الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

اسلام الموسوي

الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

المؤلف:

اسلام الموسوي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧

قال الإمام علي عليه‌السلام : « إنَّ ممَّا عهد إليَّ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنَّ الأُمَّة ستغدر بي بعده » (١).

وفي رواية أُخرىٰ قال عليه‌السلام : « بينما كنَّا نمشي أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذ بيدي.. فلمَّا خلا له الطريق اعتنقني ثُمَّ أجهش باكياً، قلت : يا رسول الله، ما يبكيك؟

قال : ضغائن في صدور أقوام، لا يبدونها لك إلَّا من بعدي » (٢).

موقف فاطمة عليها‌السلام من البيعة :

لقد كان موقف عمر وأبي بكر من بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتهىٰ الجفاء والتحدِّي، متجاهلين مقامها الرفيع الشأن من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاسيَّما وأنَّهما قد سمعا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّ الله يغضب لغضبكِ ويرضىٰ لرضاكِ ».

ثمَّ جاء عمر وأبو بكر إليها يلتمسان رضاها فقالت لهما : « نشدتكما الله، ألم تسمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحبَّ فاطمة ابنتي فقد أحبَّني، ومن أرضىٰ فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني!؟ » فقالا : نعم، سمعناه من رسول الله.

فقالت : « فإنِّي أُشهد الله وملائكته أنَّكما أسخطتماني، وما أرضيتماني،

_______________________

١) المستدرك ٣ : ١٤٠، ابن عساكر ٣ : ١٤٨ / ١١٦٤ ـ ١١٦٨، تذكرة الحفَّاظ ٣ : ٩٩٥، ابن أبي الحديد ٦ : ٤٥، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٩٩٧، الخصائص الكبرىٰ ٢ : ٢٣٥.

٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩، ابن أبي الحديد ٤ : ١٠٧، مجمع الزوائد ٩ : ١١٨، كنز العمَّال. ١٧٦١٣ / ٤٦٥٣٣.

١٤١

ولئن لقيتُ النبيَّ لأشكونَّكما إليه » (١). فمازالت غضبىٰ عليهما حتىٰ توفِّيت (٢).

وعن ابن قتيبة قال : وخرج عليٌّ ـ كرَّم الله وجهه ـ يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ دابَّة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة. فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنَّ زوجك وابن عمِّك سبق إليها قبل أبي بكر ما عدلنا به.

فيقول عليٌّ كرَّم الله وجهه : « أفكنت أدعُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته لم أدفنه، وأخرج أُنازع الناس سلطانه »؟!

فقالت فاطمة : « ما صنع أبو الحسن إلَّا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم » (٣).

أمَّا عليٌّ عليه‌السلام، فقد خاصمهم بقوله : « الله الله يا معشر المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمَّد عن داره وقعر بيته إلىٰ دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقِّه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحنُ أحقُّ الناس به، لأنَّا أهل البيت، ونحنُ أحقُّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا : القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعيَّة، القاسم بينهم بالسويَّة، ووالله إنَّه لفينا، فلا تتَّبعوا الهوىٰ فتضلُّوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحقِّ بعداً ».

فلمَّا سمعوا منه هذا الكلام قال بشير بن سعد الأنصاري ـ الذي أقرَّ

_______________________

١) الإمامة والسياسة : ١٣.

٢) صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦، صحيح مسلم ٣ : ١٣٨ / ٥٢.

٣) الإمامة والسياسة ١ : ١٢ وكذا شرح النهج ٢ : ٤٧.

١٤٢

بنود السقيفة ـ : لو كان هذا الكلام سِمِعتْه الأنصارُ منك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان (١).

وأنشد عليه‌السلام معرِّضاً بأبي بكر :

فإن كنتَ بالشورىٰ ملكتَ أمورَهم

فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ

وإن كنتَ بالقُربىٰ حججتَ خصيمهم

فغيرُك أولىٰ بالنبيِّ وأقربُ (٢)

وله عليه‌السلام كلام واسع وخطب عدَّة يصف فيها أمر الخلافة والتفضيل، محفوظ في كتاب نهج البلاغة، وقد اقتطفنا من احدىٰ خطبه المعروفة بالشقشقية مقاطع منها :

« أما والله لقد تقمَّصها فلان، وانَّه ليعلم أنَّ محلِّي منها محلَّ القطب من الرَّحَا، ينحدر عنِّي السيل، ولا يرقىٰ إليَّ الطير »...

« فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته!! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها.. فصبرتُ علىٰ طول المدَّة وشدَّة المحنة.. حتىٰ إذا مضىٰ لسبيله جعلها في جماعة زعم أنِّي أحدُهم! فيا لله وللشورىٰ، متىٰ اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم حتىٰ صرت أُقرن إلىٰ هذه النظائر! » (٣).

