النّهاية

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

النّهاية

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٩

محمول على الاستحباب.

وإذا وهبت المرأة لزوجها شيئا ، كان ذلك ماضيا. فإن أعطتا شيئا ، وشرطت له الانتفاع به ، جاز له ذلك ، وكان حلالا له التّصرف فيه ، والرّبح له. ويكره له أن يشتري بذلك المال جارية يطأها ، لأنّ ذلك يرجع بالغمّ على زوجته التي أعطته المال. فإن أذنت له في ذلك ، لم يكن به بأس.

باب التصرف في أموال اليتامى

لا يجوز التّصرّف في أموال اليتامى الّا لمن كان وليّا لهم أو وصيّا قد أذن له في التّصرّف في أموالهم. فمن كان وليّا يقوم بأمرهم ويجمع أموالهم وسدّ خلّاتهم وجمع غلّاتهم ومراعاة مواشيهم ، جاز له حينئذ أن يأخذ من أموالهم قدر كفايته وحاجته من غير إسراف ولا تفريط.

ومتى اتّجر الإنسان بمال اليتيم نظرا لهم وشفقة عليهم ، فربح ، كان الرّبح لهم ، وإن خسر ، كان عليهم. ويستحبّ له أن يخرج من جملته الزّكاة ، ومتى اتّجر به لنفسه ، وكان متمكّنا في الحال من ضمان ذلك المال وغرامته ، إن حدث به حادث ، جاز ذلك ، وكان المال قرضا عليه. فإن ربح ، كان له. وإن خسر ، كان عليه ، وتلزمه في حصته الزّكاة ، كما يلزمه لو كان المال له ، ندبا واستحبابا. ومتى اتجر لنفسه

٣٦١

بمالهم ، وليس بتمكّن في الحال من مثله وضمانه ، كان ضامنا للمال. فإن ربح ، كان ذلك للأيتام. وإن خسر ، كان عليه دونهم.

ومتى كان لليتامى على إنسان مال ، جاز لوليّهم أن يصالحه على شي‌ء يراه صلاحا في الحال ويأخذ الباقي ، وتبرأ بذلك ذمّة من كان عليه المال.

وإذا كان لإنسان على غيره مال ، ومات ، جاز لمن عليه الدّين أن يوصله إلى ورثته ، وإن لم يذكر لهم : أنّه كان عليه دينا ، ويجعل ذلك على جهة الصّلة لهم والجائزة ، ويكون فيما بينه وبين الله تعالى غرضه فكاك رقبته ممّا عليه.

والمتولّي للنّفقة على اليتامى ، ينبغي أن يثبت على كلّ واحد منهم ، ما يلزمه عليه من كسوته بقدر ما يحتاج إليه. فأما المأكول والمشروب فيجوز أن يسوّى بينهم. ومتى أراد مخالطتهم بنفسه وأولاده ، جعلهم كواحد من أولاده ، وينفق من ماله بقدر ما ينفق من مال نفسه ، ولا يفضّله في ذلك على نفسه وأولاده ، بل يفضّل نفسه عليه ، فإن ذلك أفضل له.

والمتولّي لأموال اليتامى ، والقيّم بأمورهم ، يستحقّ أجرة مثله ، فيما يقوم به من مالهم ، من غير زيادة ولا نقصان فإن نقص نفسه ، كان له في ذلك فضل وثواب. وإن لم يفعل كان له المطالبة باستيفاء حقّه من أجرة المثل. فأما الزيادة ،

٣٦٢

فلا يجوز له أخذها على حال.

باب المكاسب المحظورة والمكروهة والمباحة

كلّ شي‌ء أباحه الله تعالى ، أو ندب إليه ورغّب فيه ، فالاكتساب به والتّصرّف فيه ، حلال جائز سائغ من صناعة وتجارة وغيرهما.

وكلّ شي‌ء حرمة الله تعالى وزهّد فيه ، فلا يجوز التكسّب به ولا التصرّف فيه على حال.

