الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

اسلام الموسوي

الإمام علي ( عليه السلام ) سيرة وتأريخ

المؤلف:

اسلام الموسوي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-317-9
الصفحات: ٢٢٧

الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) (١) نزلت في الإمام عليٍّ عليه‌السلام. حتىٰ أنَّ ابن مسعود كان يقرأ الآية : ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) بعليٍّ بن أبي طالب (٢).

٨ ـ ليس أفضل من إيمان عليٍّ عليه‌السلام وجهاده في سبيل الله :

والآية الكريمة تشهد بجهاد عليٍّ وبطولاته : ( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (٣)، عند تفاخر «العبَّاس وطلحة» بالسقاية وسدانة الكعبة (٤).

ثانياً : في الحديث الشريف :

١ ـ أوَّلهم إسلاماً :

ومَنْ أصدق من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال لعليٍّ : « أنت أوَّل مَنْ آمن بي، وأنت أول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصدِّيق الأكبر، وأنت الفاروق تفرِّق بين الحقِّ والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين » (٥).

_______________________

١) سورة الأحزاب : ٢٥.

٢) أنظر : دلائل الصدق ٢ : ١٧٤، ما نزل من القرآن في عليٍّ / أبو نعيم : ١٧٢، تحقيق المحمودي.

٣) سورة التوبة : ١٩ ـ ٢٠.

٤) أنظر أصحاب التفاسير المعتمدة كالطبري والبغوي والقرطبي وابن الجوزي والرازي والخازن، عند تفسير الآيات من سورة التوبة.

٥) إرشاد المفيد ١ : ٣١ ـ ٣٢، إعلام الورىٰ ١ : ٣٦٠ ـ ٣٦١، مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ٦، أنساب الأشراف ٢ : ١١٨ / ٧٤، وكذا نقله المجلسي في البحار ٣٨ : ٢٢٧ / ٣٣.

١٢١

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « السُّبَّق ثلاثة : السابق إلىٰ موسىٰ : يوشع بن نون، والسابق إلىٰ عيسىٰ : صاحب ياسين، والسابق إلىٰ محمَّدٍ : عليُّ بن أبي طالب » (١).

وحينما اختصَّه بمصاهرته في فاطمة سيِّدة النساء، قال لها : « لقد زوَّجتك أعظمهم حلماً، وأقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً » (٢).

لو لم تكن لعليٍّ عليه‌السلام سوىٰ هذه الخصال لكفاه ذلك فخراً، وفضلاً، وعزَّاً علىٰ غيره من العالمين!

٢ ـ أخو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره :

من يجهل حديث المؤاخاة، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا أخوك وأنت أخي » (٣)؟! فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأخِّره حينما آخىٰ بين المهاجرين والأنصار إلَّا لنفسه، ليكون أخاه ووارثه، يرث منه ما ورّثت الأنبياء من قبله.. فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يكن له خطير ولا نظير من العباد وعليُّ بن أبي طالب أخوان في الدنيا والآخرة ( إخْوَاناً علىٰ سُرُرٍ مُتَقابِلِين ) (٤).

_______________________

١) الصواعق المحرقة باب ٩ فصل ٢ / ٢٩، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٢، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٨٩٦، الرياض النضرة ٣ : ١١٠، ذخائر العقبىٰ : ٥٨، المناقب للخوارزمي : ٢٠، شواهد التنزيل ٢ : ٢١٣ / ٩٢٤ ـ ٩٣١.

٢) مسند أحمد ٥ : ٢٦، سير أعلام النبلاء (سير الخلفاء الراشدين) : ٣٢٠.

٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢٠، مصابيح السُنَّة ٤ : ١٧٣ / ٤٧٦٩، المستدرك ٣ : ١٤، ورواه غيرهم بنصوص أُخرىٰ انظر : مسند أحمد ١ : ٢٣٠، سيرة ابن هشام ٢ : ١٠٩، الطبقات الكبرىٰ ٣ : ٢٢، السيرة النبوية ابن حبان : ١٤٩، شرح نهج البلاغة ٦ : ١٦٧، جامع الأصول ٩ : ٤٦٨ / ٦٤٧٥، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٨٧٩، عيون الأثر ١ : ٢٦٥، الروض الأُنف ٤ : ٢٤٤. أُسد الغابة ٢ : ٢٢١ و٤ : ١٦، البداية والنهاية ٧ : ٣٤٨، تاريخ الخلفاء : ١٣٥.

٤) سورة الحجر : ٤٧.

١٢٢

٣ ـ وأحبُّ الخلق إلىٰ الله :

ذات ليلة أُهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير مشوي، فلم تطب نفسه أن يأكله لوحده، فدعا ربَّه قائلاً : « اللَّهمّ.. ائتني بأحبِّ الخلق إليك ليأكل معي هذا الطير » كان يتمنَّىٰ أن يأكل معه أحبُّ الخلق إلىٰ الله عزَّ وجلَّ لتتمَّ البركة ويعمَّ الفضل، وإذا طارق يحوم حول الباب، وكان هناك من يمنعه، يرجع ويعود يطرق الباب، حتىٰ أذن له في الثالثة أو الرابعة، وإذا به عليُّ بن أبي طالب، ولمَّا رآه رسول الله قال : « ما حبسك عنِّي »؟! قال عليه‌السلام : « والذي بعثك بالحقِّ نبيَّاً إنِّي لأضربُ الباب ثلاث مرَّات ويردَّني أنس » (١).

