سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

علي موسى الكعبي

سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كان يبتهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويغتبط ، ويجد لنفسه السكينة والسعادة والهناء ، ويفيض من قلبه الحبّ الأبوي والحنان علىٰ بضعته فاطمة عليها‌السلام ، وريحانتيه من الدنيا الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وعلي عليه‌السلام أخيه وصهره ووارث علمه وحكمته وشريكه في خصائصه ماعدا النبوة.

في هذا البيت الذي ضمّ آل الرسول ، ودرج فيه الحسنان ، كان يجلس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينعم برؤية الأهل والأولاد ، ويلقي عن كاهله الاتعاب والأوصاب ، وما لاقاه من الأذىٰ في سبيل دعوته.

في هذا البيت كان يجلس ربّ العائلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عائلته ؛ علي عليه‌السلام عن يمينه ، وفاطمة عليها‌السلام عن يساره ، والحسن والحسين عليهما‌السلام في حجره ، يقبّل هذا مرّة وذاك اُخرىٰ ، يباركهم ويدعو لهم ، ويسأل الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً.

ومن هذا البيت كان يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ السفر ، وبه يبدأ إذا عاد ، وفي هذا البيت نزل الروح الأمين بالوحي من الله علىٰ قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخدم الملائكة فيه سيدي شباب أهل الجنة.

ومن هذا البيت المتواضع شعّ نور الهداية والإسلام علىٰ الناس مدىٰ الأجيال ، وفي هذا البيت الفقير سبّحت الزهراء وبعلها وبنوها عليهم‌السلام بالغدوّ والآصال.

قال أنس وبريدة : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) (١) ، فقام إليه رجل فقال : أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال : « بيوت الأنبياء » فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول الله ، هذا البيت منها ؟ وأشار إلىٰ بيت علي وفاطمة عليهما‌السلام ، فقال

_______________________

١) سورة النور : ٢٤ / ٣٦.

٦١

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نعم من أفاضلها » (١) ) (٢).

وعلىٰ باب هذا البيت كان يمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خرج إلىٰ صلاة الصبح ويقول : « الصلاة ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (٣).

ولكرامة هذا البيت الطاهر ومن فيه من شموس الهداية ومنارات التقىٰ وأعلام اليقين ، فقد استثناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما أمر بسدّ الأبواب الشارعة إلىٰ المسجد دونه ، وكان ذلك بأمر من الله تعالىٰ ، ليبين بذلك عظيم منزلتهم ومنتهىٰ درجتهم.

الزفاف والتكبير :

إنّ ذكر اسم الله تعالىٰ في مقدمات الزواج يضفي قيمة معنوية عليه ، ويربطه بخالق الوجود الأكبر ، مما يسهم في استمرار العلاقة الزوجية لاستنادها إلىٰ ركن قويم وتربية روحية صالحة.

وزواج الزهراء عليها‌السلام باركت له السماء قبل الأرض ، وكبرت له الملائكة قبل البشر ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبر الصحابة ، ووقع التكبير علىٰ العرائس من يوم زفافها ، وجرت السُنّة به إلىٰ يوم القيامة.

روىٰ الشيخ الطوسي وغيره بالاسناد عن الإمام موسىٰ بن جعفر عن أبيه عن جده عليه‌السلام عن جابر بن عبدالله ، قال : لما كانت ليلة زفاف فاطمة عليها‌السلام أتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغلته الشهباء ، وثنىٰ عليها قطيفة ، وقال لفاطمة : « اركبي » ، وأمر

_______________________

١) الدر المنثور / السيوطي ٦ : ٢٠٣. وروح المعاني / الالوسي ١٨ : ١٧٤.

٢) فضائل الإمام علي عليه‌السلام / الشيخ محمد جواد مغنية : ٢٦ ـ ٢٧ مكتبة الهلال ـ بيروت.

٣) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٢ / ١٠٠٢. ومسند أحمد ٣ : ٢٥٩ و ٢٨٥. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٨. وسنن الترمذي ٥ : ٣٥٢ / ٣٢٠٦.

٦٢

سلمان أن يقودها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسوقها ، فبينا هو في بعض الطريق إذ سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبةً ، فإذا هو بجبرئيل في سبعين ألفاً ، وميكائيل في سبعين ألفاً. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أهبطكم إلىٰ الأرض ؟ » قالوا : جئنا نزفُّ فاطمة إلىٰ علي بن أبي طالب فكبّر جبرائيل ، وكبّر ميكائيل ، وكبّرت الملائكة ، وكبّر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوقع التكبير علىٰ العرائس من تلك الليلة (١).

وروى ابن شهرآشوب عن الخطيب في تاريخه وابن مردويه وابن المؤذن وشيرويه الديلمي بأسانيدهم عن ابن عباس وجابر ، قالا : لمّا كانت الليلة التي زفت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ علي عليه‌السلام كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمامها ، وجبرئيل عن يمينها ، وميكائيل عن يسارها ، وسبعون ألف ملك من خلفها ، يسبّحون الله ويقدسونه حتىٰ طلع الفجر (٢).

