سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

علي موسى الكعبي

سيّدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام

المؤلف:

علي موسى الكعبي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: ٢٤٩
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

مروياً عنها من مصادر الشيعة وبعض مصادر العامّة ، موزعة علىٰ ١٦ باباً من أبواب القرآن والفقه والدعاء والعقائد والاحتجاج والحكم والمواعظ وغيرها (١) ، وعدّ في آخر المسند تسعة وعشرين صحابياً ممن روىٰ عنها عليها‌السلام.

وفي آخر عوالم الزهراء عليها‌السلام للشيخ عبدالله البحراني ، جمع محققو الكتاب مسند الزهراء عليها‌السلام من كتب الفريقين في أواخر الجزء الثاني منه ، تحت عنوان ( الأحاديث الغراء من مسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام ) فبلغ ٢١٩ حديثاً في عناوين مختلفة (٢).

وممّا تقدّم يتبين أن ما قاله السيوطي في ( الثغور الباسمة ) : جميع ما روته فاطمة عليها‌السلام من الحديث لا يبلغ عشرة أحاديث لتقدم وفاتها (٣) ، لا يجانب الصواب ، بل ويناقضه ما أخرجه السيوطي نفسه في ( مسند فاطمة الزهراء عليها‌السلام ) من حديثها الذي بلغ أضعاف هذا العدد.

وقال سبط ابن الجوزي : قالوا : وقد روت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمانية عشر حديثاً ، وقيل : ثمانين حديثاً ، وإنّها يسيرة بالنسبة إليها (٤) ، ولا ريب في ذلك فهي سيدة العترة النبوية الذين أوصىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاُمّة بالتمسك بهم بعد كتاب الله في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين.

ومن العلم الذي خصّت به فاطمة عليها‌السلام ما كان مودعاً في مصحفها عليها‌السلام وتداوله الأئمة الاثني عشر من أبنائها عليهم‌السلام بعدها ، وقد وصفوه صلوات الله

_______________________

١) مسند فاطمة عليها‌السلام / العطاردي : ٤٧١ ـ ٥٨٦ ، منشورات عطارد.

٢) عوالم الزهراء عليها‌السلام / البحراني ٢ : ٨٥٥ ـ ٩٣٤ تحقيق مؤسسة الإمام المهدي (عج) ـ قم.

٣) الثغور الباسمة / السيوطي : ٥١ ، ونقل عن الحافظ البدخشاني في ص٥٢ أنه قال : كل ما روي عنها ثمانية عشر حديثاً.

٤) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٠.

١٢١

عليهم بأنه مثل القرآن ثلاث مرات ، وأنّه مافيه آية من كتاب الله ، بل هو كتاب غير القرآن الكريم يتضمّن خبر ما كان وخبر ما يكون إلىٰ يوم القيامة ، وأنّه ممّا حدثتها به الملائكة ، وهو بخطّ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفي بعض الأخبار : أنّه إملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخطّ علي عليه‌السلام (١).

وكان عندها لوح أو صحيفة فيها أسماء الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام بروايتها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رآها جابر بن عبدالله الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، وهذا اللوح هو بشارة لها عليها‌السلام من السماء ، وقد روي بطرق عديدة ومعتبرة (٢).

ولقد أُوتيت الزهراء عليها‌السلام كسائر أهل البيت عليهم‌السلام حظاً عظيماً من الفصاحة والبلاغة ، قال توفيق أبو علم : كلامها متناسب الفقر ، متشاكل الأطراف ، تملك القلوب بمعانيه ، وتجذب النفوس بمحكم أدائه ومبانيه ، فهي في البيان من أغزر القوم مادة ، وأطولهم باعاً ، وأمضاهم سليقة ، وأسرعهم خاطراً (٣).

وقد رويت لها خطبتان تعدّان من أهم خطب الصدر الأول ، لأنّها ضمّنتهما أخطر التحولات التي شهدها تاريخ الإسلام بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفضلاً عن ذلك فقد نسبت للزهراء عليها‌السلام بعض القصائد الشعرية البليغة ، ممّا يدل علىٰ تمكّنها من ناصية اللغة ومعرفتها لهذا الفن.

قال ابن رشيق القيرواني : وكانت فاطمة عليها‌السلام تقول الشعر ، ورويت لها

_______________________

١) راجع الكافي / الكليني ١ : ٢٣٨ ـ ٢٤٢. وبصائر الدرجات / الصفار : ١٧٣ ـ ١٧٩ الأعلمي ـ طهران. ودلائل الإمامة / الطبري : ١٠٤ / ٣٤.

٢) راجع طرقه في عوالم الزهراء عليها‌السلام / البحراني ٢ : ٨٤٣ ـ ٨٥٢.

٣) أهل البيت : ١٥٧.

١٢٢

أشياء كثيرة (١).

وقد جمع الشعر المنسوب إليها في ديوان ، فبلغ (١٨) بين مقطوعة وقصيدة ، وأغلبه في رثاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

٣ ـ العفّة والحجاب :

لقد أعطىٰ الإسلام للمرأة حقوقها ، وشرّع القوانين لحمايتها ورعاية مصالحها ، ومنحها الحرية ضمن تعاليمه السامية في طلب العلم والحصول علىٰ الملكية والارث والعمل ، ولكن بشرط أن لا تكون علىٰ نمط الحرية الإباحية التي تعرض فيها المرأة نفسها بالمجان ، وتكون سبباً في إفساد بنية الاُسرة وانحراف المجتمع ، كما هو الحال في المجتمعات الغربية.