هكذا التقىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أحبِّ الخلق إليه والىٰ الله علىٰ مائدة النور.

٤ ـ إلَّا باب عليٍّ :

لمّا كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبواب شارعة في المسجد النبوي الشريف، أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسدِّ الأبواب إلَّا باب عليٍّ عليه‌السلام فتكلَّم الناس في ذلك، فلمَّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولهم، قام وخطب فيهم فقال : « أمَّا بعد.. فإنِّي أُمرتُ بسدِّ هذه الأبواب إلَّا باب عليٍّ، وقال فيه

_______________________

١) أنظر قصَّة الطائر المشوي بالمصادر التالية : سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢١، الخصائص للنسائي : ٥، فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٥٦٠ / ٩٤٥، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ : ١٣٠ ـ ١٣٢، مصابيح السُنَّة ٤ : ١٧٣ / ٤٧٧٠، أُسد الغابة ٤ : ٣٠، البداية والنهاية ٧ : ٣٦٣، جامع الأصول ٩ : ٤٧١، الرياض النضرة ٣ : ١١٤ ـ ١١٥، وقال الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين : ٤٦ : أخرج ابن مردويه هذا الحديث بمائة وعشرين إسناداً، تذكرة الحفَّاظ : ١٠٤٣.

١٢٣

قائلكم، والله ما سددته ولا فتحته، ولكنِّي أُمرتُ فاتبعته » (١).

ومثله حديث «المناجاة» يوم الطائف، حيث قال الناس : لقد أطال نجواه مع ابن عمِّه! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أنا انتجيته، ولكنَّ الله انتجاه » (٢).

٥ ـ الذائد عن الحوض :

إنَّه صاحب حوض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة، يثبته قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كأنِّي أنظر إلىٰ تدافع مناكب أُمَّتي علىٰ الحوض، فيقول الوارد للصادر : هل شربت؟ فيقول : نعم، والله لقد شربت، ويقول بعضهم : لا والله ما شربت فيا طول عطشاه » (٣).

وقال لعليٍّ عليه‌السلام : « والذي نبَّأ محمَّداً وأكرمه، إنَّك لذائد عن حوضي، تذود عنه رجالاً، كما يذاد البعير الصادي عن الماء، بيدك عصا من عوسج كأنِّي أنظر إلىٰ مقامك من حوضي » (٤).

وفي رواية عن عليٍّ عليه‌السلام قال : « والذي فلق الحبَّة وبرأ النسمة، لأقمعنَّ

_______________________

١) سنن الترمذي ٥ : ٦٤١ / ٢٧٣٢، مسند أحمد ١ : ٣٣١، فضائل الصحابة ٢ : ٥٨١ / ٩٨٥ فتح الباري بشرح صحيح البخاري ٧ : ١٣، المستدرك ٣ : ١٢٥، مجمع الزوائد ٩ : ١١٤ ـ ١١٥، الرياض النضرة ٣ : ١٥٨، الخصائص للنسائي : ١٣، الإصابة ٤ : ٢٧٠، جامع الأصول ٩ : ٤٧٥ / ٦٤٩٤، البداية والنهاية ٧ : ٣٧٤ و٣٧٩، الخصائص بتخريج الأثري ح / ٢٣، ٤١.

٢) سنن الترمذي ٥ : ٦٣٩ / ٣٧٢٦، مصابيح السُنَّة ٤ : ١٧٥ / ٤٧٧٣، جامع الأصول ٩ / ٦٤٩٣، تذكرة الخواص : ٤٢، مناقب الخوارزمي : ٨٢ شرح نهج البلاغة ٩ : ١٧٣ / ٢١، الرياض النضرة ٣ : ١٧٠، البداية والنهاية ٧ : ٣٦٩.

٣) إعلام الورىٰ ١ : ٣٦٩، ونقله المجلسي في بحار الأنوار ٣٩ : ٢١٦ / ٦.

٤) مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ١٦٣، مناقب الخوارزمي : ٦٠.

١٢٤

بيدي هاتين عن الحوض أعداءنا، ولأوردنَّ أحبَّاءنا » (١).

٦ ـ ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ ) (٢) :

خصَّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون غيره بساعة من السحر، يأتيه فيها كلَّ ليلة، يطرق الباب ـ وذلك عند نزول الآية ـ ويقول : « الصلاة، رحمكم الله، إنَّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً » (٣).

٧ ـ علي عليه‌السلام يبلِّغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمرٍ من السماء :

لمَّا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر بتبليغ سورة براءة أميراً علىٰ الحج.. بعث خلفه عليَّاً عليه‌السلام ليأخذها منه! فيعود أبو بكر ويسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحدث فيَّ شيء، يا رسول الله؟ فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا، ولكنِّي أُمرت ألَّا يبلِّغ عنِّي إلَّا أنا أو رجل منِّي » (٤).

