سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

علي موسى الكعبي

سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لا يحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن يعفىٰ موضع قبرها ، فدفنها علي عليه‌السلام ليلاً ، وغيّب قبرها ، ولم يعلم بها أحداً منهما (١).

وروي أن عليّاً عليه‌السلام سوّىٰ حول قبرها سبعة قبور مزوّرة ، ورشّ أربعين قبراً كي لا يهتدوا إلىٰ قبرها (٢). وذلك تعبير واضح كالشمس عن مظلوميتها عليها‌السلام وأنّها مدفوعة عن حقّها مسلوبة نحلتها ظلماً وعدواناً.

ومثل هذا لا تفعله الزهراء عليها‌السلام بمن هو مصيب في قوله وفعله لأنّها عليها‌السلام لا تغضب لغير الحقّ ، وأن الله يغضب لغضبها ويرضىٰ لرضاها ، فلا يصحّ أن يقال إنّ الزهراء عليها‌السلام غضبت لحكمٍ صدع به من لا ينطق عن الهوىٰ أبوها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس ثمّة أمرٌ أوجب موقفها ذلك ووصيتها إلّا اتهام الراوي للخبر ، إذ لو كان مصيباً وصادقاً في دعواه ، لزم أن يكون غضبها لغير الحقّ والعياذ بالله.

السابع : لو صحّ صدور الخبر لما ناقض عمر بن الخطاب عمل صاحبه ، فقسم ميراث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ أزواجه ودفع صدقته بالمدينة إلىٰ علي عليه‌السلام والعباس.

روىٰ البخاري في كتاب المزارعة عن نافع ، قال : إنّ عبدالله بن عمر قال :

_______________________

٥ : ٢٤٩. وتاريخ الطبري ٣ : ٢٠٢. وجامع الاُصول ٤ : ٤٨٢. وتاريخ المدينة / ابن شبّة ١ : ١١٠.

١) راجع : مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٢. والعمدة / ابن البطريق : ٣٩٠ ـ ٣٩١. وروضة الواعظين / الفتال : ١٥١. وعلل الشرائع / الصدوق : ١٨٥ و ١٨٨ و ١٨٩. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٤. والكافي / الكليني ١ : ٤٥٨. ومعاني الأخبار : ٣٥٦.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٦٣. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ١١٥. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٣٠. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٦.

١٨١

قسّم عمر خيبر ، فخيّر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يُقطَع لهنّ من الماء والأرض ، أو يُمضىٰ لهنّ ، فمنهنّ من اختار الأرض ، ومنهنّ من اختار الوسق ، وكانت عائشة اختارت الأرض (١).

فهذه خيبر التي طالبت الزهراء عليها‌السلام بنصيبها منها كميراثٍ لها من أبيها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وردّها أبو بكر ، جاء عمر فقسّمها في أيام خلافته علىٰ أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، فلماذا ترث الأزواج ولا ترث البنت ؟

وعن عائشة ، قالت : أمّا صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ، فدفعها عمر إلىٰ علي والعباس (٢) ، فلو صحّ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، وأنّ ما تركه صدقة للمسلمين ، فكيف يدفع عمر ذلك إلىٰ علي عليه‌السلام والعباس ؟ ولماذا لم يدفع رجال السلطة هذه الأموال في حياة الزهراء عليها‌السلام ، إنّها السياسة التي تطلبت أن يمنعوا حيث توجب المصالح تثبيت ركائز الدولة وتدعيم أركانها ، وأن يعطوا في وقت الرخاء والاستقرار وبسطة الفتوح.

الثامن : رويت بعض الأخبار التي تعارض حديث منع الإرث ، منها ما جاء في ( السيرة الحلبية ) عن سبط ابن الجوزي ، قال : إنّ أبا بكر كتب لفاطمة عليها‌السلام بفدك ، ودخل عليه عمر ، فقال : ما هذا ؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال : ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك

_______________________

١) صحيح البخاري ٣ : ٢١١ ـ باب المزارعة ـ بالشطر ونحوه.

٢) صحيح البخاري ٦ : ١٧٨ / ٢ ـ كتاب الخمس. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٢ / ٥٤ ـ كتاب الجهاد والسير. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧٠ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠١. ومسند أحمد ١ : ٦.

١٨٢

العرب كما ترىٰ ؟ ثم أخذ عمر الكتاب فشقّه (١).

وواضح من الخبر أنّه كتب بفدك لفاطمة عليها‌السلام علىٰ أنها إرث من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخالف رواية أبي بكر المانعة لتوريث الأنبياء.

ومنها ما رواه أبو الطفيل قال : أرسلت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ أبي بكر : أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أهله ؟ قال : لا ، بل أهله (٢) ، إلىٰ آخر الحديث وسيأتي.

قال ابن أبي الحديد : في هذا الحديث عجب ، لأنّها قالت له : أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أهله ؟ قال : بل أهله ، وهذا تصريح بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موروث يرثه أهله ، وهو خلاف قوله : ( لا نورث ) (٣).

