سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

علي موسى الكعبي

سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ ) (١).

وعصوا الله تعالىٰ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهرة ، والله تعالىٰ يقول : ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ) (٢).

وهكذا انشغلت الاُمّة عن نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجرد إحساسها بفقده ، لتدخل في صراعات كان بامكانهم تجنبها لو استمعوا لما يكتب لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المحتضر ، وكان ذلك الانقلاب يمثل حجر الزاوية لكلِّ مظلمة حدثت علىٰ طول التاريخ.

الابتسامة الأخيرة :

في محتضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أحنت الزهراء عليها‌السلام علىٰ أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ارتسمت علىٰ شفتيها ابتسامة عقيب بكاءٍ هزّ كيانها ، ممّا أثار الدهشة والتساؤل عند البعض حتىٰ فسّرت لهم سرّ ذلك بعد وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روي عن ابن عباس وعائشة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا فاطمة عليها‌السلام في شكواه التي قُبض فيها ، فسارّها بشيءٍ فبكت ، ثمّ دعاها فسارّها فضحكت ، فسئلت عن ذلك ، فقالت بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سارّني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرني أنّه يُقبض في وجعه الذي تُوفّي فيه فبكيت ، ثم سارّني فأخبرني أنّي أول من يتبعه من أهل بيته فضحكت » (٣).

_______________________

١) سورة الحجرات : ٤٩ / ٢.

٢) سورة الاحزاب : ٣٣ / ٣٦.

٣) صحيح البخاري ٥ : ٩٢ ـ كتاب المناقب. وصحيح مسلم ٤ : ١٩٠٤ / ٩٧ ـ كتاب فضائل

١٤١

إذن كانت تلك الابتسامة تعبّر عن فرحة سرعة اللحاق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدار الآخرة ( فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ ) (١) وكانت الأخيرة في حياة سيدة النساء عليها‌السلام إذ أعقبها الألم والحزن والبكاء ، فهي عليها‌السلام بعد فقد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تهدأ لها حسرة ولم ترقأ لها عبرة.

قال الإمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : « مكثت فاطمة عليها‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة أشهر ، وما رؤيت ضاحكة بعده » (٢).

وكانت عليها‌السلام تعبّر بتلك الدموع عن مرارة الألم لفراق أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشدة الحزن لفقده ، وتحكي مظلوميتها واغتصاب حقّ الوصيّ وحقّها ، وما يعتلج بصدرها من معاناة لم تجد إلىٰ بثّها سبيلاً إلّا بالدموع.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد أن نفض يديه من تراب قبرها عليها‌السلام وهو يناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وستنبئك ابنتك بتضافر أُمّتك علىٰ هضمها ، فأحِفها السؤال ، واستخبرها الحال ، فكم من غليلٍ معتلج بصدرها لم تجد إلىٰ بثّه سبيلاً » (٣).

الهجوم علىٰ دار الزهراء عليها‌السلام وما ترتب عليه :

مضىٰ أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلىٰ سقيفة بني ساعدة ، ولم يبق حول

_______________________

الصحابة. وحلية الأولياء ٢ : ٤٠. ومسند أحمد ٦ : ٧٧ ، ٢٤٠ ، ٢٨٢. والمعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤١٥ / ١٠٢٧ و ٤١٩ ـ ٤٢١ / ١٠٣٤ ـ ١٠٣٧. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٨٠ و١٢٠. وفضائل فاطمة / ابن شاهين : ٢٨ ـ ٣٢.

١) سورة القمر : ٥٤ / ٥٥.

٢) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٣٩٩ / ٩٩٥.

٣) الكافي ١ : ٤٥٩ / ٣.

١٤٢

جثمان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أقاربه ومواليه ، وهم الذين تولوا غسله وتكفينه وإدخاله قبره ومواراته ، وهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعمه العباس رضي‌الله‌عنه وابناه الفضل وقثم ، واُسامة بن زيد مولاه ، وقيل : شقران ، أو صالح مولاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

فارتفعت الأصوات في السقيفة وكثر اللغط بين المهاجرين والأنصار ، ثم إن عمر بن الخطاب ضرب علىٰ يد أبي بكر فبايعه الناس ، ثم أتوا به المسجد يبايعونه ، فسمع العباس وعلي عليهما‌السلام التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وكان عامّة المهاجرين وجلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّاً عليه‌السلام هو صاحب الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، فتخلّف قوم من المهاجرين والأنصار وجمهور الهاشميين عن بيعة أبي بكر ، وكان منهم : العباس بن عبدالمطلب ، والفضل بن العباس ، والزبير بن العوام ، وخالد بن سعيد ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، والبرّاء بن عازب ، وأُبي بن كعب ، وعتبة بن أبي لهب ، وغيرهم (٤) ، وروي أنّهم اجتمعوا علىٰ أن يبايعوا عليّاً عليه‌السلام (٥).

_______________________

١) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٢٧٧ ـ ٢٧٨. والعقد الفريد / ابن عبد ربه ٣ : ٢٩٦ ، المكتبة التجارية ـ مصر. وتاريخ الإسلام / الذهبي ١ : ٥٧٥ ـ ٥٧٦. وتاريخ الطبري ٣ : ٢١٣.

