علي موسى الكعبي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
وفي العام نفسه والزهراء عليهاالسلام لمّا تبلغ الخامسة من العمر ، فُجِعت رسالة الإسلام بموت كفيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وناصره وحامي رسالته عمه أبي طالب عليهالسلام فكان عام الحزن وفراق الأحبّة ، واشتداد شوكة المشركين علىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه المستضعفين ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه حتىٰ مات أبو طالب » (١) وقد وصلوا من أذاه إلىٰ مالم يكونوا يصلون إليه في حياة أبي طالب عليهالسلام حتىٰ نثر بعضهم التراب علىٰ رأسه الكريم ، وكانت الزهراء عليهاالسلام ترىٰ بعينيها ما يفعله المستهزئون ويقوله المتآمرون من أجلاف قريش ، فكانت تحنو علىٰ أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم كالاُمّ الرؤوم ، وتغمره بحنانها وتفديه بروحها وتميط عنه الأذىٰ ، وتخفّف من آلامه ، وتهب لنصرته وتقوم علىٰ خدمته فهو صلىاللهعليهوآلهوسلم حياتها كلّها ، تبتسم لابتسامته ، وتصب الدمع الهتون إذا ما مسّه لغب ولو من عذب النسيم ! ، وكان ذلك أحد الوجوه المذكورة في سبب تكنيتها بأُمِّ أبيها من والدها صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وروىٰ مسلم في الصحيح عن ابن مسعود قال : بينما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس ، وقد نحرت جزور بالأمس ، فقال أبو جهل : أيكم يقوم إلىٰ سَلَى جزور بني فلان فيأخذه ، فيضعه في كتفي محمد إذا سجد ؟ فانبعث أشقىٰ القوم فأخذه ، فلمّا سجد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وضعه بين كتفيه ، قال : فاستضحكوا ، وجعل بعضهم يميل علىٰ بعض ، وأنا قائم أنظر لو كانت لي مَنَعة طرحته عن ظهر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ساجد ما يرفع رأسه ، حتىٰ انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمة ، فجاءت وهي جُوَيريّة (٢) فطرحته عنه ، ثم أقبلت عليهم تشتمهم ، فلمّا قضىٰ
_______________________
١) تاريخ الطبري ٢ : ٣٤٤ ، دار التراث العربي ـ بيروت.
٢) ولفظ جويرية يشهد بكونها مولودة بعد البعثة لا قبلها.
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صلاته رفع صوته ، ثم دعا عليهم (١).
وروى مسلم والبخاري في الصحيح عن عبدالله ، قال : بينما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ساجد وحوله ناس من قريش ، إذ جاء عُقبة بن أبي مُعيط بسَلَى جزور ، فقذفه علىٰ ظهر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فلم يرفع رأسه حتىٰ جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره ، ودعت علىٰ من صنع ذلك ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « اللهمَّ عليك الملأ من قريش ؛ أبا جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وشيبة بن ربيعة ، وأُميّة بن خلف ـ أو أُبي بن خلف ـ » قال عبدالله : فلقد رأيتهم قُتِلوا يوم بدر ، فاُلقوا في القليب (٢).
وروىٰ البيهقي بالاسناد عن ابن عباس عن فاطمة عليهاالسلام قالت : « اجتمع مشركو قريش في الحجر ، فقالوا : إذا مرّ محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهم ضربه كل واحد منّا ضربة ، فسَمِعته ( فاطمة ) فدخلت علىٰ أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم فذكرت ذلك له ، فقال : يا بنية اسكني ، ثم خرج فدخل عليهم المسجد ، فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا ، فأخذ قبضةً من تراب فرمىٰ بها نحوهم ثم قال : شاهت الوجوه ، فما أصاب رجلاً منهم إلّا قتل يوم بدر كافراً » (٣).
وهذه النصوص تكشف لنا عن أداء الزهراء عليهاالسلام لدورها الرسالي في الوقوف إلىٰ جنب أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم منذ مطلع الدعوة ، والذبّ عنه وحمايته
_______________________
١) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٨ / ١٠٧ ، كتاب الجهاد والسير ـ دار الفكر ـ بيروت. ودلائل النبوة / البيهقي ٢ : ٢٧٩ ، دار الكتب العلمية.
٢) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٩ / ١٠٨ ، كتاب الجهاد والسير. وصحيح البخاري ٤ : ٢٢٠ / ٢٦ ، كتاب الجزية والموادعة ، باب طرح جيف المشركين في البئر ، عالم الكتب ـ بيروت. ودلائل النبوة / البيهقي ٢ : ٢٧٨.
٣) دلائل النبوة / البيهقي ٢ : ٢٧٦. ومجمع الزوائد ٨ : ٢٢٨. ومسند فاطمة الزهراء عليهاالسلام / السيوطي : ١١٨.
ونصرة دعوته ، في مواقع تنكص فيها الشجعان عن المواجهة وتتردّد فيها الرجال عن المنازلة ، هذا علىٰ الرغم من صغر سنها.