ولمَّا بلغه عليه‌السلام احتجاج قريش بأنَّهم قوم النبيِّ وأولىٰ الناس به، قال : « احتجَّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة » (٤).

_______________________

١) الإمامة والسياسة : ١٢.

٢) نهج البلاغة : ٥٠٣ / ١٩٠.

٣) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة بتصرف.

٤) نهج البلاغة : الخطبة ٦٧، وانظر : الإمامة والسياسة : ١١.

١٤٣

الفصل الثاني : عليٌّ مع أبي بكر وعمر وعُثمان

بيعته لأبي بكر :

رأينا فيما سبق كيف وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام من أحداث السقيفة، خلال الأشهر الأولىٰ من وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جماعة من المهاجرين والأنصار، موقفاً يتَّسم بالشدَّة والصلابة، محتجَّاً عليهم بالمنطق الذي احتجوا فيه علىٰ الأنصار يوم السقيفة، إضافةً إلىٰ أنَّه عليه‌السلام قد ذكَّرهم بالنصوص التي صرَّح بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقِّه، والتي لا يجهلها أحد منهم، واستطاع عليه‌السلام بتلك المواقف الحكيمة أن يستميل إلىٰ جانبه عدداً من المسلمين.

ولكن ظهرت في هذه الفترة بوادر ارتداد بعض الأعراب، قال : « فأمسكتُ يدي، حتىٰ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلىٰ محق دين محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرىٰ فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم، التي إنَّما هي متاعُ أيَّامٍ قلائل... » (١).

لله وللإسلام سكت وصبر على كلَّ ما سلف من هؤلاء الذين تآمروا عليه، وأساءوا إلىٰ بضعة رسول الله زوجته، وقنع من الدنيا أن يجمع القرآن ويحفظه، ويشتغل بتفقيه الناس والقضاء بينهم..

وبعد أن بويع لأبي بكر بالخلافة تميَّز في مجتمع المدينة ومكَّة، عن سائر الناس، فريقان :

_______________________

١) نهج البلاغة، الكتاب ٦٢.

١٤٤

الفريق الأول : فريق أظهر كلَّ ما كان يخفيه من نفاق وسعىٰ إلىٰ إثارة الفتنة، يقابله فريق آخر لم يظهر الحقَّ بكلِّ ما يملك من قدرة..

فأمَّا الفريق الأول فهم الكائدون للإسلام، أولهم وعلىٰ رأسهم أبو سفيان الذي قدم علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام يحرِّضه من مناجزة القوم الذين كانوا مع أبي بكر، فيقول له : والله لئن شئت لأملأنَّها عليه خيلاً ورَجِلاً. فردَّه عليه‌السلام : « والله إنَّك ما أردت بهذه إلَّا الفتنة، وإنَّك والله طالما بغيت للإسلام شرَّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك » (١).

ومن هذا القسم أيضاً مسلمو الفتح : ـ الطلقاء، والمؤلَّفة قلوبهم ـ وكان في طليعتهم : سهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وعكرمة بن أبي جهل، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، سعوا في الفتنة أيضاً، يحرِّضون قريشاً علىٰ الأنصار لهتافهم باسم عليٍّ، يريدون إلزامهم بتجديد البيعة وإلَّا فليقتلوهم!

وظهر أبو سفيان مرَّة أُخرىٰ قائلاً : يا معشر قريش، إنَّه ليس للأنصار أن يتفضَّلوا علىٰ الناس، حتىٰ يُقرُّوا بفضلنا عليهم.. وأيم الله لئن بطروا المعيشة، وكفروا النعمة، لنضربنّهم علىٰ الإسلام كما ضربونا عليه!

ولم يذكر لنا التاريخ في هذه الحوادث موقفاً إيجابياً واحداً لأبي بكر أو عمر لردع الفتن!

هؤلاء هم الذين طالما كادوا للإسلام بسيوفهم عشرين عاماً أو تزيد فدخلوا الإسلام عنوةً، فلمَّا لم يجدوا بدَّاً من الكيد بأيديهم كادوه بألسنتهم.

_______________________

١) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٩، الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٩.

١٤٥

وما أجمل قول حسَّان بن ثابت :

تنادىٰ سهيلٌ، وابن حربٍ وحارثٌ

وعكرمة الشاني لنا ابنُ أبي جهلِ

أولئك رهطٌ من قريشٍ تبايعوا

علىٰ خطَّةٍ ليست من الخططِ الفضلِ

وكلُّهم ثانٍ عن الحقِّ عطفه

يقول اقتلوا الأنصار، يا بئس من فعلِ

وأعجب منهم، قابلوا ذاك منهم

كأنَّا اشتملنا من قريش علىٰ ذحلِ (١)

