملون! » قلت : إن شئت، فجئناهم ونظرنا إلىٰ عملهم ساعة ثُمَّ غشينا النوم، فانطلقت أنا وعليٌّ واضطجعنا في صور من النخل علىٰ التراب اللين ونمنا، والله ما أيقظنا إلَّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُحرِّكنا برجله، وقد تترَّبنا من تلك البقعة التي نمنا فيها، ففي ذلك اليوم قال الرسول لعليٍّ عليه‌السلام : « ما لك يا أبا تراب »! (١)

رواه أيضاً ابن جرير الطبري (٢) في تاريخه، ثُمَّ ذكر سبباً آخر في هذه التسمية، خلاصته أنَّه قيل لسهل بن سعد الساعدي : إنَّ بعض أمراء المدينة يريد أن يبعث إليك لتسبَّ عليَّ بن أبي طالب علىٰ المنبر، وتقول له : يا أبا تراب، قال : والله ما سمَّاه بذلك إلَّا رسول الله. قلت : وكيف ذاك؟ قال : دخل عليٌّ عليه‌السلام علىٰ فاطمة الزهراء، ثُمَّ خرج من الدار، وذهب إلىٰ المسجد واضطجع في فيئه، ثُمَّ دخل رسول الله علىٰ فاطمة وسألها عن عليٍّ عليه‌السلام ، فقالت له : « هو ذاك مضطجع في المسجد »، فجاءه رسول الله فوجده وقد سقط رداؤه عن ظهره؛ فقال له : « اجلس أبا تراب » فوالله ما سمَّاه بذلك إلَّا رسول الله، وكان أحبَّ أسمائه إليه.

_______________________

١) سير اعلام النبلاء ١ : ٢٩٨.

٢) تاريخ الطبري ٢ : ١٢٣ بتصرف.

٢٥

وأخرجه أحمد بن حنبل من وجه آخر، قال : حدَّثنا ابن نمير، عن عبدالملك الكندي، عن أبي حازم، قال : جاء رجل إلىٰ سهل بن سعد؛ فقال : هذا فلان يذكر علي بن أبي طالب عند المنبر، فقال : ما يقول ؟ قال : يقول : أبو تراب، ويلعن أبا تراب، فغضب سهل وقال : والله ما كنَّاه به إلَّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما كان اسم أحبَّ إليه منه.

وقال الزهري : والذي سبَّ عليَّاً في تلك الحالة مروان بن الحكم ؛ لأنَّه كان أميراً في المدينة من قبل معاوية، وذكر ذلك الحاكم أبو عبدالله النيسابوري أيضاً (١).

ولقَّبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً بأمير المؤمنين، حتَّىٰ قال فيه : « سلِّموا علىٰ عليٍّ بإمرة المؤمنين » (٢).

ومن ألقابه (٣) أيضاً : المرتضىٰ، ونفس الرسول، وأخوه، وزوج البتول، وسيف الله المسلول، وأمير البررة، وقاتل الفجرة، وقسيم النار، وصاحب اللواء، وسيِّد العرب، وكشَّاف الكرب، والصدِّيق الأكبر، والهادي، والفاروق، والداعي، والشاهد، وباب المدينة ـ أي مدينة العلم ـ وغرَّة المهاجرين، والكرَّار غير الفرَّار، والفقَّار، وبيضة البلد.

واجتمعت في عليِّ بن أبي طالب خلاصة الصفات التي اشتهرت بها أُسرته الهاشمية من النبل والشجاعة .. وممَّا قاله القائلون عن شجاعته : إنَّه

_______________________

١) تذكرة الخواص : ٥.

٢) أنظر : ارشاد المفيد ١ : ٤٨.

٣) للمزيد أنظر : المناقب / الخوارزمي ٤٠ ـ ٤٣ ط مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٦

ما عُرف عن بطل في العالم إلَّا كان مغلوباً حيناً، وغالباً حيناً، إلَّا عليٌّ عليه‌السلام فهو الغالب أبداً ودائماً، ومن هنا كان العرب يفخرون بأنَّ قريبهم قُتل بسيف عليٍّ، ويجعلون من هذا دليلاً علىٰ أنَّ صاحبهم بارز عليَّاً، وهو الموت الذي لابدَّ منه.