٢) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٥ : ١٠ ـ ١١.

٣) الموفقيات / الزبير بن بكار : ٥٨٠ / ٣٨٠ عن محمد بن اسحاق. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٢١.

٤) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤. وتاريخ أبي الفداء ٢ : ٦٣. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٩.

٥) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦.

١٤٣

وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام قد اعتزل الناس بعد أن فرغ من جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعكف علىٰ جمع القرآن الكريم بعهدٍ من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وروي أنّه عليه‌السلام قال : « لا أرتدي حتىٰ أجمعه » ، وقالوا : إنّه لم يرتدِ إلّا للصلاة حتىٰ جمعه (١).

وفي تلك الاثناء بلغ أبو بكر أن جماعة منهم العباس قد اجتمعوا مع علي ابن أبي طالب عليه‌السلام في منزل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعث إليهم عمر بن الخطاب ، وخالد بن الوليد في رجالٍ من الأنصار ونفرٍ من المهاجرين أرسلهم أبو بكر رِدءاً لهما ، كزياد بن لبيد الأنصاري ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأُسيد بن حُضير ، ومسلمة بن سلامة بن وقش ، ومحمد بن مسلمة ، وثابت بن قيس بن شماس الخزرجي ، وسلمة بن أسلم (٢) ، والمغيرة بن شعبة ، وسالم مولىٰ أبي حذيفة (٣).

فجاء عمر بن الخطاب فناداهم وهم في دار علي عليه‌السلام : لتخرجنّ إلىٰ البيعة أو لاُحرقنّها علىٰ من فيها ! فقيل له : يا أبا حفص ؟ إنّ فيها فاطمة ! فقال : وإن (٤) !!.

فلمّا سمعت فاطمة عليها‌السلام أصواتهم نادت بأعلىٰ صوتها : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ؟! » فلمّا سمع القوم

_______________________

١) اُنظر : الاتقان / السيوطي ١ : ٢٠٤. والطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٢ : ٣٣٨. ومناهل العرفان ١ : ٢٤٧. وكنز العمال ٢ : ٥٨٨ / ٤٧٩٢. وشرح ابن أبي الحديد ١ : ٢٧ و ٢ : ٥٦.

٢) راجع : مستدرك الحاكم ٣ : ٦٦. وسنن البيهقي ٨ : ١٥٢. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠ و ٥١ و ٥٦ و ٥٧ ، و ٦ : ١١ و ٤٧ و ٤٨.

٣) الجمل / الشيخ المفيد : ١١٧.

٤) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.

١٤٤

صوتها وبكائها انصرفوا باكين ، وكادت قلوبهم وأكبادهم تنفطر ، وبقي عمر ومعه قوم (١) ، فاقتحموا الدار ، فصاحت فاطمة عليها‌السلام وناشدتهم الله (٢) ، وجعلت تبكي وتصيح (٣).

وخرج إليهم الزبير مصلتاً سيفه ، فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر ، فندر السيف من يده ، فضرب به عمر الحجر فكسره (٤) ، ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقاً عنيفاً (٥).

وروي أنّهم قالوا : ليس عندنا معصية ولا خلاف.. وإنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد ، ثم بايعوا أبا بكر (٦).

واجتمع الناس ينظرون ، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال ، ورأت فاطمة عليها‌السلام ما صنع عمر ، فصرخت وولولت ، واجتمع معها نساء كثيرة من الهاشميات وغيرهنّ ، فخرجت إلىٰ بابها ، وقالت : « يا أبا بكر ، ما أسرع ما أغرتم علىٰ أهل بيت رسول الله ! والله لا أُكلّم عمر حتىٰ ألقىٰ الله » (٧).

_______________________

١) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٣. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٤ ـ ١١٥.

٢) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٠ ، و ٦ : ٤٧.

٣) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦.

٤) وفي رواية الطبري ٣ : ٢٠٢ أنّ الزبير عثر فسقط السيف من يده ، فوثبوا عليه فأخذوه. وروي أنّ الذي أخذ سيف الزبير وكسره هو محمد بن مسلمة. راجع مستدرك الحاكم ٣ : ٦٦. وسنن البيهقي ٨ : ١٥٢. وكنز العمال ٥ : ٥٩٧. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥١ ، و ٦ : ٤٨. وفي ج٦ ص١١ منه أنّه سلمة بن أسلم.

٥) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦ ، و ٦ : ٤٨.

٦) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٦.

٧) السقيفة وفدك / الجوهري : ٧٣. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٧ ، و ٦ : ٤٩.

١٤٥

وقالت عليها‌السلام : « لا عهد لي بقومٍ حضروا أسوأ محضرٍ منكم ، تركتم رسول الله جنازةً بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تروا (١) لنا حقاً (٢) ، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خمّ ، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ، ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم ، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة » (٣).

وأخرجوا عليّاً عليه‌السلام ومضوا به إلىٰ أبي بكر ، فقال له عمر : بايع. فقال عليه‌السلام : « إن أنا لم أفعل فمه ؟ » قال عمر : إذن والله الذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك !

فقال : « إذن تقتلون عبد الله وأخو رسوله ». قال عمر : أما عبدالله فنعم ، وأما أخو رسوله فلا (٤) ، وأبو بكر ساكت. فقال له عمر : ألا تأمر فيه بأمرك ؟ فقال : لا أُكرهه علىٰ شيءٍ ما كانت فاطمة إلىٰ جنبه (٥).

ولم يبايع عليٌّ أبا بكر حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام بعد ستة أشهر ، فلمّا ماتت عليها‌السلام ضرع إلىٰ صلح أبي بكر (٦).

_______________________

١) في الإمامة والسياسة : ولم تردّوا.

٢) الإمامة والسياسة ١ : ١٣. والأمالي / الشيخ المفيد : ٤٩ / ٩. والاحتجاج / الطبرسي : ٨٠.

٣) الاحتجاج / الطبرسي : ٨٠.

٤) وهو ردّ علىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعلي عليه‌السلام : « أنت أخي في الدنيا والآخرة » ، راجع : سنن الترمذي ٥ : ٦٣٦ / ٣٧٢٠. ومسند أحمد ١ : ٢٣٠. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنت أخي وأنا أخوك ، فإن ذاكرك أحد فقل : أنا عبدالله وأخو رسوله ، لايدّعيها بعدك إلّا كاذب » ، راجع : فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٦١٧ / ١٠٥٥. وتذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٢٢.

٥) الإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٣. والآية من سورة الأعراف : ٧ / ١٥٠.

٦) أنساب الأشراف / البلاذري ٢ : ٢٦٨ ، دار الفكر ـ بيروت.

١٤٦

آثار الهجوم وما ترتب عليه :

اندفع القوم إلىٰ بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يرعوا لها حرمة ، ولا لأبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذمّة ، وقد رافق الهجوم علىٰ الدار بعض الأحداث المخالفة للشرع والدين والضمير والوجدان والأعراف والسجايا الانسانية ، وكلّها مصاديق تحكي قصة الانقلاب علىٰ الأعقاب والإحداث بعد غياب الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن تلك الأحداث :

١ ـ إحراق البيت :

ثبت إحراق البيت المقدس من طريق الفريقين ، فقد روي أنّهم جمعوا الحطب الجزل حول بيت الزهراء عليها‌السلام ، وأضرموا النار في بابه ، حتىٰ أخذت النار في خشب الباب (١).

وروىٰ الثقفي بالاسناد عن حمران بن أعين ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « والله ما بايع علي حتىٰ رأىٰ الدخان قد دخل بيته » (٢).

وقال المسعودي : فأقام أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوجّهوا إلىٰ منزله ، فهجموا عليه وأحرقوا بابه ، واستخرجوه منه كُرهاً (٣).

وقد بلغ من اشتهار هذا الأمر أن سجّله كثير من الشعراء منذ القرون الأولىٰ وإلىٰ اليوم ، ومنهم عبدالله بن عمار البرقي ت ٢٤٥ هـ حيث قال :

_______________________

١) الهداية الكبرىٰ / الخصيبي : ٤٠٧. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٩٧ / ٢٩ ، و ٥٣ : ١٨.

٢) تلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ٧٦. وبحار الأنوار ٢٨ : ٣٩٠.

٣) إثبات الوصية / المسعودي : ١٢٤ ، المطبعة الحيدرية ـ النجف. وبحار الأنوار ٢٨ : ٣٠٨ / ٥٠.

١٤٧

وكلّلا النار من نبتٍ ومن حطبٍ

والمضرمان لمن فيه يسبّانِ

وليس في البيت إلّا كلّ طاهرةٍ

من النساء وصدّيق وسبطانِ (١)

وقال علاء الدين الحلي المقتول سنة ٧٨٦ هـ :

وأجمعوا الأمر فيما بينهم غوت

لهم أمـانيهم والجهل والأملُ

أن يحرقوا منزل الزهراء فاطمة

فياله حادث مستصعب جَلَلُ

بيت به خمسة جبريل سادسهم

من غير ما سبب بالنار يشتعلُ (٢)

ووردت الأخبار بهذا المضمون من طرق العامة أيضاً ، فقد ذكر السيد المرتضىٰ رضي‌الله‌عنه أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة ممن لايتهم علىٰ القوم (٣) ، وفي ما يلي بعض رواياتهم :

روى البلاذري عن سليمان التيمي وعبدالله بن عون أنهما قالا : إنّ أبا بكر أرسل إلىٰ علي عليه‌السلام يريد البيعة ، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة ، فتلقّته فاطمة عليها‌السلام علىٰ الباب. فقالت فاطمة عليها‌السلام : يابن الخطاب ، أتراك محرقاً عليّ بابي ؟ قال : نعم ، وذلك أقوىٰ فيما جاء به أبوك (٤).

وذكر ابن عبدربه الذين تخلفوا عن البيعة لأبي بكر : علي عليه‌السلام والعباس ، والزبير ، وسعد بن عبادة ، قال : فأمّا علي عليه‌السلام والعباس والزبير ، فقعدوا في

_______________________

١) الصراط المستقيم / البياضي ٣ : ١٣.

٢) الغدير ٦ : ٣٩١.

٣) الشافي / السيد المرتضىٰ ٤ : ١١٩.