ومن هنا نعلم أن فاطمة عليهاالسلام بعد فقد أُمّها لم تكن تلك اليتيمة التي تشكّل عبئاً علىٰ أبيها ، بل وقفت موقف العالمة بظروف أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم الداركة لخطر الرسالة التي يدعو لها ، وما يحيط به من شدائد وأهوال وعداوات ، فصارت ربّة بيته التي تكفيه التفكير بمشاغل البيت ، ووقفت إلىٰ جنبه موقف المرأة البطلة المكافحة والمضحية براحتها ورفاهيتها ، وليس ثمّة كلمة تعبّر عن تقديره صلىاللهعليهوآلهوسلم لما لقي من ابنته الصغيرة في مواقفها المختلفة ، أفضل من ( أُمّ أبيها ) في أحد معاني هذه الكنية العظيمة.
وإذا كانت فاطمة الزهراء عليهاالسلام قد فُجعت بأمّها وهي بأمسّ الحاجة إليها ، فقد صارت أشدّ لصوقاً بأبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم لتنهل من سجايا نفسه الزكية ومكارم خلقه الرفيع ، وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يفيض عليها بحبّه وعطفه وشفقته ليعوضها عن شعورها بالحرمان من أُمّها.
وقد قيل : إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد جعل فاطمة عليهاالسلام عند ابنة عمّه أمّ هانىء بنت أبي طالب بعد وفاة خديجة عليهاالسلام لرعايتها والقيام بشأنها ، أخرجه السيوطي في حديثٍ عن عبدالرزاق عن ابن جريج (١).
ولعلَّ ذلك كان في بعض الأحيان التي ينشغل فيها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بأداء مهام الرسالة والقيام بأعباء الدعوة إلىٰ الله تعالىٰ.
الهجرة :
بعد أن اتفقت كلمة قريش علىٰ قتل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتعاهدت قبائلها علىٰ ذلك ، ولم يبق له في مكة ناصر ولا مكان يأوي إليه ، أُذن له بالهجرة إلىٰ المدينة ، وتمت الهجرة بسلام علىٰ الرغم من ملاحقة قريش ومطاردتها له
_______________________
١) مسند فاطمة الزهراء عليهاالسلام / السيوطي : ١١٩.
وبذلها الجوائز السنية لكلِّ من يرشدها إلىٰ مكانه أو يقبض عليه.
وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل هجرته أمر عليّاً عليهالسلام أن يبيت علىٰ فراشه وأوصاه بما أهمّه وأن يلتحق به مع الفواطم وهنّ : فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، وفاطمة بنت أسد ، وفاطمة بنت حمزة ، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب ( رضي الله عنهن ) وكان عمر الزهراء عليهاالسلام عند الهجرة ثمان سنين.
وبعد أن نفّذ علي عليهالسلام وصايا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وسلّم وأدّىٰ الودائع والأمانات لأهلها ، هيّأ للفواطم الرواحل وأخرجهن من مكة في طريقه إلىٰ يثرب ، وأشار علىٰ من بقي في مكة من المؤمنين أن يتسلّلوا ليلاً إلىٰ ذي طوىٰ حيث يسير الركب منها باتجاه المدينة ، وخرج هو في وضح النهار بالفواطم ، ومعه أيمن ابن أمّ أيمن وأبو واقد الليثي ، فجعل أبو واقد يجدّ السير مخافة أن تلحقهم قريش وتحول بينهم وبين إتمام مسيرة الهجرة ، فقال له علي عليهالسلام : « ارفق بالنسوة يا أبا واقد ، وارتجز يقول :
ليس إلّا الله فارفع ظنّكا |
|
يكفيك ربّ الخلق ما أهمّكا » |
|
ولما شارف ضجنان أدركه طلب قريش ، وكانوا
ثمانية من فرسانهم ، فاستقبلهم أمير المؤمنين عليهالسلام
بسيفه وشدّ عليهم حتىٰ فرّقهم عن ركب الفواطم ، وقتل منهم جناح مولى حرب بن أُميّة ، ولاذ الباقون بالفرار ، ومكث أمير المؤمنين عليهالسلام
في ضجنان قدر يومه وليلته ، ولحق به نفرٌ من المستضعفين من المؤمنين ، وفيهم أُمّ أيمن مولاة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
، فظلَّ ليلته تلك هو والفواطم طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلىٰ جنوبهم ، فلم يزالوا كذلك حتىٰ طلع الفجر ، فصلّىٰ علي عليهالسلام بهم صلاة الفجر ، ثم سار لوجهه ، فجعل يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله ، والفواطم كذلك وغيرهنّ ممّن صحبه عليهالسلام
حتىٰ قدموا المدينة ، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالىٰ : (
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) إلىٰ قوله سبحانه : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ) (١) الذكر : علي عليهالسلام ، والاُنثىٰ : الفواطم المتقدّم ذكرهنّ (٢).
وعن ابن عباس : هاجرت فاطمة مع أمير المؤمنين عليهماالسلام فقدمت المدينة ، فأنزلها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ أمّ أيوب الأنصاري ، وخطب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم النساء ، وتزوج سودة أول دخوله المدينة فنقل فاطمة عليهاالسلام إليها ، ثم تزوج أُمّ سلمة فقالت أُمّ سلمة : تزوجني رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وفوّض أمر ابنته إليّ ، فكنت أدلّها وأؤدّبها ، وكانت والله آدب مني ، وأعرف بالأشياء كلّها ، وكيف لا تكون كذلك وهي سلالة الأنبياء (٣).
