الأمالي

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

الأمالي

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: مؤسسة البعثة
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٨٨

[٤٠]

مجلس يوم الجمعة

الثالث عشر من شهر رمضان سنة سبع وخمسين وأربع مائة

فيه أحاديث الغضائري.

بسم الله الرحمن الرحيم

١٤٩٨ / ١ ـ حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي رحمه‌الله ، قال : أخبرنا الحسين بن عبيد الله ، عن أبي محمد هارون بن موسى ، قال : حدثني أبو علي محمد بن همام ، قال : حدثنا محمد بن علي بن الحسين الهمداني ، قال : حدثنا محمد بن خالد البرقي ، قال : حدثنا محمد بن سنان ، عن المفضل ابن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إن الله ( تعالى ) لم يجعل للمؤمن أجلا في الموت ، يبقيه ما أحب البقاء ، فإذا علم منه أنه سيأتي بما فيه بوار دينه قبضه إليه مكرما.

قال أبو علي : فذكرت هذا الحديث لأحمد بن علي بن حمزة مولى الطالبيين ـ وكان راوية للحديث ـ فحدثني عن الحسين بن أسد الطفاوي ، عن محمد بن القاسم ، عن فضيل بن يسار ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قال : من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال ، ومن يعيش بالاحسان أكثر ممن يعيش بالاعمال.

١٤٩٩ / ٢ ـ وبهذا الاسناد ، عن أبي علي محمد بن همام ، قال : حدثني محمد ابن علي بن الحسين الهمداني ، قال : حدثني محمد بن خالد البرقي ، قال : حدثنا

٧٠١

محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان ذات يوم جالسا بالرحبة ، والناس حوله مجتمعون ، فقام إليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك بالمكان الذي أنزلك الله ( عزوجل ) به ، وأبوك يعذب بالنار؟

فقال له : مه ، فض الله فاك ، والذي بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق نبيا ، لو شفع أبي في كل مذنب على وجه الأرض لشفعه الله فيهم ، أبي يعذب بالنار وابنه قسيم النار؟!

ثم قال : والذي بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إن نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق إلا خمسة أنوار. نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونوري ، ونور فاطمة ، ونور الحسن ، والحسين ومن ولده من الأئمة ، لان نوره من نورنا الذي خلقه الله ( تعالى ) من قبل أن يخلق آدم بألفي عام.

١٥٠٠ / ٣ ـ وعن موسى بن بكر ، عن العبد الصالح عليه‌السلام ، قال : بكى أبو ذر من خشية الله ( تعالى ) حتى اشتكى بصره ، فقيل له : لو دعوت الله يشفي بصرك. فقال : إني عن ذلك مشغول ، وما هو بأكبر همي. قالوا : وما يشغلك عنه؟ قال : العظيمتان الجنة والنار.

١٥٠١ / ٤ ـ وعنه ، عن العبد الصالح عليه‌السلام ، قال : سئل أبو ذر : ما مالك؟ قال : عملي. قيل له : إنما نسألك عن الذهب والفضة؟ فقال : ما أصبح فلا أمسى ، وما أمسى فلا أصبح ، لنا كندوج (١) نرفع فيه خير متاعنا ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : كندوج المؤمن قبره.

١٥٠٢ / ٥ ـ وعنه ، عن العبد الصالح عليه‌السلام ، قال : قال أبو ذر رحمه‌الله : جزى الله الدنيا عني مذمة بعد رغيفي الشعير ، أتغدى بأحدهما ، وأتعشى بالآخر ، وبعد شملتي الصوف ، أتزر بإحداهما ، وأرتدي بالأخرى.

١٥٠٣ / ٦ ـ وعنه ، قال : خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة ، فقال : يا جند

__________________

(١) الكندوج : شبه مخزن توضع فيه الحنطة ونحوها ، ويطلق على الخزانة الصغيرة.

٧٠٢

المرأة ، يا أصحاب البهيمة ، رغا فأجبتم ، وعقر فانهزمتم ، الله أمركم بجهادي أم على الله تفترون!

ثم قال : يا بصرة ، أي يوم لك لو تعلمين ، وأي قوم لك لو تعلمين؟ إن لك من الماء يوما عظيما بلاؤه. وذكر كلاما كثيرا.

١٥٠٤ / ٧ ـ كثير ، عن زيد بن علي ، عن أبيه عليه‌السلام : أن الحسين بن علي عليهما‌السلام أتى عمر بن الخطاب وهو على المنبر يوم الجمعة ، فقال له : انزل عن منبر أبي ، فبكى عمر ، ثم قال : صدقت يا بني ، منبر أبيك لا منبر أبي. فقال علي عليه‌السلام : ما هو والله عن رأيي. قال : صدقت والله ما اتهمتك يا أبا الحسن. ثم نزل عن المنبر ، فأخذه فأجلسه إلى جانبه على المنبر ، فخطب الناس وهو جالس معه على المنبر ، ثم قال : أيها الناس ، سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : احفظوني في عترتي وذريتي ، فمن حفظني فيهم حفظه الله ، ألا لعنة الله على من آذاني فيهم! ثلاثا.

١٥٠٥ / ٨ ـ زيد بن علي ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : قال علي عليه‌السلام : لا يكن حبك كلفا ، ولا بغضك تلفا ، أحبب حبيبك هونا ما ، وابغض بغيضك هونا ما.

١٥٠٦ / ٩ ـ زيد بن علي ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : سئل علي بن أبي طالب عليه‌السلام. من أفصح الناس؟ قال : المجيب المسكت عند بديهة السؤال.