٨ ـ كرَّار وليس بفرَّار :

تقدّمت قصة خيبر، ورجوع صاحب الراية الأول، ثم الثاني يجبّن أصحابه ويجبّنونه.

وإذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم ـ والرواية عن عليٍّ عليه‌السلام ـ ويقول : « والذي نفسي بيده، لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، كراراً ليس بفرَّار، يفتح الله علىٰ يديه، فأرسل إليَّ وأنا أرمد؛ فتفل في عينيَّ

_______________________

١) مناقب ابن شهرآشوب ٢ : ١٦٢.

٢) سورة طه : ١٣٢.

٣) تفسير القرطبي ١١ : ١٧٤، تفسير الرازي ٢٢ : ١٣٧، روح المعاني ١٦ : ٢٤٨، وانظر الخصائص بتخريج الأثري ح / ١١٢، ١١٣، وخرَّجه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة من وجوه.

٤) مسند أحمد ١ : ٣، ٣٣١ و٣ : ٢١٢، ٢٣٨ و٤ : ١٦٤، ١٦٥، البداية والنهاية ٧ : ٣٩٨.

١٢٥

وقال : اللَّهمَّ اكفه أذىٰ الحرّ والبرد، فما وجدتُ حرَّاً بعدُ ولا برداً » (١).

هذه بعض الخصائص التي ذكرها أهل المناقب والسير، في حقِّ أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ووصيِّه، ووزيره، وأمينه، وخليفته من بعده علىٰ أُمَّته فلولاه «لم تثبت الملَّة، ولا استقرت الشريعة، ولا ظهرت الدعوة، فهو عليه‌السلام ناصر الإسلام ووزير الداعي إليه، من قبل الله عزَّ وجلَّ، وبضمانه لنبيِّ الهدىٰ عليه‌السلام النصرة، تمَّ له في النبوَّة ما أراد، وفي ذلك من الفضل ما لا توازنه الجبال فضلاً، ولا تعادله الفضائل كلُّها محلَّاً وقدراً» (٢).

المحور الثاني : النصوص الدالَّة علىٰ إمامته عليه‌السلام :

قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (٣).

قال المفسِّرون : إنَّ معناها لنجعلنَّ من أُمِّتك أئمةً يهدون مثل تلك الهداية، لما صبروا عليه من نصرة الدين وثبتوا عليه من اليقين (٤). فهذه الآية الكريمة ـ وغيرها من الآيات ـ (٥) تفيد وجوب الإمام في كلِّ زمان،

_______________________

١) خصائص النسائي : ٣٩ / ١٤ و١٥٩ / ١٥١، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الامام علي ٧، مجمع الزوائد ٩ : ١٢٢، إعلام الورىٰ ١ : ٣٦٤، سنن ابن ماجة ١ : ٤٣، مسند أحمد ١ : ٩٩ و١٣٣، مستدرك الحاكم ٣ : ٣٧، وانظر فرائد السمطين ١ : ٢٥٣ / ١٩٦ و٢٦١ / ٢٠١.

٢) إرشاد المفيد ١ : ٥٠ ـ ٥١.

٣) سورة السجدة : ٢٤.

٤) الكشَّاف ٣ : ٥١٦، روح المعاني ٢١ : ١٣٨، تفسير الرازي ٢٥ : ١٨٦، تفسير النسفي ٣ : ٤٥، تفسير أبي السعود ٧ : ٨٧.

٥) مثل : سورة المائدة : ٥٥ ـ ٥٦، سورة النساء : ٧١.

١٢٦

ولمَّا كان الإمام موجوداً بأمر من الله عزَّ وجلَّ فوجب علينا حقُّ طاعته ونصرته، كما قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١).

وكذا السُنَّة المطهَّرة فرضت علينا معرفة الإمام والاقتداء به، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من مات وليس عليه إمام فإنَّ موتته موتة جاهلية » (٢)، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام بوجوب طاعة الإمام وموالاته : « من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » (٣).

إذن فالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك أُمَّته دون إمام يقود زمامها من بعده، وذلك بأمرٍ من السماء، إذ قال عزَّ من قائل : ( وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) فما هو جواب الرسول الذي سيملأ هذا الفراغ؟ سيتَّضح ذلك من خلال الأسطر التالية التي تكشف عن حقيقة أنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمارس إعداد الخليفة من بعده عملياً ونظرياً :

١ ـ اسمعوا لعليٍّ وأطيعوا :

لمَّا نزل قوله تعالىٰ : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) رفع شأن عليٍّ عليه‌السلام علىٰ آله وعشيرته أجمعين، وخصَّه بمنزلة لا يشركه فيها أحد، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام بشأنه يوم الانذار : « إنَّ هذا أخي، ووصيي،

_______________________

١) النساء : ٥٩.

٢) ورد هذا الحديث بعدَّة صيغ، انظر : مسند أحمد ٤ : ٩٦، كنز العمَّال ١ : ١٠٣ / ٤٦٤، المستدرك علىٰ الصحيحين ١ : ١١٧، مجمع الزوائد ٥ : ٢١٨، ٢٢٤، الدرُّ المنثور ٢ : ٢٨٦ ـ عند الآية (١٠٣) من سورة آل عمران، ينابيع المودَّة : ١١٧.