أمَّا الفريق الآخر فهم المناصرون لعليٍّ عليه‌السلام، الداعون إلىٰ حقِّه بالإمامة، ويلحق بهذه الطائفة المهاجرون والأنصار الذين مالوا عن مبايعة أبي بكر، حيث كانوا لا يشكُّون أنَّ الأمر صائر إلىٰ عليٍّ عليه‌السلام، وكان شعارهم الذي رفعوه بأصواتهم : «لا نبايع إلَّا عليَّاً» ومنهم : عتبة بن أبي لهب بن عبدالمطلب الذي أنشد يقول :

ما كنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصرفٌ

عن هاشمٍ، ثُمَّ منها عن أبي الحسنِ

عن أوَّل الناس إيماناً وسابقةً

وأعلمِ الناس بالقرآنِ والسُننِ

وآخر الناس عهداً بالنبيِّ ومَنْ

جبريلُ عونٌ له في الغسل والكفنِ

مَنْ فيه ما فيهم لا يمترون به

وليس في القوم ما فيه من الحسنِ (٢)

ومنهم : المقداد وعمَّار وسلمان وأبو ذرٍّ وحذيفة بن اليمان وخالد بن سعيد بن العاص وأبو أيوب الأنصاري، وسائر بني هاشم.

ولا ننسىٰ موقف الحسن السبط من أبي بكر، حين رآه يرقىٰ منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مايزال في الثامنة من عمره، يناديه : « إنزل عن منبر

_______________________

١) الموفَّقيَّات / الزبير بن بكَّار : ٥٨٥.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤، الموفَّقيَّات : ٥٨٠.

١٤٦

أبي، واذهب الىٰ منبر أبيك » (١)!

ومنهم : ابن عباس في حديثه مع عمر، حين سأله عمر عن عليٍّ عليه‌السلام، فقال : أيزعمُ أنَّ رسول الله نصَّ عليه؟!

قال ابن عباس : نعم، وأزيدك : سألت أبي عن ذلك، فقال : صدق (٢). وغيرها من المواقف التي سنأتي عليها في موضوع لاحق.

ومنهم : قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي، إذ ذكر ـ سعد بن عبادة ـ عليَّاً عليه‌السلام، فذكر من أمره نصَّاً بوجوب ولايته، فقال له ابنه : أنت سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول هذا الكلام في عليِّ بن أبي طالب، ثُمَّ تطلب الخلافة، ويقول أصحابك : منَّا أمير ومنكم أمير؟! لا كلَّمتك والله من رأسي بعد هذا كلمةً أبداً (٣).

وفي ما وراء المدينة ومكة هناك قبائل من المسلمين، لم يرضوا بالبيعة لأبي بكر، فامتنعوا عن أداء الزكاة له، لا جحوداً بالزكاة، ولكن إنكاراً لزعامته (٤)، فعزم أبو بكر علىٰ مقاتلتهم بحجَّة أنَّ هذا الأمر تعطيل لفريضة الزكاة التي أوجبها الله علىٰ المسلمين، غاضَّاً بصره عن السبب الأصلي الذي دعاهم إلىٰ هذا الموقف الصلب، وهو اعتراضهم علىٰ الخلافة!

فمع أحد شيوخ كندة في حضرموت، الحارث بن سراقة يقول : «نحن إنَّما أطعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كان حيَّاً، ولو قام رجل من أهل بيته لأطعناه،

_______________________

١) مختصر تاريخ دمشق ٧ : ١٢٧.

٢) شرح نهج البلاغة ١٢ : ٢١.

٣) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٤.

٤) وهؤلاء غير المرتدين الذين خرجوا من الإسلام كأتباع مسيلمة الكذاب وسجاح والاسود العنسي.

١٤٧

وأمَّا ابن أبي قحافة فلا والله، ما له في رقابنا طاعة ولا بيعة»!

ثمَّ أنشد أبياتاً، كان أوَّلها :

أطعنا رسول الله إذ كان بيننا

فيا عجباً ممَّن يطيع أبا بكرِ (١)

ومنهم : زعيم كندة الأشعث بن قيس، الذي أمر قومه بمنع الزكاة، وأن يلزموا بلادهم، ويتَّحدوا علىٰ كلمة واحدة، «فإنِّي أعلم أنَّ العرب لا تقرُّ بطاعة بني تيم بن مرَّة، وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلىٰ غيرهم..» (٢).

والأنكىٰ من ذلك كان الأمر مع مالك بن نويرة، الذي استعمله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ صدقات قومه، فلمَّا نُعي له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام بتوزيع الصدقات علىٰ فقراء قومه، ولم يبعثها إلىٰ الخليفة الجديد..

وأنشد يقول :

فقلتُ خذوا أموالكم غير خائفٍ

ولا نظرٍ فيما يجيء من الغدِ

فإن قام بالدين المحوَّق قائمٌ

أطعنا، وقلنا الدين دينُ محمَّدِ

إذن هؤلاء لم تطمئن قلوبهم للخليفة الجديد، هذه هي مشكلتهم التي من أجلها ارتكب خالد بن الوليد أبشع مجزرة في ظلَّ الخلافة الجديدة، فضرب أعناقهم صبراً واحداً بعد الآخر وارتكب أيضاً أقبح كبيرة، إذ واقع زوجة مالك في ليلة قتله (٣).