١٥٠٧ / ١٠ ـ زيد بن علي ، عن أبيه عليه‌السلام ، قال : الورع نظام العبادة ، فإذا انقطع الورع ذهبت الديانة ، كما أنه إذا انقطع السلك اتبعه النظام (١).

١٥٠٨ / ١١ ـ وروى منيف ، عن جعفر بن محمد مولاه ، عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام ، قال : قال علي عليه‌السلام :

صبرت على مر الأمور كراهة

وأبقيت في ذاك الصواب من الامر

إذا كنت لا تدري ولم تك سائلا

عن العلم من يدري جهلت ولا تدري

__________________

(١) النظام. الخيط الذي ينظم في اللؤلؤ وغيره.

٧٠٣

[٤١]

مجلس يوم الجمعة

السادس والعشرين من شوال سنة سبع وخمسين وأربع مائة

فيه أحاديث ابن الصلت الأهوازي.

بسم الله الرحمن الرحيم

١٥٠٩ / ١ ـ حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي رضي‌الله‌عنه قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن الحافظ ، قال : حدثني محمد بن عيسى بن هارون بن سلام الضرير أبو بكر ، قال : حدثنا محمد بن زكريا المكي ، قال : حدثني كثير ابن طارق ، قال : سمعت زيد بن علي مصلوب الظالمين يقول : حدثني أبي علي بن الحسين بن علي عليهم‌السلام قال : خطب علي بن أبي طالب عليه‌السلام بهذه الخطبة في يوم الجمعة ، فقال :

الحمد لله المتوحد بالقدم والأزلية ، الذي ليس له غاية في دوامه ، ولا له أولية ، أنشأ صنوف البرية ، لا من أصول كانت بدية ، وارتفع عن مشاركة الأنداد ، وتعالى عن اتخاذ صاحبة وأولاد ، هو الباقي بغير مدة ، والمنشئ لا بأعوان ، لا بآلة فطر ، ولا بجوارح صرف ما خلق ، لا يحتاج إلى محاولة التفكير ، ولا مزاولة مثال ولا تقدير ، أحدثهم على صنوف من التخطيط والتصوير ، لا بروية ولا ضمير ، سبق علمه في كل

٧٠٤

الأمور ، ونفذت مشيئته في كل ما يريد في الأزمنة والدهور ، وانفرد بصنعة الأشياء فأتقنها بلطائف التدبير ، سبحانه من لطيف خبير ، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير.

١٥١٠ / ٢ ـ حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رحمه‌الله ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن الحافظ ، قال : حدثني محمد بن عيسى بن هارون بن سلام الضرير أبو بكر ، قال : حدثنا محمد بن زكريا المكي ، قال : حدثني كثير بن طارق ، من ولد قنبر مولى علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : حدثني زيد بن علي عليه‌السلام في جارسوج (١) كندة بالكوفة : أن أباه حدثه عن أبيه عليهما‌السلام ، عن ابن عباس ، قال : أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا عليه‌السلام خاتما فقال : يا علي ، خذ هذا الخاتم للنقاش ، لينقش عليه محمد بن عبد الله ، فأخذه أمير المؤمنين عليه‌السلام فأعطاه النقاش ، وقال له : أنقش عليه محمد بن عبد الله ، فنقش النقاش ، وأخطأت يده ، فنقش عليه : محمد رسول الله ، فجاء أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : ما فعل الخاتم؟ فقال : هو ذا ، فأخذه ونظر إلى نقشه ، فقال : ما أمرتك بهذا ، قال : صدقت ، ولكن يدي أخطأت ، فجاء به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا رسول الله ، ما نقش النقاش ما أمرت به ، ذكر أن يده أخطأت ، فأخذه النبي عليه‌السلام ونظر إليه ، فقال : يا علي ، أنا محمد بن عبد الله ، وأنا محمد رسول الله ، وتختم به ، فلما أصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى خاتمه ، فإذا تحته منقوش : علي ولي الله ، فتعجب من ذلك النبي عليه‌السلام فجاء جبرئيل ، فقال : يا جبرئيل ، كان كذا وكذا. فقال : يا محمد ، كتبت ما أردت ، وكتبنا ما أردنا.

__________________

(١) تقدم في الحديث : ٦٧ ، وعلى حاشية النسخة : الجارسوج ، معناه المربع.

٧٠٥

[٤٢]

مجلس يوم الجمعة

الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وأربع مائة

فيه أحاديث ابن شاذان القمي ، وابن الصلت الأهوازي.

بسم الله الرحمن الرحيم

١٥١١ / ١ ـ حدثنا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي رضي‌الله‌عنه ، قال : أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن الحسن بن شاذان ، قال : حدثني أحمد بن محمد بن أيوب ، قال : حدثنا عمر بن الحسن القاضي ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثني أبو حبيبة ، قال : حدثني سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عائشة.

قال محمد بن أحمد بن شاذان : وحدثني سهل بن أحمد ، قال : حدثنا أحمد ابن عمر الربيعي ، قال : حدثنا زكريا بن يحيى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن العباس بن عبد المطلب.