٤) أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٨ ، دار الفكر ـ بيروت. والشافي / السيد المرتضىٰ ٣ : ٢٤١. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ٦٧.

١٤٨

بيت فاطمة حتىٰ بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة عليها‌السلام ، وقال له : إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبسٍ من نار علىٰ أن يضرم عليهم الدار ، فلقيته فاطمة عليها‌السلام فقالت : يابن الخطاب أجئت لتحرق دارنا ؟ قال : نعم ، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الاُمّة (١).

وقد سجّل شاعر النيل حافظ إبراهيم هذه المكرمة لعمر بن الخطاب حيث قال :

وقـولةٍ لعلي قالها عمرُ

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقتُ دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفىٰ فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنـان وحـاميها (٢)

وليته لم يَفُه بها ، فإنّها كانت سُبّة له وموبقة عظيمة لا تفارقه أبداً ، حتّىٰ يلقىٰ الله تعالىٰ وبنت المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضبىٰ عليه ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرب عليه ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حربٌ لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم (٣).

وظنّ شاعر النيل أنّ ذلك كان من شجاعة عمر ، وفات عنه أنّه لم تثبت لعمر قدم في المقامات المشهورة كما لم تروَ له صولة ولم تعرف عنه جولة ،

_______________________

١) العقد الفريد / ابن عبد ربه ٥ : ١٢. والمختصر في أخبار البشر / أبو الفداء ٢ : ٦٤.

٢) الديوان ١ : ٧٥ ، دار الكتب المصرية ـ القاهرة.

٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٩٩ / ٣٨٧٠. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٤٩. ومسند أحمد ٢ : ٤٤٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٤٤.

١٤٩

فهو الذي عاد في خيبر يُجبّن أصحابه ويجبّنونه (١) ، فما كانت الراية والفتح وقتل صناديد الكفر لتليق إلّا بمن يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، الكرار غير الفرار ، علي أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

كما فات عنه أنّ صبر أمير المؤمنين عليه‌السلام علىٰ القوم ما كان إلّا بعهدٍ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بالصبر عند خذلان الاُمّة (٣) ، وأنّه عليه‌السلام كان يقول واصفاً حاله بعد البيعة : « فنظرتُ فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي ، فضننتُ بهم عن الموت ، وأغضيتُ علىٰ القذىٰ ، وشربت علىٰ الشجا ، وصبرت علىٰ أخذ الكظم وعلى أمرّ من طعم العلقم » (٤).

وقال عليه‌السلام : « وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء ، أو أصبر علىٰ طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتىٰ يلقىٰ ربه ، فرأيت أنّ الصبر علىٰ هاتا أحجىٰ ، فصبرتُ وفي العين قذىً ، وفي الحلق شجىً ، أرىٰ تراثي نهباً... » (٥).

وخلاصة القول إنّه عليه‌السلام آثر بقاء الإسلام الذي نذر حياته وخاض الغمرات لأجله ، فنراه في أحرج المواقف التي واجهته بعد البيعة كان يقول :

_______________________

١) مستدرك الحاكم ٣ : ٣٧. وتاريخ الطبري ٣ : ١٢.

٢) صحيح البخاري ٥ : ٨٧ / ١٩٧ و ١٩٨ ـ كتاب الفضائل ، و٥ : ٢٧٩ / ٢٣١ ـ كتاب المغازي. وصحيح مسلم ٤ : ١٨٧١ / ٣٢ ـ ٣٤ ـ كتاب الفضائل. ومسند أحمد ١ : ١٨٥ ، و٥ : ٣٥٨. ومستدرك الحاكم ٣ : ١٠٩.

٣) راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٧٥.

٤) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٦٨ الخطبة ٢٦.

٥) نهج البلاغة / صبحي الصالح : ٤٨ الخطبة ٣.

١٥٠

« سلامة الدين أحبُّ إلينا من غيره »(١).

الاحراق ذريعة للظلم :

إنّ إحضار الحطب حول بيت القدس والطهارة من قبل رجال الخلافة وإذكاء النار في بابه لانتزاع البيعة من أمير المؤمنين عليه‌السلام قد صار ذريعة للظالمين وسُنّة لطواغيت الاُمّة علىٰ طول التاريخ ، فقد روىٰ المؤرخون أنّ عروة بن الزبير كان يعذر أخاه عبدالله في حصر بني هاشم في الشعب ، وجمعه الحطب ليحرقهم ، وكان يقول : إنّما أراد بذلك إلّا تنتشر الكلمة ، ولا يختلف المسلمون ، وأن يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لمّا تأخروا عن بيعة أبي بكر ، فانّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار (٢).

٢ ـ إيذاء الزهراء عليها‌السلام بالضرب والاسقاط :

وكان من امتدادات ذلك الهجوم أن تعرّض القوم لفاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالضرب ممّا أدىٰ إلىٰ إسقاط جنينها ، فشكت من أثر ذلك الضرب حتىٰ التحقت بربها شهيدة مظلومة ، وقد استفاضت الروايات بذلك وثبت عند أعلام الطائفة.