وعن كتاب ( مولد فاطمة ) عن ابن بابويه ـ في خبر ـ قال : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة ، وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ، ولا يقلن ما لا يرضي الله ، فارتجزت أُمّ سلمة وعائشة وحفصة ومعاذة أُمّ سعد بن معاذ ، وكانت النسوة يرجعن أوّل بيت من كل رجز ، ثم يكبّرن ، ودخلن الدار ، ثم أنفذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ علي ودعاه إلىٰ المسجد ، ثم دعا فاطمة عليها‌السلام فأخذ بيدها ووضعها في يده ، وقال : « بارك الله في ابنة رسول الله » (٣).

وفي حديث أُمّ سلمة : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ عليّاً بيمينه ، وفاطمة بشماله ،

_______________________

١) أمالي الطوسي : ٢٥٨ / ٤٦٤. والفقيه ٣ : ٢٥٣ / ١٢٠٢. ومناقب ابن المغازلي : ٣٤٣ / ٣٩٥. وترجمة الإمام علي عليه‌السلام من تاريخ دمشق ١ : ٢٣٤ / ٢٩٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٠٤ / ١٥.

٢) المناقب ٣ : ٣٥٤. وتاريخ بغداد ٥ : ٧. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٦. وذخائر العقبىٰ : ٣٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٥.

٣) المناقب ٣ : ٣٥٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٥.

٦٣

وجمعهما إلىٰ صدره ، فقبّل بين أعينهما ، ودفع فاطمة عليها‌السلام إلىٰ علي عليه‌السلام وقال : « ياعلي ، نعم الزوجة زوجتك » ثم أقبل علىٰ فاطمة عليها‌السلام وقال : « يافاطمة ، نعم البعل بعلك » ، ثم قام معهما يمشي بينهما حتىٰ أدخلهما بيتهما الذي هيّىء لهما ، ثم خرج من عندهما ، فأخذ بعضادتي الباب. فقال : « طهركما الله وطهّر نسلكما ، أنا سلمٌ لمن سالمكما ، أنا حربٌ لمن حاربكما ، أستودعكما الله واستخلفه عليكما » (١).

الوليمة :

وفي زواج الزهراء عليها‌السلام دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً عليه‌السلام لاَن يصنع طعاماً ويدعو الناس عامة لتكون سنة في أُمّته ، روىٰ الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : « ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، اصنع لأهلك طعاماً فاضلاً ، ثم قال : من عندنا اللحم والخبز ، وعليك التمر والسمن ، فاشتريت تمراً وسمناً ، فحسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذراعه ، وجعل يشدخ التمر في السمن حتىٰ اتخذه حيساً ، وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح ، وخُبز لنا خبز كثير ، ثم قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ادعُ من أحببت » ... الحديث (٢).

وروىٰ الاربلي عن أُمّ سلمة وسلمان الفارسي وعلي عليه‌السلام أنهم قالوا : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدراهم التي سلّمها إلىٰ أُمّ سلمة عشرة دراهم ، فدفعها إلىٰ علي عليه‌السلام وقال : « اشتر سمناً وتمراً وأقطاً ، قال علي عليه‌السلام : فاشتريت وأقبلت به إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسر عن ذراعيه ، ودعا بسفرة من أدم ، وجعل يشدخ التمر والسمن ويخلطهما بالأقط حتىٰ اتخذه حيساً ، ثم قال : يا علي ، ادعُ من

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦١.

٢) أمالي الطوسي : ٤٢ / ٤٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩٥ / ٥.

٦٤

أحببت .. » إلىٰ آخر الرواية (١).

وروىٰ الطبراني بالاسناد عن ابن عباس : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا بلالاً ، فقال : « يا بلال ، إنّي قد زوجّت ابنتي ابن عمي ، وأنا أحبُّ أن تكون سُنّة أُمتي الطعام عند النكاح ، فائت الغنم فخذ شاة وأربعة أمداد أو خمسة ، واجعل لي قصعة ، لعلّي أجمع عليها المهاجرين والأنصار ، فإذا فرغت منها فآذني بها » فانطلق ففعل ما أمره به ، ثم أتاه بقصعة فوضعها بين يديه ، فطعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رأسها ، ثم قال : « أدخل عليّ الناس زُفّة زُفّة » (٢).

ولا تعارض بين هذه الأخبار ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرط في الأول أن يكون التمر والسمن علىٰ علي عليه‌السلام ، وهو ما يفسره الخبر الثاني ، وشرط أيضاً أن يكون اللحم والخبز علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ما يفسره الخبر الأخير.

وحسبك من وليمة تجتمع علىٰ أطرافها البركة والخير والنماء ، فهي تصنع بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيده ، وهو الذي يدعو لها ويبارك فيها ، فلابدّ أن تكون أفضل وليمة علىٰ رغم بساطتها وتواضعها.

أخرج ابن سعد عن أسماء بنت عميس (٣) ، قالت : جهزت فاطمة إلىٰ علي ، وما كان حشو فراشهما ووسائدهما إلّا الليف ، ولقد أولم علي علىٰ فاطمة ، فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته (٤).

_______________________

١) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦١. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٢. والمناقب / الخوارزمي : ٢٥٤.

٢) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١١ / ١٠٢٢. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٩. وإتحاف السائل : ٣٩.

٣) احتمل الاربلي أن تكون أسماء التي حضرت عرس الزهراء عليها‌السلام هي سلمىٰ بنت عميس زوجة حمزة بن عبدالمطلب عليه‌السلام لأنّ أسماء بنت عميس كانت بأرض الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب عليه‌السلام وقال غيره : هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.