التاسع : لو صحّ الخبر لما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام متظلّماً : « اللهمَّ إنّي استعديك علىٰ قريش ، فإنّهم ظلموني حقّي ، وغصبوني إرثي » (٤).

ولما قالت الزهراء عليها‌السلام في قصيدتها المشهورة :

تجهّمتنا رجالٌ واستخفّ بنا

لمّا فُقِدت وكلُّ الإرث مغتصبُ (٥)

أخيراً فإنّ أرض فدك هي حقّ خالص لفاطمة عليها‌السلام لا يمكن المماراة فيه

_______________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.

٢) الرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. وسنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. ومسند أحمد ١ : ٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٥ عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن جرير.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٠ : ٢٨٦.

٥) سيأتي تخريجها في المبحث الثاني من هذا الفصل.

١٨٣

سواء كان نحلة أو ميراثاً ، وأن الخبر الذي تفرّد به أبو بكر قد جرّ علىٰ الاُمّة ولا يزال مزيداً من المحن والإحن ، وفتح عليها باب العداء علىٰ مصراعيه ، وأجّج البغضاء والشحناء ، وشقّ عصا المسلمين إلىٰ اليوم.

ثالثاً : اسقاط سهم ذوي القربىٰ :

لقد نصّ الكتاب الكريم علىٰ سهم ذوي القربىٰ في قوله تعالىٰ : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (١) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يختص بسهمٍ من الخمس ، ويخصّ أقاربه بسهمٍ آخر منه ، فلمّا ولي أبو بكر تأوّل الآية ، فأسقط سهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهم ذوي القربىٰ ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كسائر يتامىٰ المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم (٢).

عن سعيد بن المسيب ، قال أخبرني جبير بن مطعم أنّه جاء هو وعثمان ابن عفان يكلمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما قسم من الخمس بين بني هاشم وبني المطلب ، فقلت : يا رسول الله ، قسمت لإخواننا بني المطلب ، ولم تعطنا شيئاً ، وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنَّما بنو هاشمٍ وبنو المُطَّلب شيءٌ واحد ».

قال جبير : ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس ، كما قسّم لبني هاشم وبني المطلب ، قال : وكان أبو بكر يقسّم الخمس نحو

_______________________

١) سورة الأنفال : ٨ / ٤١.

٢) راجع : الكشاف ٢ : ٢٢١. وفتح القدير / الشوكاني ٢ : ٣١٠ ـ ٣١٣. وتفسير القرطبي ٨ : ٩ ـ ١٥. وتفسير الطبري ١٠ : ٤ و ٥ و ٧.

١٨٤

قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أنّه لم يكن يُعطي قربىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطيهم ، قال : وكان عمر بن الخطاب يعطيهم منه (١).

ولم يقبل بنو هاشم ما عرضه عمر عليهم لأنّه دون حقّهم ، فقد رووا عن علي عليه‌السلام أنّه قال : « إنّ عمر قال : لكم حقّ ولا يبلغ علمي إذا كثر أن يكون لكم كلّه ، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرىٰ لكم ، فأبينا عليه إلّا كلّه ، فأبىٰ أن يعطينا » (٢).

وعن يزيد بن هرمز : أن نجدة الحروري حين حجَّ في فتنة ابن الزبير ، أرسل إلىٰ ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربىٰ ، ويقول : لمن تراه ؟ قال ابن عباس : لقربىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّمه لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقّنا ، فرددناه عليه ، وأبينا أن نقبله (٣).

وقد نازعت الزهراء عليها‌السلام أبا بكر في سهم ذوي القربىٰ ، كما نازعته في النحلة والإرث ، لكنها لم تجد أُذناً صاغية منه ، حيث تمادىٰ في إصراره علىٰ سلب هذا الحقّ الذي فرضه الله تعالىٰ في كتابه وعمل به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روىٰ الجوهري بالاسناد عن عروة بن الزبير ، قال : أرادت فاطمة عليها‌السلام أبا

_______________________

١) سنن أبي داود ٣ : ٤٥ / ٢٩٧٨ ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربىٰ. ومسند أحمد ٤ : ٨٣. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٥ : ٣٤١.

٢) سنن البيهقي ٦ : ٣٤٤. ومسند الشافعي : ١٨٧.

٣) سنن أبي داود ٣ : ١٤٥ / ٢٩٨٢ ـ باب في بيان مواضع قسم الخمس. ومسند أحمد ١ : ٣٢٠ و ٣٢٤. وسنن البيهقي ٦ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥. وفتح القدير / الشوكاني ٢ : ٣١٢.

١٨٥

بكر علىٰ فدك وسهم ذوي القربىٰ ، فأبىٰ عليها ، وجعلهما في مال الله (١).

وعن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : إنّ أبا بكر منع فاطمة عليها‌السلام وبني هاشم سهم ذوي القربىٰ ، وجعله في سبيل الله ، في السلاح والكراع (٢).