_______________________

١) انظر الفتوح / ابن أعثم ١ : ٥٨، معجم البلدان / ياقوت الحموي، «حضرموت».

٢) الفتوح ١ : ٥٩ ـ ٦٠.

٣) الفتوح ١ : ٢١ ـ ٢٣، أُسد الغابة والإصابة ترجمة خالد بن نويرة، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣١ ـ ١٣٢، سير أعلام النبلاء (سير الخلفاء الراشدين) : ٤٣.

١٤٨

وهناك حروب داخلية ـ دينية وسياسية ـ غير هذه التي ذكرناها، لابدَّ من الوقوف عليها ولو بشيء من الاختصار، تلك التي جرت مع المرتدّين حقَّاً، الذين أعلنوا ارتدادهم عن الإسلام جهرةً، ومالوا إلىٰ أديان أُخرىٰ، وبعض رؤوساء هذه القبائل ادَّعىٰ النبوَّة، وكان علىٰ رأسهم : مسيلمة الكذَّاب، الذي كان علىٰ قبيلة بني حنيفة، ادَّعىٰ النبوَّة، قبل وفاة النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ثُمَّ الأسود العنسي بصنعاء، ثُمَّ ادَّعىٰ النبوَّة طليحة بن خويلد الأسدي في بلاد بني أسد، في مرض النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي توفِّي فيه.

ثمَّ ادَّعت النبوة سجاح بنت الحارث التميمية، بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وكان رجل من أصحابها ينشد :

أمستْ نبيَّتنا أنثىٰ نطيفُ بها

وأصبحت أنبياء الناس ذُكرانا

وانتهىٰ أمرها أن تزوَّجها مسيلمة (١).

فكانت هذه الحروب حروب المرتدِّين الحقيقيين، أهمَّ دواعي توحيد الصفِّ في المدينة المنوَّرة، إذ كانت هذه الحروب طويلة وكثيرة، وقد اتَّفقوا كلّهم علىٰ مقاتلتهم يداً واحدة.

أبو بكر يستشير الإمام علي عليه‌السلام في حرب الروم :

في مطلع سنة ١٣هـ عزم أبو بكر علىٰ محاربة الروم، فشاور جماعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فقدَّموا وأخَّروا، فاستشار عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام، فأشار عليه أن يفعل، وقال له : « إن فعلتَ ظفرت »

_______________________

١) أنظر : سيرة ابن هشام ٤ : ١٨٢، تاريخ الطبري ٣ : ١٤٦ ـ ١٤٧، ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

١٤٩

فقال : « بُشِّرت بخير » (١).

لكنَّ الناس تباطؤوا عن تلبية أمر أبي بكر، فقال عمر : لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتَّبعتموه!

فاختار أبو بكر خالد بن سعيد علىٰ قيادة الجيش وعقد له اللواء، لكنَّ عمر ـ وكعادته ـ اعترض، بحجَّة أنَّه تباطأ في بيعته للخليفة؛ فقال : أتولِّي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما بلغك؟! فحلَّ لواءه وجعل الجيش تحت إمرة يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبي عبيدة الجرَّاح، وعمرو بن العاص، بالإضافة إلىٰ خالد وجنده.

فحقَّق المسلمون انتصارات عظيمة ومتوالية، افتتحوا خلالها عدَّة مدن، وهذه كانت بشارة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ولكن سنرىٰ قريباً كيف كانت سياسة أبي بكر في تعيين الولاة والامراء قد حقَّقت مطامع بني أُميَّة، وفتحت أمامهم أبواب الخلافة الواسعة، حتىٰ تربَّع أوغاد بني أُميَّة وغيرهم من الطلقاء علىٰ رؤوس المسلمين، وجرت وراءها فتن وبحور من الدماء العظيمة!!

رجوع أبي بكر إليه في الأحكام الشرعية

ومن جملة موارد الرجوع إليه في الأحكام الشرعية والقضايا الدينيّة في عهد أبي بكر، وكما جاء الخبر به عن رجال من العامَّة والخاصَّة : أنَّ رجلاً رُفع إلىٰ أبي بكر وقد شرب الخمر، فأراد أن يقيم عليه الحدَّ، فقال له : إنَّني شربتها ولا علمَ لي بتحريمها، لأنَّي نشأت بين قومٍ يستحلُّونها، ولم

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٢ ـ ١٣٣.

