النّهاية

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

النّهاية

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٩

ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال. وقد رخص في حال قصور أيدي أئمة الحقّ وتغلّب الظّالمين ، أن يقيم الإنسان الحدّ على ولده وأهله ومماليكه ، إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظّالمين ، وأمن من بوائقهم. فمتى لم يأمن ذلك ، لم يجز له التّعرّض لذلك على حال.

ومن استخلفه سلطان ظالم على قوم ، وجعل إليه إقامة الحدود ، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال ، ويعتقد أنّه إنّما يفعل ذلك بإذن سلطان الحق ، لا بإذن سلطان الجور. ويجب على المؤمنين معونته وتمكينه من ذلك ، ما لم يتعدّ الحقّ في ذلك ، وما هو مشروع في شريعة الإسلام. فإن تعدّى في ما جعل إليه الحقّ ، لم يجز له القيام به ، ولا لأحد معاونته على ذلك. اللهمّ إلّا أن يخاف في ذلك على نفسه ، فإنّه يجوز له حينئذ أن يفعل في حال التّقيّة ما لم يبلغ قتل النّفوس. فأمّا قتل النّفوس فلا يجوز فيه التّقيّة على حال.

وأمّا الحكم بين النّاس والقضاء بين المختلفين ، فلا يجوز أيضا إلّا لمن أذن له سلطان الحقّ في ذلك.

وقد فوّضوا ذلك الى فقهاء شيعتهم في حال لا يتمكّنون فيه من توليه بنفوسهم. فمن تمكّن من إنفاذ حكم أو إصلاح بين النّاس أو فصل بين المختلفين ، فليفعل ذلك ، وله بذلك الأجر والثّواب ، ما لم يخف في ذلك على نفسه ولا على أحد من أهل

٣٠١

الإيمان ، ويأمن الضّرر فيه. فإن خاف شيئا من ذلك ، لم يجز له التعرّض لذلك على حال. ومن دعا غيره الى فقيه من فقهاء أهل الحقّ ليفصل بينهما ، فلم يجبه وآثر المضيّ إلى المتولّي من قبل الظّالمين ، كان في ذلك متعدّيا للحقّ مرتكبا للآثام.

ولا يجوز لمن يتولّى الفصل بين المختلفين والقضاء بينهم أن يحكم إلّا بموجب الحقّ ، ولا يجوز له أن يحكم بمذاهب أهل الخلاف. فإن كان قد تولّى الحكم من قبل الظّالمين ، فليجتهد أيضا في تنفيذ الأحكام على ما تقتضيه شريعة الأيمان. فإن اضطرّ الى تنفيذ حكم على مذاهب أهل الخلاف على النّفس أو الأهل أو المؤمنين أو على أموالهم ، جاز له أن ينفّذ الحكم ما لم يبلغ ذلك قتل النّفوس ، فإنّه لا تقيّة له في قتل النّفوس حسب ما بيّنّاه.

ويجوز لفقهاء أهل الحقّ أن يجمّعوا بالنّاس الصّلوات كلّها وصلاة الجمعة والعيدين ويخطبون الخطبتين ويصلّون بهم صلاة الكسوف ما لم يخافوا في ذلك ضررا. فإن خافوا في ذلك الضّرر ، لم يجز لهم التّعرض لذلك على حال.

ومن تولّى ولاية من قبل ظالم في إقامة حدّ أو تنفيذ حكم ، فليعتقد أنّه متولّ لذلك من جهة سلطان الحقّ ، وليقم به على ما تقتضيه شريعة الإيمان. ومهما تمكّن من إقامة حدّ على مخالف له ، فليقمه ، فإنّه من أعظم الجهاد.

٣٠٢

ومن لا يحسن القضايا والأحكام في إقامة الحدود وغيرها ، لا يجوز له التّعرّض لتولّي ذلك على حال. فإن تعرّض لذلك ، كان مأثوما. فإن أكره على ذلك ، لم يكن عليه في ذلك شي‌ء ، ويجتهد لنفسه التنزّه من الأباطيل.

ولا يجوز لأحد أن يختار النّظر من قبل الظّالمين ، إلّا بعد أن يعزم أنّه لا يتعدّى الواجب ، ولا يقضي بغير الحقّ ، ويضع الأشياء مواضعها من الصّدقات ولأخماس وغير ذلك. فإن علم أنّه لا يتمكّن من ذلك ، فلا يجوز له التعرّض لذلك مع الاختيار. فإن أكره على الدّخول فيه ، جاز له حينئذ ذلك ، وليجتهد حسب ما قدّمناه

٣٠٣

كتاب الديون والكفالات والحوالات والوكالات

باب كراهية الدين وكراهية النزول على الغريم

يكره للإنسان الدّين إلا عند الضّرورة الدّاعية اليه. فأما مع الاختيار ، فلا ينبغي أن يستدين. فإن فعل ، فلا يفعل إلّا إذا كان له ما يرجع إليه ، فيقضي به دينه. فإن لم يكن له ما يرجع اليه ، وكان له وليّ يعلم أنّه إن مات قضى عنه ، قام ذلك مقام ما يملك. فإذا خلا من الوجهين ، فلا يتعرّض له على حال. وعند الضّرورة أيضا لا يستدين إلّا مقدار حاجته اليه من نفقته ونفقة عياله.

