الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

اسلام الموسوي

الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

المؤلف:

اسلام الموسوي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧

عند ذلك استرجع الإمام وقال : « اللَّهمَّ اشهد »، ثُمَّ لبس درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب؛ فدفعها إلىٰ ولده محمَّد بن الحنفية.

وتقابل الفريقان للقتال، فخرج الزبير، وخرج طلحة بين الصفَّين، فخرج إليهما عليٌّ، حتىٰ اختلفت أعناق دوابِّهم، فقال عليٌّ عليه‌السلام : « لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتَّقيا الله، ولا تكونا ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ) (١).

ألم أكن أخاكما في دينكما، تُحرِّمان دمي، وأُحرِّم دمكما، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي »؟!

قال طلحة : ألَّبت علىٰ عُثمان.

قال عليٌّ : « ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ )، يا طلحة، تطلب بدم عُثمان؟! فلعن الله قتلة عُثمان، يا طلحة، أجئت بِعرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقاتل بها، وخبَّأتَ عرسك في البيت! أما بايعتني؟! ».

قال : بايعتك والسيف علىٰ عنقي!

فقال عليٌّ عليه‌السلام للزبير : « يا زبير، ما أخرجك؟ قد كنَّا نعدُّك من بني عبدالمطَّلب حتىٰ بلغ ابنك ابن السوء (٢)، ففرَّق بيننا » وذكَّره أشياء، فقال : « أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني غنم، فنظر إليَّ، فضحك، وضحكت إليه، فقلتَ له : لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك : ليس به

_______________________

١) سورة النحل : ٩٢.

٢) يريد ابنه عبدالله.

٢٠١

زهوٌ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له؟ ».

قال : اللَّهمَّ نعم، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أُقاتلك أبداً.

فانصرف الزبير إلىٰ عائشة، فقال لها : ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلَّا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا.

قالت : فما تريد أن تصنع؟

قال : أُريد أن أدعهم وأذهب.

قال له ابنه عبدالله : جمعت بين هذين الغارين، حتىٰ إذا حدَّد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب؟! لكنَّك خشيت رايات ابن أبي طالب، وعلمت أنَّها تحملها فتيةٌ أنجاد، وأنَّ تحتها الموت الأحمر، فجبنت!

فاحفظه ـ أي : أغضبه ـ ذلك، وقال : إنِّي حلفتُ ألَّا أُقاتله.

قال : كفِّر عن يمينك، وقاتله.

فأعتق غلامه (مكحولاً)، وقيل : سرجيس.

فقال عبدالرحمن بن سلمان التميميُّ :

لم أرَ كاليوم أخا إخوانِ

أعْجَبَ من مُكَفِّرِ الأَيمانِ

بالعتق في معصية الرحمٰن (١)

وقيل : إنَّه عاد ولم يقاتل الإمام عليه‌السلام (٢).

واحتدمت المعركة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة

_______________________

١) تاريخ الطبري ٥ : ٢٠٠، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٣٩، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٦٦ ـ ٣٦٧.

٢) الإمامة والسياسة : ٧٣.

٢٠٢

أشدَّ منه، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحكم رمىٰ طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليه‌السلام! يرميه فيرديه ويقول : لا أطلب بثأري بعد اليوم (١).

واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ، لم يرَ سوىٰ الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي، فتتهاوىٰ أجساد المسلمين علىٰ الأرض.

ولمَّا رأىٰ الإمام هذا الموقف الرهيب من كلا الطرفين، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً مادام الجمل واقفاً علىٰ قوائمه قال : « إرشقوا الجمل بالنبل، واعقروه وإلَّا فنيت العرب، ولايزال السيف قائماً حتىٰ يهوي هذا البعير إلىٰ الأرض ». فقطعوا قوائمه، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف، فهوىٰ إلىٰ الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث، وبقيت قائدة المعركة لوحدها في ميدان الحرب! وانتهت المعركة بهزيمة المتمرِّدين من أصحاب الجمل.

أمَّا الإمام عليه‌السلام فقد هاله موقف المسلمين منه، حتىٰ ساقهم هذا العصيان والتمرُّد علىٰ الحقِّ إلىٰ مثل هذا المصير، فوقف بين قتلاه وقتلىٰ المتمرِّدين، تحيط به هالة القلق والتمزُّق فقال : « هذه قريشٌ، جَدَعْتُ أنفي وشفيتُ نفسي، لقد تقدَّمت إليكم أُحذِّركم عضَّ السيوف، وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون، ولكنَّه الحَين (٢)، وسوء المصرع، فأعوذ بالله من سوء المصرع » (٣).

ثمَّ أمر عليٌّ عليه‌السلام نفراً أن يحملوا هودج عائشة من بين القتلىٰ، وأمر

_______________________

١) سير أعلام النبلاء (ترجمة الإمام عليٍّ) : ٢٥٥، وانظر، الكامل في التاريخ ٣ : ١٢٨.

٢) الحين : الهلاك.

٣) الإرشاد ١ : ٢٥٤.