١٥٠

أعلم بتحريمها حتىٰ الآن.. فأُرتج (١) علىٰ أبي بكر، ولم يعلم وجه القضاء فيه، فأشار عليه بعضُ من حضره أن يستخبر أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الحكم في ذلك، فأرسل إليه من سأله عنه، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « مُرْ ثقتين من رجال المسلمين يطوفان به علىٰ مجالس المهاجرين والأنصار، ويُناشدانهم الله هل فيهم أحدٌ تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فإن شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحدَّ عليه، وإن لم يشهد عليه أحدٌ بذلك فاستتبه وخلِّ سبيله » ففعل أبو بكر ذلك، فلم يشهد عليه أحدٌ من المهاجرين والأنصار أنَّه تلا عليه آية التحريم، ولا أخبره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك، فاستتابه أبو بكر وخلَّا سبيله، وسلَّم لعليٍّ عليه‌السلام فيما حكم به (٢).

جمع القرآن الكريم وتفسيره :

إنَّ الإمام عليَّاً عليه‌السلام وفي مدَّة اعتزاله الطويل تفرَّغ لعدَّة مهام، كان أهمُّها وأوَّلها مهمَّة جمع القرآن الكريم، فقد ثبت تاريخياً أنَّ عليَّاً عليه‌السلام أخذ علىٰ عاتقه الشريف مهمة جمع آيات الذكر الحكيم، وكان ذلك مبكِّراً جدَّاً من بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فلم يخرج من بيته، إلَّا للصلاة حتىٰ جمعه عنده.

وكان هذا أوَّل مصحف يجمع، مرتَّباً بحسب ترتيب نزول السور القرآنية، وكتب في حواشيه أشياء من الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، واختصَّ به لنفسه..

_______________________

١) أُرْتجَ عليه وارتُجَّ عليه : استبهم عليه.

٢) الإرشاد ١ : ١٩٩ وما بعدها..

١٥١

قال ابن سيرين : طلبت ذلك الكتاب، وكتبت فيه إلىٰ المدينة، فلم أقدر عليه (١).

وكان الإمام عليٌّ عليه‌السلام في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبرز كتَّاب الوحي، ولمَّا توفِّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر علياً عليه‌السلام يجمع القرآن الكريم في مصحفٍ واحدٍ، لذلك باشر عليه‌السلام بجمع القرآن وترتيبه، ولمَّا تولَّىٰ أبو بكر الخلافة أمر من جهته بجمع القرآن الكريم، وقد أسند هذه المهمَّة إلىٰ الصحابي زيد بن ثابت الأنصاري.

ولمَّا كان الإمام عليٌّ عليه‌السلام أكثر الصحابة ملازمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، واختصاصاً به، فقد كان أكثر من عُرف عنه تفسير القرآن الكريم، ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأنه : إنَّه أكثرهم علماً؟

وذكر القرطبي في تفسيره : «فأمَّا صدر المفسِّرين والمؤيَّد فيهم، فعليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتلوه عبدالله بن عبَّاس، وهو تجرَّد للأمر وكمّله، وقال ابن عبَّاس : ما أخذت من تفسير القرآن فعن عليِّ بن أبي طالب» (٢).

وروي عن عليٍّ عليه‌السلام أنَّه قال : « سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيءٍ إلَّا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آيةٍ إلَّا وأنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار، أم في سهل، أم في جبل » (٣).

وفي عهد أبي بكر واجه ـ وهو الخليفة ـ مشكلة في معنىٰ بعض مفردات القرآن أحرجته كثيراً، فقال في التخلُّص منها قولاً عجيباً، فبلغ

_______________________

١) انظر فهرست النديم : ٤٢، الإتقان في علوم القرآن ١ : ١٦٦، المكتبة العصرية ـ بيروت ١٩٨٨م.

٢) تفسير القرطبي ١ : ٢٧.

٣) الإتقان في علوم القرآن ٤ : ٢٠٤.

١٥٢

ذلك أمير المؤمنين فعجب لتوقف أبي بكر في هذه المفردة، ثُمَّ لكلامه في التخلُّص منها.

سُئل أبو بكر عن معنىٰ «الأبِّ» في قوله تعالىٰ : ( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) (١)، فتحيَّر في معناها، فقال : أيُّ سماء تظلُّني أو أيُّ أرضٍ تقلُّني : أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله تعالىٰ بما لا أعلم؟! أمَّا الفاكهة فنعرفها، وأمَّا الأبُّ فالله أعلم به!

فبلغ مقاله هذا أمير المؤمنين عليه‌السلام، فقال : « يا سبحان الله! أما علم أنَّ الأبَّ هو الكلأ والمرعىٰ؟! وأمَّا قوله عزَّ اسمه : ( وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ) اعتدادٌ من الله سبحانه بإنعامه علىٰ خلقه فيما غذَّاهم به وخلقه لهم ولأنعامهم، مما تحيىٰ به أنفسهم وتقوم به أجسادهم » (٢).

ونحو هذا في جوابه عليه‌السلام في معنىٰ الكلالة، بعد أن تحيَّر فيها أبو بكر وتردَّد في معناها (٣).