٣) صحيح مسلم ـ كتاب الإمارة ٣ : ١٤٧٨ / ٥٨ ـ (١٨٥١)، جامع الأصول ٤ : ٤٦٣ / ٢٠٦٥.

١٢٧

وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا » (١).

٢ ـ وأولىٰ بالناس من أنفسهم :

بشأنه عليه‌السلام نزل قول الله عزَّ وعلا : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) حينما تصدَّق بخاتمه حال الصلاة (٣).

وأثبت الآلوسي في تفسيره، من شعر حسَّان بن ثابت في هذه الحادثة، قال : فأنشد حسَّان :

أبا حسنٍ تفديك نفسي ومهجتي

وكلُّ بطيءٍ في الهدىٰ ومسارعِ

فأنت الذي أعطيتَ إذ كنت راكعاً

زكاةً، فدتك النفس يا خير راكعِ

فأنزلَ فيك اللهُ خيرَ ولايةٍ

وبيَّنها في محكماتِ الشرائعِ

وإذ كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ بحكم القرآن ـ أولىٰ بالناس من أنفسهم، لكونه وليَّهم بالنصِّ في التبيان، وجبت طاعته علىٰ كافتهم بجليِّ البيان، كما وجبت طاعة الله وطاعة رسوله عليه وآله السلام، بما تضمَّنه الخبر عن

_______________________

١) أنظر تاريخ الطبري ٢ : ٣٢١، الكامل في التاريخ ١ : ٥٨٧، السيرة الحلبية ١ : ٤٦١، شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢١١، ٢٤٤، تفسير البغوي ٤ : ٢٧٨، تفسير الخازن ٣ : ٣٧١ ـ ٣٧٢.

٢) سورة المائدة : ٥٥.

٣) انظر قصة تصدُّقه بالخاتم في تفسير الطبري ٦ : ١٨٦، أسباب النزول للواحدي : ١١٤، تفسير الرازي ١٢ : ٢٦، تفسير أبي السعود ٢ : ٥٢ ـ دار إحياء التراث العربي، تفسير النسفي ١ : ٤٢٠ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت، تفسير البيضاوي ١ : ٢٧٢ ـ دار الكتب العلمية، ط ١ ـ ١٤٠٨هـ، معالم التنزيل للبغوي ٢ : ٢٧٢، لباب النقول في أسباب النزول / السيوطي : ٩٣ ـ دار إحياء العلوم ـ بيروت، ط ٣ ـ ١٤٠٦هـ، فتح القدير / الشوكاني ٢ : ٥٣ ـ دار إحياء التراث العربي، روح المعاني / الآلوسي ٦ : ١٦٧ ـ ١٦٩ دار إحياء التراث العربي ١٤٠٥هـ، فضائل الصحابة ٢ : ٦٧٨ / ١١٥٨، جامع الأصول ٩ : ٤٧٨ / ٦٥٠٣، الكشَّاف / الزمخشري ١ : ٦٤٩، ط ١.

١٢٨

ولايتهما للخلق في هذه الآية بواضح البرهان (١).

٣ ـ إنَّ عليَّاً مولىٰ المؤمنين :

قُمَّت شجيرات الغدير، وتجمَّع الحشد الهائل من حجَّاج بيت الله الحرام، وإذا بالصمت يخطف الوجوه، فماذا عسىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ في حرِّ الرمضاء وساعة الظهيرة؟

وإذا بجبرئيل الأمين يكفي علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمر بما فيه إكمال الدين وإتمام النعمة علىٰ المسلمين، بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (٢).

ثمَّ فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولاية عليٍّ عليه‌السلام علىٰ الشاهد والغائب؛ فقال : « من كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللَّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره »، وبعد فرض الولاية نزل قوله تعالىٰ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (٣).

فكبَّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمدالله علىٰ إكمال الدين ورضا الربِّ برسالته وولاية عليٍّ عليه‌السلام من بعده، فأصبح عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام مولىٰ كلِّ مؤمن ومؤمنة.

_______________________

١) إرشاد المفيد ١ : ٧.

٢) سورة المائدة : ٦٧.

٣) سورة المائدة : ٣.

١٢٩

وحديث الغدير هذا حديث صحيح (١)، قد بلَّغ حدَّ التواتر عند جميع المسلمين (٢) كما مرَّ بنا سابقاً.

٤ ـ الوزارة والخلافة :

في نصّ حديث المنزلة يتفرّد عليّ بمنزلة لا يشاركه في مثلها أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، يا عليُّ : « أنت منِّي بمنزلة هارون من موسىٰ، إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي » استثنىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النبوَّة، وأوجب له ما دون ذلك من الخصائص، فهو الوزير بعده والخليفة علىٰ أُمَّته.

وحديث المنزلة هذا حديث متواتر لا خلاف فيه (٣).