قال ابن شاذان : وحدثني إبراهيم بن علي ، باسناده عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : كان العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزى بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكانت حاملة بأمير

٧٠٦

المؤمنين عليه‌السلام لتسعة أشهر ، وكان يوم التمام ، قال : فوقفت بإزاء البيت الحرام ، وقد أخذها الطلق ، فرمت بطرفها نحو السماء ، وقالت : أي رب ، إني مؤمنة بك ، وبما جاء به من عندك الرسول ، وبكل نبي من أنبيائك ، وبكل كتاب أنزلته ، وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل ، وإنه بنى بيتك العتيق ، فأسألك بحق هذا البيت ومن بناء ، وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلمني ويؤنسني بحديثه ، وأنا موقنة أنه إحدى آياتك ودلائلك لما يسرت علي ولادتي.

قال العباس بن عبد المطلب ويزيد بن قعنب. لما تكلمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء ، رأينا البيت قد انفتح من ظهره ، ودخلت فاطمة فيه ، وغابت عن أبصارنا ، ثم عادت الفتحة والتزقت بأذن الله ( تعالى ) ، فرمنا أن نفتح الباب ليصل إليها بعض نسائنا ، فلم ينفتح الباب ، فعلمنا أن ذلك أمر من أمر الله ( تعالى ) ، وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام. قال : وأهل مكة يتحدثون بذلك في أفواه السكك ، وتتحدث المخدرات في خدورهن.

قال : فلما كان بعد ثلاثة أيام انفتح البيت من الموضع الذي كانت دخلت فيه ، فخرجت فاطمة وعلي عليه‌السلام على يديها ، ثم قالت : معاشر الناس ، إن الله ( عزوجل ) اختارني من خلقه ، وفضلني على المختارات ممن مضى قبلي ، وقد اختار الله آسية بنت مزاحم فإنها عبدت الله سرا في موضع لا يحب أن يعبد الله فيه إلا اضطرارا ، ومريم بنت عمران حيث اختارها الله ، ويسر عليها ولادة عيسى ، فهزت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتى تساقط عليها رطبا جنيا ، وإن الله ( تعالى ) اختارني وفضلني عليهما ، وعلى كل من مضى قبلي من نساء العالمين ، لأني ولدت في بيته العتيق ، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار الجنة وأوراقها ، فلما أردت أن أخرج وولدي على يدي هتف بي هاتف وقال : يا فاطمة ، سميه عليا ، فأنا العلي الاعلى ، وإني خلقته من قدرتي ، وعز جلالي ، وقسط عدلي ، واشتققت اسمه من اسمي ، وأدبته بأدبي ، وفوضت إليه أمري ، ووقفته على غامض علمي ، وولد في بيتي ، وهو أول من يؤذن فوق بيتي ، ويكسر الأصنام ويرميها على وجهها ، ويعظمني ويمجدني ويهللني ، وهو الامام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من خلقي محمد رسولي ، ووصيه ،

٧٠٧

فطوبى لمن أحبه ونصره ، والويل لمن عصاه وخذله وجحد حقه.

قال : فلما رآه أبو طالب سره وقال علي عليه‌السلام : السلام عليك يا أبه ، ورحمة الله وبركاته.

قال : ثم دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما دخل اهتز له أمير المؤمنين عليه‌السلام وضحك في وجهه ، وقال : السلام عليك ، يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته.

قال : ثم تنحنح بإذن الله ( تعالى ) ، وقال : ( بسم الله الرحمن الرحيم * قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون ) إلى آخر الآيات. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قد أفلحوا بك ، وقرأ تمام الآيات إلى قوله : ( أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) (١) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت والله أميرهم ، تميرهم من علومك فيمتارون ، وأنت والله دليلهم وبك يهتدون.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة : اذهبي إلى عمه حمزة فبشريه به. فقالت : فإذا خرجت أنا ، فمن يرويه؟ قال : أنا أرويه. فقالت فاطمة : أنت ترويه؟ قال : نعم ، فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسانه في فيه ، فانفجرت منه اثنتا عثرة عينا ، قال : فسمي ذلك اليوم يوم التروية ، فلما أن رجعت فاطمة بنت أسد رأت نورا قد ارتفع من علي عليه‌السلام إلى عنان السماء.

قال : ثم شدته وقمطته بقماط فبتر القماط ، قال : فأخذت فاطمة قماطا جيدا فشدته به فبتر القماط ، ثم جعلته في قماطين فبترهما ، فجعلته ثلاثة فبترها ، فجعلته أربعة أقمطة من رق مصر لصلابته فبترها ، فجعلته خمسة أقمطة ديباج لصلابته فبترها كلها ، فجعلته ستة من ديباج وواحدا من الادم فتمطى فيها فقطعها كلها بإذن الله ، ثم قال بعد ذلك : يا أمه لا تشدي يدي ، فإني احتاج إلى أن أبصبص (٢) لربي بإصبعي. قال : فقال أبو طالب عند ذلك : إنه سيكون له شأن ونبأ.

قال : فلما كان من غد دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على فاطمة ، فلما بصر

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١ ـ ١١.

(٢) بصبص في دعائه : رفع سبابته إلى السماء وحركها.

٧٠٨

علي عليه‌السلام برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم عليه ، وضحك في وجهه ، وأشار إليه أن خذني إليك واسقني مما سقيتني بالأمس. قال : فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت فاطمة : عرفه ورب الكعبة. قال : فلكلام فاطمة ، سمي ذلك اليوم يوم عرفة ـ يعني أن أمير المؤمنين عليه‌السلام عرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلما كان اليوم الثالث ، وكان العاشر من ذي الحجة ، أذن أبو طالب في الناس أذانا جامعا ، وقال : هلموا إلى وليمة ابني علي. قال : ونحر ثلاث مائة من الإبل وألف رأس من البقر والغنم ، واتخذ وليمة عظيمة ، وقال : معاشر الناس ، ألا من أراد من طعام علي ولدي فهلموا وطوفوا بالبيت سبعا ، وادخلوا وسلموا على ولدي علي فإن الله شرفه ، ولفعل أبي طالب شرف يوم النحر.