وعن أنس بن مالك ، قال : إنّ فاطمة عليها‌السلام أتت أبا بكر ، فقالت : لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات ، وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربىٰ ! ثمّ قرأت عليه قوله تعالىٰ : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) الآية.

فقال لها أبو بكر : بأبي أنت وأُمّي ووالد ولدك ! السمع والطاعة لكتاب الله ولحقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقّ قرابته ، وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين منه ، ولم يبلغ علمي منه أنّ هذا السهم من الخمس يسلّم إليكم كاملاً.

قالت عليها‌السلام : « أفلك هو ولأقربائك ؟ » قال : لا ، بل أُنفق عليكم منه ، وأصرف الباقي في مصالح المسلمين. قالت عليها‌السلام : « ليس هذا حكم الله تعالىٰ ». قال : هذا حكم الله !! إلىٰ أن قال : وهذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ، فاسأليهما عن ذلك ، وانظري هو يوافقك علىٰ ما طلبت أحدٌ منهما ، فانصرفت إلىٰ عمر ، فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر ، فقال لها مثل ما قال أبوبكر ، فعجبت فاطمة عليها‌السلام من ذلك ، وتظنّت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه (٣).

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

٣) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣١.

١٨٦

أقول : ليس هو ظنّاً ، وإنّما اليقين ، إذ كيف يتّفق فعل أولئك علىٰ خلاف كتاب الله عزّ وجلّ ، لو لم يكن ثمة اتفاق من قبل ؟!

وعن أُمّ هانيء ، قالت : دخلت فاطمة عليها‌السلام علىٰ أبي بكر بعدما استخلف ، فسألته ميراثها من أبيها فمنعها ، فقالت له : « لئن متّ اليوم من يرثك ؟ » قال : ولدي وأهلي. قالت : « فلِمَ ورثت أنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون ولده وأهله ؟ » قال : فما فعلت يا بنت رسول الله ؟ قالت عليها‌السلام : « بلىٰ ، إنّك عمدت إلىٰ فدك ، وكانت صافية لرسول الله فأخذتها ، وعمدت إلىٰ ما أنزل الله من السماء فرفعته عنّا » (١).

وفي رواية اُخرىٰ عن أُمّ هانيء : قال أبو بكر لفاطمة عليها‌السلام : يا بنة رسول الله ، ما ورث أبوك داراً ولا مالاً ولا ذهباً ولا فضة. قالت عليها‌السلام : « بلىٰ سهم الله الذي جعله لنا ، وصافيتنا التي بيدك ؟ » فقال : انّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطعم أهله ما دام حيّاً ، فإذا مات رفع ذلك عنهم. وفي لفظ آخر : سمعته يقول : إنّما هي طعمة أطعمنيها الله حياتي ، فإذا متّ كانت بين المسلمين (٢).

وعن أبي الطفيل ، قال : قالت فاطمة عليها‌السلام لأبي بكر : « أنت ورثت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم أهله ؟ قال : لا ، بل أهله. قالت : فما بال الخمس ؟ » فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إذا أطعم الله نبيّاً طعمة ثمّ قبضه ، كانت للذي

_______________________

١) شرح ابن أبي حديد ١٦ : ٢٣٢. والسقيفة وفدك / الجوهري : ١١٦.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٤ ـ ٤٥. والسقيفة وفدك. الجوهري : ١١٧. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام السيوطي : ١٣.

١٨٧

يليه بعده ، فلمّا وليت رأيت أن أردّه علىٰ المسلمين (١).

التكرم وشرع الإحسان :

لقد ثبت ممّا تقدّم أنّ الزهراء عليها‌السلام طالبت أبا بكر بالنحلة والإرث وسهم ذي القربىٰ ، وأنه لم يعطها شيئاً مما طلبت ، فلو فرضنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يورث ، وأن جميع متروكاته بما فيها فدك وسهم ذي القربىٰ هي طعمة لولي الأمر بعده ، وليتصرف بها حيثما يشاء ، أو أنها من الأموال العامّة ومن حقّ الحاكم أن يتصرف بها وفقاً لمقتضيات المصلحة الإسلامية العامة.

إذن أليس من الحكمة والتدبير وشرع التكرم والاحسان أن يعطي فاطمة عليها‌السلام شيئاً مما طلبت ولا يردّها خائبة ؟! وهي ابنة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي لم يخلف بينهم غيرها ، تطييباً لخاطرها ، وحفظاً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « المرءُ يحفظ في ولده » ، وقطعاً لدابر الفرقة والاختلاف التي حكمت حياة المسلمين سنين متمادية.

ولو فعل ذلك لم يكن بدعاً منه ، فقد أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض أراضي بني النضير لأبي بكر وعبدالرحمن بن عوف وأبي دجانة (٢) ، وأقطع أرضاً من أرض بني النضير ذات نخلٍ للزبير بن العوّام (٣).

_______________________

١) سنن البيهقي ٦ : ٣٠٣. والرياض النضرة / المحب الطبري ١ : ١٩١. ومسند أحمد ١ : ٤. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٩. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٥ عن مسلم وأحمد وأبي داود وابن جرير.