قصَّة الاستخلاف :

في اللحظات الأخيرة من عمر أبي بكر، عزم علىٰ أن يعهد بالخلافة من بعده إلىٰ عمر بن الخطَّاب، كذا وبكلِّ جرأة أنكر هو وأصحابه حديث الوصاية لعليٍّ عليه‌السلام ويوم غدير خُمٍّ، وكأنَّ خلافة المسلمين ورثٌ ورثه من أبي قحافة، وعليٌّ عليه‌السلام شهد كلَّ ذلك فكضم غيضه وأغمض عينيه، وهو صاحب الحقِّ الأوَّل والأخير.

_______________________

١) سورة عبس : ٣١.

٢) الإرشاد ١ : ٢٠٠.

٣) انظر المصدر السابق ١ : ٢٠٠ ـ ٢٠١.

١٥٣

وعلىٰ أيِّ حالٍ فقد تجاهل ابن أبي قحافة ذلك الحقَّ الذي كان حبلاً في رقابنا، وتجاهل حقَّ الأُمَّة المسلمة، وأصرّ علىٰ استخلاف عمر، فقيل له وهو علىٰ فراش الموت : ما كنت قائلاً لربِّك إذا ولَّيته مع غلظته؟!

وكان من قول طلحة بن عبيدالله : استخلفت علىٰ الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيف به إذا خلا بهم ؟ وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك! (١)

وقد أغضبه كثرة تذمر الصحابة من استخلافه عمر، فقال : إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورِمَ أنفه من ذلك، يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تُقبِل، وهي مقبلة، حتىٰ تتّخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع علىٰ الصوف الأذريّ كما يألم أحدكم أن ينام علىٰ حَسَك السَعدان... وأنتم أوّل ضالّ بالناس غداً، فتصدونهم عن الطريق يميناً وشمالاً... (٢)

وقبل هذا وذاك استدعىٰ عُثمان ليكتب له كتاب الوصية حتىٰ لا يضلُّوا بعده!

روىٰ ابن الأثير : أنَّ أبا بكر أمر عُثمان بن عفَّان ليكتب عهد عمر، فقال له : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عَهِد به أبو بكر بن أبي قحافة إلىٰ المسلمين، أمَّا بعد.. ثُمَّ أُغمي عليه، فكتب عُثمان : فإنِّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطَّاب، ولم آلكم خيراً.

ثمَّ أفاق أبو بكر، فقال : أقرأ عليَّ. فقرأ عليه : فكبَّر أبو بكر، وقال :

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

٢) تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠.

١٥٤

أراك خفت أن يختلف المسلمون إن متُّ في غشيتي؟! قال : نعم. قال : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله.

فلمَّا كتب العهد أمر أن يُقرأ علىٰ الناس، فجمعهم وأرسل الكتاب مع مولىً له، ومعه عمر، فكان عمر يقول للناس : أنصتوا واسمعوا لخليفة رسول الله، فإنَّه لم يألكم نُصحاً! فسكت الناس (١).

بالأمس القريب ادَّعىٰ أبو بكر أنَّ الخلافة حقٌّ من حقوق المسلمين، يولُّون من يجمع أمرهم عليه، لكنَّه اليوم أوصىٰ لعمر بن الخطَّاب، دون أن يجمع المسلمين علىٰ كلمة واحدة!

ولنرىٰ بعد ذلك قول الأستاذ عبدالفتاح عبد المقصود في كتابه «عليُّ بن أبي طالب» وهو يتحدَّث عن موقفه من أبي بكر، بعد أن أوصىٰ لعمر بن الخطَّاب من بعده، قائلاً : «وكان حريَّاً بأن يفصم الغضب قلب عليٍّ عليه‌السلام لأنَّه إصرار علىٰ الحيف بعد الحيف، ولكنَّه كظم وصبر، ولم يضرَّه أن يأخذ مقعده في ذيل الناس، مادام أصحاب الرسول قد بيَّتوا علىٰ نزع سلطان محمد من آله والخروج به ثانية من عقر بيته، ولم يكن هذا بمستغرب من قريش، ولكنَّه كان عجباً غاية العجب من الشيخ، بعد أن استوت بينه وبين عليٍّ الأمور، ولم تعد خافية علىٰ أبي بكر مكانة الشابِّ وأثره في حياة الجماعة الإسلامية، من تضحيات وبذل عند ولادة الدين ومن حكمة وفضل، ودولة الإسلام تشقُّ طريقها إلىٰ الأمام...» (٢).

وتوفِّي أبو بكر في٢١ ـ ٢٢ جمادىٰ الآخرة سنة ١٣هـ أواخر آب ٦٣٤م.

_______________________

١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٧٣، وما بعدها.

٢) عن سيرة الأئمة الأثني عشر ١ : ٣٢٣.