١٥١٢ / ٢ ـ وعنه ، قال. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصلت الأهوازي ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة ، قال : حدثنا جعفر بن عبد الله العلوي ، قال : حدثنا عمي القاسم بن جعفر بن عبد الله بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب أبو محمد ، قال : حدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده : أن القوم حين اجتمعوا للشورى فقالوا فيها ، وناجى عبد الرحمن رجل منهم على حدة ، ثم قال لعلي عليه‌السلام : عليك عهد الله وميثاقه ، لئن وليت لتعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة أبي بكر وعمر. فقال علي عليه‌السلام : علي عهد الله وميثاقه ، لئن وليت أمركم لاعملن بكتاب الله وسنة رسوله. فقال عبد الرحمن لعثمان كقوله لعلي عليه‌السلام ، فأجابه أن نعم ، فرد عليهما القول ثلاثا كل ذلك يقول علي عليه‌السلام كقوله ، ويجيبه عثمان : أن نعم ، فبايع عثمان عبد الرحمن عند ذلك.

١٥١٣ / ٣ ـ وباسناده ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد : أن الناس كلموا عثمان في أمر عبيد الله بن عمر وقتله الهرمزان ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، قد أكثرتم في أمر عبيد الله بن عمرو الهرمزان ، وإنما قتله عبيد الله تهمة بدم أبيه ، وإن أولى الناس بدم الهرمزان الله ثم

٧٠٩

الخليفة ، ألا وإني قد وهبت دمه لعبيد الله ، فقام المقداد بن الأسود ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما كان لله كان الله أملك به منك ، وليس لك أن تهب ما الله أملك به منك. فقال : ننظر وتنظرون ، فبلغ قول عثمان عليا عليه‌السلام فقال : والله لئن ملكت لأقتلن عبيد الله بالهرمزان ، فبلغ ذلك عبيد الله ، فقال : والله لئن ملك لفعل.

١٥١٤ / ٤ ـ وباسناده ، عن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، قال : لما قدم أبو ذر على عثمان ، قال : أخبرني أي البلاد أحب إليك؟ قال : مهاجري. فقال : لست بمجاوري. قال : فألحق بحرم الله ، فأكون فيه. قال لا : قال : فالكوفة أرض بها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : لا. قال : فلست بمختار غيرهن ، فأمره بالمسير إلى الربذة ، فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي اسمع وأطع ، وانفذ حيث قادوك ، ولو لعبد حبشي مجدع.

فخرج إلى الربذة ، وأقام مدة ، ثم أتى إلى المدينة ، فدخل على عثمان والناس عنده سماطين ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنك أخرجتني من أرضي إلى أرض ليس بها زرع ولا ضرع إلا شويهات ، وليس لي خادم إلا محررة ، ولا ظل يظلني إلا ظل شجرة ، فاعطني خادما وغنيمات أعش فيها ، فحول وجهه عنه ، فتحول عنه إلى السماط الآخر فقال مثل ذلك ، فقال له حبيب بن سلمة : لك عندي يا أبا ذر ألف درهم وخادم وخمس مائة شاة. قال أبو ذر : أعط خادمك وألفك وشويهاتك من هو أحوج إلى ذلك مني ، فإني إنما أسال حقي في كتاب الله.

فجاء علي عليه‌السلام فقال له عثمان : ألا تغني عنا سفيهك هذا. قال : أي سفيه؟ قال : أبو ذر. قال علي عليه‌السلام : ليس بسفيه ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء ، أصدق لهجة من أبي ذر ، أنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون ، إن يك كاذبا فعليه كذبه ، وان يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم. قال عثمان : التراب في فيك. قال علي عليه‌السلام : بل التراب في فيك ، أنشد بالله من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول ذلك لأبي ذر ، فقام أبو هريرة وعشرة فشهدوا بذلك ، فولي علي عليه‌السلام.

١٥١٥ / ٥ ـ قال ابن عباس : كنت عند أبي على العشاء بعد المغرب إذ جاء

٧١٠

الخادم ، فقال : هذا أمير المؤمنين بالباب ، فدخل عثمان فجلس ، فقال له العباس : تعش. قال : تعشيت ، فوضع يده ، فلما فرغنا من العشاء قام من كان عنده وجلست وتكلم عثمان ، فقال : يا خال ، أشكو إليك ابن أخيك ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ فإنه أكثر في شتمي ، ونطق في عرضي ، وأنا أعوذ بالله من ظلمكم بني عبد المطلب ، إن يكن هذا الامر لكم فقد سلمتموه إلى من هو أبعد مني ، وإن لا يكن لكم فحقي أخذت.

فتكلم العباس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذكر ما خص الله به قريشا منه ، وما خص به بني عبد المطلب خاصة ، ثم قال : أما بعد ، فما حمدتك لابن أخي ، ولا حمدت ابن أخي فيك ، وما هو وحده ، ولقد نطق غيره ، فلو أنك هبطت مما صعدت ، وصعدوا مما هبطوا لكان ذلك أقرب.