قال الشيخ الطوسي رضي‌الله‌عنه : وقد روي أنّهم ضربوها بالسياط ، والمشهور الذي لا خلاف فيه بين الشيعة أن عمر ضرب علىٰ بطنها حتىٰ أسقطت ،

_______________________

١) الموفقيات / الزبير بن بكار : ٥٨١ عن محمد بن إسحاق. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٢١.

٢) مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٧٧. وشرح ابن أبي الحديد ٢٠ : ١٤٧. ومقاتل الطالبيين / أبو الفرج : ٣١٥.

١٥١

فسمّي السقط محسناً (١) ، والرواية بذلك مشهورة عندهم (٢) ، وقد نقلها عنهم المخالفون أيضاً (٣).

ونقل الشيخ ابن شهرآشوب عن ( المعارف ) لابن قتيبة أنّ المحسن سقط من زخم (٤) قنفذ العدوي (٥) الذي أمره عمر بضرب الزهراء عليها‌السلام.

وكان من آثار ذلك الضرب أن مرضت الزهراء عليها‌السلام ولازمت فراشها حتىٰ التحقت بربها ، كما أخبر بذلك أولاد الزهراء عليهم‌السلام (٦) ، وقد أطبقت كلمتهم

_______________________

١) وهو الابن الثالث لاَمير المؤمنين عليه‌السلام من الزهراء عليها‌السلام ، وقد جاء في الروايات والأخبار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر بتسميته محسناً وهو حمل في بطن أُمّه. راجع : الكافي / الكليني ٦ : ١٨ / ٢. والخصال / الصدوق : ٦٣٤. والإرشاد ١ : ٣٥٥.

وذكره العامّة أيضاً وقالوا : انّه مات صغيراً. راجع : تاريخ الطبري ٥ : ١٥٣. والكامل / ابن الأثير ٣ : ٣٩٧. وأنساب الأشراف / البلاذري ٢ : ٤١١. والإصابة ٣ : ٤٧١. وميزان الاعتدال / الذهبي ١ : ١٣٩. ولسان الميزان / ابن حجر ١ : ٢٦٨.

٢) تلخيص الشافي ٣ : ١٥٦. وراجع أيضاً الاختصاص : ٨٥. وكتاب سليم : ٣٧. والهداية الكبرىٰ / الخصيبي : ١٧٩. وبحار الأنوار ٣٠ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ، و٤٣ : ١٩٧ / ٢٩.

٣) البدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ٢٠. وشرح ابن أبي الحديد الحنفي المعتزلي ٢ : ٦٠.

٤) الزخم : الدفع الشديد.

٥) المناقب ٣ : ٣٥٨. وقنفذ هو ابن عمير التيمي ، ذكره ابن الأثير وابن حجر وقالا : له صحبة ، وولاه عمر مكّة ثمّ صرفه. راجع : أُسد الغابة ٤ : ٢٠٨. والإصابة ٣ : ٢٤١. والذي في المعارف المطبوع في دار الكتب المصرية سنة ١٣٧٩ هـ ص ٢١١ : وأما محسن بن علي فهلك وهو صغير ، وقد جاء في كثير من الروايات أنّه تعرّض للزهراء عليها‌السلام بالضرب عندما أحالت بين القوم وبين أمير المؤمنين عليه‌السلام. راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٨٣. وكتاب سُليم : ٣٨ و ٤٠. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٤. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧٠ و ١٩٨ / ٢٩.

٦) راجع : الاحتجاج / الطبرسي : ٨٣. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٣٤. وكتاب سُليم : ٤٠. ودعائم الإسلام ١ : ٢٣٢. وبحار الأنوار ٤٣ : ١٧٠ / ١١ و ١٩٨ / ٢٩.

١٥٢

علىٰ أنّها ماتت شهيدةً مظلومة ، فعن علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : « إنّ فاطمة صدّيقة شهيدة » (١) ، وجاء في زيارتها عليها‌السلام : السلام عليكِ أيتها البتول الشهيدة الطاهرة (٢). والسلام عليكِ أيتها الصديقة الشهيدة (٣).

ومما يدلّ علىٰ شيوع هذا الأمر وشهرته هو أن تناوله الشعراء مندّدين به مزرين علىٰ فاعله ، وذلك منذ القرون الاُولىٰ وإلىٰ اليوم ، قال السيد الحميري المتوفى ١٧٣ هـ :

ضربت واهتضمت من حقّها

واُذيقت بعده طعم السَّلع (٤)

قطع الله يدي ضـاربها

ويد الراضي بذاك المتّبع (٥)

وقال القاضي النعمان المتوفىٰ سنة ٣٦٣ هـ في أرجوزته المختارة :

حتىٰ أتوا باب البتول فاطمهْ

وهي لهم قالية مصارمهْ

فوقفت من دونه تعذلهم

فكسر الباب لهم أوّلهم

فاقتحموا حجابها فأعولتْ

فضربوها بينهم فأسقطتْ

_______________________

١) الكافي ١ : ٤٥٨ / ٢.

٢) المزار / المفيد : ١٥٦. والمقنعة / المفيد : ٤٥٩. وبحار الأنوار ١٠٠ : ١٩٧ / ١٤ ، و١٩٨ / ١٦.

٣) التهذيب / الطوسي ٦ : ١٠ / ١٢. والبلد الأمين / الكفعمي : ١٧٨.