٢) فتوح البلدان / البلاذري : ٣١.

٣) فتوح البلدان / البلاذري : ٣٤.

١٨٨

وتنبّه كثير من المحقّقين القدامىٰ والمحدثين لهذه المسألة ، فقد نقل عن القاضي عبدالجبار المعتزلي أنّه قال : قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبا منها ، فضلاً عن الدين.

قال ابن أبي الحديد معلقاً : وهذا الكلام لا جواب عنه ، ولقد كان التكرم ورعاية حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها ، وإن لم يستنزل المسلمون عن فدك ، وتسلّم إليها تطييباً لقلبها ، وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأىٰ المصلحة فيه (١).

وقال الاُستاذ محمود أبو رية : بقي أمر لابدّ أن نقول فيه كلمة صريحة ، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة عليها‌السلام بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فعل معها في ميراث أبيها ، لأنّا إذا سلّمنا بأن خبر الآحاد الظنّي يخصّص الكتاب القطعي ، وأنه قد ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : إنّه لا يورث ، وأنه لا تخصيص في عموم هذا الخبر ، فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة عليها‌السلام بعض تركة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كأنّ يخصّها بفدك ، وهذا من حقّه الذي لا يعارضه فيه أحد ، إذ يجوز للخليفة أن يخصّ من يشاء بما يشاء ، وقد خصّ هو نفسه الزبير بن العوّام ومحمد بن مسلمة وغيرهما ببعض متروكات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علىٰ أنّ فدك هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن أقطعها الخليفة عثمان لمروان (٢).

إذن فالزهراء عليها‌السلام تستحق بمقتضىٰ التكرم والاحسان أن تأخذ شيئاً مما

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٦.

٢) مجلة الرسالة المصرية ، العدد (٥١٨) السنة (١١) الصحفة (٤٥٧) ، ونحوه في شيخ المضيرة أبو هريرة : ١٦٩ ، الطبعة الثالثة. والنص والاجتهاد / شرف الدين : ٧٠.

١٨٩

ترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكنّ أبا بكر منعها وسدّ جميع السبل المؤدية إلىٰ استحقاقها ، حتىٰ ولو كان إحساناً وتكرماً ، فلماذا إذن اتخذ هذا الموقف من بضعة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

هذا السؤال الذي توقّف ابن أبي الحديد عن الإجابة عليه آنفاً ، يحمل أكثر من إجابة تتضح في بيان أهداف السلطة من الاستيلاء علىٰ الإرث النبوي.

أهداف السلطة :

أقدمت السلطة علىٰ إلغاء امتياز البيت الهاشمي بالموروث النبوي ، وذلك لتقوية مركزها السياسي ، والاستعانة به في دعم الكيان السياسي للسلطة ، ولذا قال عمر لأبي بكر لمّا كتب بفدك لفاطمة عليها‌السلام : ممّاذا تنفق علىٰ المسلمين وقد حاربتك العرب (١) ؟ ولسلب القدرة الاقتصادية من أهل البيت عليهم‌السلام التي قد تمكّنهم من استعادة سلطانهم المسلوب ، وذلك بقطع الشريان الاقتصادي الذي يغذّي الخلافة الشرعية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمعارضة المتوقعة من بيت الزهراء عليها‌السلام ، والاطمئنان من أي حركة تستهدف الحكم.

ولو أغضينا عن تركة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خيبر وبني النضير والمدينة وسهم ذي القربىٰ ، فإنّ فدك وحدها كان دخلها أربعة وعشرين ألف دينار في كلِّ سنة ، في رواية الشيخ عبدالله بن حماد الأنصاري ، وفي رواية غيره : سبعين ألف دينار (٢) ، وإنّها كانت تغلّ في أيام عمر بن عبدالعزيز عشرة آلاف

_______________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٣٦٢.

٢) كشف المحجة / ابن طاووس : ١٨٢.

١٩٠

دينار (١). وقيل : أربعون ألف دينار (٢).

ونقل ابن أبي الحديد عن علي بن تقي من بلدة النيل (٣) أنه قال : كانت فدك جليلة جداً ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عليها‌السلام عنها إلّا ألّا يتقوىٰ علي بحاصلها وغلّتها علىٰ المنازعة في الخلافة ، ولهذا أتبَعَا ذلك بمنع فاطمة عليها‌السلام وسائر بني هاشم وبني المطلب حقّهم في الخمس ، فانّ الفقير الذي لا مال له تضعف همّته ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولاً بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرياسة (٤).

وكانت السلطة تدرك البعد السياسي لمطالبة الزهراء عليها‌السلام بالحقوق المالية لأهل البيت عليهم‌السلام وعامة بني هاشم ، وأنّها عليها‌السلام اتخذت من تلك المطالبة عنواناً لثورتها علىٰ السلطة التي لا تستمد بقاءها بغير منطق القوة والسطوة ، والزهراء عليها‌السلام إنّما طالبت كي تبيّن الحق وتعرّي السلطة ، وتلقي الحجة علىٰ الاُمّة التي انقلبت علىٰ تعاليم السماء ، وتنكرت لنهج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصاياه.