وعُرف أيضاً بالمروءة والعلم والذكاء، وقد كان يقول : « لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً في تفسير فاتحة الكتاب » (١). وهو أعلم أصحاب رسول الله قاطبة بلا منازع، وفي هذا أحاديث كثيرة تشهد له، ووقائع كثيرة تصدّقه.

نشأته :

كلُّ مولود يولد تتعاقبه وراثة الأجيال، فيأخذ من الأب والأمِّ ما يكوِّن به شخصيَّته النفسية والروحية والأخلاقية، والإمام عليٌّ عليه‌السلام معروف النسب، فهو ابن سادة العرب، أهل المروءة والشجاعة والكرم، توارثوا السيادة وخصالها أباً عن جدٍّ، عن أبيهم إبراهيم خليل الرحمن.

كما هيَّأ الله سبحانه الأسباب لعليٍّ ليكون أكثر الناس قرباً من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخصِّهم به.. بل ليكون النبيُّ أقرب إليه من أبيه وأخوته، ففي الثامنة من عمر علي عليه‌السلام ـ وربما كان حوالي عام ٦٠٦ م ـ دخلت قريش أزمة شديدة طاحنة، وسنة مجدبة منهكة، شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها علىٰ أبي طالب شديداً، إذ كان ذا عيال كثير وقلَّة من المال لا يفي

_______________________

١) مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٤٣، ينابيع المودة / القندوزي : ٦٥.

٢٧

بنفقة رجل مثله، فعند ذاك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمَّيه الحمزة والعبَّاس : « ألا نحمل ثقل أبي طالب، ونخفِّف عنه عياله ؟ »

فجاءوا إليه وسألوه أن يسلِّمهم وِلده ليكفوه أمرهم، فقال لهم : دعوا لي عقيلاً وخُذوا من شئتم، فأخذ العبَّاس طالباً، وحمزة جعفراً، وأخذ محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليَّاً عليه‌السلام (١).

وانتقل عليٌّ عليه‌السلام وهو في مطلع صباه إلىٰ كفيله محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فرُبِّي في حجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يفارقه، وكانت فاطمة بنت أسد كالأُمِّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وكذلك كانت خديجة بنت خويلد كالأُمِّ لعليٍّ عليه‌السلام.

فنشأ عليٌّ عليه‌السلام في بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرعاه وينفق عليه، فحاز بذلك من الشرف ما لم يحزه غيره.. فقد نشأ يستلهم من معلِّمه معالم الأخلاق والتربية الروحية والفكرية، وكذا دقائق الحكمة والمعرفة، حتَّىٰ أدرك من الحقائق ما لم يدركه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد غيره، حتىٰ تطبّع بصفات كافله، ولم تكن فيه صفة إلَّا وهي مشدودة بصفات معلِّمه الأول والأخير، وما من شيء أنكره قلب محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلَّا وأنكره قلب عليٍّ عليه‌السلام ، وكان هذا قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأدرك التلميذ من معلِّمه العظيم حقائق الكون ونواميس الطبيعة، بل وأسرار الوجود، وأصبح المثل الأعلىٰ في جميع شمائله وأفعاله، وتحلَّىٰ بأعلىٰ ذروة من ذرىٰ الكمال الروحي والأخلاقي.

_______________________

١) الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٢.

٢٨

ووصف عليه‌السلام تلك الأيام القيِّمة مبيّنا فضلها واختصاصه بها على من سواه، فقال :

« وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمُّني إلىٰ صدره.. وكان يمضغُ الشيء ثُمَّ يُلقمنيه، وما وجد لي كذبةً في قول، ولا خطلة في فعل.. ولقد كنت أتَّبعه اتباع الفصيل أثر أمِّه، يرفع لي في كلِّ يومٍ من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كلِّ سنة بحراء فأراه، ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما، أرىٰ نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوَّة. ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرَّنَّة ؟ فقال : هذا الشيطان قد أيِسَ من عبادَتِهِ. إنَّك تسمعُ ما أسمعُ، وترى ما أرى، إلّا أنَّكَ لَسْت بِنَبِيٍّ، ولكنَّكَ لَوزيرٌ وإنَّك لَعَلَىٰ خيرٍ... » (١).