فمن المحرّمات الخمر. فالتّصرّف فيها حرام على جميع الوجوه ، من البيع والشّراء والهبة والمعاوضة والحمل لها والصنعة لها وغير ذلك من أنواع التّصرّف.

ومن ذلك لحم الخنزير. فبيعه وهبته وأكله حرام. وكذلك كلّ ما كان من الخنزير من شعر وجلد وشحم وغير ذلك.

ومنها عمل جميع أنواع الملاهي والتّجارة فيها والتكسّب بها ، مثل العيدان والطنابير وغيرهما من أنواع الأباطيل ، محرّم محظور. وعمل الأصنام والصلبان والتّماثيل المجسّمة والصّور والشّطرنج والنّرد وسائر أنواع القمار حتى لعب الصّبيان بالجوز ، فالتّجارة فيها والتّصرّف والتكسّب بها حرام محظور.

٣٦٣

وكلّ شراب مسكر حكمه حكم الخمر على السّواء ، قليلا كان أو كثيرا. وكذلك حكم الفقّاع حكمه ، فإنّ شربه وعمله والتّجارة فيه والتّكسّب به حرام محظور.

وكلّ طعام أو شراب حصل فيه شي‌ء من الأشربة المحظورة أو شي‌ء من المحظورات والنّجاسات ، فإنّ شربه وعمله والتّجارة فيه والتّكسّب به والتّصرف فيه حرام محظور.

وجميع النّجاسات محرّم التّصرّف فيها والتّكسّب بها على اختلاف أجناسها ، من سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما ، إلّا أبوال الإبل خاصّة ، فإنّه لا بأس بشربه والاستشفاء به عند الضّرورة.

وبيع الميتة والدّم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والتّصرّف فيه والتّكسّب به حرام محظور. وبيع سائر المسوخ وشراؤها والتّجارة فيها والتّكسّب بها محظور ، مثل القردة والفيلة والدّببة وغيرها من أنواع المسوخ.

والرّشا في الأحكام سحت.

وكذلك ثمن الكلب إلّا ما كان سلوقيّا للصّيد ، فإنّه لا بأس ببيعه وشرائه وأكل ثمنه والتّكسّب به. وبيع جميع السّباع والتّصرّف فيها والتّكسّب بها محظور ، إلّا الفهود خاصّة فإنّه لا بأس بالتّكسّب بها والتّجارة فيها ، لأنها تصلح للصّيد. ولا بأس بشري الهرّ وبيعه وأكل ثمنه. وبيع الجرّيّ والمارماهي

٣٦٤

والطّافي. وكلّ سمك لا يحل أكله ، وكذلك الضّفادع والسّلاحف ، وجميع ما لا يحلّ أكله ، حرام بيعه والتّكسّب به والتّصرّف فيه.

ومعونة الظّالمين وأخذ الأجرة على ذلك محرّم محظور. وكلّ شي‌ء غشّ فيه ، فالتّجارة فيه والتّكسّب به بالبيع والشّراء وغير ذلك حرام محظور. وتعليم ما حرّمه الله تعالى وتعلّمه ، وأخذ الأجرة على ذلك ، محظور في شريعة الإسلام. ومعالجة الزّينة للرّجال بما حرّمه الله عليهم حرام. وبيع السّلاح لسائر الكفّار وأعداء الدّين حرام ، وكذلك عمله لهم ، والتّكسّب بذلك ، ومعونتهم على قتال المسلمين وأخذ الأجرة على ذلك حرام.

وكسب المغنّيات وتعلّم الغناء حرام. وكسب النّوائح بالأباطيل حرام. ولا بأس بذلك على أهل الدّين بالحقّ من الكلام.

وأخذ الأجرة على غسل الأموات وحملهم ومواراتهم حرام ، لأنّ ذلك فرض على الكفاية على أهل الإسلام. وأخذ الأجر على الأذان والصّلاة بالنّاس حرام.

والتّكسّب بحفظ كتب الضّلال ، ونسخه حرام محظور. والتّكسّب بهجاء أهل الإيمان حرام. ولا بأس بهجاء أهل الضّلال وأخذ الأجر على ذلك. وكسب الزّانية ومهور البغايا محرّم محظور. وتعلّم السّحر وتعليمه والتكسّب به وأخذ

٣٦٥

الأجرة عليه حرام محظور. وكذلك التكسب بالكهانة والقيافة والشعبذة وغير ذلك محرّم محظور.