ولهذا اجتمع رأي رجال السلطة علىٰ منع الزهراء عليها‌السلام من جميع حقوقها المترتبة لها بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتىٰ ولو كان إحساناً أو تكرماً ، وبقي أبو بكر لا يحير جواباً أمام منطق الزهراء عليها‌السلام القائم علىٰ الكتاب المبين وسُنّة

_______________________

١) صبح الأعشىٰ ٤ : ٢٩١.

٢) سنن أبي داود ٣ : ١٤٤ / ٢٩٧٢ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣) بلدة تقع في سواد الكوفة قرب الحلة.

٤) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

١٩١

النبي الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير أن يقول لفاطمة عليها‌السلام : ما كان لك أن تسأليني ، وما كان لي أن أعطيك (١).

فلو تنازلت السلطة أمام مطالب الزهراء عليها‌السلام وأذعنت لحجّتها البالغة ودليلها الساطع ، كان ذلك بمثابة اعتراف لما بعد فدك من الموروث النبوي الذي منه الخلافة لأمير المؤمنين عليه‌السلام وعترة النبي المعصومين عليهم‌السلام ، وهذا ما صرّحت به الزهراء عليها‌السلام في خطبتها المشهورة ، وإزاء هذا كان علىٰ السلطة أن تبيّن لعامة المسلمين أنّ فاطمة عليها‌السلام تدّعي ماليس لها بنحلة ، وتطالب ماليس لها بميراث ، وتريد لعلي عليه‌السلام الملك وليس له بحقّ !

قال ابن أبي الحديد : سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم. قلت : فلِمَ لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلّة دعابته : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيءٍ ، لأنّه يكون قد سجّل علىٰ نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلىٰ بينة ولا شهود ، وهذا كلام صحيح ، وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (٢).

ولهذا استباح أبو بكر ردّ دعوىٰ الزهراء عليها‌السلام في النحلة ، ورفض شهادة أمير المؤمنين عليه‌السلام لها ، وادّعىٰ حديث منع الإرث ، ومنع سهم ذي القربىٰ عن

_______________________

١) فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧٣. والعقد الفريد / ابن عبد ربه ٦ : ١٧١.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٨٤.

١٩٢

مستحقيه.

ومن هنا فقد اكتسبت نحلة الزهراء عليها‌السلام بعداً سياسياً ومعنىً رمزياً ، وهو الخلافة المغتصبة ، وتجاوزت كونها أرضاً وادعة في أطراف الحجاز قدّمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدية لابنته الزهراء عليها‌السلام بأمرٍ إلهي ، لتصبح غاية سياسية تستهدف استرداد حق مسلوبٍ ، وفضح سلطان متجبر غاشم ، وتنبيه أُمّة رجعت علىٰ أعقابها القهقهرىٰ ، فوردت غير مشربها ، وسقطت في الفتنة تاركة الكتاب والعترة النبوية وأضواء السُنّة المحمدية.

ويتضح المعنىٰ الرمزي لنحلة الزهراء عليها‌السلام في حديث الإمام الكاظم عليه‌السلام مع هارون الرشيد الذي نقله الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) قال : كان الرشيد يقول لموسىٰ الكاظم بن جعفر عليه‌السلام : يا أبا الحسن ، حدُّ فَدَكَ حتىٰ أردّها عليك ، فيأبىٰ حتىٰ ألحّ عليه ، فقال : « لا آخذها إلّا بحدودها ، قال : وما حدودها ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن حددتها لم تردّها. قال : بحقّ جدّك إلّا فعلت. قال : أما الحدّ الأول : فعدن ، فتغير وجه الرشيد ، وقال : هيه ! قال : والحدّ الثاني : سمرقند ، فاربدّ وجهه ، قال : والحدّ الثالث : أفريقية ، فاسودّ وجهه ، وقال : هيه ! قال : والرابع سِيف البحر ممّا يلي الخزر وأرمينية.

قال الرشيد : فلم يبقَ لنا شيء ، فتحوّل في مجلسي. قال موسىٰ عليه‌السلام : قد أعلمتك أنّي إن حددتها لم تردّها » (١). فهي إذن رمز لحقّ مغتصب وخلافة مسلوبة.

ويتضح الهدف السياسي جليّاً في اختلاف وجهة النظر السياسية فيها

_______________________

١) ربيع الأبرار / الزمخشري ١ : ٣١٦. والمناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٢٠. وبحار الأنوار ٤٨ : ١٤٤ / ٢٠.

١٩٣

علىٰ مسار التاريخ : « فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين » فتاريخها لا يستقيم علىٰ نحو واحد ، وإنّما كان يجري علىٰ وفق أهواء السلطات السياسية ، ومطامع الحكام الشخصية ، ومواقفهم من أهل البيت عليهم‌السلام.