ولقد ضربت الزهراء عليها‌السلام أروع الأمثلة في ما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة من حصانة وعفّة مع أدائها لدورها في داخل المنزل وخارجه علىٰ أتمّ وجه ، فهي النموذج الأمثل الذي قدّمه الإسلام للمرأة ، فمن الحقّ أن يقتدىٰ بها في كل ما أُثر عنها من مبادئ العفّة والحجاب ، فقد روي عنها عليها‌السلام أنّها قالت : « خير للمرأة أن لا ترىٰ رجلاً ولا يراها رجل » (٣).

فمن حيث خمار رأسها فقد وصف أنّه يصل إلىٰ نصف عضدها ، كما جاء بالاسناد عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : « فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وما كان خمارها إلّا هكذا » وأومأ بيده إلىٰ وسط عضده (٤).

ومن عجائب أمرها عليها‌السلام أنّها كانت تتحرج من رؤية الرجل الأعمىٰ ،

_______________________

١) العمدة / ابن رشيق ١ : ١٠٣ ، دار المعرفة ، وروىٰ لها قصيدة في رثاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ٢ : ٨١٦ من العمدة.

٢) جمع في أول كتاب ( فاطمة في ديوان الشعر العربي : ١٥ ـ ٢٤ ) مؤسسة البعثة ـ بيروت.

٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١.

٤) مكارم الأخلاق / الطبرسي : ٩٣ ، منشورات الرضي ـ قم.

١٢٣

فكيف بالبصير حينئذ ؟!

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استأذن عليها أعمىٰ فحجبته ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لِمَ حجبتيه وهو لا يراك ، فقالت : يارسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه ، وهو يشمّ الريح. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشهد أنك بضعة مني » (١).

وروىٰ الشيخ الكليني بالاسناد عن أبي جعفر عليه‌السلام ، عن جابر بن عبدالله الأنصاري قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد فاطمة عليها‌السلام وأنا معه ، فلمّا انتهيت إلىٰ الباب وضع يده عليه ، ثم قال : « السلام عليكم ». فقالت فاطمة عليها‌السلام : « عليك السلام يا رسول الله » قال : « أدخل ؟ » قالت : « ادخل يا رسول الله ». قال : « أدخل أنا ومن معي ؟ » فقالت : « يارسول الله ليس عليَّ قناع ». فقال : « يافاطمة ، خذي فضل ملحفتك ، فقنّعي به رأسك » ففعلت ، ثم قال : « السلام عليكم ». فقالت فاطمة : « وعليك السلام يا رسول الله » ، قال : « أدخل » قالت : « نعم يا رسول الله » قال : « أنا ومن معي ؟ » قالت : « أنت ومن معك » الحديث (٢).

وروىٰ أبو نعيم بالاسناد عن جابر بن سمرة ، قال : جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجلس فقال : « إنّ فاطمة وجعة » فقال القوم : لو عدناها. فقام فمشىٰ حتىٰ انتهىٰ إلىٰ الباب ، والباب عليها مصفق ، قال : فنادىٰ : « شدّي عليك ثيابك ، فإنّ القوم جاءوا يعودونك » فقالت : « يا نبي الله ، ما عليَّ إلّا عباءة » قال : فأخذ رداءً فرمىٰ به إليها من وراء الباب ، فقال : « شدّي بهذا رأسك » فدخل ودخل

_______________________

١) المناقب / ابن المغازلي : ٣٨٠ / ٤٢٨. والنوادر / الراوندي : ١٣. وبحار الأنوار ٤٣ : ٩١ ـ ٩٢ / ١٦.

٢) الكافي ٥ : ٥٢٨ / ٥.

١٢٤

القوم ، فقعد ساعة فخرجوا ، فقال القوم : تالله بنت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ هذا الحال ! قال : فالتفت فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما إنّها سيدة النساء يوم القيامة » (١).

والتزام الزهراء عليها‌السلام بالحجاب الإسلامي لم يمنعها من أداء دورها الرسالي في الدفاع عن عقائد الإسلام وسُنّة أبيها المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسترجاع حقّها السليب ، فقد وصفها الرواة حينما جاءت إلىٰ مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم : لمّا بلغ فاطمة عليها‌السلام إجماع أبي بكر علىٰ منعها فدك ، لاثت خمارها علىٰ رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ... فدخلت عليه وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها مُلاءة ... (٢).

ومن مظاهر العفة والحشمة التي سجلتها الزهراء عليها‌السلام سُنّة تُقتدىٰ إلىٰ اليوم ، هي أنّها عندما اشتكت شكوتها التي قبضت فيها ، قالت لأسماء بنت عميس : « ألا تجعلي لي شيئاً يسترني ، فإنّي استقبح ما يصنع بالنساء ، يطرح علىٰ المرأة الثوب فيصفها » ، فقالت أسماء : إني رأيت شيئاً يصنع بالحبشة ، فصنعت لها هيئة النعش ، فقالت عليها‌السلام : « اصنعي لي مثله ، استريني سترك الله من النار ».

فكان نعشها أول نعش أُحدث في الإسلام ، واتخذ بعد ذلك سُنّة (٣).