المبحث الثاني : أسماؤها وألقابها وشمائلها عليهاالسلام :
عرفت فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بجملة من الأسماء والألقاب ، وطبيعي أنّه كلّما كان الإنسان من ذوي المنزلة والمكانة تعددت أسماؤه.
قال الإمام الصادق عليهالسلام : « لفاطمة عليهاالسلام تسعة أسماء عند الله عزَّ وجلَّ : فاطمة ، والصديقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والراضية ، والمرضية ، والمحُدَّثة ،
_______________________
١) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١ ـ ١٩٥.
٢) أمالي الطوسي : ٤٦٣ ـ ٤٧٢ / ١٠٣١ ، طبع مؤسسة البعثة ـ قم ، مسنداً بعدة طرق عن عمار بن ياسر وأبي رافع مولىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهند بن أبي هالة ربيب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخي الزهراء عليهاالسلام من أُمّها خديجة ( رضي الله عنهم أجمعين ).
٣) دلائل الإمامة : ٨١ / ٢١.
والزهراء » (١).
وأضاف ابن شهرآشوب عن أبي جعفر القمي رضياللهعنه : البتول ، الحرّة ، السيدة ، العذراء ، مريم الكبرىٰ ، الصديقة الكبرىٰ (٢). وفيما يلي نورد دلالات بعض هذه الأسماء والألقاب التي تشير إلىٰ خصائصها الفريدة ومناقبها الفذّة ، وما اتسمت به من الصدق والبركة والطهارة والرضا والفضل العميم علىٰ سائر النساء.
١ ـ فاطمة :
تقدّم في ولادتها عليهاالسلام أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قد سمّاها فاطمة بأمر الله تعالىٰ ، وهذا الاسم مشتق من الفطم بمعنىٰ القطع ، يقال : فطمت الاُمّ صبيها ، وفطمت الرجل عن عادته ، والفاعل منه فاطم وفاطمة.
وسبب التسمية هو أن الله تعالىٰ فطمها وفطم ذريتها ومحبيها عن النار علىٰ ما جاء في الحديث الشريف ، فجعلها سبحانه سيدة نساء أهل الجنة ، وجعل من ذريتها الحسن والحسين عليهماالسلام سيدي شباب أهل الجنّة ، وجعل محبتها منجية من النار ، لأنّها محبّة لقيم العفاف ومبادىء الشرف ، وتعلّق بمكارم الأخلاق التي تتحلّىٰ بها سيدة النساء عليهاالسلام.
روىٰ جابر بن عبدالله وابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « إنّما سميت ابنتي فاطمة ، لأنّ الله عزَّ وجلَّ فطمها وفطم محبيها عن النار » (٣).
_______________________
١) أمالي الصدوق : ٦٨٨ / ٩٤٥. وعلل الشرائع ١ : ١٧٨ / ٣.
٢) المناقب ٣ : ٣٥٧ ، دار الأضواء.
٣) الفردوس / الديلمي ١ : ٣٤٦ / ١٣٨٥ ، دار الكتب العلمية. والمناقب / ابن المغازلي : ٦٥ / ٩٢.
وقال أمير المؤمنين علي عليهالسلام : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّي سميت ابنتي فاطمة لأنّ الله فطمها وذريتها من النار » (١).
ومحبة الزهراء عليهاالسلام المنجية من النار لابدّ أن تقترن بحبّ خصال الخير وعقائد الحقّ التي كان ينطوي عليها قلبها الطاهر ، مع الانقطاع عن كل ما يمتّ إلىٰ الشرّ بصلة من الظلم والبغي والعدوان.
وواضح بأن ( فاطمة ) علىٰ صيغة ( فاعل ) ولكنها وردت في الحديثين الشريفين بمعنىٰ صيغة ( مفعول ) ؛ لكونها ( مفطومة ). ولهذا نظائر في القرآن الكريم ولغة العرب ، قال تعالىٰ : ( عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ) (٢) قيل : أي مرضية ، وقوله تعالىٰ : ( مَّاءٍ دَافِقٍ ) (٣) قيل : أي مدفوق. وكقولهم : سرّ كاتم ، أي مكتوم وغيرها كثير.
ولكن هذا الاسم الشريف ( فاطمة ) جاء في حديث آخر علىٰ صيغة ( فاعل ) تعبيراً عن وصفه ولم يصرف إلىٰ معنىٰ ( مفعول ).
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « سمّيت فاطمة لأنّها فطمت شيعتها من النار ، وفُطم أعداؤها عن حبّها » (٤).
_______________________
وإسعاف الراغبين / الصبّان : ١١٨ ، دار الكتب العلمية. ومسند فاطمة الزهراء عليهاالسلام / السيوطي : ٥٠ ـ ٥١. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٥١. وعيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٤٦ / ١٧٤. وعلل الشرائع ١ : ١٧٨ / ١. وأمالي الطوسي : ٢٩٤ / ٥٧١. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٢٩. وكشف الغمة ١ : ٤٦٣.