ولا يجوز التّصرّف في شي‌ء من جلود الميتة ولا التكسّب بها على حال.

وأمّا ما هو مباح ، فمن ذلك إذا أعطى الإنسان غيره شيئا ليضعه في الفقراء وكان هو محتاجا إلى شي‌ء من ذلك ، جاز له أن يأخذ منه مثل ما يعطي غيره ، ولا يفضّل نفسه على أحد إلّا أن يفضّله صاحب المال. وإن أمر صاحب المال أن يضعه في مواضع مخصوصة ، لم يجز له أن يتعدّى ما أمره به على حال.

ولا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السّلاح لأهل الكفر مثل الدّروع. والخفاف. وتجنّب ذلك أفضل على كلّ حال.

وكسب المواشط حلال ، إذا لم يغشن ولا يدلّسن في عملهنّ : فيصلن شعر النّساء بشعر غيرهنّ من النّاس ، ويوشمن الخدود ويستعملن ما لا يجوز في شريعة الإسلام. فإن وصلن شعورهنّ بشعر غير النّاس ، لم يكن بذلك بأس.

وكسب القابلة حلال. وكسب الحجّام حلال ، ويكره له أن يشرط. وينبغي لذوي المروّة أن ينزّه نفسه عن أكل كسب الحجّام. فإن كان له غلام ذلك صنعته وكسبه ، فلا يأكل هو من كسبه ، ويعطيه غيره. وليس ذلك بمحظور.

وكسب صاحب الفحل من الإبل والبقر والغنم إذا أقامه

٣٦٦

للنتاج ، ليس به بأس ، وتركه أفضل.

ويكره أخذ الأجرة على تعليم شي‌ء من القرآن ، وكذلك على نسخ المصاحف ، وليس ذلك بمحظور. وإنما يكره ذلك إذا كان هناك شرط. فإن لم يكن هناك شرط ، لم يكن به بأس ولا بأس بأخذ الأجر على تعليم الحكم والآداب ، وعلى نسخها وتخليدها الكتب. وينبغي للمعلّم أن يسوّي بين الصّبيان في التّعليم والأخذ عليهم ، ولا يفضّل بعضهم في ذلك على بعض.

ولا بأس بأخذ الأجر والرّزق على الحكم والقضاء بين النّاس من جهة السّلطان العادل حسب ما قدّمناه. فأمّا من جهة سلطان الجور ، فلا يجوز إلّا عند الضّرورة أو الخوف على ما قدّمناه. والتّنزّه عن أخذ الرّزق على ذلك في جميع الأحوال أفضل.

ولا بأس بأخذ الأجر على نسخ كتب العلوم الدّينيّة والدنيويّة. ولا يجوز نسخ كتب الكفر والضّلال وتخليدها إلّا ثبات الحجج بذلك على الخصم أو النّقض له. ولا بأس بمدائح أهل الإيمان وأخذ الأجر على ذلك بالصّدق من الأقوال. ولا بأس بأخذ الأجر على الخطب في الاملاكات وعقود النكاح.

ولا بأس بأجر المغنّية في الأعراس ، إذا لم يغنّين بالأباطيل ولا يدخلن على الرّجال ولا يدخل الرّجال عليهنّ. ولا بأس بأخذ الأجر على ختن الرّجال وخفض الجواري.

٣٦٧

ويكره من المكاسب مباشرة الصّروف ، لأنّ صاحبها لا يكاد يسلم من الرّبا. ويكره بيع الأكفان ، لأنّ صاحبها لا يسلم من تمنيّ موت الأحياء. ويكره بيع الطّعام ، لأنّه لا يسلم معه من الاحتكار. ويكره بيع الرّقيق وشراؤهم. وكذلك يكره صنعة الذّبح والنّحر ، لأنهما يسلبان الرّحمة من القلب. وكلّ ذلك ليس بمحظور ، إذا أدّى الإنسان فيه الأمانة ، واستعمل ما يسوغ في شرع الإسلام.