٤ ـ الكرم والسخاء :

وسجّلت الزهراء عليها‌السلام دوراً بارزاً في الانفاق في سبيل الله وعتق الرقاب

_______________________

١) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤٢ ، دار الكتب العلمية ، وروىٰ نحوه ابن شاهين في فضائل فاطمة عليها‌السلام : ٣٤ ـ ٣٥ بالاسناد عن عمران بن حصين.

٢) ستأتي الخطبة مع تخريجها في الفصل الثالث.

٣) راجع : التهذيب / الطوسي ١ : ٤٦٩ / ١٥٤٠. وفاء الوفا / السمهودي ٣ : ٩٠٣. وتاريخ المدينة / ابن شبّة ١ : ١٠٨. وسير أعلام النبلاء / الذهبي ٢ : ١٢٨.

١٢٥

وإعانة الضعفاء والمعوزين من أبناء المجتمع الإسلامي علىٰ الرغم من شظف العيش وشدّة الزمان.

ولقد عرضنا في أواخر الفصل المتقدم بعض النماذج الناطقة بتحلّيها بهذا الخلق النبوي الكريم ، من ذلك تصدّقها بقوتها ثلاثة أيام علىٰ المسكين واليتيم والأسير في جملة زوجها علي وولديها الحسن والحسين عليهم‌السلام ، فأنزل الله تعالىٰ فيهم قرآناً يتلى وهو سورة الدهر ، وتصدّقت بسواريها وقرطيها وقلادتها في سبيل الله (١).

ونضيف هنا ما روي عن ابن عباس في قوله تعالىٰ : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٢) قال : نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (٣).

وعن أبي هريرة : أنّ رجلاً جاء إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه الجوع ، فبعث إلىٰ بيوت أزواجه ، فقلن : ما عندنا إلّا الماء ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من لهذه الليلة ؟ » فقال علي عليه‌السلام : « أنا يا رسول الله » فأتىٰ فاطمة عليها‌السلام فأعلمها ، فقالت : « ما عندنا إلّا قوت الصبية ، ولكنّا نؤثر به ضيفنا ». فقال علي عليه‌السلام : « نوّمي الصبية ، وأنا أُطفىء للضيف السراج » ففعلت وعشّىٰ الضيف ، فلما أصبح أنزل الله عليهم هذه الآية : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٤).

ومن نماذج الإيثار والسخاء الاُخرىٰ ما ذكره الصفوري عن ابن الجوزي أنّها عليها‌السلام أهدت قميصها في ليلة زفافها إلىٰ سائل بالباب (٥).

_______________________

١) أمالي الصدوق : ٣٠٥ / ٣٤٨.

٢) سورة الحشر : ٥٩ / ٩.

٣) شواهد التنزيل / الحسكاني ٢ : ٢٤٧ / ٩٧١.

٤) شواهد التنزيل / الحسكاني ٢ : ٢٤٦ / ٩٧٠. وأمالي الطوسي : ١٨٥ / ٣٠٩.

٥) إحقاق الحق ١٠ : ٤٠١ عن نزهة المجالس / الصفوري ٢ : ٢٢٦ ـ طبع القاهرة.

١٢٦

وجاء في ( بحار الأنوار ) أنها عليها‌السلام أهدت عقدها وجلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين عليهما‌السلام إلىٰ شيخ مسكين من مهاجرة العرب (١).

وليس ذلك ببعيد عن آل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين طبعوا علىٰ السخاء والكرم اقتداءً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد روي عن فاطمة عليها‌السلام أنها قالت : « قال لي أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إياك والبخل فإنّه عاهة لا تكون في كريم ، إياك والبخل فإنّه شجرة في النار ، وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها أدخله النار ، والسخاء شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها أدخله الجنة » (٢).

٥ ـ صبرها علىٰ المعاناة :

ونختم هذا الفصل ببيان بعض الصور من معاناة الزهراء عليها‌السلام وصبرها علىٰ الشدائد بقوة الايمان وعزيمة الاخلاص احتساباً لأجر الآخرة.

لقد تعرّضت الزهراء عليها‌السلام إلىٰ مزيد من الصعاب والأزمات في جميع مراحل حياتها ؛ ذلك لأنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون فاطمة عليها‌السلام رمزاً لفضيلة المرأة وقدوةً لكمالها الإنساني في مجتمع يسوم المرأة أنواع الظلم والكبت والقهر ، فالقدوة التي خلقها الله تعالىٰ للآخرة لا للدنيا ، لابد أن تكون محطة للمصائب والمحن والمعاناة ، وإلّا فكيف تعلّم غيرها درس المقاومة والصبر وتجاوز المصاعب والعقبات ؟ ومن هنا نجد أنّ الأنبياء والأوصياء والأئمة المعصومين ، كانوا أشدّ الناس محنةً وبلاءً ، لا امتحاناً وابتلاءً كما يفهمه البعض ، فإنّهم خارج دائرة التجربة والاختبار ؛ لأنّ الله

_______________________

١) بحار الأنوار ٤٣ : ٥٦ ـ ٥٧.

٢) دلائل الإمامة / الطبري : ٧٠ / ٩.

١٢٧

تعالىٰ اصطفاهم وفضلهم علىٰ العالمين.

ولقد أخبرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّها أكثر نساء المسلمين معاناة ورزية حيث روي عن عائشة : أنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة : « إنّ جبرئيل أخبرني أنّه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك ، فلا تكوني أدنىٰ امرأة منهن صبراً » (١).