١) أمالي الطوسي : ٥٧٠ / ١١٧٩. وذخائر العقبىٰ : ٢٦.
٢) سورة الطارق : ٨٦ / ٦.
٣) سورة الحاقة : ٦٩ / ٢١.
٤) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ٣٩٦ / ٥٣ ، طبع جماعة المدرسين ـ قم.
٢ ـ الزهراء :
ويستفاد من جملة الأحاديث والأخبار أنّ فاطمة عليهاالسلام عرفت بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع في غرّتها ، فهي مزهرة كالشمس الضاحية ، ومشرقة كالقمر المنير.
وسُئل الإمام الصادق عليهالسلام عن فاطمة عليهاالسلام لِمَ سمّيت الزهراء ؟ فقال عليهالسلام : « لأنّها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء ، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض » (١).
وسأل أبو هاشم الجعفري رضياللهعنه صاحب العسكر عليهالسلام لِمَ سميت فاطمة عليهاالسلام الزهراء ؟ فقال : « كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين عليهالسلام من أول النهار كالشمس الضاحية ، وعند الزوال كالقمر المنير ، وعند غروب الشمس كالكوكب الدرّي » (٢).
قال ابن الأثير : الزهراء : تأنيث الأزهر ، وهو النيّر المُشرق من الألوان ، ويراد به إشراق نور إيمانها ، وإضاءته علىٰ إيمان غيرها (٣).
وقال المناوي : سميت بالزهراء لأنها زهرة المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم (٤).
وارتجزت بعض أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في زفاف الزهراء عليهاالسلام قائلة :
_______________________
١) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ٦٤ / ١٥. وعلل الشرائع / الشيخ الصدوق ١ : ١٨١ / ٣. ودلائل الإمامة : ١٤٩ / ٥٩. وبحار الانوار ٤٣ : ١٢ / ٦.
٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٦.
٣) منال الطالب / ابن الأثير : ٥٠٨ ـ القاهرة.
٤) اتحاف السائل / المناوي : ٢٤ ، مكتبة القرآن ـ القاهرة.
فاطمة خير نساء البشر |
|
ومن لها وجه كوجه القمر |
فضلّك الله علىٰ كلِّ الورىٰ |
|
بفضل من خصّ بآي الزمر (١) |
وقال الشاعر :
أضاءت بها الأكوان والأرض والسما |
|
|
|
قديماً وفـي الدنيا وفـي النشأة الاُخرىٰ |
|
ومازال فـي الأدوار يشرق نورهـا |
|
|
|
ومـن أجل ذاك النور سميت الزهرا (٢) |
|
وقال آخر :
شعّت فلا الشمس تحكيها ولا القمر |
|
|
|
زهـراء من نورها الأكوان تزدهر (٣) |
|
٣ ـ البتول :
البتل في اللغة : القطع ، وهو يرادف الفطم من حيث المعنىٰ ، وقد عرفت الزهراء عليهاالسلام بهذا الاسم لتفرّدها عن سائر نساء العالمين بخصائص تميزت بها ، كما تدل عليه الأحاديث وأقوال أهل اللغة.
أما في الأحاديث : فقد ورد عن أمير المؤمنين عليهالسلام قال : « إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سُئِلَ ما البتول ؟ فإنّا سمعناك يا رسول الله تقول : إنّ مريم بتول وفاطمة بتول.
_______________________
١) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٥.
٢) من قصيدة للشيخ علي الجشي في ديوانه ١ : ٧٦ ، مطبعة النجف ١٣٨٣ هـ.
٣) من قصيدة للسيد محمد جمال الهاشمي في ديوانه ( مع النبي وآله عليهمالسلام ) : ٣٤ ، الطبعة الاُولىٰ.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : البتول التي لم تر حمرةً قط ـ أي لم تحض ـ فإنّ الحيض مكروه في بنات الأنبياء » (١) ، وتنزيهها عن الحيض باعتباره أذىً يشير إلىٰ علوّ مقامها وإلىٰ خصوصية تفردت بها عن سواها ، لأنّها من أهل البيت الذين طهرهم ربهم من الرجس تطهيراً ، وهو أمر غير مستبعد لكثرة المؤيدات له في الأحاديث والآثار.
منها : ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق عليهالسلام قال : « حرّم الله النساء علىٰ علي عليهالسلام ما دامت فاطمة عليهاالسلام حية » قال : قلت : كيف ؟ قال : « لأنّها طاهرة لا تحيض » (٢).
ومنها : ما أخرجه الطبراني وغيره بالاسناد عن عائشة أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « إنّ فاطمة ليست كنساء الآدميين ولا تعتلّ كما يعتللن » (٣).
ومنها : ما أخرجه النسائي والخطيب والمحب الطبري بالاسناد عن ابن عباس رضياللهعنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّ ابنتي فاطمة حوراء آدمية ، لم تحض ولم تطمث » (٤).
ومنها : ما رواه ابن المغازلي وغيره بالاسناد عن أسماء بنت عميس ، قالت : شهدتُ فاطمة عليهاالسلام وقد ولدت بعض ولدها فلم يُرَ لها دم ، فقال
_______________________
١) معاني الأخبار : ٦٤ / ١٧. وعلل الشرائع : ١٨١ / ١. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠. ودلائل الإمامة : ١٤٩ / ٦٧.