_______________________

١) نهج البلاغة / تحقيق صبحي الصالح الخطبة ١٩٢ بتصرف.

٢٩

الفصل الثاني : علي عليه‌السلام مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد البعثة

المبحث الأول : بعد البعثة في مكة

١ ـ أوَّل الناس إسلاماً :

أجمعت الروايات علىٰ أنَّه لم يتقدّم من عليٍّ شرك أبداً، ولم يسجد لصنم قط، وتكرَّم وجهه منذ أول وهلة، فلا طاف حول صنم ولا سجد له، فكانت نفسه خالصة لله تعالىٰ، وكان عنواناً للشرف والاستقامة، لقد صاحبته منذ الصبا صراحة الإيمان، والثقة العالية بالنفس، والشجاعة الضرورية لكل إرادة حقة، فكان إيمانه هو الحاكم المطلق، والمسيطر الأوحد علىٰ جميع حركاته وسكناته. فلا مجال لأن يتوهّم من عبارة أنه أول الناس اسلاماً كونه علىٰ خلاف ذلك قبل البعثة.

والحقُّ أنَّه كان أوفر الناس حظاً، بل هو الاصطفاء بحق، حيث منَّ الله عليه بصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ صباه حتَّىٰ نشأ علىٰ يديه، لم يفارقه في سلم أو حرب، وفي حل أو سفر، إلىٰ أن لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلىٰ وهو علىٰ، صدر عليّ..

إنّه ربيب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان يغذِّيه معنوياً وروحياً ويؤدّبه ويعلّمه.

ثم أسلمت السيدة خديجة أم المؤمنين فكانت، ثالثة أهل هذا البيت، إنّها أجابت وأسرعت الاجابة، فكان هؤلاء الثلاثة يعبدون الله على هذا الدين الجديد قبل أن يعرفه بعد أحد غيرهم.

٣٠

ففي الصحيح : أنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخرج إلىٰ البيت الحرام ليصلِّي فيه، فيصحبه عليٌّ وخديجة فيصلِّيان خلفه، علىٰ مرأىٰ من الناس، ولم يكن علىٰ الأرض من يصلِّي تلك الصلاة غيرهم (١).

وعن عفيف بن قيس، قال : كنتُ جالساً مع العبَّاس بن عبدالمطَّلب رضي الله عنه بمكة قبل أن يظهر أمرُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء شاب فنظر إلىٰ السماء حيث تحلَّقت الشمس، ثم استقبلَ الكعبة فقام يصلي، ثم جاء غلامٌ فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأةٌ فقامت خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام والمرأة، ثم رفع الشاب فرفعا، ثم سجد الشاب فسجدا، فقلت : يا عبَّاس، أمر عظيم، فقال العبَّاس : أمر عظيم، فقال : أتدري من هذا الشاب؟ هذا محمَّد بن عبدالله ـ ابن أخي ـ أتدري من هذا الغلام؟ هذا علي بن أبي طالب ـ ابن أخي ـ أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد. إنَّ ابن أخي هذا حدَّثني أنَّ ربَّه ربُّ السماوات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه، ولا والله ما علىٰ ظهر الأرض علىٰ هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة، قال عفيف : ليتني كنتُ رابعاً (٢).

وبقي هؤلاء الثلاثة علىٰ هذا الدين، يتكتمون من الناس أياماً طوالاً، رجع في بعضها علي إلىٰ أبيه بعد عودته من بعض الشعاب، حيث كان يتعبَّد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ـ يا بني : ما هذا الدين الذي أنت عليه؟

_______________________

١) المستدرك علىٰ الصحيحين / الحاكم النيسابوري ٣ : ٢٠١، ح٤٨٤٢ / ٤٤٠، دار الكتب العلمية.

٢) تاريخ الطبري ٢ : ٥٦ ـ ٥٧.

٣١

ـ أجاب : يا أبه! آمنت بالله وبرسوله وصلَّيتُ معه.

فقال أبوه : أمَّا إنَّه لا يدعونا إلَّا إلىٰ الخير فالزمه (١).