وعانت الزهراء عليها‌السلام منذ صباها حيث فقدت أُمّها ، وما تلا ذلك من الأحداث القاسية والمصاعب الجمّة التي أشرنا إلىٰ بعضها في الفصل الأول ، وكان من أفدح المصائب التي منيت بها حبيبة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي فقدها لأبيها ، فهي البنت الوحيدة التي بقيت بعده ، وتحملت مرارة فراقه مع صنوف الاضطهاد والبلوىٰ ، فواجهت ذلك بعزم لا يلين صابرة محتسبة ، ثم كانت أول أهله لحوقاً به.

أمّا علىٰ صعيد حياتها الشخصية ، فقد عانت فاطمة عليها‌السلام صنوف المشاق والأذىٰ وقلّة ذات اليد وجشوبة العيش ، علىٰ الرغم من أنّها كانت علىٰ مرأىٰ ومسمع من أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان بامكانه أن يجعل لها بيتاً مرموقاً وحياة مرفّهة وعيشاً رغيداً ، لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبىٰ إلّا أن يكون القائد الرسالي الذي يفضّل سدّ حاجات أهل الصفّة وفقراء المسلمين علىٰ أن يعطي ابنته الوحيدة جارية تخدمها أو شيئاً من الحطام الزائل ، وذلك لكي تكون مثالاً كاملاً لشخصه العظيم في الزهد عن الدنيا وتحمل المشاق ورفض الملاذ ، وتكون المرأة النموذج في الإسلام ، تعاني ما يعانين من ألم التنور ومشقة الطحن بالرحىٰ وقمّ البيت وتربية الأولاد وغيرها ، فضلاً عن قيامها بمسؤولياتها العبادية وأدائها لدورها الرسالي في داخل البيت وخارجه باعتبارها سيدة نساء

_______________________

١) فتح الباري / ابن حجر ٨ : ١١١.

١٢٨

العالمين وقدوتهنّ.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ فاطمة كانت حاملاً ، فكانت إذا خبزت أصاب حرف التنور بطنها ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسأله خادماً فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أعطيك وأدع أهل الصفّة تطوىٰ بطونهم من الجوع. وعلّمها التسبيحات » (١).

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتسب لها في ذلك مزيداً من الفضل والزلفىٰ في الآخرة ، فهو القائل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما لآل محمد وللدنيا فإنّهم خلقوا للآخرة ، وخلقت الدنيا لغيرهم » (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ هؤلاء أهل بيتي ولا أُحبُّ أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا » (٣).

ولذلك روي أنّها عليها‌السلام لما مضت إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرت حالها ، وسألت الجارية ، بكىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا فاطمة ، والذي بعثني بالحق ، إنّ في المسجد أربعمائة رجل مالهم طعام ولا ثياب ، ولولا خشيتي خصلة لأعطيتك ما سألت.

يا فاطمة ، إنّي لا أُريد أن ينفكّ عنك أجرك إلىٰ الجارية ، وإنّي أخاف أن يخصمك علي بن أبي طالب يوم القيامة بين يدي الله إذا طلب حقّه منك » ثم علّمها التسبيح. فقال علي عليه‌السلام : « مضيت تريدين من رسول الله الدنيا ، فأعطانا الله ثواب الآخرة » (٤).

وكلّما ازدادت معاناة الزهراء عليها‌السلام فإنّها تحمد الله علىٰ نعمائه وتقيم الشكر علىٰ آلائه ، عن جابر الأنصاري رضي‌الله‌عنه أنّه قال : رأىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة

_______________________

١) حلية الأولياء / أبو نعيم ٢ : ٤١. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٥.

٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣.

٣) مسند أحمد ٥ : ٢٧٥. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٣. وكشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٥١. وذخائر العقبى : ٥٢. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٦.

٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤١.

١٢٩

وعليها كساء من أوبار الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « يا بنتاه ، تعجّلي ـ أو تجرّعي ـ مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة » ـ وفي حديث : « اصبري علىٰ مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً » ـ فقالت : « يا رسول الله ، الحمد لله علىٰ نعمائه ، والشكر لله علىٰ آلائه » ، فأنزل الله تعالىٰ : ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ) (١).

وعندما تكون الزهراء عليها‌السلام في موقع الخيار بين الدنيا والآخرة ، فإنّها لا تتوانىٰ في اختيار ما عند الله سبحانه علىٰ حطام الدنيا الفانية علىٰ الرغم من الخصاصة وشدة الحاجة ، وضيق العيش.

عن سويد بن غفلة ، قال : أصابت عليّاً عليه‌السلام خصاصة ، فقال لفاطمة عليها‌السلام : « لو أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألتيه ؟ فأتته... فقالت : يا رسول الله ، هذه الملائكة طعامها التهليل والتسبيح والتحميد ، فما طعامنا ؟ » قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « والذي بعثني بالحقّ ، ما اقتبس في بيت آل محمد نار منذ ثلاثين يوماً ، ولقد أتتنا أعنز ، فإن شئت أمرنا لك بخمسة أعنز ، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبرئيل » فقالت : « بل علمني الخمس كلمات التي علمكهنّ جبرئيل ». قال : « قولي : يا أول الأولين ، ويا آخر الآخرين ، ويا ذا القوة المتين ، ويا راحم المساكين ، ويا أرحم الراحمين » فانصرفت فدخلت علىٰ عليّ عليه‌السلام فقال : « ما وراءك ؟ » فقالت : « ذهبت من عندك للدنيا ، وأتيتك بالآخرة » فقال : « خير أيامك » (٢).