٤) الطبقات الكبرىٰ ٨ : ١٤. وذخائر العقبىٰ : ٣٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٦ عن الدولابي. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٨ / ٣٤.

٦٥

الدعاء للعريسين :

وحظي زواج الزهراء عليها‌السلام بدعاء خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجرت السُنّة بذلك لتأكيد القيم الروحية والمعنوية في الزواج ، وتأصيلها في العلاقة الزوجية من يومها الأول.

روىٰ أنس بن مالك عن أُمّ أيمن ، قالت : إنّه لما كانت ليلة البناء ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : « إذا أتتك فلا تحدث شيئاً حتىٰ آتيك » فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لفاطمة عليها‌السلام : « ائتيني بماء » فقامت إلىٰ قعب في البيت فجعلت فيه ماء فأتته به ، فمجّ فيه ثم قال لها : « قومي » فنضح بين ثدييها وعلى رأسها ، ثم قال : « اللهمَّ أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ثم قال لها : « أدبري » فأدبرت ، فنضح بين كتفيها ، ثم قال : « اللهمَّ إني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم » ثم قال : « ائتيني بماء » فأتته ، فأخذ منه بفيه ، ثم مجّه فيه ، ثم صبّ علىٰ رأس علي وبين يديه ، ثم قال : « اللهمَّ إني أعيذه وذريته من الشيطان الرجيم » ثم قال : « ادخل علىٰ أهلك باسم الله والبركة » (١).

وزارهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صبيحة العرس ـ وقيل : في صبيحة اليوم الرابع (٢) ـ فسأل عليّاً عليه‌السلام : « كيف وجدت أهلك ؟ » فقال : « نعم العون علىٰ طاعة الله » وسأل فاطمة عليها‌السلام فقالت : « خير بعل » فقال : « اللهمَّ اجمع شملهما ، وألّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم ، وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة ، واجعل في ذريتهما البركة ، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلىٰ طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك » (٣).

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٩ / ١٠٢١. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٦. واتحاف السائل : ٣٥ و ٤٧.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٢.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ١١٧.

٦٦

وكان من عادة العرب في الجاهلية أن يقولوا للمتزوجين : بالرفاء والبنين ، فنهىٰ عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زواج الزهراء عليها‌السلام وسنّ فيه غيره ، روىٰ ثقة الإسلام الكليني عن أبي عبدالله البرقي رفعه ، قال : « لمّا زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة قالوا : بالرفاء والبنين. قال : لا ، بل علىٰ الخيروالبركة » (١).

المبحث الرابع : دورها في داخل الاُسرة وخارجها :

انتقلت الزهراء عليها‌السلام من بيت أبيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ بيت بعلها الوصي عليه‌السلام ، ذلك البيت الذي تحفّه الرحمة ويغمره الايمان ، فتشكلت الاُسرة الطاهرة من سيدين معصومين درجا في أحضان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهلا من نمير علمه وخلقه العظيم ومكارم أخلاقه وكمالات نفسه الكريمة ، فكان علي عليه‌السلام سيد الوصيين النموذج الكامل والقدوة الصالحة للرجل في الإسلام ، وكانت الزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين النموذج الكامل للمرأة في الإسلام.

وقد وجدت الزهراء عليها‌السلام نفسها وهي في بيت الإمام عليه‌السلام أمام وظائف جسيمة ، ومسؤوليات عظيمة ، فباعتبارها القدوة الحسنة والاُسوة المثلىٰ للمرأة المسلمة ، كان عليها أن ترسم الطريق لمعالم البيت الإسلامي الأمثل في الإسلام ، وقد استطاعت وبكل جدارة أن تضرب أروع الأمثلة في طاعة الزوج ومراعاة حقوقه والاخلاص له ، والصبر علىٰ شظف العيش وقلة ذات اليد ، وفي القيام بمسؤوليات البيت وأداء واجبات الاُسرة في جوّ من المودة والصفاء والتعاون والوفاء ، وفي تربية الأولاد الصالحين ، بما ليس له نظير ،

_______________________

١) الكافي ٥ : ٥٦٨ / ٥٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٤٤ / ٤٦.

٦٧

وفي ما يلي بعض معالم تلك الاُسرة الفريدة التي أنعم الله عليها بما يشاء.

١ ـ الطاعة وحسن المعاشرة :

كانت الزهراء عليها‌السلام نعم الزوجة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما عصت له أمراً وما خالفته في شيء ولا خرجت بغير إذنه ، وكانت تعينه علىٰ طاعة الله تعالىٰ ، وتؤثره علىٰ نفسها ، وتدخل عليه البهجة والسرور ، حتىٰ إنّه إذا نظر إليها انكشفت عنه الهموم والأحزان.

جاء في روضة الواعظين أن الزهراء عليها‌السلام قالت في مرض موتها لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « يا بن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ، ولا خالفتك منذ عاشرتني » فقال عليه‌السلام : « معاذ الله ! أنتِ أعلم بالله ، وأبرّ وأتقىٰ وأكرم وأشدّ خوفاً من الله من أن أوبخك بمخالفتي » (١).

وبالمقابل كان أمير المؤمنين عليه‌السلام نعم البعل للزهراء عليها‌السلام يغدق عليها من فيض حبّه وعطفه ، ويشعرها باخلاصه وودّه لها ، وما كان يغضبها ولا يكرهها علىٰ شيء قطّ ، وإن أرجف المرجفون علىٰ هذا البيت الطاهر بأراجيف شتىٰ.