٢) تهذيب الأحكام / الطوسي ٧ : ٤٧٥ / ١١٦. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠.
٣) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٠٠ / ١٠٠٠. واعلام الورىٰ / الطبرسي ١ : ٢٩١. ومناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٦٤.
٤) تاريخ بغداد ١٢ : ٣٣١. وذخائر العقبىٰ : ٢٦. ومسند فاطمة الزهراء عليهاالسلام / السيوطي : ٥٠.
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « يا أسماء ، إنّ فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية » (١). وفي رواية : أنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لها : « أما علمت أن ابنتي طاهرة مطهرة لا يرىٰ لها دم في طمث ولا ولادة » (٢).
وأمّا أهل اللغة : فقد أضافوا عدة دلالات اُخرىٰ تحكي عن منزلة الزهراء عليهاالسلام التي لا يدانيها أحد من نساء الاُمّة ، وفيما يلي بعضها.
قال الزبيدي : روي عن الزمخشري ، أنّه قال : لقبت فاطمة بنت سيد المرسلين عليهاالسلام بالبتول تشبيهاً بمريم عليهاالسلام في المنزلة عند الله تعالى.
وقال ثعلب : لانقطاعها عن نساء زمانها وعن نساء الاُمّة فضلاً وديناً وحسباً وعفافاً ، وهي سيدة نساء العالمين ، وأُمّ أولاده صلىاللهعليهوآلهوسلم ورضي الله عنها وعنهم.
وقيل : البتول من النساء : المنقطعة عن الدنيا إلىٰ الله تعالىٰ ، وبه لقّبت فاطمة أيضاً ( رضي الله عنها ) (٣).
وقال الجزري بنحو قول ثعلب ، وأضاف في آخره : وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلىٰ الله (٤).
وقال به أيضاً أحمد بن يحيىٰ علىٰ ما نقله عنه ابن منظور. وأضاف ابن منظور : امرأة متبتلة الخلق : أي منقطعة الخلق عن النساء ، لها عليهنّ فضل. وقيل : التامة الخلق. وقيل : تبتيل خلقها : انفراد كلّ شيء منها بحسنه ، لا
_______________________
١) المناقب / ابن المغازلي : ٣٦٩ / ٤١٦. وكشف الغمة ١ : ٤٦٣. ودلائل الامامة : ١٤٨ / ٥٦.
٢) ذخائر العقبىٰ : ٤٤.
٣) تاج العروس / الزبيدي ٧ : ٣٣٠ ـ بتل ـ.
٤) النهاية ١ : ٩٤ ـ بتل ـ.
يتكل بعضه علىٰ بعض (١).
وعن الهروي في ( الغريبين ) ، قال : سميت فاطمة عليهاالسلام بتولاً ؛ لأنّها بتلت عن النظير (٢).
٤ ـ المُحَدَّثة :
المُحَدَّث : من تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ولا رؤية صورة ، أو يُلهم له ويلقىٰ في روعه شيء من العلم علىٰ وجه الالهام والمكاشفة من المبدأ الأعلىٰ ، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفىٰ علىٰ غيره (٣).
وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من صالح عباده ، ومنزلة جليلة من منازل الأولياء ، حضيت بها الزهراء بنت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ ما جاء في كثير من الروايات ، منها ما روي عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : « إنّما سميت فاطمة عليهاالسلام محدّثة ، لأنّ الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران ، فتقول : يافاطمة ، إنّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك علىٰ نساء العالمين. يا فاطمة ، اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فتحدّثهم ويحدّثونها. فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضّلة علىٰ نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : إنّ مريم كانت سيدة نساء عالمها ، وإنّ الله عزَّ وجلَّ جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها ، وسيدة نساء الأولين والآخرين » (٤).
وقد اتضح من التعريف المتقدم أنّ المحدَّث غير النبي ، وأنّه ليس كلّ
_______________________
١) لسان العرب ١١ : ٤٣ ـ بتل ـ.
٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٠.
٣) الغدير / الأميني ٥ : ٤٢ ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
٤) علل الشرائع ١ : ١٨٢ / ١. ودلائل الإمامة : ٨٠ / ٢٠. وبحار الأنوار ٤٣ : ٧٨ / ٦٥.
محدّث نبي ، ولكن قد يتصور البعض أنّ الملائكة لا تحدّث إلّا الأنبياء ، وهو تصور غير صحيح ومنافٍ للكتاب الكريم والسُنّة المطهّرة ، فمريم بنت عمران عليهاالسلام كانت محدثة ولم تكن نبية ، قال تعالىٰ : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ ) (١) وأُمّ موسىٰ كانت محدثة ولم تكن نبية ، قال تعالىٰ : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (٢) وقال سبحانه مخاطباً موسىٰ عليهالسلام : ( إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ ) (٣) وسارة امرأة نبي الله إبراهيم عليهالسلام قد بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (٤) ، ولم تكن نبية ، ونفي النبوة عن النساء المتقدمات وعن غيرهن ثابت بقوله تعالىٰ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ ) (٥) ولم يقل نساءً ، وعليه فالمُحدَّثون ليسوا برُسل ولا أنبياء ، وقد كانت الملائكة تحدّثهم ، والزهراء عليهاالسلام كانت مُحدَّثة ولم تكن نبية ، كما يحلو للبعض أن يقوله ويقذف به الفرقة الناجية (٦).