٢٠٣

أخاها محمَّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبَّةً، وقال : « انظر هل وصل إليها شيء من جراحة »؟ فأدخل رأسه في هودجها، فقالت : من أنت؟ قال : أبغض أهلك إليك. قالت : ابن الخثعمية؟ قال : نعم. قالت : يا بأبي، الحمد لله الذي عافاك (١)!

فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بكر البصرة، في دار صفية بنت الحارث، ثمَّ دخل الإمام عليه‌السلام البصرة فبايعه أهلها علىٰ راياتهم حتىٰ الجرحىٰ والمستأمنة..

ثمَّ جهَّز عليٌّ عليه‌السلام عائشة بكلِّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وبعث معها كلَّ من نجا، ممَّن خرج معها، إلَّا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بكر (٢).

وقيل : إنَّه لمَّا أُخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل، فتكلَّم فيه الحسن والحسين عليهما‌السلام فخلَّىٰ سبيله فقالا له : « يبايعك، يا أمير المؤمنين؟ » فقال : « ألم يبايعني بعد قتل عُثمان، لا حاجة لي في بيعته، أما إنَّ له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبش الأربعة، وستلقىٰ الأُمَّة منه ومن ولده موتاً أحمر ». فكان كما قال عليه‌السلام (٣).

ورُبَّ سائل يسأل : ما هي الآثار التي تركتها فتنة الجمل؟

فيُجيب الأستاذ محمَّد جواد مغنية بقوله : «لولا حرب الجمل لما كانت

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٤٠.

٢) الكامل في التاريخ ٢ : ١٤٤.

٣) إعلام الورىٰ ١ : ٣٤٠.

٢٠٤

حرب صفِّين والنهروان، ولا مذبحة كربلاء، ووقعة الحرّة، ولا رُميت الكعبة المكرَّمة بالمنجنيق أكثر من مرَّة، ولا كانت الحرب بين الزبيريِّين والأُمويِّين، ولا بين الأُمويِّين والعباسيِّين، ولما افترق المسلمون إلىٰ سُنَّة وشيعة، ولما وجد بينهم جواسيس وعملاء يعملون علىٰ التفريق والشتات، ولما صارت الخلافة الإسلامية ملكاً يتوارثها الصبيان، ويتلاعب بها الخدم والنسوان.

لقد جمعت حرب الجمل جميع الرذائل والنقائص، لأنَّها السبب لضعف المسلمين وإذلالهم، واستعبادهم وغصب بلادهم، فلقد كانت أوَّل فتنةٍ ألقت بأس المسلمين بينهم، يقتل بعضهم بعضاً، بعد أن كانوا قوَّةً علىٰ أعدائهم، كما فسحت المجال لما تلاها من الفتن والحروب الداخلية التي أودت بكيان المسلمين ووحدتهم، ومهَّدت لحكم الترك والديلم والصليبيِّين وغيرهم. وباختصار لولا فتنة الجمل لاجتمع أهل الأرض علىٰ الإسلام، لأنَّ رحمته تشمل الناس أجمعين ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) وقال النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّما أنا رحمة مهداة » » (١).

عليٌّ في طريقه إلىٰ الشام، وحرب صفِّين :

لمَّا انتهت فتنة الجمل استعدَّ الإمام إلىٰ حرب معاوية، فوجد حماساً وتجاوباً من أهل الكوفة، فقد كان قسم كبير منهم قد اشتركوا معه في معركة الجمل، وهم الآن يريدون أن يضيفوا نصراً جديدا للإسلام.

ثمَّ إنَّ الإمام وقبل حرب صفِّين قد أرسل إلىٰ معاوية السفراء والكتب

_______________________

١) فضائل الإمام عليٍّ : ١٣٨ ـ ١٣٩.

٢٠٥

يدعوه إلىٰ الطاعة والدخول فيما دخل المسلمون من قبله، لكنَّه لم يستجب لطلبه، بل أظهر الشدَّة والصلافة في ردِّه علىٰ رسائل الإمام، واختار القتال علىٰ الصلح والمسالمة.

في هذه الأثناء تجهَّز معاوية بجيشٍ ضخمٍ واتَّجه به صوب العراق، ولمَّا بلغ أمير المؤمنين خبره جهَّز جيشه، واتَّجه نحو الزحف، ليقطع عليهم الدخول إلىٰ أرض العراق، لما في ذلك من قتل ونهب وفساد كبير.. فكان من ذلك حرب صفِّين، وبالشعار السابق نفسه : « دم عُثمان »!

فتمرَّدوا وأعدُّوا العدَّة لمحاربة إمام المتَّقين.. فهم لم يخرجوا في طلب الثأر لعثمان، بل كان خروجهم ضدَّ الإمام، وضدَّ الإسلام كلِّه، والثأر لأنفسهم، ونرىٰ ذلك واضحاً من كلام ابن العاص مع معاوية علىٰ الشعار المزيَّف، حيث قال عمرو بن العاص لمعاوية :

واسوأتاه! إنَّ أحقَّ الناس ألَّا يذكر عُثمان لا أنا ولا أنت!