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « والله ما أغضبتها ولا أكرهتها علىٰ أمرٍ حتىٰ قبضها الله عزَّ وجلَّ. ولا أغضبتني ، ولا عصيت لي أمراً ، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنّي الهموم والأحزان » (٢).

وضربت الزهراء عليها‌السلام أروع الأمثلة في الصبر علىٰ ألم المعاناة من العمل في داخل المنزل حتىٰ إنّها كانت تغزل جزة الصوف بثلاثة آصع من شعير.

عن تفسير الثعلبي : أن عليّاً عليه‌السلام انطلق إلىٰ يهودي يعالج الصوف ، فقال له :

_______________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ١٩١ / ٢٠.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٣٦٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٣٤. ومناقب الخوارزمي : ٢٤٧.

٦٨

« هل لك أن تعطيني جزةً من صوف تغزلها لك بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثلاثة آصع من شعير ؟ » قال : نعم. فأعطاه الصوف والشعير. فقبلت فاطمة عليها‌السلام وأطاعت ، وقامت إلىٰ صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص (١).

وعن أنس ، قال : إنّ بلالاً أبطأ عن صلاة الصبح ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ماحبسك ؟ » فقال : مررت بفاطمة وهي تطحن والصبي يبكي ، فقلت لها : إن شئت كفيتك الرحا وكفيتني الصبي ، وان شئت كفيتك الصبي وكفيتني الرحال. فقالت : « أنا أرفق بابني منك » فذاك حبسني. قال : « رحمتها رحمك الله » (٢).

وفي مثل هذه الظروف القاهرة كانت عليها‌السلام لا تخرج منها غير كلمة الطاعة ، فحينما سألها أمير المؤمنين عليه‌السلام إطعام المسكين الذي طرق بيت الزهراء عليها‌السلام قالت :

« أمرك سمعٌ يابن عمّ وطاعة

ما بي من لؤمٍ ولا وضاعة » (٣)

ولا تتوانىٰ ابنة الرسالة عن أداء مهامها في البيت طاعةً لزوجها علىٰ الرغم من حالة الفقر التي كانت تلفّ حياتها في بيت الزوجية ، حتىٰ أن أمير المؤمنين عليه‌السلام رقّ لحالها من شدّة ما تعانيه من أتعاب منزلية.

أخرج السيوطي في مسند فاطمة عليها‌السلام عن هبيرة ، عن علي عليه‌السلام ، قال :

_______________________

١) إحقاق الحق / الشهيد التستري ١٠ : ٢٦٤ مكتبة السيد المرعشي ـ قم ، عن تفسير الثعلبي.

٢) مسند أحمد ٣ : ١٥٠. ومجمع الزوائد ١٠ : ٣١٦. وتاريخ دمشق ١٠ : ٣٣٢ ـ دمشق. ومجموعة ورّام ٢ : ٢٣٠.

٣) تفسير فرات : ٥٢١ ـ طهران ١٤١٠ هـ. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٧٤. وتذكرة الخواص ٣١٤. وتفسير القرطبي ١٩ : ١٣٢. واتحاف السائل : ١٠٥.

٦٩

« قلت لفاطمة عليها‌السلام : لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأليه خادماً ، فإنّه قد جهدك الطحن والعمل .. ؟ » (١).

وعن الحسين بن علي ، عن أبيه علي عليهما‌السلام ، أنّه قال لفاطمة عليها‌السلام : « اذهبي إلىٰ أبيك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسليه يعطيك خادماً ، يقيك الرحىٰ وحرّ التنور .. » (٢).

وعن علي بن أعبد ، قال : قال لي علي عليه‌السلام : « ألا أُحدّثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت من أحبّ أهله إليه ؟ » قلت : بلىٰ.

قال عليه‌السلام : « إنّها جرّت بالرحىٰ حتىٰ أثّرت في يدها ، واستقت بالقربة حتىٰ أثرت في نحرها ، وكنست البيت حتىٰ اغبرت ثيابها ، وأوقدت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، وأصابها من ذلك ضرّ ، فأتىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خدمٌ ، فقلت : لو أتيت أباك فسألتيه خادماً ، فأتته فوجدت عنده حُدّاثاً فاستحيت فرجعت ، فأتاها من الغد ، فقال : ما كان حاجتك ؟ فسكتت ، فقلت : أُحدّثك يا رسول الله ، جرّت ندي عندي بالرحىٰ حتىٰ أثّرت في يدها ، وحملت بالقربة حتىٰ أثّرت في نحرها ، وكسحت البيت حتىٰ أغبرّت ثيابها ، وأوقدت القدر حتىٰ دكنت ثيابها ، فلمّا جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادماً يقيها حرّ ما هي فيه.

قال : اتقي الله يا فاطمة ، وأدّي فريضة ربك ، وأعملي عمل أهلك ، إن أخذت مضجعك فسبحي ثلاثاً وثلاثين ، وأحمدي ثلاثاً وثلاثين ، وكبّري أربعاً وثلاثين ، فتلك مائة ، فهي خير لك من خادم. فقالت : رضيت عن الله وعن رسوله ، ولم يُخدمها » (٣).

_______________________

١) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٢ عن ابن جرير.

٢) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٣ عن أبي نعيم.