٥ ـ الصدّيقة :
وهي صيغة مبالغة في الصدق والتصديق ، وقد عرفت الزهراء عليهاالسلام بالصديقة ، والصديقة الكبرىٰ ، أي كانت كثيرة التصديق لما جاء به أبوها صلىاللهعليهوآلهوسلم وقويّة الإيمان به ، كما انّها كانت صادقة في جميع أقوالها
_______________________
١) سورة آل عمران : ٣ / ٤٢.
٢) سورة القصص : ٢٨ / ٧.
٣) سورة طه : ٢٠ / ٣٨.
٤) راجع الآيات من ٧١ ـ ٧٣ من سورة هود.
٥) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧.
٦) أمثال عبدالله القصيمي في كتابه « الصراع بين الإسلام والوثنية ».
بأفعالها (١).
روىٰ الشيخ الكليني باسناده عن علي بن جعفر ، عن أخيه أبي الحسن عليهالسلام ، قال : « إنّ فاطمة عليهاالسلام صديقة شهيدة » (٢).
وأخرج المحبُّ الطبري في ( الرياض النضرة ) أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال للإمام علي عليهالسلام : « أوتيت ثلاثاً لم يؤتهنّ أحد ولا أنا : أوتيتَ صهراً (٣) مثلي ، ولم أوت أنا مثلك ، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أُوت مثلها زوجة ، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما ، ولكنكم مني وأنا منكم » (٤).
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم للإمام علي عليهالسلام : « يا علي ، إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء ، وأمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها ، فهي الصادقة الصدوقة » (٥).
وأخرج الحاكم وغيره عن عائشة : أنها إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قالت : ما رأيت أحداً كان أصدق لهجةً منها إلّا أن يكون الذي ولدها (٦).
كناها :
كانت عليهاالسلام تُكَنىٰ بأسماء أبنائها عليهمالسلام فهي أُمّ الحسن ، وأُمّ الحسين ، وأُمّ
_______________________
١) مرآة العقول / العلّامة المجلسي ٥ : ٣١٥ دار الكتب الإسلامية ـ طهران.
٢) الكافي ١ : ٤٥٨ / ٢.
٣) الصهر في اللغة : هو زوج بنت الرجل ، وأبو زوجة الرجل أيضاً. اُنظر لسان العرب ـ صهر ـ ٤ : ٤٧١.
٤) الرياض النضرة / المحب الطبري ٣ : ١٧٢ دار الكتب العلمية ـ بيروت.
٥) بحار الأنوار ٢٢ : ٤٩١ عن كتاب الطرف للسيد ابن طاووس.
٦) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠ وصحّحه علىٰ شرط مسلم. والاستيعاب ٤ : ٣٧٧. وذخائر العقبىٰ : ٤٤.
المحسن ، وأُمّ الأئمة (١).
وعن الإمام الصادق عن أبيه عليهماالسلام : « أنّ فاطمة عليهاالسلام كانت تُكنىٰ أُمّ أبيها » (٢). وروي ذلك عن مصعب بن عبدالله الزبيري ، ومحمد بن علي المديني وابن الأثير (٣).
أُمّ أبيها :
ومن الاوسمة الرفيعة الخالدة التي لم تمنح لبنت نبيّ قط غير الزهراء عليهاالسلام ما منحه أشرف الرسل والأنبياء لسيدة النساء : ( أم أبيها ) صلوات الله عليها.
إنّها كنية ما أجلّها وأعظمها ! فهي تعبر عن عمق الارتباط الروحي الضخم بين المانح العظيم المقدس وبين الممنوحة الطاهرة المطهرة بحكم التنزيه من كل رجس ودنس.
نعم ، هذه الكنية جديرة بالتأمل والتدبر ، فهي هتاف ملأ الكون بصداه ، ونداء لكلِّ جيل يتدبر معناه ، وتنبيه للاُمّة بما ينبغي عليها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ من قلب الرسول.
لقد تبوّأت الزهراء عليهاالسلام هذا المقام العظيم من قلب أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا لكونها ابنته ، وإنّما أراد الله عزَّ وجلّ لها ذلك المقام المحمود زيادة علىٰ مواقفها
_______________________
١) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٧. والهداية الكبرىٰ / الخصيبي : ١٧٦ مؤسسة البلاغ ـ بيروت. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٦ / ١٥.
٢) مقاتل الطالبيين / أبي الفرج : ٢٩ ـ النجف الأشرف. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٤٠ / ٣٩٢. والاستيعاب ٤ : ٣٨٠ عن الإمام الصادق عليهالسلام. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩ / ١٩.
٣) المعجم الكبير ٢٢ : ٣٩٧ / ٩٨٥ و ٩٨٨. وأُسد الغابة ٥ : ٥٢٠. ومجمع الزوائد ٩ : ٢١١. واتحاف السائل : ٢٥.