٤) السَّلع : شجر مرّ ، ويقال : أمرّ من السَّلع.

٥) الصراط المستقيم ٣ : ١٣.

١٥٣

إلىٰ أن قال :

وقتلهم فاطمة الزهراءِ

أضرم حرّ النار في أحشائي

لأنّ في المشهور عند الناسِ

بأنَّها ماتت من النفاسِ (١)

وقال الأمير علي بن مقرب الاحسائي المتوفّىٰ سنة ٦٢٩ هـ :

ياليت شعري فمن أنوح منهم

ومن له ينهلّ فيض أدمعي

أللوصي حين في محرابه

عمّم بالسيف ولمّا يركعِ

أم للبتول فـاطم إذ منعت

عن إرثها الحق بأمر مجمعِ

إلىٰ أن قال

ولم تزل مهضومة مظلومة

بردّ دعواها ورضِّ الأضلعِ (٢)

ونقل ذلك من غير طرق الشيعة ، فعن محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ ، في ترجمة أحمد بن محمد السري بن يحيىٰ بن السري ابن أبي دارم ، قال : كان مستقيم الأمر عامة دهره ، ثمّ في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب ، حضرته ورجل يقرأ عليه أنّ عمر رفس فاطمة عليها‌السلام حتىٰ أسقطت محسناً (٣).

وعن إبراهيم بن سيار النظام ، قال : إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة

_______________________

١) الارجوزة المختارة : ٨٨ / ٩٢ ـ طبع سنة ١٩٧٠ م ـ معهد الدراسات الإسلامية ـ كندا.

٢) إثبات الهداة / الحر العاملي ٤ : ١٤١٢. وأدب الطف ٤ : ٣٢.

٣) سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٥ : ٥٧٨. وميزان الاعتدال / الذهبي ١ : ١٣٩ / ٥٥٢. ولسان الميزان / ابن حجر ١ : ٢٦٨ / ٨٢٤.

١٥٤

حتىٰ ألقت الجنين من بطنها (١) ، وكان يصيح : احرقوا دارها بمن فيها ، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٢).

ونقل البغدادي والمقريزي عن النظام أنه قال : إنّ عمر ضرب فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنع ميراث العترة (٣).

ولا ندري كيف يجعل مرتكب مثل هذه الاُمور الفضيعة نفسه إماماً للاُمّة ، وفي موقع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤتمن علىٰ الدين والإنسان والأخلاق وأموال الناس وأعراضهم ، ويوفّر لهم الكرامة والعزّة ، ويربّي الناس علىٰ الفضيلة والدين والأخلاق ؟!

ثم إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحبّ من يبغض فاطمة ، ولو بكلمة واحدة ، فلماذا يُلام محبّو فاطمة عليها‌السلام علىٰ بغض قاتلها ؟

اعتراف أبي بكر بالهجوم :

إنّ التجاوز علىٰ حرمة بيت فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإدخال الرجال فيه ، وهتك حرمته المقدسة ، قد صرّح به أبو بكر في لحظاته الأخيرة ، وفي ذلك دلالة قاطعة علىٰ حدوث هذا الهجوم وما رافقه من أحداث أليمة ، وعلى خطأ أبي بكر في الايعاز إلىٰ جنده بقيادة ابن الخطاب للقيام بذلك العمل المنافي لأبسط حقوق الزهراء ، والمؤدي إلىٰ غضب الله تعالىٰ ورسوله الكريم وصالح المؤمنين.

_______________________

١) الوافي بالوفيات / الصفدي ٦ : ١٧.

٢) الملل والنحل / الشهرستاني ١ : ٥٧.

٣) الفرق بين الفرق / البغدادي : ١٤٨ ، دار المعرفة. والخطط / المقريزي ٢ : ٣٤٦ ـ دار صادر.

١٥٥

عن عبدالرحمن بن عوف : أنّه سمع أبا بكر يقول في مرضه الذي توفي فيه : وددت أني لم أكن فتّشت بيت فاطمة وأدخلته الرجال ، ولو كان أُغلق علىٰ حرب. وفي رواية : ليتني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيءٍ ، وتركته ولو أُغلق علىٰ حرب (١).

البيعة تأصيل للغدر وذريعة للظلم :

إنّ البيعة التي لأجلها كان الهجوم علىٰ دار الزهراء عليها‌السلام مغرس الإسلام ومهبط الوحي ، هي مصداق للانقلاب والإحداث في الإسلام وتجسيد لنزعة الغدر والعدوان في هذه الاُمّة ، وهذا ما أعلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيَّه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد روىٰ الجوهري بالاسناد عن حبيب بن ثعلبة ، قال : سمعت عليّاً عليه‌السلام يقول : « أما وربّ السماء والأرض ـ ثلاثاً ـ إنّه لعهد النبي الاُمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ : لتغدرنّ بك الاُمّة من بعدي » (٢).