قال معاوية : ولِمَ ويحك؟!

قال : أمَّا أنت فخذلته ومعك أهل الشام! وأمَّا أنا فتركته عياناً وهربتُ إلىٰ فلسطين!

وقال له : أما والله، إن قاتلنا معك نطلب دم الخليفة، إنَّ في النفس ما فيها، حيث نقاتل مَنْ تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنَّنا أردنا هذه الدنيا (١)!!

فأيُّ مكرٍ هذا الذي رأيناه من كلامهما؟! علىٰ مثل ذلك أعدُّوا العدَّة

_______________________

١) انظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٣ ـ ١٧٢، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٨٤ ـ ١٨٦، شرح نهج البلاغة ٢ : ٦٢ ـ ٦٦.

٢٠٦

لمحاربة الخليفة الجديد، فهؤلاء هم القاسطون الذين كرهوا خلافة الإمام عليٍّ عليه‌السلام.

ووصل الإمام إلىٰ صفِّين في ذي القعدة، وابتدأت الحرب في أوَّل ذي الحجَّة سنة ٣٦هـ، وحصلت الهدنة في المحرم سنة ٣٧ هـ، واستؤنف القتال في أوَّل صفر، وانتهىٰ في ١٣ منه (١)، وعسكر الإمام بالنُخيلة، وعقد لواءه لغلامه قنبر.

ونزل معاوية بمن معه في وادي صفِّين، وأخذ شريعة الفرات، وجعلها في حيِّزه، وبعث عليها أبا الأعور السُّلمي يحميها ويمنعها.. وبعث أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان إلىٰ معاوية، يسأله أن يخلِّي بين الناس والماء، فقال معاوية لأصحابه : ما ترون؟ فبعضهم قال : امنعهم الماء، كما منعوه ابن عفَّان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله، لكنَّ عمرو بن العاص حاول أن يقنع معاوية بأن يخلِّي بين القوم وبين الماء، فرجع صعصعة فأخبره بما كان، وأنَّ معاوية قال : سيأتيكم رأيي، فسرَّب الخيل إلىٰ أبي الأعور ليمنعهم الماء.

ولمَّا سمع عليٌّ عليه‌السلام ذلك قال : « قاتلوهم علىٰ الماء »، فأرسل كتائب من عسكره، فتقاتلوا واشتدَّ القتال، واستبسل أصحاب الإمام أشدَّ استبسالٍ، حتىٰ خلَّوا بينهم وبين الماء، وصار في أيدي أصحاب عليٍّ عليه‌السلام.

فقالوا : والله لا نسقيه أهل الشام!

فأرسل عليٌّ عليه‌السلام إلىٰ أصحابه أن : « خذوا من الماء حاجتكم وخلُّوا عنهم، فإنَّ الله نصركم بغيِّهم وظلمهم » (٢).

_______________________

١) فضائل الإمام عليٍّ : ١٤٢.

٢) أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٦٧، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٦٧ مختصراً.

٢٠٧

بهذا الخُلق الكريم عامل أمير المؤمنين عليه‌السلام أشدَّ مناوئيه..

ثمّ دعا عليّ عليه‌السلام جماعة من قادة جنده، فقال لهم : « ائتوا هذا الرجل وادعوه إلىٰ الله والىٰ الطاعة والجماعة ».

ففعلوا ما أمرهم به، لكنَّ معاوية قال لهم بعد أن سمع كلامهم : انصرفوا من عندي، فليس بيني وبينكم إلَّا السيف، وغضب القوم، وخرجوا، فأتوا عليَّاً عليه‌السلام فأخبروه بذلك..

واحتدم القتال بين الطرفين، فاقتتلوا يومهم كلَّه قتالاً شديداً لم يشهد له تاريخ الحروب مثيلاً، ثُمَّ تقدَّم الإمام عليٌّ عليه‌السلام بمن معه يتقدَّمهم عمَّار بن ياسر، ولمَّا برز لعمر بن العاص قال عمَّار : «لقد قاتلت صاحب هذه الراية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مرّات، وهذه الرابعة ما هي بأبرَّ وأنقىٰ» (١) يعني : راية معاوية.

وقال حبَّة بن جُوَين العُرَني : قلتُ لحذيفة بن اليمان : حدِّثنا فإنَّا نخاف الفتن.

فقال : عليكم بالفئة التي فيها ابن سُميَّة، فإنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، قال : « تقتله الفئة الباغية الناكبة (الناكثة) عن الطريق، وإنَّ آخر رزقه ضَياح من لبن »، وهو الممزوج بالماء من اللبن، قال حبَّة : فشهدته يوم قُتل وهو يقول : ائتوني بآخر رزقٍ لي في الدنيا، فأُتي بضياحٍ من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء ـ فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة ـ فقال :

اليوم ألقىٰ الأحبَّة

محمَّداً وحزبه

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٧ وانظر سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٦٥.