_______________________

١) سورة الضحىٰ : ٥. والحديث في الدر المنثور / السيوطي ٨ : ٥٤٣. ومسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٥٨ عن ابن النجار وابن مردويه والديلمي. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٦٤. والمناقب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣٤٢. وكنز العمال ١٢ : ٤٢٢ / ٣٥٤٧٥. ومجموعة ورّام ٢ : ٢٣٠ ، مكتبة الفقيه ـ قم.

٢) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٤ و ٢٤. ودعوات الراوندي : ٤٧ / ١١٦.

١٣٠

قال الحرّ العاملي رحمه‌الله في منظومته :

طلّقت الدنيا كفعل بعلها

واشتغلت عنها بحسن فعلها

لا تعرف اللذات والتنعّما

والحلي واللبس عُلاً وكرما (١)

ولقوة صبر الزهراء عليها‌السلام المستمدّ من قوة إيمانها وتعلّقها العجيب بالله عزّ وجلّ ، لم يشكّل بيتها الطاهر بأثاثه البسيط جداً جزءاً من المعاناة النفسية التي تترك آثارها السيئة في نفوس النساء عادة ، بل كانت تفيض حبّاً وحناناً وبشاشةً تغمر فيها عليّاً والسبطين عليهم‌السلام بما يجعل من فراشهم وهو جلد كبش أرقّ من الحرير ، وأما المعاناة الجسدية فهي معاناة طبيعية كانت تبثها الزهراء عليها‌السلام إلىٰ أبيها العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحيلها إلىٰ الصبر زاداً ووقاءً.

عن أنس ، قال : جاءت فاطمة عليها‌السلام إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : « يا رسول الله ، إنّي وابن عمي مالنا فراش إلّا جلد كبش ننام عليه ، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار ». فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بنية اصبري ، فإنّ موسىٰ بن عمران أقام مع امرأته عشر سنين مالها فراش إلّا عباءة قطوانية » (٢).

وعن علي عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : « وعلينا قطيفة إذا لبسناها طولاً خرجت منها جنوبنا ، وإذا لبسناها عرضاً خرجت رؤوسنا وأقدامنا » (٣).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : « أنّهما كانا يتغطيان في قطيفة ، إذا غطيا رؤوسهما انكشفت أقدامهما ، وإذا غطيا أقدامهما انكشفت رؤوسهما » (٤).

وجاء في كتاب ( زهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) لابن بابويه أنّ سلمان رضي‌الله‌عنه بكىٰ حينما

_______________________

١) تراجم أعلام النساء / الأعلمي ٢ : ٣١٣ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.

٢) إحقاق الحقّ ١٠ : ٤٠٠ عن السيرة النبوية / دحلان ٢ : ١٠ ـ القاهرة.

٣) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٢.

٤) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ١٠٨.

١٣١

رأىٰ فاطمة عليها‌السلام قد خرجت إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشملة لها خلقة ، قد خيطت في عدّة مواضع ، فلما دخلت علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : « يا رسول الله ، إنّ سلمان تعجب من لباسي ، فو الذي بعثك بالحق مالي ولعليّ منذ خمس سنين إلّا مسك كبش نعلف عليه بالنهار بعيرنا ، فإذا كان الليل افترشناه ، وإن مرفقتنا لمن أدم حشوها ليف ». فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا سلمان ، إنّ ابنتي لفي الخيل السوابق » (١).

وصبرت الزهراء عليها‌السلام علىٰ الجوع الذي نال منها حتىٰ غارت عيناها وغلبت الصفرة علىٰ وجهها ، ولصق بطنها بظهرها ، فحظيت بعناية الله سبحانه حيث كثّر الطعام في بيتها ، وأنزل عليها رزقاً من السماء كما قدّمنا ، وحظيت بعناية أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دعا لها بإذهاب الجوع عنها.

عن عمران بن حصين ، قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالساً إذ أقبلت فاطمة عليها‌السلام فوقفت بين يديه ، فنظر إليها وقد غلبت الصفرة علىٰ وجهها ، وذهب الدم من شدة الجوع ، فقال : « ادني يا فاطمة » فدنت ، ثم قال : « ادني يا فاطمة » فدنت حتىٰ وقفت بين يديه ، فوضع يده علىٰ صدرها في موضع القلادة ، وفرّج بين أصابعه ، ثم قال : « اللهمّ مشبع الجاعة ورافع الوضعة ، لاتجع فاطمة بنت محمد » فغلب الدم علىٰ وجهها ، وذهبت تلك الصفرة (٢).

وجاء في ( تذكرة الخواص ) لسبط ابن الجوزي أنّه حينما تصدّقت عليها‌السلام علىٰ المسكين واليتيم والأسير ، دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي قائمة في محرابها ، ولقد لصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها من شدة الجوع. فقال

_______________________

١) الدروع الواقية / ابن طاووس : ٢٧٥. وبحار الأنوار ٤٣ : ٨٨ / ٩.

٢) نظم درر السمطين / الزرندي : ١٩١ مطبعة القضاء ـ النجف. وأخرج الشيخ الكليني عن جابر بن عبدالله الأنصاري نحوه في الكافي ٥ : ٥٢٨ ـ ٥٢٩ / ٥.

١٣٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « واغوثاه بالله ، آل محمد يموتون جوعاً ! » فهبط جبرئيل عليه‌السلام وهو يقرأ ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ) الآية (١).