فكان علي أول من أسلم، هكذا أثبت سائر أهل العلم، وهذا ما تؤكّده الأحاديث النبوية الشريفة.

ففي كلام أهل العلم : قال اليعقوبي في تاريخه : «كان أول من أسلم : خديجة بنت خويلد من النساء، وعليٌّ بن أبي طالب من الرجال، ثُمَّ زيد بن حارثة، ثُمَّ أبو ذرٍّ، وقيل : أبو بكر قبل أبي ذرٍّ، ثُمَّ عمرو بن عبسة السلمي، ثُمَّ خالد بن سعيد بن العاص، ثُمَّ سعد بن أبي وقَّاص، ثُمَّ عتبة بن غزوان، ثُمَّ خبَّاب بن الأرت، ثُمَّ مصعب بن عمير» (٢).

وممَّن قال بأنَّ علياً أولهم إسلاماً : ابن عبَّاس، وأنس بن مالك، وزيد ابن أرقم. رواه الترمذي ورواه الطبراني عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، وروي عن محمَّد بن كعب القرظي، وقال بريدة : أولهم اسلاماً خديجة، ثُمَّ عليٌّ عليه‌السلام وحكي مثله عن أبي ذرٍّ، والمقداد وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، والحسن البصري وغيرهم (٣) : أنَّ عليَّاً أول من أسلم بعد خديجة، وفضّله هؤلاء علىٰ غيره (٤).

وعن أنس بن مالك، قال : «بعُث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الأثنين، وأسلم عليٌّ

_______________________

١) انظر الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٣.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣.

٣) انظر شذرات الذهب / ابن طولون : ٤٨ ـ ٤٩.

٤) أسد الغابة ٤ : ١٠٣.

٣٢

يوم الثلاثاء» (١).

وجاء في خبر محمَّد بن المنذر، وربيع بن أبي عبدالرحمن، وأبي حازم المدني والكلبي : أوَّل من أسلم عليٌّ.

قال الكلبي : كان عمره تسع سنين، وكذا قول الحسن بن زيد بن الحسن، وقيل : إحدىٰ عشرة سنة، وقيل غير ذلك (٢).

وقال ابن اسحاق : «أول من أسلم علي وعمره إحدىٰ عشرة سنة» (٣).

ومن قال : «أسلم عليٌّ وهو ابن عشر سنين» مجاهد برواية يونس عن ابن اسحاق، عن عبدالله بن أبي نجيح (٤).

وقال عروة : أسلم وهو ابن ثمان، وقال المغيرة : أسلم وله أربع عشرة سنة، رواه جرير عنه (٥).

وعن سعد بن أبي وقَّاص، وقد سمع رجلاً يشتم أمير المؤمنين عليه‌السلام فوقف عليه وقرَّره بقوله : يا هذا، علامَ تشتم عليَّ بن أبي طالب؟ ألم يكن أول من أسلم؟ ألم يكن أول من صلَّىٰ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ألم يكن أعلم الناس؟... إلىٰ آخره (٦).

_______________________

١) أسد الغابة ٤ : ١٠٢، ينابيع المودَّة ٢ : ٦٨.

٢) انظر تهذيب الكمال في أسماء الرجال ١٣ : ٢٩٩ ـ ٣٠٠.

٣) الكامل في التاريخ ٢ : ٥٨٢.

٤) انظرها في أسد الغابة ٤ : ١٠١.

٥) سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٢٧.

٦) مستدرك الحاكم ٣ : ٥٠٠، وصحَّحه هو والذهبي، وحياة الصحابة ٢ : ٥١٤ ـ ٥١٥.