٢٠٨

والله لو ضربونا حتىٰ يبلغوا بنا سعفات هجر؛ لعلمت أنَّنا علىٰ الحقِّ وأنَّهم علىٰ الباطل، ثم قُتل (١) رضي الله عنه وأرضاه..

وقد تضعضع الكثيرون من أتباع ابن أبي سفيان لموقف عمَّار، لأنَّ مقولة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه لم تكن خافيةً علىٰ أحدٍ من الناس : « فطوبىٰ لعمَّار تقتله الفئة الباغية، عمَّار مع الحقِّ يدور معه كيفما دار » وهذا كلُّه من دلائل نبوَّة محمَّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكان ذو الكلاع قد سمع عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمَّار بن ياسر : « تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربةٍ تشربها ضَياح من لبن »، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو : ما هذا ويحك يا عمرو؟ فيقول عمرو : إنَّه سيرجع إلينا.

فقُتل ذو الكلاع قبل عمَّار مع معاوية، وأُصيب عمَّار بعده مع عليٍّ عليه‌السلام.

فقال عمرو لمعاوية : ما أدري بقتل أيُّهما أنا أشدُّ فرحاً، بقتل عمَّار أو بقتل ذي الكلاع؟ والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمَّار لمال بعامَّة أهل الشام إلىٰ عليٍّ (٢)، فأشرق وجه معاوية لذلك!

ولمَّا قُتل عمَّار، قال عليٌّ لربيعة وهمدان : « أنتم درعي ورمحي » فانتدب له نحو من اثني عشر عليه‌السلام وتقدَّمهم عليٌّ علىٰ بغلة، فحملوا معه حملة رجلٍ واحدٍ، فلم يبقَ لأهل الشام صفٌّ إلَّا انتقض، وقتلوا كلَّ من انتهوا إليه.. حتىٰ رأوا الظفر.

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٨.

٢) الكامل في التاريخ ٣ : ١٨٨.

٢٠٩

واستمرَّ القتال ليلةً كاملة حتىٰ الصباح. فتطاعنوا حتىٰ تقصَّفت الرماح، وتراموا حتىٰ نفد النبل، وكان الأشتر في الميمنة وابن عبَّاس في الميسرة وعليٌّ عليه‌السلام في القلب، والناس يقتتلون من كلِّ جانبٍ، حتىٰ أصبحوا والمعركة خلف أظهرهم.

رفع المصاحف.. «كلمة حقٍّ يُراد بها باطل» :

لمَّا رأىٰ عمرو أنَّ أمر أهل العراق قد اشتدَّ وخاف الهلاك، قال لمعاوية : هل لك في أمرٍ أعرضه عليك، لا يزيدنا إلَّا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلَّا فرقةً؟

قال : نعم.

قال : نرفع المصاحف، ثُمَّ نقول : هذا حكم بيننا وبينكم.

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا : هذا كتاب الله عزَّ وجلَّ بيننا وبينكم، مَنْ لثغور الشام بعد أهله؟ مَنْ لثغور العراق بعد أهله؟

فلمَّا رآها الناس قالوا : نجيب إلىٰ كتاب الله.

فقال لهم عليٌّ عليه‌السلام : « عباد الله امضوا علىٰ حقِّكم وصدقكم وقتال عدوِّكم، فإنَّ معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحَّاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرَف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثُمَّ رجالاً، فكانوا شرَّ أطفال وشرَّ رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلَّا خديعةً ووهناً ومكيدة ».

فقالوا له : لا يسعنا أن نُدعىٰ إلىٰ كتاب الله فنأبىٰ أن نقبله!

فقال لهم عليٌّ عليه‌السلام : « فإنِّي إنَّما أُقاتلهم ليدينوا لحكم الكتاب، فإنَّهم قد عصو الله فيما أمره ونسوا عهده ونبذوا كتابه ».

٢١٠

فقال له جماعة من المسلمين، الذين صاروا خوارج بعد ذلك : يا عليُّ، أجب إلىٰ كتاب الله عزَّ وجلَّ إذا دُعيت إليه، وإلَّا دفعناك برمَّتك إلىٰ القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفَّان!

قال : « فاحفظوا عنِّي نهيي إيَّاكم، واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوا فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم » (١).

لم تكن بينهم وبين معاوية إلَّا بضعة أمتار، فلولا وقوع هؤلاء في الفخ الذي نصبه معاوية لاستطاع الإمام عليه‌السلام أن يسيطر علىٰ الموقف ويستأصل رأس الفتن، ولكنَّ مسألة التحكيم غيَّرت مجرىٰ الأُمور إلىٰ أسوأ حال، فحالت دون تحقيق الهدف المنشود، وقُدِّر لهذه المؤامرة أن تنجح وأن تجرَّ وراءها المصائب والويلات!

ثمَّ قالوا للإمام : ابعث إلىٰ الأشتر فليأتكَ، فرجع الأشتر مغضباً بعدما أوشك علىٰ النصر، فأقبل إليهم الأشتر، وقال : يا أهل العراق! يا أهل الذلِّ والوهن! أحين علوتم القومَ وظنُّوا أنَّكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلىٰ ما فيها، وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسُنَّة مَنْ أُنزلت عليه؟ فأمهلوني فواقاً، فإنِّي قد أحسستُ الفتح (٢).