وعن عمران بن حصين ، قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد فاطمة عليها‌السلام وهي مريضة ، فقال : « كيف تجدينك يا بنية ؟ » قالت : « إنّي لوجعة ، وإنّه ليزيدني وجعاً ، أنه ليس لي طعام آكله » فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا بنية ، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين ؟ » (٢).

ولم تجزع الزهراء عليها‌السلام يوماً قطّ مما تعانيه من أُمور الدنيا ، ولم تتذمّر يوماً قط بوجه أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، ولم تكلّفه فوق طاقته حياءً من الله سبحانه ، بل كانت تؤثره علىٰ نفسها وعلىٰ ابنيها ، وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يبادلها المثل ، وربما أرسلها ـ رأفةً بحالها ـ إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستطعمه.

عن أبي سعيد ، قال : أصبح علي عليه‌السلام ذات يوم فقال : « يا فاطمة ، هل عندك شيء تغدّينيه ؟ » قالت : « لا والذي أكرم أبي بالنبوة ما عندي شيء أغدّيكم ، ولا كان لنا بعدك شيء منذ يومين نطعمه ، إلّا شيء أُوثرك به علىٰ بطني وعلىٰ ابني هذين ».

قال : « يا فاطمة ، ألا أعلمتني حتىٰ أبغيك شيئاً ! » قالت : « إنّي استحي من الله أن أُكلفك ما لا تقدر عليه » فخرج من عندها واثقاً بالله وحسن الظنّ به واستقرض ديناراً... الحديث (٣) ، وفيه تكثير الطعام لأهل البيت عليهم‌السلام في بيت الزهراء عليها‌السلام بفضل من الله تعالىٰ ورحمته.

_______________________

١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣١٥.

٢) الاستيعاب / ابن عبدالبر ٤ : ٣٧٥. والمناقب / ابن المغازلي : ٣٩٨ / ٤٥٢. وحلية الأولياء ٢ : ٤٢. ونظم درر السمطين / الزرندي : ١٧٩. وإتحاف السائل / المناوي : ٧٧.

٣) فضائل فاطمة عليها‌السلام / ابن شاهين : ٣٦. وتفسير فرات الكوفي : ٨٣ ـ طهران. وكشف الغمة ١ : ٤٦٩. وأمالي الطوسي : ٦١٥ / ١٢٧٢. وذخائر العقبىٰ : ٤٥ ـ ٤٦. وكفاية الطالب : ٣٦٧.

١٣٣

وعن محمد بن كعب القرظي ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في خطبةٍ له بأهل العراق ـ قال : « قد رأيتني مكثت ثلاثة أيام من الدهر ما أجد شيئاً آكله حتىٰ خشيت أن يقتلني الجوع ، فأرسلت فاطمة إلىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستطعمه لي. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بنية ، والله ما في البيت طعام يأكله ذو كبد إلّا ماترين ـ لشيء قليل بين يديه ـ ولكن ارجعي فسيرزقكم الله ، فلمّا جاءتني فأخبرتني انفلتّ وذهبت حتىٰ آتي بني قريظة ، فإذا يهودي علىٰ شقّة بئر ، فقال : يا عربي هل لك أن تستقي لي نخلي كلّ دلو بتمرة ، فجعلت أنزع ، فكلّما نزعت دلواً أعطاني تمرةً ، حتىٰ إذا امتلأَت يدي من التمر قعدت فأكلت وشربت من الماء ، ثم قلت : يالك بطناً ، لقد لقيت اليوم ضراً ! ثمّ نزعت مثله لابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ انفلتّ راجعاً... » (١) الحديث.

وعن أسماء بنت عميس ، عن فاطمة عليها‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاها يوماً فقال : أين ابناي ـ يعني حسناً وحسيناً ـ. قالت : أصبحنا وليس في بيتنا شيء يذوقه ذائق ، فقال علي عليه‌السلام : أذهب بهما ، فإني أتخوف أن يبكيا عليك ، وليس عندك شيء » (٢).

_______________________

١) مسند فاطمة عليها‌السلام / السيوطي : ٩٦.

٢) المعجم الكبير / الطبراني ٢٢ : ٤٢٢ / ١٠٤٠. وذخائر العقبىٰ : ٤٩ / ٥١٠٤.

١٣٤

الفصل الثالث

الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ ما تعرّضت له وحيدة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبيبته وأعزّ الناس عليه بعد رحيله إلىٰ رضوان ربه ورحمته ، يعتبر الحلقة الاُولىٰ من مسلسل التآمر علىٰ عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتمثل في اغتصاب حقّهم ـ الذي سطّرته السماء لهم ، باعتبارهم ورثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياءه وولاة الأمر من بعده ـ والاستغناء عنهم في المشورة ، مع شدّة الوطأة عليهم في أمر البيعة ، واهتضام حقوقهم سواءً كانت نحلةً أو إرثاً أو فيئاً أو خمساً ، وسوقهم مع سائر الرعايا بعصا واحدة ، هذا والجرح لمّا يندمل والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا يجفّ تراب رمسه الشريف المطهّر.

ولم تنته تلك المؤامرة بقتل الحسن والحسين عليهما‌السلام سيدي شباب أهل الجنة ، وقتل أولادهم وسبي ذراريهم ، وتتبّع شيعتهم ومحبيهم وأتباعهم تحت كل حجر ومدر ، بل لازالت متواصلة الفصول تفعل فعلتها في استهداف الخطّ الرسالي الأصيل وعزله عن أداء دوره في بناء الإنسان والمجتمع.