وأنَّ القول بمنزلة هارون من موسىٰ عليهما السلام يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسىٰ لأمير المؤمنين عليه‌السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ما خصّه الاستثناء المنطوق به في الخبر من النبوة. وإن من منازل هارون من موسىٰ عليهما‌السلام هي : الشركة في النبوَّة، والأخوة، والتقدُّم عنده في الفضل والمحبَّة والاختصاص علىٰ جميع قومه، والخلافة له في حال غيبته علىٰ أُمَّته، وغيرها من المنازل، فوجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استثنىٰ ما لم يرده من المنازل

_______________________

١) أنظر : مسند أحمد ٤ : ٢٨١، ٣٦٨، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١١١ ـ ١١٢، السيرة الحلبية ٣ : ٣٣٦، مستدرك الحاكم ٣ : ١٤٨، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٨، صحيح مسلم ـ كتاب فضائل الصحابة ٤ : ١٨٧٣  / ٢٤٠٨ من عدَّة طرق، تهذيب الكمال ١٣ : ٣٠٢، فتح القدير ٢ : ٦٠، الدرُّ المنثور ٣ : ١١٧، أسباب النزول : ١١٥، تفسير المنار / محمد رشيد رضا ٦ : ٤٦٣، تفسير الرازي ١٢ : ٤٩ ـ ٥٠، الرياض النضرة ٣ : ١٢٧، مناقب أمير المؤمنين / الحافظ محمد بن سليمان الكوفي القاضي ١ : ١١٩.

٢) أنظر : البداية والنهاية ٥ : ٢٣٣.

٣) تقدَّمت مصادر هذا الحديث سابقاً، وانظر : مصنف ابن أبي شيبة ـ فضائل عليٍّ ٧ : ٤٩٦ / ١١ ـ ١٥، السيرة النبوية لابن حبَّان : ١٤٩.

١٣٠

بعده بقوله : « إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي » فدلَّ هذا الاستثناء علىٰ أنَّ ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعده، وإذا كان من جملة المنازل الخلافة في الحياة، وثبتت بعده، فقد تبيَّن صحَّة النصِّ عليه بالإمامة (١).

٥ ـ لن يخرجكم من هدىٰ ولن يُدخلكم في ضلالة :

وذلك من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأُمَّته : « من أحبَّ أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنَّة عدنٍ غرسها ربِّي، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب، فإنَّه لن يُخرجكم من هدىٰ، ولن يُدخلكم في ضلالة » (٢).

وفي هذا دلالة واضحة علىٰ فرض ولاية الإمام عليٍّ عليه‌السلام، كما يصرِّح مرَّة أُخرىٰ عليه أفضل السلام بقوله : « يا عليُّ، أنت تبيِّن لأُمَّتي ما اختلفوا فيه من بعدي » (٣).

٦ ـ لا، لكنَّه علي! :

عليٌّ عليه‌السلام هو الذي قال عنه رسول الله : « إنَّ منكم من يقاتل علىٰ تأويل القرآن كما قاتلت علىٰ تنزيله » فتطاولت لذلك الأعناق كلٌّ يقول : أنا هو! وفيهم أبو بكر وعمر، فيقول عليه الصلاة والسلام : « لا، لا، لكنَّه عليٌّ » (٤).

_______________________

١) إعلام الورىٰ ١ : ٣٣١ ـ ٣٣٢ بتصرُّف.

٢) المستدرك : ٢ : ١٢٨، لسان الميزان ٢ : ٣٤، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٨ كنز العمَّال. ١١ : ٦١١ / ٣٢٩٦٠.

٣) المستدرك ٣ : ١٢٢، وقال : صحيح علىٰ شرط الشيخين ولم يخرجاه، حلية الأولياء ١ : ٦٤، تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي ٢ : ٤٨٦ / ١٠١٤ ـ ١٠١٨، مناقب الخوارزمي : ٢٣٦، كنز العمَّال ١١ / ٣٢٩٨٣.

٤) أنظر : مسند أحمد ٣ : ٨٢، البداية والنهاية ٧ : ٣٩٨.

١٣١

٧ ـ كلُّهم من قريش :

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمارس تعيين الخلفاء من بعده؛ فصرَّح بأنَّهم « اثنا عشر خليفة » لكن خصَّص المنبع الأصيل لهذه الخلافة « كلُّهم من قريش »!

وهذا حديث متواتر أيضاً رواه أصحاب الصحاح والسنن وغيرهم (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن عليٍّ عليه‌السلام : « إنَّه منِّي وأنا منه، وهو وليُّكم بعدي... إنَّه منِّي وأنا منه وهو وليُّكم بعدي » يكرِّرها (٢)، يحدّد أنه هو أول الخلفاء الأثني عشر القرشيين.

٨ ـ قاتل الفَجَرة :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليٌّ أمير البررة، قاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله » (٣).

٩ ـ حقُّه لازم لنا، وفضله مبرَّز :

من رسالة معاوية بن أبي سفيان إلىٰ محمد بن أبي بكر، وهي الرسالة التي أشار إليها الطبري، ثُمَّ قال : كرهت ذكرها لأمور لا تحتملها العامَّة !

_______________________

١) أنظر : صحيح البخاري ـ الأحكام ـ باب ٥١ ح / ٦٧٩٦، صحيح مسلم ـ الإمارة ح / ١٨٢١ ـ ١٨٢٢، مسند أحمد ١ : ٣٩٨، ٤٠٦، سنن أبي داود ح / ٤٢٨٠، سنن الترمذي ـ كتاب الفتن : ٤ / ٢٢٢٣، مصابيح السُنَّة ٤ : ح / ٤٦٨٠.