١٥٥

ثانياً : في عهد عمر بن الخطَّاب :

« فواعجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته! لشدَّ ما تشطَّرا ضرعيها، فصيَّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسُّها، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها» (١)!!

نعم عجباً، فبالأمس كان «الشيخ» يرجع إلىٰ علي عليه‌السلام في شتَّىٰ الأمور ليلتمس منه الصواب، حتىٰ كان يقول له : «لازلت موفَّقاً يا ابن أبي طالب» وكان يستقيل الخلافة في حياته إذ كان يقول : «أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم» فكيف ـ والحال هذه ـ يعقدها لعمر بعد وفاته...!

وبلا شكٍّ فأنَّ هناك سابق اتِّفاق بينهما ـ بين الخليفة والوزير! ـ فقد كرهوا أن تجتمع النبوَّة والخلافة في بيت واحد! هذا القول قد نطق به أحدهم بأعلىٰ صوت وأصرح بيان!

وأخيراً ـ وكما هو منتظر ـ عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلىٰ عمر بن الخطَّاب وكان عُثمان بن عفَّان من أشد أنصار هذا الاتِّجاه؛ لأنَّه شريك الدرب القيادي كما سيتَّضح قريباً!!

وبهذا الحال تمَّت الخلافة لعمر بن الخطَّاب، وتحقَّقت ضالَّة قريش المنشودة في إبعاد أهل بيت النبوَّة الذين ظهر منهم شعاع الإسلام.. ويا ليتهم لم ينبسوا بكلمة واحدة تدين غصبهم لحقِّ أهل بيت النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، لكنَّهم وللأسف الشديد اعترفوا بكلِّ نواياهم المبيّتة..

مضىٰ عمر بن الخطَّاب في سياسته علىٰ نفس الخطِّ الذي مشىٰ به

_______________________

١) نهج البلاغة : الخطبة ٣.

١٥٦

أبو بكر، حذراً كما أوصاه صاحبه : «إحذر هؤلاء النفر من أصحاب رسول الله الذين انتفخت أوداجهم وطمحت أبصارهم» وكأنِّي أراه لا يقصد إلَّا عليَّ بن أبي طالب!

وشدَّد عمر علىٰ هؤلاء النفر، حسب ما أوصىٰ إليه ابن أبي قحافة، فأوَّل ما بادر إلىٰ فعله : حبس هؤلاء الثَّلة المؤمنة في المدينة ولا يسمح لهم أيضاً أن يقاتلوا الكفَّار مع المسلمين كي لا تنتفخ أوداجهم! ويقول لمن يلتمس منه الجهاد : لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يكفيك، نعم ما يكفيه من الثواب والشرف!! عجباً وألف عجب!!

نرجع القول مرَّة أُخرىٰ : قد اعترفوا بحقِّ عليٍّ عليه‌السلام في الخلافة، فهذا عمر بن الخطَّاب، في حوار مع ابن عبَّاس دار بينهما، يعترف بظلامة ابن أبي طالب.. وفي الحقيقة نلتمس من جواب ابن الخطَّاب علىٰ أسئلة ابن عبَّاس تبريرات عديدة في إقصاء عليٍّ عليه‌السلام عن حقِّه في خلافة الرسول.

يقول عمر أمام ابن عبَّاس : «لقد كان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمره ذروٌ من قول، لا يُثبت حجَّةً ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربعُ في أمره وقتاً ما، ولقد أراد في مرضه أن يصرِّح باسمه، فمنعتُ من ذلك..» وكذا أيضاً في حديث ابن عبادة (١).

وفي عدَّة مواضع مع ابن عبَّاس :

قال ابن عبَّاس : إنِّي لأُماشي عمر في المدينة، إذ قال لي : يا ابن عبَّاس، ما أرىٰ صاحبك إلَّا مظلوماً.

_______________________

١) انظر شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٤.

١٥٧

فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها. فقلت له : يا أمير المؤمنين، فاردد إليه ظلامته! فانتزع يده من يدي، ومضىٰ يهمهم ساعةً، ثُمَّ وقف فلحقته، فقال : يا ابن عبَّاس، ما أظنُّهم منعهم عنه إلَّا أن استصغره قومه!

فقلت في نفسي : هذه شرٌّ من الأولىٰ، فقلت : والله، ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك (١).

وفي مرَّةٍ أُخرىٰ يقول لابن عبَّاس : أتدري ما منع الناس منكم؟

قال ابن عبَّاس : لا.

قال عمر : لكنِّي أدري.

قال ابن عبَّاس : وما هو، يا أمير المؤمنين؟

قال : كرهت قريش أن تجتمع فيكم النبوَّة والخلافة فتجخفوا جخفاً (٢)، فنظرت قريش لنفسها فاختارت فأصابت!

قال ابن عبَّاس : أيُميط عنِّي أمير المؤمنين غضبه، فيسمع؟

قال : قل ما تشاء.