وكذلك كلّ صنعة من الصّنائع المباحة ، إذا أدّى فيها الأمانة ، لم يكن بها بأس. فإن لم يؤدّ فيها الأمانة أو لا يتمكّن معها من القيام بالواجبات وترك المقبّحات ، فلا يجوز له التعرّض لشي‌ء منها. ولا بأس بالحياكة والنّساجة ، والتّنزّه عنهما أفضل.

ولا بأس بشراء المصاحف وبيعها والتكسّب بها ، غير أنّه لا يجوز أن يبيع المكتوب ، بل ينبغي له أن يبيع الجلد والورق وأمّا غيرها من الكتب ، فلا بأس ببيعها وشرائها بالإطلاق وكسب الصّبيان من المماليك وغيرهم مكروه.

ومن جمع مالا من حلال وحرام ، ثمَّ لم يتميّز له ، أخرج منه الخمس ، وحلّ له الباقي. فإن تميّز له الحرام منه ، وجب عليه ردّه على صاحبه ، لا يسوغ له سواه. فإن لم يجده ردّه على ورثته. فإن لم يجد له وارثا ، تصدّق به عنه.

٣٦٨

ولا يجوز أخذ شي‌ء ، ممّا ينثر في الأعراس والإملاكات إلّا ما أعطي باليد أو علم من قصد صاحبه الإباحة لأخذه.

ولا بأس بأجر العقارات من الدّور والمساكن ، إلّا إذا عمل فيها شي‌ء من المحظورات والمحرّمات. وكذلك لا بأس بأجرة السّفن والحمولات ، إلّا ما علم أنّه يحمل فيها وعليها شي‌ء من المحرّمات. ولا بأس ببيع الخشب لمن يجعله صنما أو صليبا أو شيئا من الملاهي ، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك ، لا على الذي باع الآلة.

ولا بأس ببيع عظام الفيل والتكسّب بصنعته واتخاذ الأمشاط منها وغير ذلك. ولا بأس ببيع جلود السّباع ، مثل الفهد والأسد والنّمر وغير ذلك ، إذا كانت مذكّاة.

ولا يجوز بيع السّرقة والخيانة وشراؤهما ، إذا عرفهما الإنسان بعينهما. فإذا لم يعرفهما بعينهما ، لم يكن به بأس. ومن وجد عنده سرقة ، كان ضامنا لها ، إلّا أن يأتي على شرائها ببيّنة.

ولا بأس أن يشتري من السّلطان الإبل والغنم والبقر ، إذا أخذها من الصّدقة ، وإن لم يكن هو مستحقا لها. وكذلك الحكم في الأطعمة والحبوب.

ولا بأس بعمل الأشربة المباحة وأخذ الأجر عليها.

ويكره ركوب البحر للتّجارة. ولا يجوز سلوك طريق

٣٦٩

خطر مع ظهور أمارة الخوف فيها.

ولا بأس بأخذ الأجرة في النّيابة عن إنسان في وكالة بالشّري والبيع وغير ذلك. ولا يجوز لأجير الإنسان في وقت معلوم أن يعمل لغيره في ذلك الوقت عملا. فإن أذن له المستأجر في ذلك ، كان جائزا.

ولا يجوز بيع تراب الصّاغة. ومتى باعوه ، وجب عليهم أن يتصدّقوا بثمنه.

وإذا مزّ الإنسان بالثّمرة ، جاز له أن يأكل منها قدر كفايته ولا يحمل شيئا على حال.

ويكره للإنسان أن ينزّي الحمير على الدّواب ، وليس ذلك بمحظور.

ولا بأس أن يبذرق الإنسان القوافل ، ويأخذ على ذلك الأجر.

ومن آجر مملوكا له ، فأفسد المملوك شيئا ، لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، لكنّه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده.

ولا بأس ببيع جوارح الطّير كلّها وأخذ ثمنها والتكسّب بها بجميع الوجوه.