الفريدة والتي سنذكر طرقاً منها فنقول :
كانت الزهراء عليهاالسلام أحب الناس الىٰ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم (١) ، وهي بهجة قلبه وبضعة منه ، يغضب لغضبها ، ويرضىٰ لرضاها ، ويغضبه ما يغضبها ، ويبسطه ما يبسطها ، ويؤذيه ما يؤذيها ، ويسرّه ما يسرّها (٢).
وكانت إذا دخلت علىٰ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قام إليها فقبّلها وأجلسها في مجلسه ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها (٣).
وإذا أراد سفراً أو غزاة كان صلىاللهعليهوآلهوسلم آخر الناس عهداً بفاطمة عليهاالسلام ، وإذا قدم كان صلىاللهعليهوآلهوسلم أول الناس عهداً بفاطمة عليهاالسلام (٤) ، وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم لا ينام حتىٰ يقبّل عرض وجهها ، ... ويدعو لها (٥).
وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يكثر من زيارتها وتعهدها ويقول لها : « فداك أبي وأُمّي » (٦) ويقبّل رأسها فيقول : « فداك أبوك » (٧) وكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يعينها علىٰ الجاروش
_______________________
١) المعجم الكبير ٢٢ : ٣٩٧ / ٩٨٦.
٢) راجع : صحيح مسلم ٤ : ١٩٠٣ / ٩٤. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٥٤. ومسند أحمد ٤ : ٥ دار الفكر ـ بيروت.
٣) سنن الترمذي ٥ : ٧٠٠ / ٣٨٧٢ دار احياء التراث العربي ـ بيروت. وجامع الاُصول / الجزري ١٠ : ٨٦ دار احياء التراث العربي ـ بيروت. ومستدرك الحاكم ٤ : ٢٧٢.
٤) مستدرك الحاكم ١ : ٤٨٩ و ٣ : ١٦٥. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي ١ : ٥٦. وذخائر العقبىٰ : ٣٧. ومسند أحمد ٥ : ٢٧٥.
٥) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٤. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي ١ : ٦٦.
٦) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٦.
٧) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي ١ : ٦٦. وذخائر العقبىٰ : ١٣٠.
والرحىٰ (١).
وحينما استشهد حمزة بن عبدالمطلب عليهالسلام في أُحد بكت فاطمة الزهراء عليهاالسلام فانهلت دموع المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم لبكائها (٢) ، وحينما ماتت رقية قعدت علىٰ شفير قبرها إلىٰ جنب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي تبكي ، فجعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يمسح الدموع عن عينيها بطرف ثوبه رحمةً لها (٣).
أما تعامل الزهراء عليهاالسلام مع أبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد كانت تهتم به اهتمام الاُمّ بولدها (٤) ، فمنذ أيام طفولتها كانت تدفع عنه أذىٰ المشركين (٥) ، وتخفّف آلامه وتضمد جروحه (٦) ، وتمسح الدم عن وجهه في الحرب (٧) ، وإذا عاد من سفرٍ بادرت إلىٰ استقباله واعتنقته وقبّلت بين عينيه ، وكانت تتأثر لحاله وتحنو عليه.
أخرج الطبراني والحاكم وغيرهما عن أبي ثعلبة الخشني ، قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا قدم من سفر ، صلّىٰ في المسجد ركعتين ، ثمّ أتىٰ فاطمة فتلقته علىٰ باب البيت ، فجعلت تلثم فاه وعينيه وتبكي ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ما يبكيك ؟ » فقالت : « أراك شعثا ًنصباً ، قد أخلولقت ثيابك » فقال لها : « لاتبكي ، فإنّ الله قد بعث أباك بأمرٍ لا يبقىٰ علىٰ وجه الأرض بيت ولا مدر ولا حجر ولا
_______________________
١) بحار الأنوار / المجلسي ٤٣ : ٥٠ / ٤٧ عن ابن شاذان.
٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥ : ١٧ دار احياء الكتب العربية.
٣) مسند أحمد ١ : ٣٣٥. وتاريخ المدينة المنورة / ابن شبة ١ : ١٠٣ دار الفكر ـ بيروت.
٤) البدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ٢٠ مكتبة الثقافة الدينية.
٥) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٨ / ١٠٧ كتاب الجهاد والسير.
٦) صحيح مسلم ٣ : ١٤١٦ / ١٠١ كتاب الجهاد والسير.
٧) المغازي / الواقدي ١ : ٢٤٩ عالم الكتب ـ بيروت.
وبر ولا شعر إلّا أدخله الله به عزّاً أو ذلاً حتىٰ يبلغ حيث بلغ الليل » (١).
وكانت « سلام الله عليها » تؤثره بما عندها من طعام كالاُمّ المشفقة علىٰ ولدها ، فعن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليهاالسلام بكسرة خبز لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : « ما هذه الكسرة ؟ » قالت : « قرص خبزته ولم تطب نفسي حتىٰ أتيتك بهذه الكسرة .. » (٢).