٣٣

قال الشيخ المفيد : «والأخبار في كونه أول من اسلم كثيرة وشواهدها جمَّة، فمن ذلك : قول خُزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين رحمه‌الله فيما أخبرني به أبو عبيدالله محمَّد بن عمران المرزباني، عن محمَّد بن العباس، قال : أنشدنا محمَّد بن يزيد النحوي، عن ابن عائشة لخزيمة بن ثابت رضي‌الله‌عنه :

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفاً

عن هاشم ثُمَّ منها عن أبي حسنِ

أليس أول من صلَّىٰ لقبلتهم

وأعرف الناس بالآثار والسننِ» (١)

أما الأحاديث النبوية الشريفة فإنَّ الواحد منها يكفي هنا لقطع النزاع وردّ أيّ ادعاء في تقديم أحد على عليّ عليه‌السلام في إسلامه، والحق أن معظم الذين أدعوا أسبقية أبي بكر لم يقولوا بأنه أسلم قبل علي أو خديجة أو زيد بن حارثة، بل وضعوا تصنيفاً من عند أنفسهم يجعل لأبي بكر أولوية بحسب هذا التصنيف، فقالوا : أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال، ومن الرجال أبو بكر (٢)! هذا مع أن أبا ذر ـ على الأقل ـ كان قد سبق أبا بكر، وكان رابعاً.

ولنقف الآن علىٰ بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي قطعت كل نزاع وردّت كل ادعاء :

فمما ورد عن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسند صحيح قوله : « أوَّلكم وروداً عليَّ الحوض، أوَّلكم إسلاماً عليُّ بن أبي طالب » (٣).

_______________________

١) الارشاد ١ : ٣٢.

٢) انظر : البداية والنهاية ٧ : ٢٢٣.

٣) الاستيعاب / ابن عبدالبر القرطبي٣ : ٢٨، مطبوع بهامش الإصابة سنة ١٣٢٨هـ.ق، دارالمعارف، مصر،

٣٤

وعن سلمان الفارسي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أول هذه الأُمَّة وروداً علىٰ نبيِّها أولها اسلاماً عليٌّ بن أبي طالب ». رواه الدَبَري عن عبدالرزاق، عن الثوري، عن قيس بن مسلم، قال الهيثمي : رواه الطبراني ورجاله ثقات (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة الزهراء عليها‌السلام، كما رواه أنس : « قد زوَّجتك أعظمهم حلماً، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً ». وروىٰ نحوه جابر الجعفي وغيره (٢).

وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليٍّ عليه‌السلام : « أنت أول من آمن بي، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدِّيق الأكبر، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين » (٣).

وأخيراً فقد كان علي عليه‌السلام يصرِّح في كثير من المناسبات بذلك، فيقول عن نفسه : « أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصدِّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلَّا كاذب مفتر، ولقد صلَّيت قبل الناس سبع سنين » (٤).

_______________________

تاريخ بغداد / الخطيب البغدادي٢ : ٨١، نشر دار الكتاب العربي، بيروت ـ لبنان، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٣٦ ط سنة ١٣٤٢هـ الهند وصحَّحه، تهذيب الكمال في أسماء الرجال ١٣ : ٢٩٩، وعنه : أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد باب إسلامه رضي الله عنه ٩ : ١٠٢.

١) انظر أسد الغابة ٤ : ١٠٣.

٢) سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٣٠.

٣) إعلام الورىٰ ١ : ٣٦٠.

٤) سنن بن ماجة ١ : ٤٤ / ١٢٠، الخصائص / النسائي : ٣، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١١٢.

٣٥

ويقول عليه‌السلام : « أنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر » (١).

وأمّا أبو بكر، فقد أخرج الطبري في تاريخه بسندٍ صحيح أنه أسلم بعد خمسين رجلاً، وهذا نصّ روايته : «حدّثنا ابن حُميد، قال حدّثنا كنانة بن جبلة، عن إبراهيم بن طَهمان، عن الحجّاج بن الحجّاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي سالم بن أبي الجَعْد، عن محمد بن سعد، قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أوَّلكم إسلاماً ؟ فقال : لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين» (٢).

٢ ـ الدعوة الخاصة :

عليٌّ يوم الإنذار الأول :

بُعثَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يضع في حسابه أنَّ دعوته ستجابه بالرفض والتحدِّي دون أدنىٰ شكٍّ، فعرب الجاهلية تشرَّبت قلوبهم بعبادة الأوثان، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشغله هموم التبليغ، وخاصة انَّه كان يتمنَّىٰ أن يسارع في الاستجابة له أهله وعشيرته، وكلُّ من يتَّصل به بنسب أو سبب، لأنَّهم آله وعشيرته الذين يشكِّلون قوة مكينة، لمكانتهم المرموقة في داخل مكَّة وخارجها، فسيعود عليه إسلامهم بالنصر حتماً، فيصبح مرهوب الجانب وفي منعةٍ من الأعداء الألدَّاء، وهذه وسيلة متينة لتثبيت دعائم دعوته.