فقال : أنت وذلك يا خال. قال : فلم تكلم بذلك عنك؟ قال : نعم أعطهم عني ما شئت ، وقام عثمان فخرج ، فلم يلبث أن رجع إليه فسلم وهو قائم ، ثم قال : يا خال ، لا تعجل بشئ حتى أعود إليك ، فرفع العباس يديه واستقبل القبلة ، فقال : اللهم استبق بي ما لا خير لي في إدراكه ، فما مضت الجمعة حتى مات.

١٥١٦ / ٦ ـ وباسناده ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ، عن أبي بكر بن عبد الله بن عبيد الله بن عمر ، عن عبد الله بن عمر : أنه نزل على خالد بن أسيد بمكة ، فقال له : لو أتيت ابن عمك فوصلك ، فأتى عثمان فكتب له إلى عبد الله بن عامر : أن صله بست مائة ألف ، فنزل به من قابل فسأله ، فقال له : قد بارك الله لي في مشورتك ، فأتيته فأمر لي بست مائة ألف ، فقال له ابن عمر : ستين ألفا! قال : مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف ، ست مرات ، فقال له ابن عمر : اسكت فما أسود (١) عثمان! وبايعه أهل مصر ، فكتب أهل مصر إلى عثمان ، وذكر الكتاب بطوله.

__________________

(١) أي ما أكثر ماله ، والسواد : المال الكثير.

٧١١

[٤٣]

مجلس يوم الجمعة

الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربع مائة

فيه بقية أحاديث ابن الصلت الأهوازي.

بسم الله الرحمن الرحيم

١٥١٧ / ١ ـ حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي رضي‌الله‌عنه ، قال : بالاسناد الأول عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، قال : لما نزل المصريون بعثمان بن عفان في مرتهم الثانية ، دعا مروان بن الحكم فاستشاره ، فقال له : إن القوم ليس هم لاحد أطوع منهم لعلي بن أبي طالب ، وهو أطوع الناس في الناس ، فابعثه إليهم فليعطهم الرضا ، وليأخذ لك عليهم الطاعة ، ويحذرهم الفتنة ، فكتب عثمان إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « سلام عليكم ، أما بعد ، فإنه قد جاز السيل الزبا ، وبلغ الحزام الطبيين (١) ، وارتفع أمر الناس بي فوق قدره ، وطمع في من كان يعجز عن نفسه ، فاقبل علي أولى ، وتمثل :

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل

وإلا فأدركني ولما أمزق

__________________

(١) أي اشتد الامر وتفاقم.

٧١٢

والسلام ».

فجاءه علي عليه‌السلام ، فقال : يا أبا الحسن ، ائت هؤلاء القوم ، فادعهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال : نعم ، إن أعطيتني عهد الله وميثاقه على أن تفي لهم بكل شئ أعطيته عنك لهم. فقال : نعم. فأخذ عليه عهدا غليظا ومشى إلى القوم ، فلما دنا منهم ، قالوا : وراءك (١). قال : لا. قالوا : وراءك. قال : لا. فجاء بعضهم ليدفع في صدره حين قال ذلك ، فقال القوم بعضهم لبعض : سبحان الله ، أتاكم ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرض كتاب الله! اسمعوا منه واقبلوا. قالوا : تضمن لنا كذلك.قال : نعم.

فاقبل معه أشرافهم ووجوههم حتى دخلوا على عثمان فعاتبوه ، فأجابهم إلى ما أحبوا ، فقالوا : اكتب لنا على هذا كتاب ، وليضمن علي عنك ما في الكتاب. قال : اكتبوا أنى شئتم ، فكتبوا بينهم « بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب عبد الله عثمان بن عفان أمير المؤمنين لمن نقم عليه من المؤمنين والمسلمين أن لكم علي أن أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن المحروم يعطى ، وأن الخائف يؤمن ، وأن المنفي يرد ، وأن المبعوث لا يجمر (٢) ، وأن الفئ لا يكون دولة بين الأغنياء ، وعلي بن أبي طالب ضامن للمؤمنين والمسلمين على عثمان الوفاء لهم على ما في هذا الكتاب. شهد الزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن مالك ، وعبد الله بن عمر ، وأبو أيوب بن زيد. وكتب في ذي القعدة سنة خمس وعشرين ».

فأخذوا الكتاب ثم انصرفوا ، فلما نزلوا أيلة إذا هم براكب فأخذوه ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا رسول عثمان إلى عبد الله بن سعد. قال بعضهم لبعض : لو فتشناه لئلا يكون قد كتب فينا؟ ففتشوه فلم يجدوا معه شيئا ، فقال كنانة بن بشر التجيبي : انظروا

__________________

(١) وراءك : اسم فعل بمعنى ارجع أو تأخر.

(٢) جمر الجيش : حبسهم في أرض العدو ولم يقفلهم من الثغر ، وفي الحديث : « لا تجمروا الجيش فتفتنوهم ».

٧١٣

إلى إدواته (١) ، فإن للناس حيلا ، فإذا قارورة مختومة بموم (٢) ، فإذا فيها كتاب إلى عبد الله بن سعد : إذا جاءك كتابي هذا ، فاقطع أيدي الثلاثة مع أرجلهم.

فلما قرؤوا الكتاب رجعوا حتى أتوا عليا عليه‌السلام ، فأتاه فدخل عليه ، فقال : استعتبك القوم فأعتبتهم ، ثم كتبت كتابك هذا ، نعرفه الخط الخط والخاتم الخاتم؟! فخرج علي عليه‌السلام مغضبا وأقبل الناس عليه ، فخرج سعد من المدينة فلقيه رجل ، فقال : يا أبا إسحاق ، أين تريد؟ قال : إني قد فررت بديني من مكة إلى المدينة ، وأنا اليوم أهرب بديني من المدينة إلى مكة.