قال : أمَّا قولك : إنَّ قريشاً كرهت، فإنَّ الله تعالىٰ قال لقوم : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) وأمَّا قولك : إنَّا كنَّا نجخف، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة، ولكنَّا قوم أخلاقنا مشتقَّة من أخلاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي قال فيه الله تعالىٰ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وقال له : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ).

_______________________

١) شرح نهج البلاغة ٦ : ٤٥، ١٢ : ٤٦، مسند أحمد ١ : ٣، ٣٣١، و٣ : ٢١٢، ٢٨٣، سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧١٩، تاريخ اليعقوبي ٢ : ٧٦، الإصابة ٤ : ٢٧٠.

٢) جخف : تكبّر.

١٥٨

وأمَّا قولك : فإنَّ قريشاً اختارت، فإنَّ الله تعالى يقول : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) وقد علمت يا أمير المؤمنين أنَّ الله اختار من خلقِه لذلك مَنْ اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفِّقت وأصابت.

ثُمَّ قال : وأمير المؤمنين يعلم صاحب الحقِّ من هو، ألم تحتجَّ العرب علىٰ العجم بحقِّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، واحتجَّت قريش علىٰ سائر العرب بحقِّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فنحن أحقُّ برسول الله من سائر قريش (١).

وأمثال ذلك من الأعذار التي كان يلتمس منها ابن الخطَّاب سبباً يبرِّر موقفهم من الإمام عليٍّ عليه‌السلام، وهي كثيرة يطول بذكرها المقام، وقد عدَّها سبباً في إقصاء الإمام عليٍّ من الخلافة (٢).

وبعد مدَّةٍ وجيزة واصل عمر حروب الفتوح، فبعث المثنىٰ بن حارثة الشيباني في مواصلة تلك الحروب في نواحي العراق، فهزمهم الفرس ففرُّوا إلىٰ الأطراف، فوقف عمر من أمره حائراً، وأخذ يستشير الصحابة في أن يخرج هو بنفسه في مواصلة الحرب..

ولمَّا استشار عليَّاً عليه‌السلام نهاه عن الخروج قائلاً : « نحن علىٰ موعدٍ من الله، والله منجزُ وعده، وناصر جنده، ومكان القيِّم بالأمر مكانُ النظَام من الخرز، يجمعه ويضمُّه، فإذا انقطع النظام تفرَّق الخرز وذهب، ثُمَّ لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم، وإن كانوا قليلاً، فهم كثيرون بالإسلام،

_______________________

١) انظر : الكامل في التاريخ ٢ : ٤٥٨، تاريخ الطبري ٥ : ٣١، شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٥٣ ـ ٥٤، والآيات حسب التسلسل، سورة محمَّد : ٩، سورة القلم : ٤، سورة الشعراء : ٢١٥، سورة القصص : ٦٨.

٢) انظر شرح ابن أبي الحديد ١٢ : ٧٨ ـ ٧٩، ٦ : ٤٥، ١٢ : ٤٦.

١٥٩

عزيزون بالإجتماع، فكن قُطباً، واستدر الرحا بالعرب.

إنَّك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتىٰ يكون ما تدع وراءك من العورات أهمُّ إليك ممَّا بين يديك. إنَّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا : هذا أصل العرب، فإذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدُّ لَكَلِبهم عليك، وطمعهم فيك » (١).

وبحقٍّ إنَّ كلَّ كلمة من كلمات هذه الخطبة تعكس لنا عظمة علم الإمام عليه‌السلام.. وتنمُّ عن شخصيته المجلَّلة بالكمال والحكمة والصدق، وبحقٍّ إنَّه كما قيل : «هو القرآن الناطق، وما بين الدفَّتين القرآن الصامت» فهو عليه‌السلام لم يأخذ إلَّا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو معلِّمه الأوَّل والأخير الذي يستقي كماله من الله عزَّ وجلّ..

فاستبشر عمر بهذه النصيحة العظيمة وعمل بها، وكان باباً للفتوح وقنطرة لانتصارات عدَّة..

أمَّا أمير المؤمنين عليه‌السلام فقد قنع من الدنيا أن لا يتكلَّم إلَّا بلسان البررة الأطهار، ليقدِّم للمسلمين، ويحافظ علىٰ الشريعة المطهرة، ويمنع من مخالفتها قولاً أو فعلاً، في أكثر الموارد التي أوضح فيها المشكلات على عمر وحال دون تطبيق أحكام منها على خلاف الكتاب والسنة، بحيث لو سكت لكانت أحكاماً تتّبع، حتىٰ قال فيه عمر : «لولا عليٌّ لهلك عمر»، «أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن».

كذا رضي لنفسه أن يكون كغيره من الناس، متجاهلاً حقَّه، من أجل

_______________________

١) نهج البلاغة، الخطبة : ١٤٦.

١٦٠