فقد أقطعها عثمان بن عفان لمروان بن الحكم (١) ، ولا ندري ما وجه تخصيص مروان بفدك ، فان كانت ميراثاً ففاطمة عليها‌السلام وأولادها أحقّ بها ، وإن كانت فيئاً ، فما وجه تخصيص مروان بها وهو طريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن طريده ؟! هذا مع ما عرف عنه من مكرٍ وخداعٍ وانحرافٍ وعداءٍ لآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

وروىٰ الجوهري بالاسناد عن ابن عائشة ، قال : حدثني أبي ، عن عمّه ، قال : لما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلث فدك ، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها ، وأقطع يزيد بن معاوية ، ثلثها ، وذلك بعد موت الحسن بن علي عليه‌السلام ، فلم يزالوا يتداولونها حتىٰ خلصت كلّها لمروان بن الحكم أيام خلافته ، فوهبها لعبد العزيز ابنه ، فوهبها عبدالعزيز لابنه عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي عمر بن عبدالعزيز الخلافة ، كانت أول ظلامة ردّها ، دعا الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وقيل : بل دعا علي بن الحسين عليه‌السلام فردّها عليه.

وكانت بيد أولاد فاطمة عليها‌السلام مدّة ولاية عمر بن عبدالعزيز ، فلمّا ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم. فصارت في أيدي بني مروان ، كما كانت يتداولونها ، حتىٰ انتقلت الخلافة عنهم ، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها

_______________________

١) السيرة الحلبية ٣ : ٥٠ ، شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦. العقد الفريد ٥ : ٣٣. وتاريخ أبي الفداء ٢ : ٧٩. والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٦ : ٣٠١.

١٩٤

علىٰ عبدالله بن الحسن بن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث ، ثمّ ردها المهدي ابنه علىٰ ولد فاطمة عليها‌السلام ، ثمّ قبضها موسىٰ ابن المهدي وهارون أخوه ، فلم تزل في أيديهم حتىٰ ولي المأمون ، فردّها علىٰ الفاطميين ، وأنشد دعبل الأبيات التي أولها :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمونِ هاشمٍ فَدَكا

فلم تزل في أيديهم حتىٰ كان في أيام المتوكل ، فأقطعها عبدالله بن عمر البازيار ، وكان فيها إحدىٰ عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده ، فكان بنو فاطمة عليها‌السلام يأخذون تمرها ، فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم ، فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل ، فصرم عبدالله بن عمر البازيار ذلك التمر ، ووجّه رجلاً يقال له بشران بن أبي أُميّة الثقفي إلىٰ المدينة فصرمه ، ثمّ عاد إلىٰ البصرة ففلج (١).

وجميع هذه التقلّبات التي مرّ بها تاريخ فدك ، تحكي لنا البعد السياسي لمسألة فدك في التاريخ ، وتلقي الأضواء الكاشفة علىٰ قيمة الحديث الذي جاء به أبو بكر مضاداً لكتاب الله تعالىٰ وسُنّة رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. هذا فضلاً عمّا اثبتته الزهراء عليها‌السلام من استحواذ السلطة علىٰ ميراثها ولو بالكذب علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المبحث الثاني : حال الزهراء عليها‌السلام ومواقفها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

كان الحزن هو المظهر البارز في حياة الزهراء عليها‌السلام بعد فقدها أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٦ ـ ٢١٧. والسقيفة وفدك / الجواهري : ١٠٣. وراجع : فتوح البلدان / البلاذري : ٤٥ ـ ٤٦. ومعجم البلدان / ياقوت ٤ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣. والطرائف / ابن طاووس : ٢٥٢ ـ ٢٥٣. والكامل في التاريخ ٣ : ٣٤٨ و ٤٥٧ و ٤٩٧ ، و ٥ : ٦٣ ، و ٧ : ١١٦.

١٩٥

فهي ابنته الوحيدة التي اُصيبت به ، فكانت أشدّ الناس تأثراً بهذا الخطب الجلل ، وتتّضح لنا سحابة الوجد والحزن التي جلّلت حياة الزهراء عليها‌السلام من ندبتها لاَبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :

اغبرّ آفاق السماء وكوّرت

شمس النهار وأظلم العصرانِ

فالأرض من بعد النبي كئيبةٌ

أسفاً عليه كثيرة الرجفانِ

فليبكه شرق البلاد وغربها

ولتبكه مضرٌ وكلّ يمانِ (١)

قال الامام الصادق عليه‌السلام : « عاشت فاطمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة ، تأتي قبور الشهداء في كلّ جمعة مرتين : الاثنين والخميس ، فتقول : هاهنا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهاهنا كان المشركون ».

وفي رواية عنه عليه‌السلام : « أنّها كانت تصلّي هناك وتدعو حتىٰ ماتت » (٢).

