النّهاية

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

النّهاية

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٩

ومتى هلكت اللّقطة في مدّة زمان التّعريف من غير تفريط ، لم يكن على من وجدها شي‌ء. فإن هلكت بتفريط من قبله ، أو يكون قد تصرّف فيه ، ضمنه ، ووجب عليه غرامته بقيمته يوم هلك.

ومتى اشتري بمال اللّقطة جارية ، ثمَّ جاء صاحبها ، فوجدها بنته ، لم يلزمه أخذها ، وكان له أن يطالبه بالمال الذي اشترى به ابنته ، ولا تحصل هذه البنت في ملكه ، فتكون قد انعتقت به ، بل هي حاصلة في ملك الغير ، وهو ضامن لماله الذي وجده. فإن أجاز شراءه لها انعتقت بعد ذلك ، ولم يجز له بيعها.

ومتى تصرّف في اللّقطة قبل السّنة واستفاد بها ربحا ، كان الرّبح لصاحب المال. وإن كان تصرّفه بعد السّنة ، كان الرّبح له وعليه ضمان المال حسب ما قدمناه.

ومن وجد كنزا في دار انتقلت اليه بميراث عن أهله ، كان له ولشركائه في الميراث ، إن كان له شريك فيه. فإن كانت الدّار قد انتقلت اليه بابتياع من قوم ، عرّف البائع. فإن عرفه ، وإلّا أخرج خمسه الى مستحقّه ، وكان له الباقي. وكذلك إن ابتاع بعيرا أو بقرة أو شاة ، فذبح شيئا من ذلك ، فوجد في جوفه شيئا له قيمة ، عرّفه من ابتاع ذلك الحيوان منه. فإن عرفه ، أعطاه. وإن لم يعرفه ، أخرج منه الخمس ، وكان له الباقي. فإن ابتاع سمكة ، فوجد في جوفها درّة أو سبيكة وما أشبه ذلك ،

٣٢١

أخرج منه الخمس ، وكان له الباقي.

ومن وجد في داره شيئا ، فإن كانت الدّار يدخلها غيره. كان حكمه حكم اللّقطة. وإن لم يدخلها غيره ، كان له. وإن وجد في صندوقه شيئا كان حكمه مثل ذلك ، ومن وجد طعاما في مفازة ، فليقوّمه على نفسه ، ويأكله. فإذا جاء صاحبه ، ردّ عليه ثمنه. وإن وجد شاة في بريّة ، فليأخذها وهو ضامن لقيمتها. ويترك البعير إذا وجده في المفازة ، فإنّه يصبر على المشي والجوع. فإن وجد بعيرا قد خلّاه صاحبه من جهد ، وكان في كلاء وماء ، لم يجز له أخذه. فإن وجده في غير كلاء ولا ماء ، كان له أخذه ، ولم يكن لأحد بعد ذلك منازعته. وكذلك إن وجد دابّة ، فالحكم فيها مثل الحكم في البعير سواء. ويكره أخذ ماله قيمة يسيرة مثل العصا والشّظاظ والوتد والحبل والعقال وأشباه ذلك ، وليس ذلك بمحظور.

ومن أودعه لصّ من اللّصوص شيئا من المغصوب ، لم يجز له ردّه عليه. فإن عرف صاحبه ، ردّه عليه. وإن لم يعرف ، كان حكمه حكم اللّقطة سواء.

والشّاة إذا وجدها ، حبسها عنده ثلاثة أيّام. فإن جاء صاحبها ردّها ، وإلّا تصدّق بها.

وإذا وجد المسلم لقيطا ، فهو حرّ غير مملوك ، وينبغي له أن يرفع خبره الى سلطان الإسلام ليطلق له النّفقة عليه من بيت المال.

٣٢٢

فإن لم يوجد سلطان ينفق عليه ، استعان بالمسلمين في النّفقة عليه. فإن لم يجد من يعينه على ذلك ، أنفق عليه. وكان له الرّجوع بنفقته عليه ، إذا بلغ وأيسر ، إلّا أن يتبرّع بما أنفقه عليه. وإذا أنفق عليه ، وهو يجد من يعينه في النّفقة عليه تبرّعا ، فلم يستعن به ، فليس له رجوع عليه بشي‌ء من النّفقة.