٣٧٠

كتاب المتاجر

باب آداب التجارة

ينبغي للإنسان إذا أراد التّجارة أن يبتدئ أوّلا ، فيتفقّه في دينه ، ليعرف كيفيّة الاكتساب ، ويميّز بين العقود الصّحيحة والفاسدة ، ويسلم من الرّبا الموبق ولا يرتكب المأثم من حيث لا يعلم به.

فإنّه روي عن أمير المؤمنين ، عليه‌السلام ، أنّه قال : « من اتّجر بغير علم ، ارتطم في الرّبا ثمَّ ارتطم ».

وكان ، عليه‌السلام ، يقول : « التّاجر فاجر ، والفاجر في النّار ، إلّا من أخذ الحقّ وأعطى الحقّ ».

وكان عليه‌السلام يقول : « معاشر النّاس! الفقه ثمَّ المتجر ، الفقه ثمَّ المتجر. والله للرّبا في هذه الأمّة أخفى من دبيب النّمل على الصّفا ».

وكان عليه‌السلام بالكوفة يغتدي كلّ يوم بكرة من القصر يطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا ، ومعه الدرّة على عاتقه ، فيقف على أهل كلّ سوق فينادي : « يا معشر التّجار!

٣٧١

اتّقوا الله عزوجل! » فإذا سمعوا صوته ألقوا ما في أيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم وتسمّعوا بآذانهم ، فيقول : « قدّموا الاستخارة ، وتبرّكوا بالسّهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزينوا بالحلم ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظّلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الرّبا ، و ( أوفوا الكيل والميزان ) ، ( ولا تبخسوا النّاس أشياءهم ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ». فيطوف جميع الأسواق ثمَّ يرجع فيقعد للنّاس.

وروي عن الصّادق ، عليه‌السلام ، أنّه قال : من لم يتفقّه في دينه ، ثمَّ اتّجر ، تورّط في الشّبهات ».

وينبغي أن يجتنب الإنسان في تجارته خمسة أشياء : مدح البائع ، وذمّ المشتري ، وكتمان العيوب ، واليمين على البيع ، والرّبا. ولا يجوز لأحد أن يغشّ أحدا من النّاس فيما يبيعه أو يشتريه. ويجب عليه النّصيحة فيما يفعله لكلّ أحد. وإذا قال إنسان للتّاجر : اشتر لي متاعا ، فلا يعطه من عنده ، وإن كان الذي عنده خيرا ممّا يجده ، إلّا بعد أن يبيّن أن ذلك من عنده ومن خاصّ ماله. ويجتنب بيع الثّياب في المواضع المظلمة التي يستر فيها العيوب.

وينبغي أن يسوي بين النّاس في البيع والشّراء. فيكون الصّبيّ عنده بمنزلة الكبير ، والسّاكت بمنزلة المماكس ، والمستحيي بمنزلة البصير المداقّ ، ولا يفضّل بعضها منهم

٣٧٢

على بعض. وإذا قال لغيره : هلمّ أحسن إليك ، باعه من غير ربح. وكذلك إذا عامله مؤمن ، فليجتهد ألا يربح عليه إلّا في حال الضّرورة ، ويقنع أيضا مع الاضطرار بما لا بدّ له من اليسير. وينبغي أن يقيل من استقاله. ويكره السّوم فيما بين طلوع الفجر وطلوع الشّمس. وإذا غدا إلى سوقه ، فلا يكون أوّل من يدخلها. وإذا دخلها ، سأل الله تعالى من خيرها وخير أهلها ، وتعوذ به من شرّها وشرّ أهلها. وإذا اشترى شيئا ، شهد الشّهادتين ، وكبر الله تعالى ، فإنّه أبرك له فيما يشتريه. وسأل الله تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ويخير له فيما يبيعه.