وقد روي جواز الاستدانة إذا صرف ذلك في الحجّ ونفقته. وذلك محمول على أنّه إذا كان له ما يرجع اليه. فأمّا إذا لم يكن له ذلك ، فلم يكن الحجّ واجبا عليه ، فكيف يجوز أن يجب عليه أن يستدين ويقضي ما لم يجب عليه.

ومن اضطرّ الى دين ، ولا يملك شيئا يرجع اليه ، وكان ممّن يجد الصّدقة ، فالأفضل له أن يقبل الصّدقة ، ولا يتعرّض للدّين ، لأن الصّدقة حقّ جعلها الله له في الأموال.

٣٠٤

ومن كان عليه دين لا ينوي قضاءه ، كان بمنزلة السّارق. وإذا كان عازما على قضائه ساعيا في ذلك ، كان له بذلك أجر كبير وثواب جزيل ، ويعينه الله تعالى على ذلك.

ومن كان له على غيره دين ، كره له النزول عليه. فإن نزل ، فلا يكون ذلك أكثر من ثلاثة أيّام. ومتى أهدى له المدين شيئا لم يكن قد جرت به عادته ، وإنّما فعله لمكان الدّين ، استحبّ له أن يحتسبه من الدّين ، وليس ذلك بواجب.

وإذا رأى صاحب الدّين في الحرم ، لم يجز له مطالبته فيه ولا ملازمته ، بل ينبغي له أن يتركه حتّى يخرج من الحرم ، ثمَّ يطالبه كيف شاء.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه السّعي في قضائه ، وترك الإسراف في النفقة. وينبغي أن يتقنّع بالقصد. ولا يجب عليه أن يضيّق على نفسه ، بل يكون بين ذلك قواما.

باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميت

كلّ من عليه دين ، وجب عليه قضاؤه حسب ما يجب عليه. فإن كان حالّا وجب عليه قضاؤه عند المطالبة في الحال. وإن كان مؤجّلا ، وجب قضاؤه عند حلول الأجل مع المطالبة. ومن وجب عليه الدّين لا يجوز له مطله ودفعه مع قدرته على قضائه. فإن مطل ودفع ، كان على الحاكم حبسه وإلزامه الخروج ممّا وجب عليه. فإن حبسه ثمَّ ظهر له بعد ذلك إعساره ، وجب تخليته. وإن لم

٣٠٥

يكن معسرا ، غير أنّه يدفع به ، جاز للحاكم أن يبيع عليه متاعه وعقاره ، ويقضي عنه ما وجب عليه.

وإن كان من وجب عليه الدّين وثبت غائبا. وجب أيضا على الحاكم سماع البيّنة عليه. ويجوز له أن يبيع عليه شيئا من أملاكه ، غير أنّه لا يسلّمه الى خصمه إلّا بعد كفلاء. فإن حضر ، ولم يكن له بيّنة تبطل بيّنة صاحب الدّين ، برئت ذمّته وذمّة الكفلاء. وإن كانت له بيّنة تبطل بيّنته ، ردّ الكفلاء عليه المال.

ومتى كان المدين معسرا ، لم يجز لصاحب الدّين مطالبته والإلحاح عليه. بل ينبغي أن يرفق به ، وينظره الى أن يوسّع الله عليه ، أو يبلغ خبره الإمام ، فيقضي دينه عنه من سهم الغارمين ، إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة. وإن كان لا يعلم في ما ذا أنفقه ، أو علم أنّه أنفقه في معصية ، لم يجب عليه القضاء عنه. بل إذا وسع الله عليه. قضى عن نفسه.

ولا يجوز أن تباع دار الإنسان التي يسكنها ولا خادمه الذي يخدمه في الدّين إذا كان مقدار ما فيها كفايته. فإن كانت دار غلة ألزم بيعها. وكذلك إن كانت كبيرة واسعة ، وله في دونها كفاية ، ألزم بيعها والاقتصار على الأدون منها. ويستحبّ لصاحب الدّين ألّا يلزمه ذلك ، ويصبر عليه.