وإذا بلغ اللّقيط ، تولّى من شاء من المسلمين ، ولم يكن للّذي أنفق عليه ولاؤه إلّا أن يتوالاه. فإن لم يتوال أحدا حتى مات ، كان ولاؤه للمسلمين.

وإن ترك مالا ولم يترك ولدا ولا قرابة له من المسلمين كان ما تركه لبيت المال.

ومن وجد شيئا من اللّقطة والضّالّة ، ثمَّ ضاع من غير تفريط ، أو أبق العبد من غير تعدّ منه عليه ، لم يكن عليه شي‌ء. فإن كان هلاك ما هلك بتفريط من جهته ، كان ضامنا. وإن كان إباق العبد بتعد منه ، كان عليه مثل ذلك. وإن لم يعلم أنّه كان لتعد منه أو لغيره ، وجب عليه اليمين بالله : أنّه ما تعدّى فيه ، وبرئت عهدته.

ولا بأس للإنسان أن يأخذ الجعل على ما يجده من الآبق والضّالّ. فإن جرت هناك موافقة ، كان على حسب ما اتّفق عليه. فإن لم تجر موافقة ، وكان قد وجد عبدا أو بعيرا في المصر ، كان جعله دينارا قيمته عشرة دراهم. فإن كان خارج المصر ، فأربعة

٣٢٣

دنانير قيمتها أربعون درهما فضة. وفيما عدا العبد والبعير ، ليس فيه شي‌ء موظّف ، بل يرجع فيه الى العادة حسب ما جرت في أمثاله ، فأعطي إياه.

ومن وجد شيئا ممّا يحتاج إلى النّفقة عليه ، فسبيله أن يرفع خيره الى السّلطان لينفق عليه من بيت المال. فإن لم يجد وأنفق هو عليه ، كان له الرّجوع على صاحبه بما أنفقه عليه. وإن كان من أنفق عليه قد انتفع بشي‌ء من جهته إما بخدمته أو ركوبه أو لبنه ، كان ذلك بإزاء ما أنفق عليه ، ولم يكن له الرّجوع على صاحبه.

٣٢٤

كتاب الشهادات

باب تعديل الشهود ومن تقبل شهادته ومن لا تقبل

العدل الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم ، هو أن يكون ظاهره ظاهر الإيمان ، ثمَّ يعرف بالسّتر والصّلاح والعفاف والكفّ عن البطن والفرج واليد واللّسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله تعالى عليها النار : من شرب الخمر والزّنا والرّبا وعقوق الوالدين والفرار من الزّحف وغير ذلك ، السّاتر لجميع عيوبه ، ويكون متعاهدا للصلوات الخمس مواظبا عليهنّ ، حافظا لمواقيتهن ، متوفّرا على حضور جماعة المسلمين ، غير متخلّف عنهم إلّا لمرض أو علّة أو عذر.

ويعتبر في شهادة النّساء الإيمان والسّتر والعفاف وطاعة الأزواج وترك البذاء والتّبرّج إلى أنديه الرّجال.

ولا يجوز قبول شهادة الظّنين والمتّهم والخصم والخائن والأجير. ولا تقبل شهادة الفسّاق إلّا على أنفسهم. ولا تقبل شهادة ماجن ولا فحّاش. وتردّ شهادة اللاعب بالنّرد والشّطرنج وغيرهما من أنواع القمار والأربعة عشر والشّاهين.

٣٢٥

ولا بأس بشهادة أرباب الصّنائع أيّ صنعة كانت إذا جمعوا الشّرائط التي ذكرناها.

ولا يجوز شهادة من يبغي على الأذان الأجر ، ولا من يرتشي في الأحكام. ولا يجوز شهادة السّائلين على أبواب الدّور وفي الأسواق.

ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة المتجمّلين السّاترين لأحوالهم ، إذا حصل فيهم شرائط العدالة. ولا يجوز شهادة ولد الزّنا. فإن عرفت منه عدالة ، قبلت شهادته في الشي‌ء الدون. ولا بأس بشهادة القاذف إذا تاب وعرفت توبته. وحدّ توبته من القذف أن يكذّب نفسه فيما كان قذف به. فإذا فعل ذلك ، جاز قبول شهادته بعد ذلك.

ولا يجوز شهادة الشّريك لشريكه فيما هو شريك فيه. ولا بأس بشهادته له فيما ليس بشريك فيه. ومن قطع به الطّريق فأخذوا اللّصوص فشهد بعضهم لبعض عليهم ، لم تقبل شهادتهم. وإنّما تقبل شهادة غيرهم ، أو يحكم بإقرار اللّصوص. ولا بأس بشهادة الوصيّ على من هو وصيّ له وله. غير أنّ ما يشهد به عليه يحتاج أن يكون معه غيره من أهل العدالة. ثمَّ يحلّف الخصم على ما يدّعيه. وما يشهد للورثة مع غيره من أهل العدالة لم يجب مع ذلك يمين.

ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات في الخلق ، إذا

٣٢٦

كانوا من أهل العدالة. ولا بأس بشهادة الأعمى إذا أثبت ولم تكن شهادته فيما يحتاج فيه الى الرّؤية. وإن كانت شهادته في حال صحّته ، ثمَّ عمي ، جاز قبول شهادته فيما يعتبر الرّؤية فيه. ولا بأس بشهادة الأصمّ. غير أنّه يؤخذ بأوّل قوله ، ولا يؤخذ بثانيه.

ومن أشهد أجيرا له على شهادة ، ثمَّ فارقه ، جازت شهادته له. وتجوز شهادته عليه ، وإن لم يفارقه. ولا بأس بشهادة الضّيف إذا كان من أهلها.

ولا يجوز شهادة من خالف الحقّ من أهل البدع والاعتقادات الباطلة ، وإن كانوا على ظاهر الإسلام والسّتر والعفاف.

وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، سواء كان ملّيّا أو كافرا ، أو مطيعا كان أو عاصيا ، وعلى كلّ حال. إلّا أن يكون عبدا ، فإنّه لا يقبل إقراره على نفسه ، لأنّ إقراره على نفسه إقرار على الغير ، لأنّه لا يملك من نفسه شيئا.

والفاسق إذا شهد على غيره في حال فسقه ، ثمَّ أقام الشّهادة وهو عدل ، قبلت شهادته. وتقبل شهادة من يلعب بالحمام إذا لم يعرف منه فسق. ولا بأس بشهادة المراهن في الخفّ والحافر والرّيش ، وما عدا ذلك فهو قمار.

٣٢٧

باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها

لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشّهادة ، إذا دعي إليها ليشهد ، إذا كان من أهلها ، إلّا أن يكون حضوره مضرّا بشي‌ء من أمر الدّين أو بأحد من المسلمين. وإذا حضر ، فلا يجوز له أن يشهد إلّا على من يعرفه. فإن أشهد على من لا يعرفه. فليشهد بتعريف من يثق إليه من رجلين مسلمين. وإذا أقام الشّهادة ، أقامها كذلك.

وإذا أشهد على امرأة ، وكان يعرفها بعينها ، جاز له أن يشهد عليها ، وإن لم ير وجهها. فإن شكّ في حالها ، لم يجز له أن يشهد إلّا بعد أن تسفر عن وجهها ويتبيّنها بصفتها. فإن عرّفها من يثق به ، جاز له أن يشهد ، وإن لم تسفر أيضا عن وجهها ، غير أنّ الأحوط ما قدّمناه.

ويجوز أن يشهد الإنسان على الأخرس ، إذا عرف من إشارته الإقرار. ويقيم شهادته كذلك ، ولا يقيمها بمجرّد الإقرار ، لأنّ ذلك كذب.

ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر ، غير أنّه ينبغي أن يشهد رجلان على شهادة رجل واحد ليقوما مقامه. فأمّا واحد فلا يقوم مقام واحد. وذلك لا يكون أيضا إلّا في الدّيون والأملاك والعقود. فأمّا الحدود ، فلا يجوز أن يقبل فيها شهادة على

٣٢٨

شهادة. ولا يجوز شهادة على شهادة في شي‌ء من الأشياء. ومن شهد على شهادة آخر. وأنكر ذلك الشّاهد الأوّل ، قبلت شهادة أعدلهما. فإن كانت عدالتهما سواء ، طرحت شهادة الشّاهد الثّاني. ولا بأس بالشهادة على شهادة ، وإن كان الشّاهد الأوّل حاضرا غير غائب ، إذا منعه من إقامة الشّهادة مانع من مرض وغيره.

ومن رأى في يد غيره شيئا ، ورآه يتصرّف فيه تصرّف الملّاك ، جاز له أن يشهد بأنّه ملكه ، كما أنّه يجوز أن يشتريه على أنّه ملكه. ولا بأس أن يشهد الإنسان على مبيع ، وإن لم يعرفه ، ولا عرف حدوده ولا موضعه ، إذا عرف البائع والمشتري ذلك.

ويكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد ، لئلّا يلزمه إقامتها ، فربّما ردّت شهادته ، فيكون قد أذلّ نفسه.

ومتى دعي الإنسان لإقامة شهادة ، لم يجز له الامتناع منها على حال ، إلّا أنّ يعلم : أنّه إن أقامها أضرّ ذلك بمؤمن ضررا غير مستحقّ ، بأن يكون ذلك عليه دين وهو معسر ، ويعلم : إن شهد عليه ، حبسه الحاكم ، فاستضرّ به هو وعياله ، لم يجز له إقامتها.

وإذا أراد إقامة شهادة ، لم يجز له أن يقيم ، إلّا على ما يعلم. ولا يعوّل على ما يجد خطّه به مكتوبا. فإن وجد خطّه

٣٢٩

مكتوبا ، ولم يذكر الشّهادة ، لم يجز له إقامتها. فإن لم يذكر ، شهد معه آخر ثقة ، جاز له حينئذ إقامة الشّهادة.

ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثمَّ دعي الى أن يشهد ، كان بالخيار في إقامتها وفي الامتناع منها. اللهمّ إلّا أن يعلم : أنّه إن لم يقمها ، بطل حقّ مؤمن ، فحينئذ يجب عليه إقامة الشّهادة.

ولا يجوز للشّاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشّهادة ، كما لا يجوز له كتمانها ، وقد دعي إلى إقامتها ، إلّا أن تكون شهادته تبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين الله تعالى ، أو يؤدّي الى ضرر على المشهود عليه لا يستحقّه. فإنّه لا يجوز له حينئذ إقامة الشّهادة ، وإن دعي إليها.

باب شهادة الولد لوالده وعليه ، والوالد لولده وعليه والمرأة لزوجها وعليه ، والزوج لزوجته وعليها

لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه مع غيره من أهل الشّهادة ولا بأس بشهادة الولد لوالده. ولا يجوز شهادته عليه. ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه ، إذا كان معه غيره من أهل الشهادات. ولا بأس بشهادة الرّجل لامرأته وعليها ، إذا كان معه غيره من أهل العدالة. ولا بأس بشهادتها له وعليه فيما يجوز قبول شهادة النّساء فيه ، إذا كان معها غيرها من أهل الشّهادة

٣٣٠

باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبين والصبيان

لا بأس بشهادة العبيد ، إذا كانوا عدولا وعلى ظاهر الإيمان ، لساداتهم وعلى غير ساداتهم ولهم. ولا يجوز قبول شهادتهم على ساداتهم. وإذا شهد العبد على سيّده بعد أن يعتق ، قبلت شهادته عليه.

وإذا أشهد رجل عبدين له على نفسه بالإقرار بوارث ، فردت شهادتهما ، وحاز الميراث غير المقرّ له ، فأعتقهما بعد ذلك ، ثمَّ شهدا للمقرّ له ، قبلت شهادتهما له ، ورجع بالميراث على من كان أخذه ، ورجعا عبدين. فإن ذكرا : أنّ مولاهما كان أعتقهما في حال ما أشهدهما ، لم يجز للمقرّ له أن يردّهما في الرّقّ ، وتقبل شهادتهما في ذلك ، لأنّهما أحييا حقّه.

ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبّرين. وتقبل شهادة المكاتبين بمقدار ما عتقوا على ساداتهم. وكلّ من ذكرنا من العبيد والمكاتبين والمدبّرين ، تقبل شهادتهم على أهل الإسلام ، إلّا من استثنيناه من سادتهم ، ولأهل الإسلام ولمن خالف الإسلام من الأحرار والعبيد في سائر الحقوق والحدود وغير ذلك ممّا يراعى فيه الشّهادة.

ويجوز شهادة الصّبيان إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا الى أن يبلغوا في الشّجاج والقصاص. ويؤخذ بأوّل كلامهم ولا يؤخذ

٣٣١

بآخره. ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من الدّيون والحقوق والحدود. وإذا أشهد الصّبيّ على حقّ ، ثمَّ بلغ ، وذكر ذلك ، جاز له أن يشهد بذلك ، وقبلت شهادته ، إذا كان من أهلها.

باب شهادة النساء

شهادة النّساء على ثلاثة أضرب :

فضرب منها لا يجوز قبولها على وجه.

وضرب يجوز قبولها إذا كان معهنّ الرّجال.

وضرب يجوز قبولها وان لم يكن معهنّ رجال.

فأمّا ما لا يجوز قبول شهادة النّساء فيه على وجه ، كان معهنّ رجال أو لم يكن ، فرؤية الهلال والطّلاق ، فإنّه لا يجوز قبول شهادة النّساء في ذلك ، وإن كثرت.

وأمّا ما يراعى فيه مع شهادة النّساء شهادة الرّجال ، فكا الرّجم. فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان على رجل بالزّنا ، قبلت شهادتهم ، ووجب على الرّجل الرّجم إن كان محصنا. وان شهد رجلان وأربع نسوة بذلك ، قبلت أيضا شهادتهنّ. ولا يرجم المشهود عليه ، بل يحدّ حدّ الزّاني. فإن شهد رجل وستّ نساء أو أكثر من ذلك ، لم يجز قبول شهادتهم ، وجلّدوا كلّهم حدّ الفرية. وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزّنا ، فادّعت أنّها بكر ، أمر النّساء بأن ينظرن إليها : فإن كانت كما قالت ،

٣٣٢

درئ عنها الرّجم والحدّ ، وجلد الأربعة حدّ الفرية. وان لم تكن كذلك ، رجمت أو حدّت. ويجوز شهادة النّساء في القتل والقصاص إذا كان معهنّ رجال أو رجل : بأن يشهد رجل وامرأتان على رجل بالقتل أو الجراح. فأمّا شهادتهنّ على الانفراد فإنّها لا تقبل على حال.

وتقبل شهادتهنّ في الدّيون مع الرّجال وعلى الانفراد. فإن شهد رجل وامرأتان بدين ، قبلت شهادتهم. فإن شهد امرأتان ، قبلت شهادتهما ، ووجب على الذي تشهدان له اليمين ، كما يجب عليه اليمين إذا شهد له رجل واحد.

وأمّا ما تقبل فيه شهادة النّساء على الانفراد ، فكلّ ما لا يستطيع الرّجال النّظر اليه ، مثل العذرة والأمور الباطنة بالنّساء. وتقبل شهادة القابلة وحدها في استهلال الصّبيّ في ربع ميراثه. وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصيّة ، وشهادة امرأتين في نصف ميراث المستهلّ ونصف الوصية ، ثمَّ على هذا الحساب ، وذلك لا يجوز الا عند عدم الرّجال. ولا يجوز شهادة النّساء في شي‌ء من الحدود سوى ما قدّمناه من الرّجم ، وحدّ الزّنا والدّم خاصّة ، لئلّا يبطل دم امرئ مسلم ، غير أنّه لا يثبت بشهادتهنّ القود ، وتجب بها الدّية على الكمال.