لكنَّهم أبوا إلَّا التحكيم!

وجعل أهل الشام عمرو بن العاص علىٰ التحكيم، وأراد الإمام عليه‌السلام أن يجعل عبدالله بن عبَّاس، لكنَّهم أبوا إلَّا أبا موسىٰ الأشعري، ولمَّا رأىٰ أنه لا تنفع معهم حجَّة حكَّمه علىٰ مضض!

_______________________

١) أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣، وسير أعلام النبلاء ٢ : ٢٦٤ مختصراً.

٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

٢١١

وحضر عمرو بن العاص عند عليٍّ عليه‌السلام ليكتب القضية بحضوره، فكتبوا :

بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما تقاضا عليه أمير المؤمنين، فقال عمرو : اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأمَّا أميرنا فلا. فقال الأحنف : لا تمحُ اسم إمارة أمير المؤمنين، فإنِّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليه أبداً، فلا تمحُها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً، فأبىٰ ذلك عليٌّ عليه‌السلام ملياً من النهار.

ثُمَّ إنَّ الأشعث بن قيس قال : امحُ هذا الاسم، فمُحي، فقال عليٌّ : « الله أكبر! سُنَّة بسُنَّة، والله إنِّي لكاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، يوم الحديبية فكتبتُ : محمَّد رسول الله، وقالوا : لستَ برسول الله، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمحوه، فقلتُ : لا أستطيع، فقال : أرنيه، فأريته، فمحاها بيده، وقال : إنَّك ستُدعىٰ إلىٰ مثلها فتجيب ».

فقال عمرو : سبحان الله! أتشبِّهنا بالكفَّار ونحن مؤمنون!

فقال عليٌّ عليه‌السلام : « يا ابن النابغة، ومتىٰ لم تكن للفاسقين ولياً، وللمؤمنين عدوّاً؟ »

فقال عمرو : والله، لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً.

فقال عليٌّ عليه‌السلام : « إنِّي لأرجو أن يطهِّر الله مجلسي منك ومن أشباهك » (١)..

وتمّت كتابة الكتاب بجعل كتاب الله الحاكم في كلِّ الأُمور، وما لم يجد في كتاب الله فالسُنَّة العادلة الجامعة غير المفرِّقة.. واُجِّل القضاء إلىٰ رمضان.

_______________________

١) الكامل في التاريخ (انظر تفصيل الكتاب) ٣ : ١٩٥، وانظر سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٨١.

٢١٢

ولمَّا انتهت مسألة التحكيم، قال نفرٌ من أصحاب الإمام : كيف تُحكِّمون الرجال في دين الله؟! لا حكم إلَّا لله، وكانوا يعترضون الإمام في خطبته بشعارهم «لا حكم إلَّا لله» لذلك سُمُّوا بالمحكِّمة. فكانوا ما يقارب اثني عشر ألفاً.. فنزلوا في ناحية يُقال لها : «حروراء» لأجلها سُمُّوا بالحرورية..

فحاججهم الإمام عليه‌السلام بقوله الأوَّل قبل التحكيم، ثُمَّ قال لهم : « قد اشترطتُ علىٰ الحكمين أن يُحييا ما أحيا القرآن، ويُميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما براء ».

قالوا : أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟

قال : « إنَّا لسنا حكَّمنا الرجال، إنَّما حكَّمنا القرآن، وهذا القرآن إنَّما هو خطٌّ مسطور بين دفَّتين لا ينطق، إنَّما يتكلَّم به الرجال » (١) ثمَّ رجعوا مع الإمام عليه‌السلام.

فلمَّا التقىٰ الحكمان : أبو موسىٰ الأشعري وعمرو بن العاص، وخُدِع أبو موسىٰ؛ إذ مكر به عمرو، قال له : أنت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسنُّ منِّي فتكلَّم، وأراد عمرو بذلك كلِّه أن يقدِّمه في خلع عليٍّ، قال له : نخلع عليَّاً ومعاوية معاً، ونجعل الأمر شورىٰ، فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبُّوا.

فتقدَّم أبو موسىٰ فأعلن علىٰ الملأ الحاضرين أنَّه قد خلع عليَّاً من الخلافة ثُمَّ تنحَّىٰ. وأقبل عمرو فقام، وقال : إنَّ هذا قد قال ما سمعتموه

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٣.

٢١٣

وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأُثبت صاحبي معاوية! (١) فدُهش أبو موسىٰ وشتم عمرو وشتمه عمرو، وانفضَّ التحكيم عن هذه النتيجة!

والتمس المسلمون أبا موسىٰ فهرب إلىٰ مكَّة، ثُمَّ انصرف عمرو وأهل الشام الىٰ معاوية فسلَّموا عليه بالخلافة.