٣) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١١٠ عن أبي داود ، والعسكري في المواعظ ، وأبي نعيم ، وعبدالله بن أحمد بن حنبل.

٧٠

٢ ـ التعاون وتقسيم العمل :

ومن مظاهرالعظمة في بيت الزهراء عليها‌السلام والتي تستحق أن تكون قدوة لنا في حياتنا وأُسوة في تعاملنا داخل بيوتنا ، هو التعاون بوئامٍ وإخلاص بين الزوج والزوجة علىٰ إدارة شؤون البيت وتقسيم العمل في داخله وخارجه.

روىٰ العياشي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ فاطمة عليها‌السلام ضمنت لعلي عليه‌السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت ، وضمن لها علي عليه‌السلام ما كان خلف الباب : نقل الحطب وأن يجيء بالطعام .. » (١).

وعن هشام بن سالم ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحتطب ويستقي ويكنس ، وكانت فاطمة عليها‌السلام تطحن وتعجن وتخبز » (٢).

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يشاطرها الخدمة في أعمال المنزل الخاصة بها ، فقد جاء عن ابن شاذان أنه دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ علي عليه‌السلام فوجده هو وفاطمة عليها‌السلام يطحنان في الجاروش ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أيكما أعيىٰ ؟ » فقال علي عليه‌السلام : « فاطمة يا رسول الله » فقال لها : « قومي يابنية » فقامت وجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موضعها مع علي عليه‌السلام فواساه في طحن الحبّ (٣).

ومن مظاهر التواضع والعدل في بيت الزهراء عليها‌السلام أنّ تقسيم العمل لا يقتصر علىٰ أفراد الاُسرة وحسب ، بل كانت تتناوب بالعمل مع الخادمة يوماً بيوم ، حيث أخدمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جارية أسمها فضّة بعد أن كثرت الفتوح والمغانم وارتفع الفقر عن أهل الصفّة وسائر ضعفاء المدينة.

_______________________

١) تفسير العياشي ١ : ١٧١ / ٤١ المكتبة العلمية ـ طهران. وبحار الأنوار ٤٣ : ٣١ / ٣٨.

٢) الكافي ٥ : ٨٦ / ١. وأمالي الطوسي : ٦٦٠ / ١٣٦٩. والفقيه ٣ : ١٦٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥١ / ٧.

٣) بحار الأنوار ٤٣ : ٥٠ / ٤٧. وروىٰ نحوه ورّام في تنبيه الخواطر ٢ : ٢٣٠ ، مكتبة الفقيه ـ قم.

٧١

روىٰ الخوارزمي بالاسناد عن الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه ذكر تزويج فاطمة عليها‌السلام ثم قال : « إنّ فاطمة عليها‌السلام سألت من رسول الله خادماً ـ إلىٰ أن قال : ـ ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساحل البحر ، فأصاب سبياً فقسمه ، فأمسك امرأتين إحداهما شابة ، والاُخرىٰ قد دخلت في السنّ ليست بشابة ، فبعث إلىٰ فاطمة عليها‌السلام وأخذ بيد المرأة فوضعها في يد فاطمة عليها‌السلام وقال : يا فاطمة ، هذه لك ولا تضربيها ، فإنّي رأيتها تصلي ، وإن جبرئيل نهاني أن أضرب المصلين ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوصيها بها ، فلمّا رأت فاطمة عليها‌السلام ما يوصيها بها التفتت إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : يا رسول الله ، عليّ يوم وعليها يوم ، ففاضت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالبكاء وقال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) » (١).

وفي الاصابة عن ابن صخر في فوائده وابن بشكوال في كتاب المستغيثين ، بالاسناد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخدم فاطمة ابنته جارية اسمها فضّة النوبية ، وكانت تشاطرها الخدمة... فقالت لها فاطمة عليها‌السلام : أتعجنين أو تخبزين ؟ » فقالت : بل أعجن يا سيدتي وأحتطب.. » (٢).

وروىٰ الطبري والراوندي بالاسناد عن سلمان رضي‌الله‌عنه قال : كانت فاطمة عليها‌السلام جالسة قدامها رحىٰ تطحن بها الشعير وعلىٰ عمود الرحىٰ دم سائل ، والحسين في ناحية الدار يبكي من الجوع. فقلت : يا بنت رسول الله ، دبرت كفاك وهذه فضّة ؟

فقالت : « أوصاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تكون الخدمة لها يوماً ، فكان أمس

_______________________

١) مقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٩.

٢) الاصابة / ابن حجر ٤ : ٣٨٧.

٧٢

يوم خدمتها .. » (١).

٣ ـ تربية الأولاد :

اضطلعت الزهراء عليها‌السلام بمهمة اُخرىٰ لا تقل عن مهمة مباشرتها لأعمال المنزل ، تلك هي تربية الأولاد ، فقد وهبها الله كرامة أُمومة الأوصياء ، وأعطاها شرف الربط بين النبوة والإمامة ، وقد استطاعت أن تجني من نتاج تربيتها أقدس الثمار ، فكان الحسن السبط عليه‌السلام أول مولود لفاطمة عليها‌السلام حيث ولد في النصف من شهر رمضان عام ثلاثة من الهجرة ، ثم الحسين السبط الشهيد عليه‌السلام الذي ولد في الثالث من شهر شعبان عام أربعة من الهجرة ، وهما سيدا شباب أهل الجنة ، والإمامان إن قاما وإن قعدا.