ولقد أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحصول كلّ هذا من بعده فقال : « إن أهل بيتي

١٣٥

سيلقون من بعدي من أُمّتي قتلاً وتشريداً » (١) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّكم المقهورون والمستضعفون من بعدي » (٢) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنته الزهراء عليها‌السلام وهو في مرض الموت « إنّ جبرئيل أخبرني أنّه ليس امرأة من نساء المسلمين أعظم رزية منك » (٣).

فليته يرىٰ بضعته الصديقة الطاهرة وسيدة عترته ، كيف تعرضت لموت بطيء وهي مكلومة الفؤاد قريحة العين منهدّة القوىٰ ، قد أغار أصحابه علىٰ منزلها يحشّون الحطب ويذكون النار في بابها ، وهي تبكي وتستغيث : « يا أبتِ يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة » (٤).

ولم يقف الأمر إلىٰ هذا الحدّ ، بل إنّهم سلبوها نحلتها ومنعوها إرثها وإرث عميد بيتها أمير المؤمنين عليه‌السلام وارث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيه وولي المؤمنين من بعده ، حتىٰ ودّعت الحياة وهي غضبىٰ علىٰ أُمّة تكالبت علىٰ تراث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في المحتضر ، متجاهلة كلّ نصّ ووصية ، متنكرةً لتعاليم السماء ووحيها ووصايا نبيها. وهكذا انقلبت علىٰ عقبيها كما يرشدنا إلىٰ ذلك قول الله العظيم : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ) (٥).

ولاريب أنّ موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس موتاً لمبادئه ووصاياه ، فمن ينقلب

_______________________

١) كنز العمال ١١ : ١٦٩ / ٣١٠٧٤ عن أبي سعيد الخدري.

٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ٨ : ٢٧٨. ومسند أحمد ٦ : ٣٣٩.

٣) فتح الباري / ابن حجر ٨ : ١١١. ومجمع الزوائد / الهيثمي ٩ : ٢٣.

٤) الإمامة والسياسة : ١٣. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٥.

٤) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

١٣٦

علىٰ تلك المبادىء والوصايا بمجرد موته ، فهو بمثابة من أنكر نبوته وكذّب وحيه.

ولقد سجّل بعض الصحابة أرقاماً فاقت حدّ التصور في الإحداث والانقلاب بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا مصاديق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليردنّ عليّ الحوض رجالٌ ممّن صحبني ورآني ، حتىٰ إذا رفعوا إليّ ورأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولنّ : ربّ أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، انهم ارتدوا علىٰ أعقابهم القهقري » ، وفي لفظ آخر : « فيقال : إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدين علىٰ أعقابهم منذ فارقتهم » (١).

ويؤكد انقلابهم علىٰ أعقابهم ما أخرجه الواقدي ومالك من حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين صلّىٰ علىٰ شهداء أُحد فقال : « أنا علىٰ هؤلاء شهيد ». فقال أبو بكر : ألسنا يا رسول الله بإخوانهم ، أسلمنا كما أسلموا ، وجاهدنا كما جاهدوا ؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بلىٰ ، ولكن لا أدري ما تُحدِثون بعدي » (٢).

وهكذا كان عميد البيت النبوي وسيدته سيدة نساء العالمين عليهما‌السلام الضحية الاُولىٰ لاُولئك المُحدِثين والمنقلبين ، لأنّهما القطب الذي تدور عليه المعارضة والوجه الذي يحاكي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خُلقاً وأخلاقاً ومنطقاً وهدياً ، ويذكّر الاُمّة بسنته وكتاب ربّه ، فضلاً عن أنّ الزهراء عليها‌السلام تمثل أحد الجناحين اللذين يطير بهما وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام وأحد

_______________________

١) مسند أحمد ٣ : ١٤٠ و ٢٨١ و٥ : ٤٨ و ٥٠ و ٣٣٣ و ٣٨٨ و ٤٠٠. وراجع صحيح البخاري ٦ : ١٠٨ / ١٤٧ و ١٧٩ / ٢٦١ ـ كتاب التفسير و ٨ : ١٩٦ / ١١٣ و ٢١٤ / ١٥٧ و ٢١٦ / ١٦٣ ـ ١٦٦ ـ كتاب الرقاق و ٩ : ٨٣ / ٢ ـ كتاب الفتن. وصحيح مسلم ٤ : ١٧٩٤ / ٢٨ و ١٧٩٥ / ٢٩ و ١٧٩٦ / ٣٢ و ١٨٠٠ / ٤٠ ـ كتاب الفضائل.

٢) المغازي / الواقدي ١ : ٣١٠. والموطأ / مالك ٢ : ٤٦٢ / ٣٢ ـ كتاب الجهاد.

١٣٧

الركنين اللذين يستند إليهما ، فركن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وركن فاطمة الصديقة الطاهرة عليها‌السلام.

عن جابر ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي عليه‌السلام قبل موته بثلاث : « سلام الله عليك يا أبا الريحانتين ، أوصيك بريحانتي من الدنيا خيراً ، فعن قليل ينهدّ ركناك ، والله خليفتي عليك ».