وينبغي أن يتجنّب مخالطة السّفلة من النّاس والأدنين منهم ، ولا يعامل إلّا من نشأ في خير ، ويجتنب معاملة ذوي العاهات والمحارفين. ولا ينبغي أن يخالط أحدا من الأكراد ، ويتجنّب مبايعتهم ومشاراتهم ومناكحتهم. وينبغي لمن أخذ شيئا بالوزن ألّا يأخذه إلّا ناقصا ، وإذا أعطاه لا يعطيه إلّا راجحا ، وإذا كان لا يكيل إلّا وافيا. فإن كان ممّن لا يحسن الكيل والوزن ، فلا يتعرّض له ، ويوليه غيره.

ولا ينبغي أن يزين متاعه بأن يري خيره ويكتم رديّه ، بل ينبغي أن يخلّط جيّده برديّه ، ويكون كلّه ظاهرا. ولا يجوز أن يشوب اللّبن بالماء ، لأنّ ذلك لا يبين العيب فيه.

٣٧٣

وينبغي ألّا يطلب الغاية فيما يبيع ويشتري من الرّبح ، وليقنع باليسير. وإذا تعسّر عليه نوع من التّجارة ، فليتحوّل منه إلى غيره. ويكره الاستحطاط من الثّمن بعد الصّفقة وعقد البيع. ومن باع لغيره شيئا ، فلا يشتره لنفسه ، وإن زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال ، إلّا بعلم من صاحبه وإذن من جهته. وإذا نادى المنادي على المتاع ، فلا يزيد في المتاع. فإذا سكت المنادي ، زاد حينئذ إن شاء. ولا يجوز لأحد أن يدخل في سوم أخيه المؤمن.

باب الاحتكار والتلقي

الاحتكار هو حبس الحنطة والشّعير والتّمر والزّبيب والسّمن من البيع. ولا يكون الاحتكار في شي‌ء سوى هذه الأجناس. وإنّما يكون الاحتكار ، إذا كان بالنّاس حاجة شديدة إلى شي‌ء منها ، ولا يوجد في البلد غيره. فأمّا مع وجود أمثاله ، فلا بأس أن يحبسه صاحبه ، ويطلب بذلك الفضل.

ومتى ضاق على النّاس الطّعام ، ولم يوجد إلّا عند من احتكره ، كان على السّلطان أن يجبره على بيعه ، ويكرهه عليه. ولا يجوز له أن يجبره على سعر بعينه ، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى ، ولا يمكّنه من حبسه أكثر من ذلك.

وحدّ الاحتكار في الغلاء وقلّة الأطعمة ثلاثة أيّام ، وفي

٣٧٤

الرّخص وحال السّعة أربعون يوما. وأمّا ما عدا الأجناس التي ذكرناها ، فلا احتكار فيها. ولأصحابها أن يبيعوها بما شاءوا من الأسعار وفي أيّ وقت شأوه. وليس للسّلطان أن يحملهم على شي‌ء منها.

وأمّا التّلقي ، فهو أن يستقبل الإنسان الأمتعة والمتاجر على اختلاف أجناسها خارج البلد ، فيشتريها من أربابها ، ولا يعلمون هم بسعر البلد. فمن فعل ذلك ، فقد ارتكب مكروها لما في ذلك من المغالطات والمغابنات. وكذلك أيضا يكره أن يبيع حاضر لباد لقلّة بصيرته بما يباع في البلاد ، وإن لم يكن شي‌ء من ذلك محظورا ، لكن ذلك من المسنونات. وحدّ التّلقي روحة ، وحدّها أربعة فراسخ. فإن زاد على ذلك ، كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقّيا.

باب الربا وأحكامه وما يصح فيه وما لا يصح

الرّبا محظور في شريعة الإسلام ، قال الله تعالى : ( وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) وقال تعالى : ( يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) وقال : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ) وقال تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) الآية. وروي عن الصّادق ، عليه‌السلام : أنّه قال : درهم ربا أعظم عند الله

٣٧٥

تعالى من سبعين زنية كلّها بذات محرم. فينبغي أن يعرفه الإنسان ليجتنبه ويتنزّه عنه.