وكان المولود الثالث زينب العقيلة عليها‌السلام بطلة كربلاء ، وكان مولدها في السنة الخامسة من الهجرة ، ثم ابنتها الثانية وهي السيدة أُمّ كلثوم عليها‌السلام وقد ولدت بعد اختها بعام واحد وقيل : بعامين (٢) ، وابنها الأخير حملت به في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاه قبل أن يولد محسناً ، لكنه أُسقط قبل ولادته عليه‌السلام فاستشهد مظلوماً بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأيام علىٰ إثر حوادث السقيفة والتي سنتعرض لبعضها في الفصل الأخير من هذا البحث.

لقد غرست الزهراء عليها‌السلام في نفوس أولادها خصال الخير ومكارم الأخلاق ومعالي الفضيلة ، وأرضعتهم مبادىء التوحيد والدفاع عن الحقِّ ، فقد روي أنها عليها‌السلام كانت ترقّص الحسن عليه‌السلام وهي تقول :

_______________________

١) دلائل الإمامة : ١٤٠ / ٤٨. والخرائج والجرائح ٢ : ٥٣٠ / ٦. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٨ / ٣٣.

٢) وقد ذهب بعض الباحثين كالسيد عبدالرزاق المقرم الموسوي الىٰ أن أم كلثوم هي نفسها زينب العقيلة. وأن ( أُمّ كلثوم ) لقب من ألقابها ، بخلاف ما ذهب إليه الشيخ المفيد وغيره بأنّ أم كلثوم غير زينب عليهما‌السلام. راجع : مقتل الحسين عليه‌السلام / السيد عبدالرزاق المقرم.

٧٣

أشبه أباك يا حسن

واخلع عن الحقّ الرَّسن

واعبد إلهاً ذا منن

ولا تُوالِ ذا الإحن (١)

ونشأ أولاد الزهراء عليها‌السلام في ظل رعاية الاُمّ سيدة النساء والأب وصي المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحيطهم أشرف الأنبياء والرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحنانه وعطفه وتربيته ، فكانوا خيرة البشرية وقدوة الإنسانية.

وحظي الحسن والحسين عليهما‌السلام بمساحة واسعة من حب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحنانه وعطفه ، فهما ريحانتاه يشمهما ويكثر من تقبيلهما ، ويحملهما علىٰ عاتقه ، ويضمهما إليه ، ويعوّذهما ، ويعلمهما القرآن ، ويلقنهما العلم والفصاحة والشجاعة والزهد والورع ، فاستوحيا رساليته وروحانيته وأخلاقيته ، وتجسدت فيهما شخصيته ، فكانا اختصاراً لجميع عناصرها الأخلاقية والروحية والإنسانية ، فصارا رمز الفضيلة والمروءة وقدوةً صالحة وخلقاً كريماً ، عملا بوصاياه وتعاليمه ، وجاهدا في سبيل دينه ومبادئه ، ونهضا من أجل إقامة الاصلاح في أُمته ، فكانا عليهما‌السلام مشعل نور وهداية في حياة الاُمّة.

ولقد حرّم الله سبحانه أولادها علىٰ النار كرامة لعفّتها وحصانتها ، وبياناً لمنزلتهم عند الله تعالىٰ ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها الله وذريتها علىٰ النار » (٢).

_______________________

١) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٨٩. وأعيان الشيعة ١ : ٥٦٣.

٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٢. والمعجم الكبير ٢٢ : ٤٠٧ / ١٠١٨. وحلية الأولياء / أبي نعيم ٤ : ١٨٨ ـ دار الكتب العلمية. ومجمع الزوائد ٩ : ٢٠٢. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٣ / ٢٦٤.

٧٤

قال الصبان : أخرج الطبراني بسند رجاله ثقات أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة عليها‌السلام : « إنّ الله غير معذّبك ولا أحداً من ولدك » (١).

وجاء في كثير من الروايات والأخبار أنّ ذلك خاص بأولادها دون سائر ذريتها ، منها ماروي بالاسناد عن محمد بن مروان ، قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌السلام : هل قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها علىٰ النار » ؟ قال عليه‌السلام : « نعم ، عنىٰ بذلك الحسن والحسين وزينب وأُمّ كلثوم » (٢).

قال حسّان بن ثابت :

وإن مريم أحصنت فرجها

وجاءت بعيسىٰ كبدر الدجىٰ

فقد أحصنت فاطمُ بعدها

وجاءت بسبطي نبيّ الهدىٰ (٣)

دورها في خارج المنزل :

إذا تجاوزنا دور الزهراء عليها‌السلام في إدارة أعمال المنزل وتربية الأولاد ، نرىٰ أن سيدة النساء قد سجّلت عناوين مهمة وآفاق جديدة لدور المرأة المسلمة في مجمل النشاطات الاجتماعية والسياسية والحربية وغيرها ، ممّا يتناسب مع واقع وحاجات وظروف ذلك العصر.

فقد كانت تعلّم النساء ما يشكل عليهنّ من الأحكام الشرعية والمعارف

_______________________

١) إسعاف الراغبين : ١٨١ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

٢) معاني الأخبار : ١٠٦ / ٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٣١ / ٣.

٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٠.

٧٥

الإلهية الضرورية ، وكان يغشاها نساء المدينة وجيران بيتها (١) ، ويبدو أن بيتها كان المدرسة النسائية الاُولىٰ في الإسلام ، حيث تقبل عليها النساء طالبات للعلم ، فيجدن فاطمة العالمة وهي تستقبلهنّ بصدر رحب لا يعرف الملالة والسأم.