مع هذه النتيجة عاد عليّ عليه‌السلام يعمل علىٰ إعادة نظم جيشه، استعداداً لمرحلة جديدة من الحروب مع أهل الغدر، ولكن فتناً جديدة نجمت بين أصحابه ستمنع من انطلاقته صوب أهدافه..

قام يوماً خطيباً بين أصحابه، فقام إليه رجل من اُولئك «المحكمّة» فقال : لا حكم إلَّا لله! ثُمَّ توالىٰ عدَّة رجال يحكِّمون. فقال عليٌّ عليه‌السلام : « الله أكبر، كلمة حقٍّ أُريدَ بها باطل! أما إنَّ لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا : لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم في أيدينا، ولا نقاتلكم حتىٰ تبدأوا، وإنَّما نتّبع فيكم أمر الله » (٢)..

بهذه الأخلاق النبيلة تعامل الإمام مع المارقين، ورغم ذلك فقد مضوا على غيّهم، فاعتزلوا بقيادة عبدالرحمٰن بن وهب الراسبي، ثمَّ خرجوا من الكوفة.

فبايع المسلمون الإمام عليَّاً عليه‌السلام وقالوا : «نحن أولياء من واليت، وأعداء من عاديت » فشرط فيهم سُنَّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وجاء دور صاحب راية

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٠٨، سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٢ ـ ٢١٣، البداية والنهاية ٧ : ٣١٥ ـ ٣١٦.

٢١٤

خثعم، ربيعة بن أبي شداد فقال له : « بايع علىٰ كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »، فأبىٰ بأن يبايع إلَّا علىٰ سُنَّة أبي بكر وعمر! فقال له عليٌّ عليه‌السلام حين ألحَّ عليه : تبايع؟ قال : لا، إلَّا علىٰ ما ذكرتُ لك.

فقال له الإمام : « أما والله، لكأنِّي بك قد نفرت في هذه الفتنة، وكأنِّي بحوافر خيلي قد شدخت وجهك »! قال قبيصة : فرأيته يوم النهروان قتيلاً قد وطأت الخيل وجهه وشدخت رأسه ومثَّلت به، فذكرت قول عليٍّ، وقلت : لله درُّ أبي الحسن، ما حرَّك شفتيه قط بشيءٍ إلَّا كان كذلك! (١).

وكان همُّ الإمام عليه‌السلام في العود إلىٰ محاربة معاوية، فعبَّأ جنده، لكنَّه وبعد ذلك كلِّه لم يترك «المحكِّمة» فكتب إليهم كتاباً جاء فيه : « بسم الله الرحمٰن الرحيم، من عبدالله عليٍّ أمير المؤمنين إلىٰ عبدالله بن وهب الراسبي ويزيد بن الحصين ومن قبلهما : سلام عليكم، وبعد، فإنَّ الرجلين اللذين ارتضيتماهما للحكومة خالفا كتاب الله واتَّبعا هواهما بغير هدىً من الله، فلمَّا لم يعملا بالسُنَّة ولم يحكما بالقرآن تبرَّأنا من حكمهما، ونحن علىٰ أمرنا الأوَّل، فأقبلوا إليَّ رحمكم الله، فإنَّا سائرون إلىٰ عدوِّنا وعدوِّكم لنعود لمحاربتهم، حتىٰ يحكم الله بيننا وبينهم، وهو خير الحاكمين » (٢).

وردُّوا علىٰ هذا الخطاب الحكيم المتَّزن بخطابٍ ينمُّ عن شدَّة تعسُّفهم وردِّهم المارق، فكتبوا إليه : « فإن شهدت علىٰ نفسك أنَّك كفرت في ما كان من تحكيمك الحكمين، واستأنفت التوبة والإيمان، نظرنا في مسألتنا من

_______________________

١) الإمامة والسياسة ١ : ١٢٥ ـ ١٢٦، الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٦ باختلافٍ يسير.

٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٢٣.

٢١٥

الرجوع إليك، وإن تكن الأُخرىٰ فإنَّنا ننابذك علىٰ سواء، إنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين » (١)!

فلمّا يئس منهم تحرَّك بجيشه صوب الشام، حتىٰ بلغ منطقةً في أعالي الفرات تُدعىٰ «عانات» فأتته أخبار فضيعة عن الخوارج، إذ أصبحوا يعترضون الناس فيقتلونهم دون أدنىٰ ذنبٍ، إلَّا لأنَّهم لم يتبرَّأوا من عليٍّ ولم يكفِّروه لما حدث! حتىٰ أنَّهم أقبلوا أخيراً إلىٰ قتل عبدالله بن خباب بن الأرت الصحابي الشهير، وقتلوا معه امرأته وبقروا بطنها وهي حامل، وقتلوا عدَّة نساءٍ، وبثُّوا الرعب في الناس.

فبعث إليهم أمير المؤمنين الحارث بن مرَّة العبدي ليأتيه بخبرهم، فأخذوه فقتلوه (٢). فتمخَّضت تلك الأحداث عن معركة النهروان الشهيرة..

حرب النهروان :

المعروفة بوقعة الخوارج، وحصلت الوقعة سنة ٣٧هـ.