ومتى ألحّ صاحب الدّين على المدين ، وأراد حبسه ، وخاف

٣٠٦

المدين : إن أقرّ به من الحبس فيضرّ ذلك به وبعياله ، جاز له أن ينكر ويحلف بالله : ما له قبله شي‌ء ، وينطوي على أنّه إذا تمكّن من قضائه قضاه ، ولا شي‌ء عليه فإذا تمكّن من قضائه ، قضاه.

ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك ، لم يجز له مطالبته بعد ذلك بشي‌ء منه. فإن جاء الحالف تائبا ، وردّ عليه ماله ، جاز أخذه. فإن أعطاه مع رأس المال ربحا ، أخذ رأس ماله ونصف الرّبح. وإن لم يحلّفه ، غير أنّه لم يتمكّن من أخذه منه ، ووقع له عنده مال ، جاز له أن يأخذ حقّه منه من غير زيادة عليه. وإن كان ما وقع عنده على سبيل الوديعة ، لم يجز له ذلك ، ولا يخون فيها.

ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل ماله من ملكه. فإن حضرته الوفاة ، أوصى به الى من يثق به. فإن مات من له الدّين ، سلّمه الى ورثته. فإن لم يعرف له وارثا ، اجتهد في طلبه. فإن لم يظفر به ، تصدّق به عنه ، وليس عليه شي‌ء.

وإذا استدانت المرأة على زوجها ، وهو غائب عنها ، فأنفقته بالمعروف ، وجب عليه القضاء عنها. فإن كان زائدا على المعروف ، لم يكن عليه قضاؤه.

ومن له على غيره مال ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلّا بعد أن يقبضه ، ثمَّ يدفعه اليه ، إن شاء للمضاربة.

ومن شاهد مدينا له قد باع ما لا يحلّ تملّكه للمسلمين من

٣٠٧

خمر أو خنزير وغير ذلك ، وأخذ ثمنه ، جاز له أن يأخذ منه ، فيكون حلالا له ، ويكون ذنب ذلك على من باع.

وإذا كان شريكان لهما مال على النّاس ، فتقاسما ، واحتال كلّ واحد منهما شيئا منه ، ثمَّ قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على النّاس أيضا مثل ذلك.

ومن كان له دين على غيره ، فأعطاه شيئا بعد شي‌ء من غير الجنس الذي له عليه ، ثمَّ تغيّرت الأسعار ، كان له بسعر يوم أعطاه تلك السّلعة ، لا بسعر وقت محاسبته إيّاه.

باب قضاء الدين عن الميت

يجب أن يقضى الدّين عن الميّت من أصل تركته ، وهو أوّل ما يبدأ به بعد الكفن ، ثمَّ تليه الوصيّة. فإن أقيم بيّنة على ميّت بمال ، وكانت عادلة ، وجب معها على من أقامها اليمين بالله : أنّ له ذلك المال حقّا ، ولم يكن الميّت قد خرج اليه من ذلك ولا من شي‌ء منه. فإذا حلف ، كان له ما أقام عليه البيّنة ، وحلف عليه وإن امتنع عنه ، لم يكن له عليه شي‌ء ، وبطلت بيّنته. ولم يلزم الورثة اليمين. فإن ادّعى عليهم العلم بذلك ، لزمهم أن يحلفوا أنّهم لا يعلمون له حقّا على ميّتهم.

ومتى لم يخلّف الميّت شيئا ، لم يلزم الورثة قضاء الدّين

٣٠٨

عنه بحال. فإن تبرّع منهم إنسان بالقضاء عنه ، كان له بذلك الأجر والثّواب. ويجوز أن يكون ذلك القضاء ممّا يحتسب به من مال الزّكاة.

ومتى أقرّ بعض الورثة بالدّين ، لزم في حصّته بمقدار ما يصيبه من أصل التّركة. فإن شهد نفسان منهم ، وكانا عدلين مرضيّين ، أجيزت شهادتهما على باقي الورثة. وإن لم يكونا كذلك ، ألزما في حصّتهما بمقدار ما يصيبهما حسب ما قدّمناه ، ولا يلزمهما الدّين على الكمال.

ومن مات وعليه دين ، يستحب لبعض إخوانه أن يقضي عنه. وإن قضاه من سهم الغارمين من الصّدقات ، كان ذلك جائزا حسب ما قدّمناه. وإذا لم يخلّف الميّت إلّا مقدار ما يكفّن به ، سقط عنه الدين ، وكفّن بما خلّف. فإن تبرّع إنسان بتكفينه ، كان ما خلّفه للدّيان دون الورثة.