ومع كلِّ تمنِّياته تلك كان يخشىٰ أيضاً أن يرفضوا دعوته إذا دعاهم

_______________________

١) ترجمة الامام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ٦٢ / ٨٨.

٢) تاريخ الطبري ٢ : ٣١٦.

٣٦

لدين التوحيد، فينضمُّوا إلىٰ غيرهم من الأعداء والمكذِّبين والمستهزئين ببعثته صلوات الله وسلامه عليه..

في تلك اللحظات الحاسمة دوّىٰ صوت جبرئيل ليملأ أُذني النبي بالنذارة، مبلِّغاً عن الله عزَّ اسمه قوله : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ) (١). ألقاها علىٰ عاتقه الشريف، وليس له مناصر ومعين غير نفر قليل مستخفّين بإيمانهم، وكان هذا الحدث بعد مبعثه الشريف بثلاث سنين.

قال جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم : «لمَّا أنزل الله علىٰ رسوله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) اشتدَّ ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عمَّاته يعُدنه، فقال : « ما اشتكيتُ شيئاً، ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين »» (٢)..

بعد ذلك عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثالاً لأوامر الله تعالىٰ علىٰ إنذار آله وعشيرته ودعوتهم إلىٰ الله، فجمع بني عبدالمطلب في دار أبي طالب، وكانوا أربعين رجلاً ـ يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً ـ وكان قد قال لعلي عليه‌السلام : « اصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن »، قال علي عليه‌السلام وهو ينقل هذا الحديث واصفاً قومه : « وإنَّ منهم من

_______________________

١) سورة الشعراء : ٢١٤.

٢) الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٤.

٣٧

يأكل الجذعة ويشرب الفرق » (١)، وأراد عليه‌السلام بإعداد قليل من الطعام والشراب لجماعتهم إظهار الآية لهم في شبعهم وريِّهم ممَّا كان لا يشبع الواحد منهم ولا يرويه (٢).

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي ؟ » قالوا : بلى، أنت عندنا غير متهم، وما جرَّبنا عليك كذباً، فقال : « أني نذير لكم من بين يدي عذاب شديد » فقطع كلامه عمه أبو لهب، وقال : تباً لك! ألهذا جمعتنا؟! ثم عاد فجمعهم ثانية، فأعاد أبو لهب مثل قولته الاولى، فتفرّقوا، فأنزل الله تعالى عليه ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) (٣) الى آخر السورة المباركة.

ثم جمعهم مرَّةً أُخرىٰ ليكلِّمهم، وفيهم أعمامه : أبو طالب والحمزة والعبَّاس وأبو لهب، وغيرهم من أعمامه وبني عمومته، فأحضر عليٌّ عليه‌السلام لهم الطعام ووضعه بين أيديهم، وكان بإمكان الرجل الواحد أن يأكله بكامله، فتهامسوا وتبادلوا النظرات الساخرة من تلك المائدة التي لا تقوم حسب العادة لأكثر من رجلين أو ثلاثة رجال، ثم مدُّوا أيديهم إليها وجعلوا يأكلون، ولا يبدو عليها النقص حتَّىٰ شبعوا، وبقي من الطعام ما يكفي لغيرهم.

فلمَّا أكلوا وشربوا قال لهم النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بني عبدالمطَّلب، والله

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧.

٢) الإرشاد ١ : ٤٩.

٣) سورة المسد : ١.

٣٨

ما أعلم شابَّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممَّا جئتكم به، إنِّي جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالىٰ أن أدعوكم إليه » ثمَّ عرض عليهم أصول الإسلام وقال : « فأيُّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر، علىٰ أن يكون أخي ووصيِّي، وخليفتي فيكم من بعدي »؟.