وروي أن عليّاً عليه‌السلام بنىٰ لها بيتاً في البقيع نازحاً عن المدينة ، يسمىٰ بيت الأحزان ، أو بيت الحزن ، وهو باقٍ الىٰ هذا الزمان ، وهو الموضع المعروف بمسجد فاطمة عليها‌السلام في جهة قبة مشهد الحسن عليه‌السلام والعباس رضي‌الله‌عنه ، وإليه أشار الرحّالة ابن جبير بقوله : ويلي القبة العباسية بيت يُنسب لفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه هو الذي آوت إليه والتزمت فيه الحزن علىٰ موت أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكره الغزالي وغيره في زيارة

_______________________

١) العمدة / ابن رشيق ٢ : ٨١٦ ، إتحاف السائل / المناوي : ١٠٢ ، الثغور الباسمة / السيوطي : ٥٤ ، أعيان الشيعة ١ : ٢٢٣ ، أعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٣.

٢) الكافي / الكليني ٤ : ٥٦١ / ٤ و ٣ : ٢٢٨ / ٣ ، وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٥ / ٢٤.

١٩٦

البقيع ، وقال : ويصلّىٰ في مسجد فاطمة عليها‌السلام (١).

وقد اتخذت الزهراء عليها‌السلام من هذا المسجد محراباً للعبادة والدعاء كما تقدم ، وموضعاً للحزن والبكاء علىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال الامام الصادق عليه‌السلام : « أما فاطمة عليها‌السلام فبكت علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ تأذىٰ بها أهل المدينة ، فكانت تخرج الىٰ مقابر الشهداء فتبكي حتىٰ تقضي حاجتها ثمّ تنصرف » (٢).

إن دموع الزهراء عليها‌السلام تجسّد عمق المأساة التي حلّت بالاسلام بعد موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلاريب أن موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب جليل ، انقطع به وحي السماء ، وذهب به معلّم الخير والرحمة ، وتكون المصيبة أعظم اذا انقلبت اُمّته علىٰ تعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيّها ، وكان المتصدّون لمقامه علىٰ غير هدىً من نهجه ورسالته ، فذلك هو الموت الأخطر والمرارة الكبرىٰ التي ما انفكّت ترافق حياة الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقوّضت بقايا قوّتها ، وهدّت أركانها ، وجعلتها تذوب حتىٰ الممات.

عن أم سلمة : أنها سألت فاطمة عليها‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف أصبحت يابنت رسول الله؟ قالت : « أصبحت بين كمد وكرب : فقد النبي ، وظلم الوصيّ » (٣).

عاشت الزهراء عليها‌السلام في سبيل الاسلام قبل أن تعيش لنفسها منذ عهد طفولتها حيث كانت تذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام طغام قريش وطغاتها ،

_______________________

١) راجع رحلة ابن جبير : ١٧٤ ، وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٧ و ٩١٨ ، أهل البيت / توفيق أبو علم : ١٦٧ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٧٧.

٢) الخصال / الصدوق : ٢٧٢ / ١٥. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٩٨. وبحار الانوار ٤٣ : ١٥٥ / ١.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٢ : ٢٠٥ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٥٦ / ٥.

١٩٧

وتجشّمت في هذا السبيل صنوف المصاعب والمعاناة ، وكان رائدها الصبر والتحمل في أحلك الظروف وأشدها قسوة ، وكان لها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مواقف سجلت فيها مواقع الريادة والقدوة في بيان الحق ، والدفاع عن المبادئ الاسلامية العليا ، والدعوة إلىٰ التمسك بالمسار الصحيح لامتداد النبوة المتمثل في خط الامامة الأصيل الذي خصّه الله تعالىٰ بعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنبيه الأمة علىٰ شبح الانحراف الذي تنبأت بوقوعه في خطبتها عليها‌السلام ، هذا فضلاً عن بيان مظلوميتها وسخطها علىٰ من ظلمها ، وفيما يلي نذكر بعض هذه المواقف ونذكر في آخرها خطبتي الزهراء عليها‌السلام :

١ ـ المطالبة بحقوقها وبيان مظلوميتها :

انبرت الزهراء عليها‌السلام للمطالبة بالحقوق المالية المترتبة لها بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطالبت أيضاً بحقوق بني هاشم عامة ، وذلك حق طبيعي لكل مظلوم أن يدافع عن حقوقه المغتصبة ، وقد ذكرنا جملةً من هذه المطالبات في المبحث الاول.

والذي نودّ الإشارة إليه هنا ، هو هدف الزهراء عليها‌السلام من هذه المطالبات التي أدّت الىٰ مقاطعة رجال السلطة حتىٰ الممات وبعد الممات حسب وصيتها عليها‌السلام ، فهل كانت عليها‌السلام بحاجة ماسة الىٰ الأموال التي تجبىٰ من فدك ، أو هل اندفعت من أجل هدف مادي رخيص وحطام زائل ، وهي أول الناس لحاقاً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ ما أخبرها ؟!