لمَّا بلغ عليَّاً عليه‌السلام قتل «المحكِّمة» لعبدالله بن خباب بن الأرت واعتراضهم الناس، وقتلهم مبعوث الإمام إليهم، قال المسلمون الذين معه : يا أمير المؤمنين علامَ ندع هؤلاء وراءنا يخلفوننا في عيالنا وأموالنا؟ سر بنا إلىٰ القوم، فإذا فرغنا منهم سرنا إلىٰ عدوِّنا من أهل الشام.

فرجع عليه‌السلام بجنده الذين ذعروا علىٰ أهليهم من خطر الخوارج، والتقت

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٦، الأخبار الطوال : ٢٠٦.

٢) أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٢١٩، البداية والنهاية ٧ : ٣١٨ ـ ٣١٩.

٢١٦

الفئتان في النهروان، فلم يبدأهم الإمام عليه‌السلام بحرب، حتىٰ دعاهم إلىٰ الحجَّة والبرهان، فبعث إليهم ابن عبَّاس أمامه، فناظرهم بالحجَّة والمنطق السليم، لكنَّهم أصرُّوا علىٰ العمىٰ والطغيان! ثُمَّ تقدَّم الإمام عليه‌السلام، وذكَّرهم نهيه عن قبول التحكيم وإصرارهم عليه، حتىٰ لم يبقَ لديهم حجَّة، وحتىٰ رجع أكثرهم وتاب، وممَّن رجع يومذاك إلىٰ رشده : عبدالله بن الكوَّا أمير الصلاة فيهم (١). وأبىٰ بعضهم إلَّا القتال!!

وتعبأ الفريقان، ثمَّ جاءت الأنباء أنَّ الخوارج قد عبروا الجسر، فقال عليه‌السلام : « والله ما عبروا، ولا يقطعونه، وإنَّ مصارعهم لدون الجسر »، ثُمَّ ترادفت الأخبار بعبورهم وهو عليه‌السلام يحلف أنَّهم لن يعبروه وأنَّه « والله لا يفلتُ منهم عشرة، ولا يهلك منكم عشرة »! فكان كلُّ ذلك كما أخبر به الإمام عليٌّ عليه‌السلام، فأدركوهم دون النهر، فكبَّروا، فقال الإمام عليه‌السلام : « والله ما كذبتُ ولا كُذبت » (٢).

وكان عليٌّ عليه‌السلام قد قال لأصحابه : كُفُّوا عنهم حتىٰ يبدأوكم، فتنادوا : الرواح إلىٰ الجنَّة! وحملوا علىٰ الناس (٣). واستعرت الحرب، واستبسل أصحاب الإمام عليه‌السلام استبسالاً ليس له نظير، فلم ينجُ من الخوارج إلَّا ثمانية فرُّوا هنا وهناك، ولم يُقتل من أصحاب الإمام عليه‌السلام غير تسعة، وقيل : سبعة (٤).

_______________________

١) أنظر : الكامل في التاريخ ٣ : ٣٤٣، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٩١ ـ ١٩٣، البداية والنهاية ٧ : ٣١٩ ـ ٣٢٠.

٢) نهج البلاغة، الخطبة : ٥٩، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٣.

٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٣.

٤) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٣ ـ ٢٢٦، البداية والنهاية ٧ : ٣٢٠.

٢١٧

وانجلت الحرب بانجلاء الخوارج وهلاكهم، وقد روىٰ جماعة أنَّ عليَّاً عليه‌السلام كان يحدِّث أصحابه قبل ظهور الخوارج، أنَّ قوماً يخرجون ويمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، علامتهم رجل مُخدَج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً (١).

فقال الإمام عليه‌السلام : « اطلبوا ذي الثُديَّة »، فقال بعضهم : ما نجده، وقال آخرون : ما هو فيهم، وهو يقول : « والله إنَّه لفيهم! والله ما كذبتُ ولا كُذبتُ » وانطلق معهم يفتِّشون عنه بين القتلىٰ حتىٰ عثروا عليه، ورأوه كما وصفه لهم، قال : « الله أكبر، ما كذبتُ ولا كُذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قصَّ الله علىٰ لسان نبيِّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن قاتلهم، مستبصراً في قتالهم، عارفاً للحقِّ الذي نحن عليه » (٢).

وقال عليه‌السلام حين مرَّ بهم وهم صرعىٰ : « بؤساً لكم! لقد ضرَّكم من غرَّكم »!

قالوا : يا أمير المؤمنين مَنْ غرَّهم؟

قال : « الشيطان وأنفسٌ أمَّارة بالسوء، غرَّتهم بالأماني، وزيَّنت لهم المعاصي، ونبَّأتهم أنَّهم ظاهرون » (٣).

فقالوا : الحمد لله ـ يا أمير المؤمنين ـ الذي قطع دابرهم، فقال عليه‌السلام : « كلا والله، إنَّهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء » (٤)!