٢) مسند أحمد ٥ : ٣٥٦، خصائص النسائي : ح / ٨٧، ومثله انظر : المستدرك ٣ : ١٣٤، سنن الترمذي ٥ : ح / ٣٧١٢، المصنَّف ابن أبي شيبة : ح ٧ ـ فضائل علي ح / ٥٨، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبَّان ٩ : ٤١ ح / ٦٨٩٠.

٣) تفسير الرازي ١٢ : ٧٦، كنز العمال ١١ / ٣٢٩٠٩، فضائل الصحابة ٢ : ٦٧٨ / ١١٥٨.

١٣٢

قال فيها معاوية مخاطباً محمَّد بن أبي بكر : «قد كنَّا وأبوك معنا في حياة نبيِّنا نرىٰ حقَّ ابن أبي طالب لازماً لنا، وفضله مبرزاً علينا» (١).

ومن قول محمَّد بن أبي بكر في رسالته إلىٰ معاوية، يصف فيها عليَّاً عليه‌السلام : «وهو وارث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيُّه، وأبو ولده، أوَّل الناس له اتِّباعاً، وأقربهم به عهداً، يخبره بسرِّه ويطلعه علىٰ أمره» (٢).

١٠ ـ لن تضلّوا بعده :

إضافة إلىٰ هذا الاجراء النظري الصريح بخلافة عليٍّ عليه‌السلام وولايته، أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينفِّذ إجراءً عملياً بحقِّه عليه‌السلام مرّة بعد أخرى قبيل رحيله.. ففي الأولى أمر بدواة وكتف ليكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده، لكنَّها كانت الرزية التي أبكت ابن عبَّاس، حتىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ!

قد حالوا دون كتابة الكتاب الذي سيكون آخر شهادة حقٍّ ناطقة بولاية عليٍّ عليه‌السلام وإذا بقول أحدهم : «حسبنا كتاب الله» لكنّ كتاب الله يقول : ( مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (٣)! ومن عصىٰ الرسول فقد عصىٰ الله..

وفي الثانية عزم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلي المدينة المنورة ممّن يعلم منهم الخلاف علىٰ علي عليه‌السلام والمنازعة في الخلافة، فعقد الراية لأسامة وأمرهم بالانقياد

_______________________

١) انظر اشارة الطبري : تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٧ ـ أحداث سنة ٣٦، ونص رسالته في مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٢١، تحقيق عبدالأمير مهنا، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت، ١٩٩١م، وشرح نهج البلاغة ٣ : ١٨٨.

٢) مروج الذهب ٣ : ٢١، شرح نهج البلاغة ٣ : ١٨٨.

٣) سورة النساء : ٤ / ٨٠.

١٣٣

له والامتثال لأمره، ليبلغ أمته بابلغ خطاب ان هؤلاء إنما هم جنود لهذا القائد الشاب ابن السابعة عشرة فلا ينازعوا غداً على زعامة الأمة وإمامة المسلمين! لكنّهم تخلّفوا عنها أيضاً بعذر أو بآخر، رغم ردّه كل تلك الأعذار، وتأكيده البليغ «انفذوا بعثة اسامة» «لعن الله من تخلف عنها»!!

١٣٤

الفصل الأول : قصة السقيفة

أعقب وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمور خطيرة، جرَّت وراءها فتناً عديدة غيَّرت مسار الإسلام الذي أراده الله تعالىٰ وأراده رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام. تمخَّضت هذه الأحداث عن تعيين الناس الخليفة، وجثمان النبيِّ العظيم لم يوارَ في التراب بعد، والإمام عليٌّ عليه‌السلام وبنو هاشم ـ وجمع من المهاجرين والأنصار ـ منهمكون بجثمان النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حافِّين به يودِّعونه في آخر ساعات وجوده علىٰ أرض المعمورة. لقد انقطع الوحي، ورحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وينتظرُ أمته من بعده أمرٌ خطير..

في هذه اللحظات المؤلمة الشديدة، وبعد ساعة من انقطاع الوحي، استغلَّ عمر بن الخطَّاب فرصة الخلاف بين الأوس والخزرج ونبأ اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، يتداولون فيها أمر الخلافة بعد رسول الله، خوفاً علىٰ مستقبل الأنصار، فيما لو كانت الخلافة بيد قريش! فأخذ عمر بن الخطَّاب بيد أبي بكر وانخرطا من بين الجموع الحاشدة بجثمان النبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فيصحبهما أبو عبيدة إلىٰ سقيفة بني ساعدة، ليتمَّ تنفيذ «البيعة الفلتة»! لخليفة رسول الله علىٰ أُمَّته.

على أي حال انضم الثلاثة إلىٰ تجمُّع الأنصار، وبعد أن دار جدل عنيف، غلبهم المهاجرون ؛ لأنَّهم «أوَّل من عبد الله في الأرض، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقُّ الناس بهذا الأمر بعده، ولا ينازعهم ذلك إلَّا ظالم.. وأنتم يا معشر الأنصار لا يُنكر فضلكم في

١٣٥

الدين ولا سابقتكم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله.. فنحن الأمراء وأنتم الوزراء » ! علىٰ حدِّ تعبير أبي بكر (١).