عن الإمام العسكري عليه‌السلام قال : « حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة ، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء ، وقد بعثتني إليك اسألك ، فأجابتها فاطمة عليها‌السلام عن ذلك ، فثنّت فأجابت ، ثم ثلّثت إلىٰ أن عشّرت فأجابت ، ثم خجلت من الكثرة ، فقالت : لا أشقّ عليك يا ابنة رسول الله. فقالت عليها‌السلام : هاتي وسلي عمّا بدا لك... إنّي سمعت أبي يقول : إنّ علماء أُمّتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات علىٰ قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله ، حتىٰ يخلع علىٰ الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور ... » (٢).

وعنه عليه‌السلام قال : « قالت فاطمة عليها‌السلام وقد اختصمت إليها امرأتان ، فتنازعتا في شيء من أمر الدين ، إحداهما معاندة ، والاُخرىٰ مؤمنة ، ففتحت علىٰ المؤمنة حجتها ، فاستظهرت علىٰ المعاندة ، ففرحت فرحاً شديداً ، فقالت فاطمة عليها‌السلام : إنّ فرح الملائكة باستظهارك عليها أشدّ من فرحك ، وإنّ حزن الشيطان ومردته أشدّ من حزنها ... » (٣).

ومما وصل إلينا من خطبها للنساء ، خطبتها بنساء المدينة في مرض موتها ، وهي غاية في الفصاحة والمعرفة ، وسنوردها في آخر هذا البحث إن

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٩٣.

٢) بحار الأنوار ٢ : ٣ / ٣.

٣) بحار الأنوار ٢ : ٨ / ١٥.

٧٦

شاء الله تعالىٰ.

ولم تقتصر في تعليمها علىٰ النساء ، بل كانت عليها‌السلام تطرف القاصدين إليها بما عندها من العلم والمعرفة ، فعن ابن مسعود ، قال : جاء رجل إلىٰ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا ابنة رسول الله ، هل ترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندك شيئاً تطرفينيه ، فقالت : « يا جارية ، هاتي تلك الحريرة » فطلبتها فلم تجدها ، فقالت : « ويحك اطلبيها ، فانها تعدل عندي حسناً وحسيناً » فطلبتها فإذا هي قد قمّتها في قمامتها ، فإذا فيها : « قال محمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت. إنّ الله يحبّ الخيّر الحليم المتعفّف ، ويبغض الفاحش الضنين السَّئآل الملحف. إنّ الحياء من الإيمان ، والايمان في الجنة ، وإن الفحش من البذاء ، والبذاء في النار » (١).

وكان للزهراء عليها‌السلام مشاركة فعّالة ومؤثّرة في الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ في مواقع مختلفة أهمها المباهلة مع النصارىٰ ، ونزل فيها قرآن يتلىٰ إلىٰ يوم القيامة ( وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ) (٢) فكانت سيدة النساء عليها‌السلام هي المختصة بهذا الفضل ولم يشركها فيه أحد من نساء الاُمّة.

وكانت الزهراء عليها‌السلام معيناً للمحتاجين من أبناء المجتمع الإسلامي آنذاك ، تنفق في سبيل الله وتعتق الرقاب وتعين الضعفاء ، فقد توافق أغلب المفسرين علىٰ نزول قوله تعالىٰ : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا

_______________________

١) المعجم الكبير ٢٢ : ٤١٣ / ١٠٢٤. ودلائل الإمامة : ٦٥ / ١. وقطعة من حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صحيح البخاري ٨ : ١٩ / ٤٨ و ٤٩. وصحيح مسلم ١ : ٦٨ / ٧٥ و ٧٧. ومصابيح السُنة / البغوي ٣ : ١٦٩ دار المعرفة ـ بيروت. والكافي ٢ : ٦٦٧ / ٦. والزهد / الحسين بن سعيد : ٦ / ١٠ ، و ١٠ / ٢٠ عن الإمام الصادق عليه‌السلام المطبعة العلمية ـ قم.

٢) سورة آل عمران : ٣ / ٦١.

٧٧

وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ) (١) في أهل البيت عليهم‌السلام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام حينما تصدقوا رغم خصاصتهم علىٰ المسكين واليتيم والأسير (٢).

أخرج ابن شهرآشوب عن ابن شاهين في ( مناقب فاطمة عليها‌السلام ) وأحمد في مسند الأنصار عن أبي هريرة وثوبان أنّها عليها‌السلام نزعت قلادتها وقرطيها ومسكتيها ـ أي سواريها ـ ونزعت ستر بيتها ، فبعثت به إلىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : « اجعل هذا في سبيل الله » فلمّا أتاه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قد فعلت فداها أبوها ـ ثلاث مرات ـ ما لآل محمد وللدنيا ، فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » وفي رواية أحمد : « فإنّ هؤلاء أهل بيتي ، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » (٣).