فالبيعة لا تمتلك أدنىٰ المقومات الشرعية ، ولم تتحصّن بأيّ سبب معقول أو منقول ، بل كانت كما وصفها أبو بكر (٣) وعمر (٤) : فلتةً وقىٰ الله شرّها ، والحقّ أنّ شرها كان مستطيراً ، فهي حجر الزاوية لكلِّ مظلمة حدثت

_______________________

١) المعجم الكبير / الطبراني ١ : ٦٢ / ٤٣. وتاريخ الطبري ٣ : ٤٣٠ حوادث سنة ( ١٣ هـ ). ومروج الذهب / المسعودي ٢ : ٣٠١. وتاريخ اليعقوبي ٢ : ١٣٧. والعقد الفريد ٥ : ١٩. وكنز العمال ٥ : ٦٣٢ / ١٤١١٣. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٤٦ ـ ٤٧ ، و ٦ : ٥١. ومجمع الزوائد ٥ : ٢٠٣. وميزان الاعتدال / الذهبي ٣ : ١٠٩ / ٥٧٦٣. ولسان الميزان ٤ : ١٨٩ / ٥٠٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام السيوطي : ١٧ ، ٣٤ ، ٣٥.

٢) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٥.

٣) أنساب الأشراف / البلاذري ٢ : ٢٦٤.

٤) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٧.

١٥٦

في التاريخ ، والذريعة لكلِّ من ظلم أهل البيت عليهم‌السلام من طواغيت الاُمّة وجبابرتها ، ويتضح ذلك جلياً في كتاب معاوية إلىٰ محمد بن أبي بكر قبل حرب صفين حيث جاء فيه : فقد كنّا وأبوك نعرف فضل ابن أبي طالب وحقّه لازماً لنا مبروراً علينا (١) فلما اختار الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عنده ، وأتمّ وعده ، وأظهر دعوته ، وأفلج حجّته ، وقبضه الله إليه ، كان أبوك والفاروق أول من ابتزّه حقّه ، وخالفه علىٰ أمره ، علىٰ ذلك اتّفقا واتّسقا ، ثم إنّهما دعواه إلىٰ بيعتهما ، فأبطأ عنهما وتلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، وأرادا به العظيم... فان يكن ما نحن فيه صواباً ، فأبوك أوله ، وإن يكن جوراً ، فأبوك أُسّه ، ونحن شركاؤه ، فبهديه أخذنا ، وبفعله اقتدينا ، ولولا ما سبقنا إليه أبوك ما خالفنا ابن أبي طالب وأسلمنا له ، ولكنّا رأينا أباك فعل ذلك ، فاحتذينا بمثاله ، وأقتدينا بفعاله (٢).

فالبيعة إذن كانت اتفاقاً سرياً ، فعلىٰ الرغم من أنهم كانوا يعرفون فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام وحقه لازماً عليهم ، لكنهم اتفقوا واتسقوا علىٰ أن يبتزّوه حقه ويخالفوه علىٰ أمره.

روىٰ الجوهري عن ابن عباس أن عمر قال له ليلة الجابية : إنّ أول من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر ، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة. قال : قلت : لمَ ذاك يا أمير المؤمنين ؟ ألم نُنِلهُم خيراً ؟! قال : بلىٰ ،

_______________________

١) وكان عمر بن الخطاب يعلم أيضاً يقيناً بمقام علي عليه‌السلام ، فقد روىٰ الجوهري عن ابن عباس ، قال : إنّ عمر يشهد أن عليّاً عليه‌السلام أولىٰ الناس بالأمر بعد رسول الله. شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٧ و٦ : ٥٠.

٢) وقعة صفين / نصر بن مزاحم : ١٢٠. وشرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٩٠. ومروج الذهب ٣ : ١٢.

١٥٧

ولكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جَحْفاً جَحْفاً (١).

وذلك الاتفاق يهدف إلىٰ إقصاء عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أداء دورهم الرسالي ، وهضم حقوقهم ، والاستيلاء علىٰ الملك ، مهما كانت الوسائل ، وحتىٰ لو انتهت بقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ( وأرادا به العظيم ) (٢) كما قتلوا سعد ابن عبادة ، الذي ذهب إلىٰ الشام مهاجراً ومغاضباً لأصحاب السقيفة بعد أن هتف عمر أمام المهاجرين والأنصار : اقتلوه قتله الله ، فإنّه صاحب فتنة (٣) ، ثم بعث رجلاً إلىٰ الشام ، فرماه بسهم فقتله (٤).

وما كان اهتمام عمر بانتزاع البيعة بشتىٰ الوسائل ، وإن أدىٰ إلىٰ القتل والتحريق ، إلّا إمضاءً لذلك الاتفاق وحرصاً علىٰ تحقيق كامل أهدافه.

عن ابن عباس ، قال : بعث أبو بكر عمر بن الخطاب إلىٰ علي عليه‌السلام حين قعد في بيته ، وقال : ائتني به بأعنف العنف ، فلمّا أتاه جرىٰ بينهما كلام ، فقال علي عليه‌السلام : احلب حلباً لك شطره ، والله ما حرصك علىٰ إمارته اليوم إلّا ليؤمّرك غداً (٥). وفي رواية : أشدد له اليوم أمره ليردّ عليك غداً (٦).

ولهذا كشفت الزهراء عليها‌السلام عن موقفها من سلطة السقيفة أمام الملأ حينما

_______________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٨. وقوله : جحفاً جحفاً : أي فخراً وشرفاً.

٢) وقد مرّ بك قول عمر له عليه‌السلام : إذن والله نقتلك ، وقول أبي بكر لعمر : إن أبوا فقاتلهم وكذا في شورىٰ عثمان ، هدّده عبدالرحمن بن عوف بالقتل إن لم يبايع.