٣٣٣

باب شهادة من خالف الإسلام

لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام على المسلمين في حال الاختيار. ويجوز قبول شهادتهم في حال الضّرورة في الوصيّة خاصّة ، ولا يجوز في غيرها من الأحكام. ويجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم. ويجوز شهادة بعضهم على بعض ولهم ، وكلّ أهل ملّة على أهل ملّته خاصّة ولهم. ولا تقبل شهادة أهل ملّة منهم لغير أهل ملّتهم ولا عليهم ، إلّا المسلمين خاصّة حسب ما قدّمناه ، فإنّه تقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم من أصناف الكفّار. وتقبل لهم من أحكام المسلمين في الوصيّة خاصّة حسب ما قدّمناه. والذّمّي إذا أشهد ثمَّ أسلم ، جاز قبول شهادته على المسلمين.

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة

إذا شهد لصاحب الدّين شاهد واحد ، قبلت شهادته ، وحلّف مع ذلك ، وقضي له به. وذلك في الدّين خاصّة. ولا يجوز قبول شهادة واحد والحكم بها في الهلال والطّلاق والحدود والقصاص وغير ذلك من الأحكام. والقسامة لا تقبل إلّا في الدّماء خاصّة.

وصفة القسامة أنّه إذا لم يوجد في الدّم رجلان عدلان يشهدان بالقتل ، فأحضر وليّ المقتول خمسين رجلا من قومه يقسمون بالله تعالى على أنّه قتل صاحبهم ، فاذا حلفوا ، قضي

٣٣٤

لهم بالدّية. فإن حضر دون الخمسين ، حلّف وليّ الدّم بالله من الأيمان ما يتمّ بها الخمسين ، وكان له الدّية. فإن لم يكن له أحد يشهد له ، حلف هو خمسين يمينا ، ووجبت له الدّية.

ولا تكون القسامة إلّا مع التّهمة للمطالب بالدّم والشّبهة في ذلك. والقسامة فيما دون النّفس يكون بحساب ذلك. وسنبيّن ذلك في كتاب الدّيات إن شاء الله.

باب شهادات الزور

لا يجوز لأحد أن يشهد بالزّور وبما لا يعلم ، في أي شي‌ء كان قليلا أو كثيرا ، وعلى من كان موافقا كان أو مخالفا. فمتى شهد بذلك ، أثم ، وكان ضامنا. فإن شهد أربعة رجال على رجل بالزّنا ، وكان محصنا ، فرجم ، ثمَّ رجع أحدهم ، فقال : تعمّدت ذلك ، قتل وأدّى الى ورثته الثّلاثة الباقون ثلاثة أرباع الدّية. وإن قال : أوهمت ، ألزم ربع الدّية. وإن رجع اثنان وقال : أوهمنا ، ألزما نصف الدّية. وإن قالا : تعمّدنا ، وأراد أولياء المقتول بالرّجم قتلهما ، قتلوهما ، وأدوا إلى ورثتهما دية كاملة يتقاسمان بينهما على السّوية ، ويؤدّي الشّاهدان الآخران على ورثتهما أيضا نصف الدّية ، يتقاسمان بينهما بالسّويّة. وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما ، قتله ، وأدّى الآخر مع الباقين من الشّهود على ورثة المقتول الثّاني ثلاثة أرباع ديته وإن رجع الكلّ عن شهادتهم ، كان حكمهم حكم الاثنين سواء.

٣٣٥

وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدّت ، وتزوّجت ودخل بها ، ثمَّ رجعا ، وجب عليهما الحدّ ، وضمنا المهر للزوج الثّاني ، وترجع المرأة إلى الأوّل بعد الاستبراء بعدة من الثّاني.

فإن شهدا بسرقة ، فقطع المشهود عليه ، ثمَّ رجعا ، ألزما دية يد المقطوع. فإن رجع أحدهما ، ألزم نصف دية يده. هذا إذا قالا : وهمنا في الشهادة. فإن قالا : تعمّدنا ، قطع يد واحد منهما بيد المقطوع وأدّى الآخر نصف ديته على المقطوع الثّاني. وإن أراد المقطوع الأوّل قطعهما ، قطعهما ، وأدّى إليهما دية يد واحدة يتقاسمان بينهما على السّواء.