_______________________

١) أنظر أخبار المخدج في : إعلام الورىٰ ١ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

٢) أنظر قصَّة مقتل ذي الثُديَّة في : الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣، البداية والنهاية ٧ : ٣٢٠، سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين) : ٢٨٢، وأخرج مسلم ٣ : ١١٦.

٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٢٣.

٤) نهج البلاغة، الخطبة : ٦٠.

٢١٨

قصَّة استشهاده :

قال أنس بن مالك : مرض عليٌّ فدخلت عليه، وعنده أبو بكر وعمر، فجلست عنده، فأتاه النبيٌّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر في وجهه، فقال له أبو بكر وعمر : يا نبيَّ الله ما نراه إلَّا ميِّتاً. فقال : « لن يموت هذا الآن، ولن يموت حتىٰ يُملأ غيضاً، ولن يموت إلَّا مقتولاً » (١).

وممَّا رواه أبو زيدٍ الأحول عن الأجلح، عن أشياخ كندة، قال : سمعتهم أكثر من عشرين مرَّةً يقولون : سمعنا عليَّاً عليه‌السلام علىٰ المنبر يقول : « ما يمنع أشقاها أن يخضّبها من فوقها بدمٍ »؟ ويضع يده علىٰ لحيته عليه‌السلام (٢).

واشتهرت الرواية عن عُثمان بن المغيرة، قال : كان عليٌّ عليه‌السلام لمَّا دخل رمضان يتعشَّىٰ ليلةً عند الحسن، وليلةً عند الحسين، وليلةً عند عبدالله بن جعفر، زوج زينب بنت أمير المؤمنين عليه‌السلام، وكان لا يزيد علىٰ ثلاث لُقم، فقيل له في ليلةٍ من تلك الليالي في ذلك، فقال : « يأتيني أمر الله وأنا خميصٌ، إنَّما هي ليلةٌ أو ليلتان ». فلم تمضِ ليلة حتىٰ قُتل (٣).

سبب قتله : (٤)

وكان سبب قتله أنَّ نفراً من الخوارج اجتمعوا بمكَّة، فتذاكروا أمر الناس وعابوا عمل ولاتهم، ثُمَّ ذكروا أهل النهر فترحَّموا عليهم، وقالوا : ما نصنع

_______________________

١) المستدرك ٣ : ١٣٩، إعلام الورىٰ ١ : ٣١٠، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤ باختلافٍ يسير.

٢) الإرشاد ١ : ١٣، وانظر الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤.

٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤، الإرشاد ١ : ١٤ ـ ١٧، إعلام الورىٰ ١ : ٣٠٩، أُسد الغابة ٤ : ٣٥.

٤) أنظر قصَّة قتله عليه‌السلام في سير أعلام النبلاء ٢ : ٢٨٤ وما بعدها، الكامل في التاريخ ٣ : ٢٥٤ ـ ٢٥٨، إعلام الورىٰ ١ : ٣٨٩ وما بعدها، إرشاد المفيد ١ : ٩، وغيرها من كتب التاريخ والتراجم.

٢١٩

بالبقاء بعدهم؟ فلو شرينا أنفسنا وقتلنا أئمة الضلالة وأرحنا منهم البلاد!

وقال عبدالرحمٰن بن ملجم المرادي ـ لعنه الله ـ : أنا أكفيكم عليَّاً، وكان من أهل مصر. وقال البرك بن عبدالله التميمي الصُريمي : أنا أكفيكم معاوية. أمَّا عمرو بن بكر التميمي، فقال : أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وتعاهدوا علىٰ ذلك وأخذوا سيوفهم فسمُّوها، واتَّعدوا لسبع عشرة من رمضان، وقصد كلٌّ منهم الجهة التي يريد.

فأتىٰ ابن مُلجم الكوفة كاتماً أمره، فبينما هو هناك إذ زار أحداً من أصحابه من تيم الرباب، فصادف عندهُ قطام بنت الأخضر التيميَّة.. وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قتل أباها وأخاها بالنهروان، فلمَّا رآها أخذت قلبه فخطبها، فأجابته إلىٰ ذلك علىٰ أن يُصدِقها : ثلاثة آلاف وعبداً وقينةً، وقتل عليٍّ!!

فقال لها : والله، ما جاء بي إلَّا قتل عليٍّ، فلكِ ما سألتِ!

قالت : سأطلب لك من يشدُّ ظهرك ويساعدك، وبعثت إلىٰ رجلٍ من قومها اسمه : وردان وكلَّمته فأجابها..

وروي أنَّ الإمام عليه‌السلام سهر في تلك الليلة التي قُتل فيها، وكان يكثر الخروج والنظر إلىٰ السماء، وهو يقول : « والله ما كذبتُ ولا كُذبت، وإنَّها الليلة التي وُعدتُ بها » ثُمَّ يعاود مضجعه، فلمَّا طلع الفجر شدَّ إزاره وخرج وهو يقول :

« أُشدد حيازيمك للموت

فإنَّ الموت آتيك

ولا تجزع من الموت

إذا حلَّ بواديك » (١)

_______________________

١) إعلام الورىٰ ١ : ٣١١.

٢٢٠