ولمَّا عارض أحد الأنصار بذكر فضائلهم ونصرتهم للنبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وعدم تسليم الأمر للمهاجرين، ردَّ عليه عمر بقوله : «هيهات لا يجتمع سيفان في غمد، والله لا ترضىٰ العرب أن تؤمِّركم والنبيُّ من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولِّي أمرها من كانت النبوَّة فيهم، ولنا بذلك الحجَّة الظاهرة، من نازعنا سلطان محمَّد ونحن أولياؤه وعشيرته إلَّا مدلٍ بباطلٍ، أو متجانفٍ لإثمٍ، أو متورِّطٍ في هلكة»!!

هذه حجَّتهم الظاهرة : قوم محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، أولياؤه وعشيرته لا ينازعهم علىٰ سلطان محمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلَّا ظالم، متجاهلين عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام الذي بايعوه وبايعه مئة ألف أو يزيدون في غدير خمٍّ، وبعد فهو أقرب الناس إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العلم والزهد وسائر الصفات المستلزمة للإمامة والولاية العامة وأخصُّهم به، وهو ابن عمِّه الذي نشأ في بيته، كما نشأ النبيُّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيت أبيه أبي طالب!

فقال بشير بن سعد ـ أحد زعماء الأنصار ـ : «يا معشر الأنصار، إنَّا والله وإن كنَّا أولي فضيلة وسابقة في الدين، إلَّا أنَّ محمَّداً من قريش وقومه أولىٰ به، وأيمُ الله لا يراني الله أُنازعهم هذا الأمر أبداً».

فقال أبو بكر : هذا عمر، وهذا أبو عبيدة، فأيُّهما شئتم فبايعوا.. فأدار عمر ظهره لأبي بكر، وقال لأبي عبيدة : ابسط يدك أُبايعك، فأنت أمين

_______________________

١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٤ ـ ١٥، مكتبة ومطبعة مصطفىٰ بابي الحلبي ـ مصر ١٩٦٩م.

١٣٦

هذه الأُمَّة!! ولمَّا امتنع أبو عبيدة، أدار عمر إلىٰ أبي بكر، فبسط يده وصفق عليها ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فبويع أبو بكر، بايعه أبو عبيدة وبشير بن سعد الخزرجي، ثُمَّ بايعه الأوس. وتمَّت مسرحية «السقيفة» وقد مثَّل دور البطولة فيها أبو بكر وعمر!

وما أن انتصف نهار اليوم حتىٰ تمَّت بيعة أبي بكر بهذا النحو، الذي كان مفاجأة لأكثر الناس، وأخذوا يزفُّون عبدالله بن عُثمان التيمي ـ أبو بكر بن أبي قحافة ـ إلىٰ مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتكون بيعته علىٰ نطاق أوسع!

تسرَّب نبأ السقيفة والبيعة في أرجاء المدينة المنوَّرة، علىٰ ساكنها السلام، كلُّهم علموا بخبر البيعة، إلَّا عليٌّ وبنو هاشم ومن معهم، حيث كانوا مع مصيبة وداع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

فانطلق البراء بن عازب وجاء يضرب باب بني هاشم قائلاً : يا معشر بني هاشم، قد بويع أبو بكر!

سادت لحظة هدوء، متسائلين : ما كان المسلمون يُحدثون حدثاً نغيب عنه، ونحن أولىٰ بمحمَّد، لكنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب لم يستغرب هذا الفعل منهم، فقال : فعلوها وربِّ الكعبة!!

ولمَّا كان اليوم الثاني، وبعد أن واروا جثمان النبي الطاهر، انحاز مع عليِّ بن أبي طالب عليه‌السلام بنو هاشم جميعاً، ومعهم طائفة من المهاجرين والأنصار، اعتقاداً منهم بحقِّ عليٍّ في الخلافة (١).

_______________________

١) صحيح مسلم ـ الجهاد والسير ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢، صحيح البخاري ـ باب غزوة خيبر ٥ : ٢٨٨ / ٤٥٦، الكامل في التاريخ ٢ : ٢٣١.

١٣٧

فقال الأنصار : لا نبايع إلَّا عليَّاً، وقال الزبير : لا أغمد سيفاً حتىٰ يُبايع علي، وانظم وانحاز في بيت عليٍّ وفاطمة عليهما‌السلام : المقداد بن عمرو، وخالد بن سعيد، وسلمان الفارسي، وأبو ذرٍّ الغفاري، وعمَّار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأُبي بن كعب، وحذيفة بن اليمان، وابن التيهان، وعبادة بن الصامت (١)، كلُّهم يرفضون البيعة لابن أبي قحافة، للسبب الآنف ذكره..

إضافةً إلىٰ ذلك فقد اعتصم جماعة من الأنصار في أحيائهم، فجاء عبدالرحمن بن عوف يعاتبهم علىٰ تخلُّفهم عن بيعة الخليفة، ويذكر لهم حقَّه بقرابته من رسول الله، وما شابه ذلك من الحجج التي يتشبَّثون بها، من أجل إثبات حق أبي بكر بالخلافة، وأنَّه أولىٰ بها من غيره، فردَّ عليه جماعة الأنصار : «إنَّ ممَّن سمَّيت من قريش، مَنْ إذا طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد : عليُّ بن أبي طالب»!