هذا فضلاً عن أن الزهراء عليها‌السلام كان لديها من الأموال ما يغنيها عن المنازعة في فدك وغير فدك ، فقد أوقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوائط السبعة علىٰ

١٩٨

فاطمة عليها‌السلام (١) وذلك بعد أن بسط الاسلام نفوذه علىٰ سائر أنحاء الجزيرة وعمّت المسلمين حالة من الرخاء.

وقد جاء في وصيتها عليها‌السلام ما يدل علىٰ امتلاكها لتلك الحوائط وأموال أخرىٰ ، فقد روي عن الامام الباقر عليه‌السلام أنّه أخرج حُقاً أو سفطاً ، فأخرج منه كتاباً فقرأه ، وكان فيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... أوصت بحوائطها السبعة إلىٰ علي بن أبي طالب ، فان مضىٰ فإلىٰ الحسن ، فان مضىٰ فإلىٰ الحسين ، فان مضىٰ فإلىٰ الأكابر من ولدي ، شهد المقداد بن الاسود والزبير بن العوام ، وكتب علي بن أبي طالب ». وروي نحو ذلك عن الامام الصادق عليه‌السلام (٢).

وعليه فالزهراء عليها‌السلام أجلّ قدراً وأعلىٰ شأناً من أن تحرص علىٰ دنيا فانية أو حطام زائل ، فلابدّ إذن من أن تكون هناك أهداف اُخرىٰ تبتغيها من وراء تلك المطالبة ، وتتجلىٰ تلك الأهداف لمن تمعّن في قراءة خطبة الزهراء عليها‌السلام في المسجد النبوي وأمام الملأ من قريش والأنصار ، فلقد تهيأت لها عليها‌السلام الفرصة السانحة والمجال الرحب من خلال تلك المطالبات أن تدلي برأيها وتقوم بالمسؤولية الملقاة علىٰ عاتقها ، وتؤدي دورها الرسالي علىٰ أحسن مايرام وأمام الملأ ، فبيّنت أحقية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في قيادة الاُمة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكشفت عن اجتهاد السلطة في موضع النصّ ، فأظهرت حال السلطة أمام الملأ ، وألقت الحجة علىٰ الاُمة لتؤدي

_______________________

١) الكافي ٧ : ٤٧ / ١.

٢) الكافي / الكليني ٧ : ٤٨ ـ ٤٩ / ٥ ـ ٦ ، التهذيب / الطوسي ٩ : ١٤٤ / ٥٠ ، وراجع وصيتها في أموالها الاخرىٰ في دلائل الامامة للطبري : ١٢٩ ـ ١٣١ / ٣٩ ـ ٤١. وأوصت عليها‌السلام إلىٰ غير أولادها من بني هاشم وبني المطلب. راجع سنن البيهقي ٦ : ١٦١ و ١٨٣.

١٩٩

مسؤوليتها ، وكادت تلك المطالبة أن تؤدي اُكلها فتصفّي الحساب مع السلطة ، لولا أنهم سدّوا جميع الطرق التي تستحقّ بها تلك الحقوق ، لادراكهم بأنهم لو صدّقوا الزهراء عليها‌السلام في هذه القضية فانها ستبدأ جولة جديدة تطالب فيها بالخلافة.

ثم إن الزهراء عليها‌السلام لو سكتت عن مظلوميتها ولم تطالب بحقها لصار السكوت علىٰ الظالمين والتغاضي عن الحق سُنة ، ذلك لأنها عليها‌السلام قدوة واُسوة ، وإن فعلها لايتجافىٰ عن الحق لذلك اندفعت الىٰ ميدان الصراع ، وسلكت معترك الطريق ، ووقفت بكل مالديها من قوة بوجه الظلم لاسترداد حقها السليب ، مع ما بها من الضعف والانكسار والحزن والألم ، فأثبتت أن المرأة قادرة علىٰ الدفاع عن حقّها بل وحقّ غيرها ، وصارت فاطمة الزهراء عليها‌السلام راية المقاومة للظلم والدفاع عن المظلوم في كلّ زمان ومكان.

٢ ـ سخطها علىٰ ظالميها :

بعد أن دُفعت الزهراء عليها‌السلام عن جميع حقوقها المالية في نحلتها وإرثها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسهمها من الخمس ، اتخذت موقفاً حاسماً من الشيخين ، يدلّ علىٰ ظلامتها وكونها مخاصمة غير راضية عنهما حتىٰ لقيت ربّها وهي في ريعان الشباب وزهرة الصبا.

وقد قدّمنا أن الرواة اتفقوا علىٰ أن فاطمة عليها‌السلام غضبت علىٰ أبي بكر وعمر وهجرتهما ولم تكلمهما حتىٰ توفيت وهي ساخطة عليهما ، وأوصت أمير المؤمنين عليه‌السلام أن لايحضرا جنازتها ، ولا يصليا عليها ، وأن يُعفّىٰ قبرها ، فلمّا توفيت دفنها أمير المؤمنين ليلاً ، ولم يؤذن بها أحداً ممن ظلمها.

٢٠٠