وكذلك إن شهدا على رجل بدين ثمَّ رجعا ، ألزما مقدار ما شهدا به. فإن رجع أحدهما ، ألزم بمقدار ما يصيبه من الشّهادة وهو النّصف. ومتى شهدا على رجل بدين ، ثمَّ رجعا قبل أن يحكم الحاكم ، طرحت شهادتهما ، ولم يلزما شيئا ، بل يتوقّف الحاكم عن إنفاذ الحكم. وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم : غرّما ما شهدا به ، إذا لم يكن الشّي‌ء قائما بعينه. فإن كان الشّي‌ء قائما بعينه ، ردّ على صاحبه ، ولم يلزما شيئا.

وإذا شهدا على رجل بسرقة ، فقطع ، ثمَّ جاء بآخر ، وقالا : هذا الذي سرق ، وإنّما وهمنا على ذلك ، غرّما دية اليد ، ولم تقبل شهادتهما على الآخر.

وينبغي للإمام أن يعزر شهود الزّور ويشهّرهم في أهل محلّتهم ، لكي يرتدع غيرهم عن مثله في مستقبل الأوقات.

٣٣٦

كتاب القضايا والاحكام

باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال

قد بيّنّا في كتاب الجهاد من له تولّي القضاء والأحكام بين النّاس ومن ليس له ذلك.

وينبغي أن لا يتعرّض للقضاء أحد حتّى يثق من نفسه بالقيام به. وليس يثق أحد بذلك من نفسه حتى يكون عاقلا كاملا ، عالما بالكتاب وناسخه ومنسوخه ، وعامّه وخاصّه ، وندبه وإيجابه ، ومحكمه ومتشابهه ، عارفا بالسّنّة وناسخها ومنسوخها ، عالما باللغة ، مضطلعا بمعاني كلام العرب ، بصيرا بوجوه الإعراب ، ورعا من محارم الله تعالى ، زاهدا في الدّنيا ، متوفّرا على الأعمال الصّالحات ، مجتنبا للكبائر والسّيّئات ، شديد الحذر من الهوى ، حريصا على التّقوى. فإذا كان بالصّفات التي ذكرناها ، جاز له أن يتولّى القضاء ، والفصل بين النّاس.

وإذا أراد أن يجلس للقضاء ، ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها ، ليفرغ للحكم ، ولا يشتغل قلبه بغيره ، ثمَّ يتوضّأ وضوء الصّلاة ، ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها ،

٣٣٧

ويخرج الى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه. فإذا دخله ، صلّى ركعتين ، ويجلس مستدير القبلة ، لتكون وجوه الخصم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة.

ولا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مشغول القلب بتجارة ولا خوف ولا حزن ولا فكر في شي‌ء من الأشياء. وليجلس وعليه هدي وسكينة وقار.

فإذا جلس ، تقدّم الى من يأمر كلّ من حضر للتّحاكم اليه أن يكتب اسمه واسم أبيه وما يعرف به من الصّفات الغالبة عليه دون الألقاب المكروهة. فإذا فعلوا ذلك ، وكتبوا أسماءهم وأسماء خصومهم في الرّقاع ، قبض ذلك كلّه ، وخلط الرّقاع ، وجعلها تحت شي‌ء يسترها به عن بصره. ثم يأخذ منها رقعة ، فينظر فيها ، ويدعوا باسم صاحبها وخصمه ، فينظر بينهما.

وإذا دخل الخصمان عليه ، وجلسا ، وأراد كلّ واحد منهما الكلام ، ينبغي له أن يأذن للذي سبق بالدّعوى. فإن ادّعيا جميعا في وقت واحد ، أمر من هو على يمين صاحبه أن يتكلّم ، ويأمر الآخر بالسّكوت الى أن يفرغ من دعواه.

وإذا دخل عليه الخصمان ، فلا يبدأ أحدهما بالكلام. فإن سلّما أو سلّم أحدهما ، ردّ السّلام دون ما سواه. وليكن نظره إليهما واحدا ومجلسهما بين يديه على السّواء.

ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين ، بل يتركهما حتى

٣٣٨

يبدءا بالكلام. فإن صمتا ولم يتكلّما ، قال حينئذ لهما : إن كنتما حضرتما لشي‌ء ، فاذكراه. فإن ابتدأ أحدهما بالدّعوى على صاحبه ، سمعها ، ثمَّ أقبل على صاحبه ، فسأله عمّا عنده فيما ادّعاه خصمه.

فإن أقرّ به ، ولم يرتب بعقله واختياره ، ألزمه الخروج اليه منه. فإن خرج ، وإلّا أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه. فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقرّ به ، حبسه له. فإن ظهر له بعد أن حبسه : أنّه معدم فقير لا يرجع إلى شي‌ء ، ولا يستطيع الخروج ممّا أقرّ به ، خلّى سبيله ، وأمره : أن يتحمّل حقّ خصمه ، ويسعى في الخروج ممّا عليه.

وإن ارتاب الحاكم بكلام المقرّ ، وشكّ في صحّة عقله أو اختياره للإقرار ، توقّف عن الحكم عليه ، حتّى يستبرئ حاله.

وإن أنكر المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي ، سأله : ألك بيّنة على ذلك؟ فإن قال : نعم هي حاضرة ، نظر في بيّنته. وإن قال : نعم ، غير أنّها ليست حاضرة ، قال له : أحضرها. فإن قال : نعم ، أقامه ، ونظر في حكم غيره إلى أن يحضر الأوّل بيّنته. وإن قال المدّعي : لست أتمكّن من إحضارها ، جعل معه مدة من الزّمان ليحضر فيه بيّنته ، ويكفّل بخصمه. فإن أحضرها ، نظر فيها. وإن لم يحضرها عند انقضاء الأجل ، خرج خصمه عن حدّ الكفالة.

وإن قال : لا بيّنة لي ، قال له : فما تريد؟ فإن قال : تأخذ لي

٣٣٩

بحقّي من خصمي ، قال للمنكر ، أتحلف له؟ فإن قال : نعم ، أقبل على صاحب الدّعوى ، فقال له : قد سمعت ، أفتريد يمينه؟ فإن قال : لا ، أقامهما ، ونظر في حكم غيرهما. وإن قال : نعم ، أريد يمينه ، رجع اليه ، فوعظه وخوّفه بالله. فإن أقرّ الخصم بدعواه ، ألزمه الخروج اليه من الحقّ. وإن حلف ، فرّق بينهما. وإن نكل عن اليمين ، ألزمه الخروج إلى خصمه ممّا ادّعاه عليه. فإن قال المنكر عند توجّه اليمين عليه : « يحلف هذا المدّعي على صحّة دعواه ، وأنا أدفع اليه ما ادّعاه » ، قال الحاكم للمدّعي : أتحلف على صحّة دعواك؟ فإن حلف ، ألزم خصمه الخروج اليه ممّا حلف عليه. وإن أبى اليمين ، بطلت دعواه.

وإن أقام المدّعي البيّنة ، فذكر المدّعى عليه : أنّه قد خرج اليه من حقّه ، كان عليه البيّنة بأنّه قد وفّاه الحق. فإن لم تكن له بيّنة ، وطالب صاحب البيّنة بأن يحلف بأنّه : ما استوفى ذلك الحقّ منه ، كان له ذلك. فإن امتنع من ذلك خصمه ، وأبى أن يحلف أنّه : لم يأخذ حقّه ، بطل حقّه.

وإن قال المدّعي : ليس معي بيّنة ، وطلب من خصمه اليمين ، فحلّفه الحاكم ، ثمَّ أقام بعد ذلك البيّنة على صحّة ما كان يدّعيه ، لم يلتفت إلى بيّنته ، وأبطلت.

وإن اعترف المنكر بعد يمينه بالله بدعوى خصمه عليه ، وندم على إنكاره ، لزمه الحقّ والخروج منه إلى خصمه. فإن لم يخرج

٣٤٠