فمن ارتكب الرّبا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور ، فليستغفر الله تعالى في المستقبل ، وليس عليه فيما مضى شي‌ء. ومتى علم : أنّ ذلك حرام ثمَّ استعمله ، فكلّ ما يحصل له من ذلك محرّم عليه ، ويجب عليه ردّه على صاحبه. فإن لم يعرف صاحبه ، تصدّق به عنه. وإن عرفه ولا يعرف مقدار ما أربى عليه ، فليصالحه وليستحلّه. وإن علم أنّ في ماله ربا ، ولا يعرف مقداره ولا من أربى عليه ، فليخرج خمس ذلك المال ، ويضعه في أهله ، وحلّ له ما يبقى بعد ذلك.

ولا ربا بين الولد ووالده ، لأنّ مال الولد في حكم مال الوالد. ولا بين العبد وسيّده ، لأنّ مال العبد لسيّده. ولا بين الرّجل وأهله. ولا ربا أيضا بين المسلم وبين أهل الحرب ، لأنهم في الحقيقة في‌ء للمسلمين ، وإنّما لا يتمكّن منهم. والرّبا يثبت بين المسلم وأهل الذّمة كثبوته بينه وبين مسلم مثله.

ولا يكون الرّبا إلّا فيما يكال أو يوزن. فأمّا ما عداهما فلا ربا فيه. وكلّ ما يكال أو يوزن ، فإنّه يحرم التّفاضل فيه والجنس واحد نقدا ونسيئة ، مثل بيع درهم بدرهم وزيادة عليه ، ودينار بدينار وزيادة عليه ،

٣٧٦

وقفيز حنطة بقفيز منها وزيادة عليه ، ومكّوك شعير بمكّوك منه وزيادة. وكذلك حكم جميع المكيلات والموزونات. وإذا اختلف الجنسان ، فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلّا الدّراهم والدّنانير والحنطة والشّعير ، فإنّه لا يجوز بيع دينار بدراهم نسيئة ، ويجوز ذلك نقدا بأيّ سعر كان. وكذلك الحكم في الحنطة والشّعير ، فإنّه لا يجوز التّفاضل فيهما لا نقدا ولا نسيئة ، لأنّهما كالجنس الواحد. ولا بأس ببيع قفيز من الذّرة أو غيرها من الحبوب بقفيزين من الحنطة والشعير أو غيرهما من الحبوب يدا. ويكره ذلك نسيئة.

وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه والجنس واحد نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، مثل ثوب بثوبين ودابّة بدابتين ودار بدارين وعبد بعبدين ، وما أشبه ذلك ممّا لا يدخل تحت الكيل والوزن. والأحوط في ذلك أن يقوّم ما يبتاعه بالدّراهم أو الدّنانير أو غيرهما من السّلع ويقوّم ما يبيعه بمثل ذلك. وإن لم يفعل ، لم يكن به بأس.

وما يكال ويوزن ، فبيع المثل بالمثل جائز حسب ما قدمناه يدا : ولا يجوز ذلك نسيئة.

ولا بأس ببيع الأمتعة والعقارات والحبوب وغير ذلك بالدّراهم والدّنانير نقدا ونسيئة. ولا يجوز بيع الغنم باللّحم ولا وزنا ولا جزافا. ولا يجوز أيضا بيع الرّطب بالتّمر مثلا

٣٧٧

بمثل ، لأنّه إذا جفّ نقص. ولا بأس ببيع الحنطة بالدّقيق والسّويق مثلا بمثل ، ولا يجوز التّفاضل فيه ، ويكون ذلك نقدا ولا يجوز نسيئة. ولا بأس ببيع الحنطة والدّقيق بالخبز مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة. والتّفاضل فيه لا يجوز لا نقدا ولا نسيئة. ولا بأس ببيع اللّبن والسّمن والزّبد كلّه مثلا بمثل ، ولا يجوز نسيئة ، والتّفاضل فيه لا يجوز لا نقدا ولا نسيئة. واللّحمان إذا اتفق أجناسها ، جاز بيع بعضها ببعض مثلا بمثل يدا بيد ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، ولا يجوز التّفاضل فيها لا نقدا ولا نسيئة. وإذا اختلف أجناسها ، جاز التّفاضل فيها نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، مثل رطل من لحم الغنم برطلين من لحم البقر نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة. ولا بأس ببيع الغزل بالثّوب ، وإن كان الثّوب أكثر وزنا منه. وإن كان الشي‌ء يباع في بلد جزافا وفي بلد آخر كيلا أو وزنا ، فحكمه حكم المكيل والموزون في تحريم التّفاضل فيه. ويجوز بيع المثل بالمثل نقدا ولا نسيئة.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا. وكذلك ما يباع عددا ، فلا يجوز بيعه جزافا. فإن كان ما يباع بالعدد يصعب عدّة ، فلا بأس أن يكال أو يوزن منه مقدار بعينه ثمَّ يعدّ ، ويؤخذ الباقي بحسابه.