هذا أحد المواقف ضد الاتجاه الذي نال خلافة رسول الله بالغلبة! وموقف آخر يمكن أن نقتبس منه بعض الأقوال، كقول الفضل بن عبَّاس، الذي قام خطيباً وأجاد حيث قال : «يا معشر قريش : إنَّه ما حقَّت لكم الخلافة بالتمويه! ونحن أهلها دونكم وصاحبنا أولىٰ بها منكم» (٢)، ويقصد بصاحبنا عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وأنشد عتبة بن أبي لهب، معرباً عن أولوية علي عليه‌السلام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤، تاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٣، ابن أبي الحديد ٢ : ٤٩، ٥٦ و٦ : ١١، وزاد في ١ : ٢٢٠ حذيفة وابن التيهان وعبادة بن الصامت، وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٨، الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٩، ١٩٤، تاريخ الخلفاء : ٥١ ولم يذكروا الأسماء.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

١٣٨

وبأمر الخلافة ؛ إذ يقول :

ما كنتُ أحسبُ أنَّ الأمرَ منصرفٌ

عن هاشمٍ ثُمَّ منها عن أبي الحسنِ

عن أوَّل الناس إيماناً وسابقةً

وأعلم الناس بالقرآن والسننِ (١)

وكان المهاجرون والأنصار لا يشكُّون في عليٍّ عليه‌السلام (٢).

وما كان من أبي بكر إلَّا أن ينتظر عليَّاً عليه‌السلام وأصحابه أن يبايعوه! ولمَّا تأخَّرت بيعتهم أرسل عمر بن الخطَّاب إلىٰ بيت عليٍّ عليه‌السلام، فنادىٰ عليَّاً وأصحابه وهم في الدار فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب ليحرق البيت ومن فيه، فقيل له : إنَّ فيه فاطمة!

قال : وإن (٣)!!

لكنَّهم اقتحموا بيت عليٍّ عليه‌السلام.. وقد ثبت عن أبي بكر قوله، حين حضرته الوفاة : «وددت أنِّي لم أكشف عن بيت فاطمة، وتركته ولو أُغلق علىٰ حرب» (٤).

أتىٰ قنفذ ـ رسول الخليفة الجديد ـ عليَّ بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : يدعوك خليفة رسول الله. فقال عليه‌السلام : « لسريع ما كذَّبتم علىٰ رسول الله »!

فرجع فأبلغ أبا بكر قوله، فبكىٰ أبو بكر طويلاً! فبعثه مرَّةً أُخرىٰ بتحريض من عمر، فقال : خليفة رسول الله يدعوك لتبايع، فقال عليه‌السلام

_______________________

١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤، شرح نهج البلاغة ٦ : ٢١ وغيرها.

٣) أنظر قصَّة هذا الحدث في : الإمامة والسياسة ١ : ١٢، شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦، ٦ : ٥٨، ٢٠ : ١٤٧، تاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٤، العقد الفريد ٥ : ١٢.

٤) الإمامة والسياسة ١ : ٢٤، تاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠.

١٣٩

بصوت مرتفع : « سبحان الله! لقد ادَّعىٰ ما ليس له ». فرجع قنفذ وأبلغه كلام عليٍّ فبكىٰ أبو بكر طويلاً..

أمَّا عمر فتعجَّل الأمر، وأتىٰ بيت عليٍّ مع جماعة وطرقه بشدَّة، فلمَّا سمعت فاطمة أصواتهم نادت : « يا أبتِ يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطَّاب وابن أبي قحافة »؟!

فانصرف القوم باكين لبكائها ومناجاتها أباها، إلَّا عمر لم يتصدَّع قلبه لبكاء ابنة رسول الله وبضعته، فبقي معه جماعة، حتىٰ أخرجوا عليَّاً ٧ فمضوا به إلىٰ أبي بكر، وعرضوا عليه البيعة فأجابهم بكلِّ ثبات وعزيمة : « أنا أحقُّ بهذا الأمر منكم، لا أُبايعكم وأنتم أولىٰ بالبيعة لي ».

فقالوا : نضرب عنقك!!

فقال عليه‌السلام : « إذن تقتلون عبدالله وأخا رسوله »!

فقال عمر : أمَّا عبدالله فنعم، وأمَّا أخو رسوله فلا!

وأبو بكر ساكت! ثُمَّ قال عمر لأبي بكر : ألا تأمر فيه بأمرك؟!

فأجابه الخليفة : لا أُكرهه علىٰ شيء مادامت فاطمة إلىٰ جنبه!

فلحق عليٌّ عليه‌السلام بقبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، يصيح ويبكي وينادي : « يا ابن أمِّ إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني » (١).

وهكذا وقع سريعاً تأويل ما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام :

_______________________

١) أنظر : شرح النهج ٢ : ٥٦، ٦ : ١١، الإمامة والسياسة : ١٢ ـ ١٣، تاريخ اليعقوبي ـ مختصراً ـ ٢ : ١٢٦، الفتوح ابن أعثم ١ : ١٣، دار الكتب العلمية، ط ١ ـ ١٤٠٦هـ.

١٤٠