وقال الحسن بن علي عليهما‌السلام لعلي عليه‌السلام حين أحاط الناس بعثمان : اخرج من المدينة واعتزل ، فإن الناس لا بد لهم منك ، وإن هم ليأتونك ولو كنت بصنعاء اليمن ، وأخاف أن يقتل هذا الرجل وأنت حاضره. فقال : يا بني ، أخرج عن دار هجرتي ، وما أظن أحدا يجترئ على هذا القول كله.

وقام كنانة بن بشر ، فقال : يا عبد الله ، أقم لنا كتاب الله ، فإنا لا نرضى بالقول دون الفعل ، قد كتبت وأشهدت لنا شهودا ، وأعطيتنا عهد الله وميثاقه. فقال : ما كتبت بينكم كتابا ، فقام إليه المغيرة بن الأخنس ، فضرب بكتابه وجهه ، وخرج إليهم عثمان ليكلمهم ، فصعد المنبر ، فرفعت عائشة قميص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونادت « أيها الناس ، هذا قميص رسول الله لم يبل ، وقد غيرت سنته! » فنهض الناس ، وكثر اللغط ، وحصبوا عثمان حتى نزل من المنبر فدخل بيته ، فكتب نسخة واحدة إلى معاوية وعبد الله بن عامر : « أما بعد ، فإن أهل السفه والبغي والعدوان من أهل العراق ومصر والمدينة أحاطوا بداري ، ولن يرضيهم مني دون خلعي أو قتلي ، وأنا ملاق الله قبل أن أتابعهم على شئ من ذلك ، فأعينوني ».

فلما بلغ كتابه ابن عامر قام وقال : أيها الناس ، إن أمير المؤمنين عثمان ذكر أن

__________________

(١) الإدواة : إناء صغير من جلد.

(٢) الموم : الشمع ، معرب.

٧١٤

شرذمة من أهل مصر والعراق نزلوا بساحته ، فدعاهم إلى الحق فلم يجيبوا ، فكتب إلي أن أبعث إليه منكم ذوي الرأي والدين والصلاح ، لعل الله أن يدفع عنه ظلم الظالمين وعدوان المعتدين. فلم يجيبوه إلى الخروج ، ثم إنه نزل.

فقدموا من كل فج حتى حضروا المدينة ، وقيل لعلي عليه‌السلام : إن عثمان قد منع الماء ، فأمر بالروايا فعكمت (١) ، وجاء للناس علي عليه‌السلام فصاح بهم صيحة فانفرجوا ، فدخلت الروايا ، فلما رأى علي عليه‌السلام اجتماع الناس ووجوههم ، دخل على طلحة بن عبيد الله وهو متكئ على وسائد ، فقال : إن هذا الرجل مقتول فامنعوه. فقال : أما والله دون أن تعطي بنو أمية الحق من أنفسها.

١٥١٨ / ٢ ـ وباسناده ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال. حدثني أبو جعفر محمد ابن علي عليهما‌السلام ، قال : حدثني عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري ، قال : سماني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الرحمن. قال : لما بلغ عليا عليه‌السلام مسير طلحة والزبير خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال :

أما بعد ، فقد بلغني مسير هذين الرجلين ، واستخفافهما حبيس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستفزازهما أبناء الطلقاء ، وتلبيسهما على الناس بدم عثمان ، وهما ألبا عليه ، وفعلا به الأفاعيل ، وخرجا ليضربا الناس بعضهم ببعض ، اللهم فاكف المسلمين مؤنتهما ، واجزهما الجوازي ، وحض الناس على الخروج في طلبهما ، فقام إليه أبو مسعود عقبة بن عمرو ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إن الذي يفوتك من الصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومجلسك فيما بين قبره ومنبره ، أعظم مما ترجو من الشام والعراق ، فإن كنت إنما تسير لحرب فقد أقام عمر وكفاه سعد زحف القادسية ، وكفاه حذيفة بن اليمان زحف نهاوند ، وكفاه أبو موسى زحف تستر ، وكفاه خالد بن الوليد زحف الشام ، فإن كنت سائرا فخلف عندنا شقة منك نرعاه فيك ونذكرك به.

ثم قال أبو مسعود :

__________________

(١) عكم الشئ : شده.

٧١٥

بكت الأرض والسماء على الشاخص

منا يريد أهل العراق

يا وزير النبي قد عظم الخطب

وطعم الفراق مر المذاق

وإذا القوم خاصموك فقوم

ناكسو الطرف خاضعو الأعناق

لا يقولون إذ تقول وإن

قلت فقول المبرز السباق

فعيون الحجاز تذرف بالدمع

وتلك القلوب عند التراقي

فعليك السلام ما ذرت الشمس

ولاح السراب بالرقراق

فقال قيس بن سعد : يا أمير المؤمنين ، ما على الأرض أحد أحب إلينا أن يقيم فينا منك ، لأنك نجمنا الذي نهتدي به ، ومفزعنا الذي نصير إليه ، وإن فقدناك لتظلمن أرضنا وسماؤنا ، ولكن والله لو خليت معاوية للمكر ، ليرومن مصر ، وليفسدن اليمن ، وليطمعن في العراق ، ومعه قوم يمانيون قد أشربوا قتل عثمان ، وقد اكتفوا بالظن عن العلم ، وبالشك عن اليقين ، وبالهوى عن الخير ، فسر بأهل الحجاز وأهل العراق ، ثم ارمه بأمر يضيق فيه خناقه ، ويقصر له من نفسه. فقال : أحسنت والله يا قيس ، وأجملت.