وعن عبدالله بن الحسن قال : دخل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علىٰ فاطمة عليهاالسلام فقدّمت إليه كسرة يابسة من خبز شعير ، فأفطر عليها ، ثم قال : « يابنية ، هذا أول خبزٍ أكل أبوك منذ ثلاثة أيام » ، فجعلت فاطمة عليهاالسلام تبكي ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يمسح وجهها بيده (٣).
ولمّا اختار الله سبحانه لنبيه دار رضوانه ومأوىٰ أصفيائه ، كانت الزهراء عليهاالسلام كالاُمّ التي فقدت وحيدها ، فما رؤيت عليهاالسلام ضاحكة قطّ منذ قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتىٰ قبضت (٤) ، ومازالت بعده معصبة الرأس ، ناحلة الجسم ، منهدّة الركن ، باكية العين ، محترقة القلب ، يغشى عليها ساعة بعد ساعة (٥) ، تشمّ قميصه فيغشىٰ عليها (٦) ، وسمعت بلالاً يؤذّن حتىٰ إذا بلغ :
_______________________
١) المعجم الكبير ٢٢ : ٢٢٥ / ٥٩٥ و ٥٩٦. ومستدرك الحاكم ١ : ٤٨٨ و ٣ : ١٥٥. وحلية الأولياء / أبو نعيم ٣ : ٣٠ و ٦ : ١٢٣ دار الكتب العلمية. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي ١ : ٦٣. وذخائر العقبىٰ : ٣٧.
٢) مجمع الزوائد ١٠ : ٣١٢.
٣) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٣٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٤٠.
٤) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٨ / ٩٨٩ و ٩٩٠ و ٩٩٣ و ٩٩٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٥٩. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٦.
٥) مناقب ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٨١.
٦) مقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي ١ : ٧٧. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥٧ / ٦.
أشهد أن محمداً رسول الله ، شهقت وسقطت لوجهها وغشي عليها حتىٰ ظنّ بأنّها عليهاالسلام قد فارقت الحياة (١).
وكانت تقول :
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها |
|
|
|
واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا |
|
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت |
|
|
|
منّا العيون بتهمالٍ له سكبُ (٢) |
|
هذه هي بعض الموارد التي تحكي لنا طبيعة العلاقة بين الرسول المصطفىٰ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأحبّ الناس إليه فاطمة الزهراء عليهاالسلام ، ولو أتينا علىٰ جميع ما ورد في إكرامه لها وإلطافه بها وشفقته عليها ، لخرجنا عن شرط الاختصار في هذا البحث ، وعلىٰ العموم كانت عليهاالسلام بمثابة الاُمّ لأبيها صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو يعظّمها ويبرّها ويحنو عليها ، ويجد فيها كل ما يجد الولد في أُمّه من العطف والرقة والحنان والوفاء ، فما أجدرها إذن بتلك الكنية الرفيعة : أمّ أبيها !
فانظر إلىٰ كرامة البنات وعزّتهن بالإسلام ، فالبنت التي كانت مصدر شؤمٍ وعارٍ في أعراف الجاهلية ، أصبحت في رحاب الإسلام أُمّاً للنبي الخاتم سيد البشر صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال الشاعر :
_______________________
١) الفقيه / الشيخ الصدوق ١ : ١٩٤ / ٩٠٦ دار الكتب الاسلامية. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٥٧ / ٧.
٢) أمالي الشيخ المفيد : ٤١ / ٨ طبع جماعة المدرسين ـ قم. والبيتان من قصيدة مروية في عدة مصادر. راجع فاطمة الزهراء في ديوان الشعر العربي : ١٦ مؤسسة البعثة ـ قم.
بضعة من أبٍ عظيم يراها |
|
|
|
نور عينيه مشرقاً في رداءِ (١) |
|
فهي أحلىٰ في جفنه من لذيذ ال |
|
|
|
حُلمِ غِبّ الهجـود والإعيـاءِ |
|
وهي قطبُ الحنان في صدر طه |
|
|
|
واختصار البنات والأبناءِ |
|
غيّب الموت مـن خديجة وجهاً |
|
|
|
فإذا فـاطم معين العزاءِ |
|
تحسب الكون بسمةً من أبيها |
|
|
|
فهي أُمّ تذوب في الإرضاءِ (٢) |
|
وشيء آخر يمكن استخلاصه من هذه الكنية التي تشرفت بها الزهراء عليهاالسلام وهو أن الاُمّ في اللغة بمعنىٰ الأصل ، وفاطمة عليهاالسلام هي الفرع الفذّ النامي من الشجرة المحمدية الذي حافظ علىٰ بقاء الأصل وديمومته ، فأخرج للناس ثمار تلك الشجرة الباسقة.
عن عبدالرحمن بن عوف قال : سمعتُ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « أنا الشجرة ، وفاطمة فرعها ، وعلي لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها ، وشيعتنا ورقها ، وأصل الشجرة في جنة عدن ، وسائر ذلك في سائر الجنة » (٣).
_______________________
١) أي في حسن ونضارة.
٢) من قصيدة لبولس سلامة بعنوان عيد الغدير : ٨٠ الطبعة الرابعة ـ طهران.
٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠. ومقتل الحسين عليهالسلام / الخوارزمي : ٦١.