٣) تاريخ الطبري ٣ : ٢٠٦. وأنساب الأشراف ٢ : ٢٦٣.

٤) العقد الفريد ٥ : ١٣.

٥)أنساب الأشراف ٢ : ٢٦٩.

٦)شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١١.

١٥٨

توفّرت لها فرصة المطالبة بحقوقها المالية المترتبة لها من الموروث النبوي ، وسنأتي علىٰ بيانه في المبحث الثاني.

منع الحقوق المالية للزهراء عليها‌السلام

أولاً : اغتصاب نحلة الزهراء عليها‌السلام :

ثم كان بعد انتهاك حرمة بيت الزهراء عليها‌السلام وإيذائها ، والاعتداء علىٰ وصيّ المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أن وضعت السلطة يدها علىٰ نحلة الزهراء في فدك ، لتصبح من مصادر بيت المال وموارد ثروة الدولة ، أو طعمةً لمن ولي الأمر بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفدك قرية بناحية الحجاز ، بينها وبين المدينة يومان ، فيها عين فوّارة ونخل كثير ، قد غرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضه بيده ، وهي أرض كانت لليهود ، فأفاءها الله علىٰ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلحاً سنة ٧ هـ ، وذلك لمّا فرغ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فتح خيبر ، قذف الله تعالىٰ الرعب في قلوب أهل فدك ، فبعثوا إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصالحوه علىٰ النصف ، وروي أنّهم صالحوه عليها كلها ، فكانت خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه لم يوجف عليها المسلمون بخيلٍ ولا ركاب (١).

أدلّة النحلة :

١ ـ ثبت من طرق الشيعة والعامّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد منح فدك إلىٰ ابنته الزهراء عليها‌السلام في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد روي عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن

_______________________

١) راجع : تاريخ الطبري ٣ : ١٥. والكامل في التاريخ / ابن الأثير ٢ : ٢٢١. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٠. وسنن أبي داود ٣ : ١٤٣ / ٢٩٧١ ـ باب في صفايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأموال. وفتوح البلدان / البلاذري : ٤٣. ومعجم البلدان / ياقوت ـ فدك ـ ٤ : ٢٧١.

١٥٩

عباس وأبي سعيد الخدري في تفسير قوله تعالىٰ : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) (١) أنهم قالوا : لمّا نزلت هذه الآية ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة عليها‌السلام فأعطاها فدك (٢).

وروي ذلك عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم‌السلام (٣).

٢ ـ وممّا يدلُّ علىٰ أنّ فدك كانت بأيدي أهل البيت عليهم‌السلام ما جاء في كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلىٰ عثمان بن حنيف ، وكان عامله علىٰ البصرة ، قال عليه‌السلام : « بلىٰ كانت في أيدينا فدك ، من كلّ ما أظلّته السماء ، فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، ونعم الحكم الله ، وما أصنع بفدك وغير فدك ،

_______________________

١) سورة الإسراء ١٧ / ٢٦.

٢) الدر المنثور / السيوطي ٥ : ٢٧٢. وشواهد التنزيل / الحسكاني ١ : ٣٣٨ / ٤٦٧ ـ ٤٧٣. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٧ : ٤٩ ـ عن الطبراني. وكنز العمال ٣ : ٧٦٧ / ٨٦٩٦. وميزان الاعتدال ٣ : ١٣٥ / ٥٨٧٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٧١. ولسان العرب / ابن منظور ـ فدك ـ ١٠ : ٤٧٣ عن علي عليه‌السلام دون ذكر الأية. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٦٨ و ٢٧٥. وكشف الغمة / الاربلي : ٤٧٦. ومجمع البيان / الطبرسي ٦ : ٦٣٤. وتفسير فرات الكوفي : ٣٢٢ / ٤٣٧. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٧ / ٥٠. والشافي / المرتضىٰ ٤ : ٩٠ و ٩٨. وتلخيص الشافي / الطوسي ٣ : ١٢١.

٣) الكافي / الكليني ١ : ٥٤٣ / ٥. وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام / الصدوق ١ : ٢٣٢ / ١. وتفسير فرات الكوفي : ٢٣٩ / ٣٢٢ و ٣٢٣ / ٤٣٩ و ٤٤٠. وتفسير العياشي ٢ : ٢٨٧ / ٤٦ ـ ٤٩. وتفسير القمي ٢ : ١٨. والأحتجاج / الطبرسي ١ : ٩٠ ـ ٩١. والاختصاص / المفيد : ١٨٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ١ : ١٤٢. وسعد السعود / ابن طاووس : ١٠١ ـ ١٠٢. والخرائج والجرائح / القطب الراوندي ١ : ١١٢ / ١٨٧. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٧٦. والتبيان / الطوسي ٦ : ٤٦٨ و ٨ : ٢٥٣. ومجمع البيان / الطبرسي ٨ : ٤٧٨ عن سورة الروم آية (٣٨). وإعلام الورىٰ / الطبرسي : ١ : ٢٠٩.

١٦٠