وكتبت أم الفضل بنت الحارث إلى علي عليه‌السلام تخبره بمسير عائشة وطلحة والزبير ، فأزمع المسير ، فبلغه تثاقل سعد وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة ، فقال سعد : لا أشهر سيفا حتى يعرف المؤمن من الكافر ، وقال أسامة : لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله ، ولو كنت في فم الأسد لدخلت فيه معك ، وقال محمد بن مسلمة : أعطاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيفا ، وقال : إذا اختلف المسلمون فاضرب به عرض أحد ، والزم بيتك ، وتخلف عنه عبد الله بن عمر.

فقال عمار بن ياسر : دع القوم ، أما عبد الله فضعيف ، وأما سعد فحسود ، وأما محمد بن مسلمة فذنبك إليه أنك قتلت قاتل أخيه مرحبا.

ثم قال عمار لمحمد بن مسلمة : أما تقاتل المحاربين؟ فوالله لو مال علي جانبا لملت مع علي.

وقال كعب بن مالك : يا أمير المؤمنين ، إنه بلغك عنا معشر الأنصار ، ما لو كان

٧١٦

غيرنا لم يقم معك ، والله ما كل ما رأينا حلالا حلال ، ولا كل ما رأينا حراما حرام ، وفي الناس من هو أعلم بعذر عثمان ممن قتله ، وأنت أعلم بحالنا منا ، فإن كان قتل ظالما قبلنا ، وإن كان قتل مظلوما فاقبل قولنا ، فإن وكلتنا فيه إلى شبهة فعجب ليقيننا وشكك ، وقد قلت لنا : عندي نقض ما اجتمعوا عليه ، وفصل ما اختلفوا فيه. وقال :

كان أولى أهل المدينة بالنص

ر عليا وآل عبد مناف

للذي في يديه من حرم الله

وقرب الولاء بعد التصافي

وكان كعب بن مالك شيعة لعثمان.

وقام الأشتر إلى علي عليه‌السلام ، فكلمه بكلام بحضه على أهل الوقوف ، فكره ذلك علي عليه‌السلام حتى شكاه ، وكان من رأي علي عليه‌السلام ألا يذكرهم بشئ.

فقال الأشتر : يا أمير المؤمنين ، إنا وإن لم نكن من المهاجرين والأنصار ، فإنا فيهم ، وهذه بيعة عامة ، والخارج منها عاص ، والمبطئ عنها مقصر ، فإن أدبهم اليوم باللسان وغدا بالسيف ، وما من ثقل عنك كمن خف معك ، وإنما أرادك القوم لأنفسهم فأردهم لنفسك. فقال علي عليه‌السلام : يا مالك دعني. وأقبل علي عليه‌السلام عليهم ، فقال : أرأيتم لو أن من بايع أبا بكر أو عمر أو عثمان ثم نكث بيعته ، أكنتم تستحلون قتالهم؟ قالوا : نعم. قال : فكيف تحرجون من القتال معي وقد بايعتموني؟ قالوا : إنا لا نزعم أنك مخطئ ، وأنه لا يحل لك قتال من بايعك ثم نكث بيعتك ، ولكن نشك في قتال أهل الصلاة. فقال الأشتر : دعني يا أمير المؤمنين ، أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون عنك. فقال له علي عليه‌السلام : كف عني ، فانصرف الأشتر وهو مغضب.

ثم إن قيس بن سعد لقي مالكا الأشتر في نفر من المهاجرين والأنصار ، فقال قيس للأشتر : يا مالك ، كلما ضاق صدرك بشئ أخرجته ، وكلما استبطأت أمرا استعجلته ، إن أدب الصبر التسليم ، وأدب العجلة الأناة ، وإن شر القول ما ضاهى العيب ، وشر الرأي ما ضاهى التهمة ، وإذا ابتليت فاسأل ، وإذا أمرت فأطع ، ولا تسأل قبل البلاء ، ولا تكلف قبل أن ينزل الامر ، فإن في أنفسنا ما في نفسك ، فلا تشق على صاحبك؟ فغضب الأشتر ، ثم إن الأنصار مشوا إلى الأشتر في ذلك فرضوه عن غضبه

٧١٧

فرضي.

فلما هم علي عليه‌السلام بالنهوض ، قام إليه أبو أيوب خالد بن زيد صاحب منزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أقمت بهذه البلدة ، فإنها مهاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبها قبره ومنبره ، فإن استقامت لك العرب كنت كمن كان قبلك ، وإن وكلت إلى المسير فقد أعذرت. فأجابه علي عليه‌السلام بعذره في المسير.

ثم خرج لما سمع توجه طلحة والزبير إلى البصرة وتمكث حتى عظم جيشه ، وأغذ (١) السير في طلبهم ، فجعلوا لا يرتحلون من منزل إلا نزله حتى نزل بذي قار ، فقال : والله إنه ليحزنني أن أدخل على هؤلاء في قلة من معي ، فأرسل إلى الكوفة الحسن بن علي عليهما‌السلام وعمار بن ياسر وقيس بن سعد ، وكتب إليهم كتابا ، فقدموا الكوفة ، فخطب الناس الحسن بن علي عليهما‌السلام ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر عليا عليه‌السلام وسابقته في الاسلام ، وبيعة الناس له ، وخلاف من خالفه ، ثم أمر بكتاب علي عليه‌السلام فقرئ عليهم.