قال : فلمّا قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال علي عليه‌السلام : « هذا أحد ركني الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » فلمّا ماتت فاطمة عليها‌السلام قال علي عليه‌السلام : « هذا الركن الثاني الذي قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

ومن هنا نجد في الروايات أنّه ما بايع أمير المؤمنين عليه‌السلام حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام ، وكان له وجه في الناس طيلة حياتها ، روىٰ الزهري عن عائشة ، أنها قالت : كان لعلي عليه‌السلام من الناس وجه في حياة فاطمة عليها‌السلام ، فلمّا توفيت فاطمة عليها‌السلام انصرفت وجوه الناس عنه عند ذلك.

وقيل للزهري : فلم يبايعه عليّ حتىٰ ماتت فاطمة عليها‌السلام ؟ قال : ولا أحد من بني هاشم حتىٰ بايعه علي عليه‌السلام (٢).

ولقد شاءت الارادة الالهية أن تكون مظلومية الزهراء عليها‌السلام مصداقاً حيّاً وناطقاً إلىٰ الأبد لذلك الانقلاب الخطير الذي تغشّىٰ الاُمّة بعد وفاة

_______________________

١) فضائل الصحابة / أحمد بن حنبل ٢ : ٦٢٣ / ١٠٦٧. وحلية الأولياء / أبو نعيم ٣ : ٢٠١. والمناقب / الخوارزمي : ٨٥. ومقتل الحسين / الخوارزمي ١ : ٦٣. وذخائر العقبىٰ : ٥٦. وكنز العمال ١١ : ٦٢٥ / ٣٣٠٤٤.

٢) سنن البيهقي ٦ : ٣٠٠. وشرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٦. وراجع صحيح البخاري ٥ : ٢٨٨ / ٢٥٦ ـ كتاب المغازي ـ باب غزوة خيبر. وصحيح مسلم ٣ : ١٣٨٠ / ٥٢ ـ كتاب الجهاد والسير.

١٣٨

نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة ، فكلّما قرأت الأجيال المتعاقبة عن المصائب التي جرت علىٰ بضعة المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحبّ الناس إليه بعين الانصاف تتجلّىٰ لها كثير من الحقائق المؤلمة التي تعتصر لها القلوب أسىً وحزناً ، وتفيض لها العيون دماً !!

قالت عليها‌السلام وهي تندب أباها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

قل للمغيب تحت أطباق الثرىٰ

إن كنت تسمع صرختي وندائيا

صُبّت عليّ مصائب لو أنّها

صُبّت علىٰ الأيام صِرن لياليا

قد كنت ذات حمىً بظلِّ محمدٍ

لا أختشأي ضيماً وكان جماليا

فـاليوم أخشع للذليل وأتقي

ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنسي

ولأجعلنّ الدمع فيك وشاحيا (١)

وفي ما يلي ثلاثة مباحث تعكس لنا صوراً من حياة الزهراء عليها‌السلام ومواقفها منذ وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتىٰ وفاتها سلام الله عليها :

المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراء عليها‌السلام.

المبحث الثاني : مواقف الزهراء عليها‌السلام بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المبحث الثالث : وفاتها عليها‌السلام ومدّة بقائها بعد أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

_______________________

١) المناقب / ابن شهرآشوب ١ : ٢٤٢. ومقتل الحسين عليه‌السلام / الخوارزمي ١ : ٨٠. ونور الأبصار / الشبلنجي : ٥٣. والسيرة النبوية / دحلان ٣ : ٣٦٥. واتحاف السائل : ١٠٣. وأعيان الشيعة ١ : ٣٢٣. والغدير ٥ : ١٤٧ و ٦ : ١٦٥. وأعلام النساء / كحالة ٤ : ١١٣.

١٣٩

المبحث الأول : انقلاب الاُمّة ومنع حقوق الزهراء عليها‌السلام:

أول بوادر الانقلاب :

لقد سجّل بعض الصحابة أول بادرة للانقلاب في حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يوم الخميس ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّىً قد اشتدّ به الوجع ، فكانت الرزية ، قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : لمّا اشتد بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي مات فيه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ائتوني بدواةٍ وقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي ». فقال عمر : إنّ رسول الله قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله ـ وفي لفظ آخر : ما شأنه أهجر ، استفهموه ! ـ فاختلف القوم واختصموا ، فمنهم من يقول : القول ما قال رسول الله ، ومنهم من يقول : القول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم : « قوموا عني ، لا ينبغي عندي التنازع ».

قال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم (١).

فقدموا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (٢) وأكثروا اللغط في حضرته وقد قال

_______________________

١) صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ و١٢٥٩ / ٢٢ ـ كتاب الوصية. وصحيح البخاري ١ : ٦٥ / ٥٥ ـ كتاب العلم ، و ٦ : ٢٩ / ٤٢٢ و ٤٢٣ ـ كتاب المغازي ، و ٧ : ٢١٩ / ٣٠ ـ كتاب المرض ، و٩ : ٢٠٠ / ١٣٤ ـ كتاب التوحيد. ومسند أحمد ١ : ٢٢٢ و ٣٢٤ و ٣ : ٣٤٦. ومسند أبي يعلىٰ ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩. والبداية والنهاية ٥ : ٢٠٠. وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٣. وتاريخ ابن خلدون ٢ : ٤٨٥. والملل والنحل / الشهرستاني ١ : ١٤ ـ المقدمة الرابعة. وشرح ابن أبي الحديد ٢ : ٥٥ و ٦ : ٥١ ، وقال : اتفق المحدثون كافة علىٰ روايته.

٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ١.

١٤٠