ولا بأس ببيع السّمن بالزّيت متفاضلا يدا بيد ، ولا

٣٧٨

يجوز ذلك نسيئة. ولا يجوز التّفاضل في الأدهان إذا كان الأصل يرجع إلى جنس واحد ، مثل أن يباع الشّيرج بالبنفسج أو دهن الورد ، وما أشبه ذلك ممّا كان الأصل فيه دهن الشّيرج ولا يجوز بيع السّمسم بالشّيرج ، ولا الكتّان بدهنه ، بل أن يقوّم كلّ واحد منهما على انفراده.

ولا يجوز بيع البسر بالتّمر متفاضلا ، وإن اختلف جنسه ، ولا بيع نوع من تمر بأكثر منه من غير ذلك ، لأن ما يكون من النّخل في حكم النّوع الواحد. وحكم الزّبيب وتحريم التّفاضل فيه ، وإن اختلف جنسه ، مثل التّمر سواء ، لأنّ جميعه في حكم الجنس الواحد. ولا يجوز بيع الدّبس المعمول من التّمر بالتّمر متفاضلا. ولا بأس ببيعه مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع التّمر بالزّبيب متفاضلا نقدا ، ولا يجوز نسيئة. وكذلك لا بأس ببيع الزّبيب بالدّبس المعمول من التّمر متفاضلا ، ولا يجوز بيعه بما يعمل من الزّبيب من الدّبوس متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة.

ولا يجوز بيع العنب بالزّبيب إلّا مثلا بمثل ، وتجنّبه أفضل. والعصير والبختج لا يجوز التّفاضل فيهما. ويجوز بيع ذلك مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز نسيئة.

وما يباع بالعدد فلا بأس بالتّفاضل فيه يدا بيد ، والجنس

٣٧٩

واحد ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، مثل البيضة بالبيضتين والجوزة بالجوزتين والحلّة بالحلّتين وما أشبه ذلك مما قد بيّنّاه فيما مضى.

باب الصرف وأحكامه

قد بيّنّا أنّه لا يجوز بيع درهم بدرهمين لا نقدا ولا نسيئة ولا بيع درهم بدرهم نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا. وكذلك لا يجوز بيع دينار بدينارين لا نقدا ولا نسيئة ، ولا بيع دينار بدينار نسيئة. ولا بأس بذلك نقدا. ولا بأس ببيع دينار بدراهم نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة. وإذا كان للإنسان على غيره دراهم جاز له أن يأخذ بها دنانير وكذلك إن كان له دنانير فيأخذ بها دراهم ، لم يكن به بأس. فإن كان له دنانير ، وأخذ الدّراهم ، ثمَّ تغيرت الأسعار ، كان له سعر يوم قبض الدّراهم من الذي كان له عليه المال.

وإذا كان لإنسان على صيرفيّ دراهم أو دنانير ، فيقول له : حوّل الدّنانير إلى الدّراهم أو الدّراهم إلى الدّنانير ، وساعره على ذلك ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه في الحال ، ولا يناقده ، لأن النقدين جميعا من عنده. وإذا أخذ إنسان من غيره دراهم وأعطاه الدّنانير أكثر من قيمة الدّراهم ، أو أخذ منه الدّنانير وأعطاه الدّراهم مثل ما له أو أكثر من ذلك ،

٣٨٠