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه عيانه ، إن الناس طعنوا عليه ، وكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه ، وأقل عيبه ، وكان هذان الرجلان أهون سيرهما فيه الوجيف ، وقد كان من أمر عائشة فلتة على غضب ، فأتيح له قوم فقتلوه ، ثم إن الناس بايعوني غير مستكرهين ، وكان هذان الرجلان أول من فعل على ما بويع عليه من كان قبلي ، ثم إنهما استأذناني في العمرة ، وليسا يريدانها ، فنقضا العهد ، وآذنا بحرب ، وأخرجا عائشة من بيتها ، ليتخذانها فئة ، وقد سارا إلى البصرة اختيارا لها ، وقد سرت إليكم اختيارا لكم ، ولعمري ما إياي تجيبون ، ما تجيبون إلا الله ورسوله ، ولن أقاتلهم وفي نفسي منهم حاجة ، وقد بعثت إليكم بالحسن بن علي وعمار بن ياسر وقيس بن سعد مستنفرين فكونوا عند ظني بكم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ).

__________________

(١) أي أسرع.

٧١٨

فلما قرئ الكتاب على الناس قام خطباء الكوفة ، شريح بن هاني وغيره ، فقالوا : والله لقد أردنا أن نركب إلى المدينة حتى نعلم علم عثمان ، فقد أنبأنا الله به في بيوتنا ، ثم بذلوا السمع والطاعة ، وقالوا : رضينا بأمير المؤمنين ، ونطيع أمره ، ولا نتخلف عن دعوته ، والله لو لم يستنصرنا لنصرناه سمعا وطاعة.

فلما سمع الحسن بن علي عليهما‌السلام ذلك قام خطيبا فقال : أيها الناس ، إنه قد كان من أمير المؤمنين علي ما تكفيكم جملته ، وقد أتيناكم مستنفرين لكم ، لأنكم جبهة الأمصار ، ورؤساء العرب ، وقد كان من نقض طلحة والزبير بيعتهما وخروجهما بعائشة ما قد بلغكم ، وهو ضعف النساء ، وضعف رأيهن ، وقد قال الله ( تعالى ) : ( الرجال قوامون على النساء ) (١) وأيم الله لو لم ينصره أحد لرجوت أن يكون له فيمن أقبل معه من المهاجرين والأنصار ، ومن يبعث الله له من نجباء الناس كفاية ، فانصروا الله ينصركم. ثم جلس.

وقام عمار بن ياسر ، فقال. يا أهل الكوفة ، إن كانت غابت عنكم أبداننا فقد انتهت إليكم أمورنا ، إن قاتلي عثمان لا يعتذرون إلى الناس ، وقد جعلوا كتاب الله بينهم وبين محاجيهم ، ( فبه ) أحيا الله من أحيا ، وقتل من قتل ، وإن طلحة والزبير أول من طعن ، وآخر من أمر ، ثم بايعا أول من بايع ، فلما أخطأهما ما أملا نكثا بيعتهما على غير حدث كان ، وهذا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستنفركم ، وقد أظلكم في المهاجرين والأنصار ، فانصروه ينصركم الله.

وقام قيس بن سعد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إن هذا الامر لو استقبلنا به الشورى لكان علي أحق الناس به في سابقته وهجرته وعلمه ، وكان قتال من أبى ذلك حلالا ، فكيف والحجة قامت على طلحة والزبير ، وقد بايعاه وخلعاه حسدا؟!

فقام خطباؤهم فأسرع الرد بالإجابة ، فقال النجاشي في ذلك :

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٣٤.

٧١٩

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا

علي وأبناء النبي محمد

وقلنا له أهلا وسهلا ومرحبا

نمد يدينا من هوى وتودد

فمرنا بما ترضى نجبك إلى الرضا

بصم العوالي والصفيح المهند

وتسويد من سودت غير مدافع

وإن كان من سودت غير مسود

فإن نلت ما تهوى فذاك نريده

وإن تخط ما تهوى فغير تعمد

وقال قيس بن سعد حين أجاب أهل الكوفة :

جزى الله أهل الكوفة اليوم نصرة

أجابوا ولم يأتوا بخذلان من خذل

وقالوا علي خير حاف وناعل

رضينا به من ناقض العهد من بدل

هما أبرزا زوج النبي تعمدا

يسوق بها الحادي المنيخ على جمل

فما هكذا كانت وصاة نبيكم

وما هكذا الانصاف أعظم بذا المثل

فهل بعد هذا من مقال لقائل

ألا قبح الله الأماني والعلل

قال : فلنا فرغ الخطباء وأجاب الناس ، قام أبو موسى فخطب الناس ، وأمرهم بوضع السلاح والكف عن القتال ، ثم قال : أما بعد ، فإن الله حرم علينا دماءنا وأموالنا ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ) (١) وقال : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) (٢) يا أهل الكوفة.

١٥١٩ / ٣ ـ ( وباسناده ، عن عبد الله بن أبي بكر ، قال. قمت إلى ) متوضأ لي ، فسمعت جارية لجار لي تغني وتضرب ، فبقيت ساعة أسمع ، قال : ثم خرجت ، فلما أن كان الليل دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فحين استقبلني قال : الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، اجتنبوا قول الزور. قال : فما زال يقول : الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، قال : فضاق بي المجلس ، وعلمت أنه يعنيني ، فلما أن خرجت قلت

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٢٩.

(٢) سورة النساء ٤ : ٩٣.

٧٢٠