فلم يجب أحد منهم، فأعاد عليهم الحديث ثانياً وثالثاً، وفي كلِّ مرَّةٍ لا يجيبه أحد غير عليٍّ عليه‌السلام، قال عليٌّ : ـ والرواية عنه ـ « فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت ـ وأنا لأحدثهم سناً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، ثُمَّ قال : إنَّ هذا أخي، ووصيِّي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ».

قال : « فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع » (١). فقال أبو لهب : خذوا علىٰ يَدَي صاحبكم قبل أن يأخذ علىٰ يده غيركم، فإن منعتموه قُتلتم، وإن تركتموه ذللتم.

فقال أبو طالب : يا عورة، والله لننصرنَّه ثُمَّ لنعيننَّه، يا ابن أخي إذا أردت أن تدعو إلىٰ ربِّك فأعلمنا حتَّىٰ نخرج معك بالسلاح (٢).

ومن بين جميع الأهل والأقارب كان محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شديد الحزن والمرارة، فقد كان وحيداً، وكان يتمنَّىٰ مناصرة قومه له علىٰ قوىٰ الشرك المدجَّجة بالمال والسلاح، لكنَّ عليَّاً عليه‌السلام كان قوماً له رغم صغر سنه،

_______________________

١) تاريخ الطبري ٢ : ٢١٧، معالم التنزيل في التفسير والتأويل / البغوي ٤ : ٢٧٨، الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٦، الترجمة من تاريخ ابن عساكر ١ : ١٠٠ / ١٣٧ و١٣٨ و١٣٩، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل / الحاكم الحسكاني الحنفي ـ تحقيق محمَّد باقر المحمودي ـ مؤسسة الأعلمي بيروت ١ : ٣٧٢ ـ ٣٧٣ / ٥١٤ و٤٢٠ / ٥٨٠، كنز العمَّال ١٣ : ١٣١ / ٣٦٤٦٩.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٧ ـ ٢٨.

٣٩

وشاءت الأقدار أن ينصر أخاه بسلاحه « فأنا حربٌ علىٰ من حاربت »، بهذه التلبية أثمر الاصطفاء، وأُرسيت دعائم الإسلام فوق جماجم الشرك..

وهذا البيان الصريح في علي عليه‌السلام : « أخي، ووصي، وخليفتي من بعدي » لابد أن يجد من يبذل كل جهد للالتفاف عليه إما بالتغييب، وإما بالتكذيب، واما بالتأويل...

ذكر الشيخ محمَّد جواد مغنية في كتابه (فلسفة التوحيد والولاية) ـ بعد أن ذكر المصادر الأساسية لهذه الواقعة ـ : أنَّ من الذين رووا نصَّ النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ عليٍّ عليه‌السلام بالخلافة ـ عندما دعا عشيرته وبلَّغهم رسالة ربِّه ـ : محمَّد حسين هيكل في الطبعة الأولىٰ من كتابه (حياة محمَّد)، ومحمَّد عبدالله عنان في كتابه (تاريخ الجمعيات)، ولكنَّ هيكل ـ في الطبعة الثانية وما بعدها من الطبعات ـ قد مسخ الحديث المذكور وحرَّف منه كلمة « خليفتي من بعدي » في مقابل خمسمائة جنيه، أخذها من جماعة ثمناً لهذا التحريف (١).

أمَّا ابن كثير فقد ذكر القصَّة بتفاصيلها ـ ولكن بقصد تكذيبها ـ إلىٰ أن قال : فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أيُّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر، علىٰ أن يكون أخي » وكذا وكذا؟.

قال عليٌّ ـ عليه‌السلام ـ : « فأحجم القوم جميعاً، وقلت ـ وإنِّي لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقاً ـ : أنا يا نبيَّ الله أكون وزيرك

_______________________

١) أنظر سيرة المصطفىٰ ـ نظرة جديدة / هاشم معروف الحسني، منشورات الشريف الرضي : ١٣٠، وكذا ذكره في كتابه سيرة الأئمة الاثني عشر ١ : ١٥٧، وأضاف قائلاً : بعد أن ساوموه علىٰ شراء ألف نسخة من الكتاب فوافق علىٰ ذلك، ورواه في ط ٢ وما بعدها بدون كلمة « خليفتي من بعدي ».

٤٠