وعن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : « أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذينك السوارين فكسّرا فجعلهما قطعاً ، ثمّ دعا أهل الصُّفّة ـ وهم قوم من المهاجرين لم يكن لهم منازل ولا أموال ـ فقسّمه بينهم قطعاً ، ثم جعل يدعو الرجل منهم العاري الذي لا يستتر بشيء ، وكان ذلك الستر طويلاً ، ليس له عرض ، فجعل يؤزّر الرجل ، فإذا التقيا عليه قطعه حتىٰ قسّمه بينهم أُزراً... ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله فاطمة ، ليكسونّها الله بهذا الستر من كسوة الجنة ، وليحلّينها بهذين السوارين من حلية الجنة » (٤).

_______________________

١) سورة الإنسان : ٧٦ / ٨ و ٩.

٢) الكشاف / الزمخشري ٤ : ٦٧٠. وتفسير الرازي ٣٠ : ٢٤٣ دار احياء التراث العربي. ومعالم التنزيل / البغوي ٥ : ٤٩٨ دار الفكر.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. ومسند أحمد ٥ : ٢٧٥. وذخائر العقبىٰ : ٥٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٦. وأمالي الصدوق : ٣٠٥ / ٣٤٨. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٦.

٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٩٤ الشريف الرضي ـ قم. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٢ / ٦.

٧٨

وفي صحيفة الإمام الرضا عليه‌السلام عن الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام قال : « حدثتني أسماء بنت عميس ، قالت : كنت عند فاطمة جدتك ، إذ دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي عنقها قلادة من ذهب ، كان علي بن أبي طالب عليه‌السلام اشتراها لها من فيءٍ له ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يغرّنك الناس أن يقولوا : بنت محمد ، وعليك لباس الجبابرة ؛ فقطعتها وباعتها ، واشترت بها رقبة فاعتقتها ، فسُرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك » (١).

وفوق ذلك فالمتصفح للسيرة والتاريخ يجد أنّها كانت إلىٰ جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض غزوات الإسلام الكبرىٰ تمسح الدم عن وجهه الكريم وتضمد جراحه.

أخرج البخاري ومسلم في الصحيح عن عبدالعزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، أنّه سمع سهل بن سعد يُسأل عن جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أُحد ، فقال : جرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسرت رباعيته وهشمت بيضته علىٰ رأسه ، فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغسل الدم ، وكان علي بن أبي طالب عليه‌السلام يسكب عليها بالمجَنّ ، فلمّا رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة ، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتىٰ صار رماداً ، ثم ألصقته بالجرح ، فاستمسك الدم (٢).

وقال الواقدي في حديثه عن معركة أُحد : خرجت فاطمة عليها‌السلام في نساء ، وقد رأت الذي بوجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتنقته ، وجعلت تمسح الدم عن وجهه ،

_______________________

١) صحيفة الإمام الرضا عليه‌السلام : ٢٥٦ / ١٨٥ طبع مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام ـ قم. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٤٤ / ٦١. وذخائر العقبى : ٥١. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٢٦ / ٢٨.

٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٦ / ١٠١ كتاب الجهاد والسير ـ باب غزوة أُحد. وصحيح البخاري ٥ : ٢٢٦ / ١١٣ كتاب المغازي ـ باب ما أصاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الجراح يوم أُحد. ومغازي الواقدي ١ : ٢٥٠ عالم الكتب ـ بيروت.

٧٩

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « اشتدّ غضب الله علىٰ قومٍ أدموا وجه رسول الله » وذهب علي عليه‌السلام يأتي بماءٍ من المهراس ، وقال لفاطمة عليها‌السلام : « أمسكي هذا السيف غير ذميم » فأتىٰ بماءٍ في مِجَنّهِ ... فمضمض منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاه للدم الذي في فيه ، وغسلت فاطمة الدم عن أبيها (١).

وجاء في أغلب التواريخ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناول سيفه ابنته فاطمة عليها‌السلام بعد غزاة أُحد ، وقال لها : « اغسلي عن هذا دَمَهُ يا بنية » وناولها علي عليه‌السلام سيفه وقال :

« أفاطم هاك السيف غير ذميمِ

فلست بـرعديد ولا بلئيـمِ

أفاطم قد أبليت في نصر أحمدٍ

ومرضاة ربّ بـالعباد رحيمِ

أميطي دماء القوم عنه فانّه

سقى آل عبدالدار كأس حميم » (٢)

وكانت لها إسهامات في حروب الإسلام المصيرية تناسب شخصيتها وقدراتها ، ففي وقعة أُحد كانت قد جاءت مع أربع عشرة امرأة يحملن الطعام والشراب علىٰ ظهورهن ، ويسقين الجرحىٰ ويداوينهم (٣).

وعندما أُصيب سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب عليه‌السلام كانت الزهراء عليها‌السلام من المبادرات إلىٰ مصرعه مع صفية بنت عبدالمطلب ، وكانت تبكي وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي لبكائها (٤).

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، لم تنس ابنة الرسالة دور الشهداء في بناء صرح الإسلام وتشييد عزّته واكتساب ديمومته وسرّ بقائه ، قال الإمام

_______________________

١) مغازي الواقدي ٢ : ٢٤٩.

٢) تاريخ الطبري ٣ : ٢٧ دار التراث ـ بيروت. ومستدرك الحاكم ٣ : ٢٤. وتذكرة الخواص : ١٦٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٥ : ٣٥. ومجمع الزوائد ٦ : ١٢٢. وأمالي الطوسي : ١٤٣ / ٢٣٢.

٣) مغازي الواقدي ١ : ٢٤٩.

٤) مغازي الواقدي ١ : ٢٩٠.

٨٠