وإن قتل إنسان وعليه دين ، وجب أن يقضى ما عليه من ديته ، سواء كان قتله عمدا أو خطأ. فإن كان ما عليه يحيط بديته ، وكان قد قتل عمدا ، لم يكن لأوليائه القود ، إلّا بعد أن يضمنوا الدّين عن صاحبهم. فإن لم يفعلوا ذلك ، لم يكن لهم القود على حال ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم.

وإذا تبرّع إنسان بضمان الدّين عن الميّت في حال حياته أو بعد وفاته ، برئت ذمّة الميّت ، سواء قضى ذلك المال الضّامن أو لم يقض ، إذا كان صاحب الدّين قد رضي به. فإن لم يكن قد

٣٠٩

رضي به ، كان في ذمّة الميّت على ما كان.

ومن مات وعليه دين مؤجّل ، حلّ أجل ما عليه ، ولزم ورثته الخروج ممّا كان عليه. وكذلك إن كان له دين مؤجّل حلّ أجل ما له ، وجاز للورثة المطالبة به في الحال.

ومتى مات وعليه دين لجماعة من النّاس ، تحاصّوا ما وجد من تركته بمقدار ديونهم ، ولم يفضّل بعضهم على بعض. فإن وجد واحد منهم متاعه بعينه عنده ، وكان للميّت مال يقضى ديون الباقين عنه ، ردّ عليه ، ولم يحاصّه باقي الغرماء. وإن لم يخلّف غير ذلك المتاع ، كان صاحبه وباقي الغرماء فيه سواء. وكذلك لو كان حيّا والتوى على غرمائه ، ردّ عليه ماله ، ولم يحاصّه باقي الغرماء.

وإذا مات من له الدّين ، فصالح المدين ورثته على شي‌ء ممّا كان عليه ، كان ذلك جائزا ، وتبرأ بذلك ذمّته ، إذا أعلمهم مقدار ما عليه من المال ، ورضوا بمقدار ما صالحوه عليه. ومتى لم يعلمهم مقدار ما عليه ، أو لم يرضوا به ، لم يكن ذلك الصلح جائزا.

باب بيع الديون والأرزاق

لا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره من الدّيون نقدا. ويكره أن يبيع الإنسان ذلك نسيئة. ولا يجوز بيعه بدين آخر

٣١٠

مثله. فإن وفّى الذي عليه الدّين المشتري ، وإلّا رجع على من اشتراه منه بالدرك.

ومن باع الدّين بأقلّ ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال. ولا يجوز بيع الأرزاق من السّلطان ، لأنّ ذلك غير مضمون.

باب المملوك يقع عليه الدين

المملوك إذا لم يكن مأذونا له في التجارة ، فكلّ ما يقع عليه من الدّين ، لم يلزم مولاه شي‌ء من ذلك ، ولا يستسعى أيضا فيه ، بل كان ضائعا. وإن كان مأذونا له في التّجارة ، ولم يكن مأذونا له في الاستدانة ، فما يحصل عليه من الدين ، استسعي فيه ، ولم يلزم مولاه من ذلك شي‌ء. وإن كان مأذونا له في الاستدانة ، لزم مولاه ما عليه من الدّين ، إن استبقاه مملوكا ، أو أراد بيعه. فإن أعتقه ، لم يلزمه شي‌ء ممّا عليه ، وكان المال في ذمّة العبد. فإن مات المولى وعليه دين ، كان غرماء العبد وغرماؤه سواء ، يتحاصّون ما يحصل من جهته من المال على ما يقتضيه أصول أموالهم من غير تفضيل بعض منهم على بعض.

باب القرض وأحكامه

القرض فيه فضل كبير وثواب جزيل. وقد روي أنّه أفضل

٣١١

من الصّدقة بمثله في الثّواب. وإذا استقرض الإنسان شيئا ، كان عليه زكاته إن تركه بحاله. وإن أداره في تجارة ، كان عليه مثل ما لو كان المال له ملكا. وتسقط زكاته عن القارض ، إلّا أن يشترط المستقرض عليه أن يزكيه عنه ، فحينئذ تجب الزّكاة على القارض دون المستقرض.

وإذا أقرض الإنسان مالا فردّ عليه أجود منه من غير شرط ، كان ذلك جائزا. وإن أقرض وزنا فردّ عليه عددا ، أو أقرض عددا فردّ عليه وزنا من غير شرط ، زاد أو نقص ، بطيبة نفس منهما ، لم يكن به بأس. وإن أقرض شيئا على أن يعامله المستقرض في التّجارات ، جاز ذلك. وإن أعطاه الغلّة وأخذ منه الصّحاح ، شرط ذلك أو لم يشرط ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن أقرض حنطة فردّ عليه شعير ، أو أقرض شعيرا فردّ عليه حنطة ، أو أقرض جلّة من تمر فردّ عليه جلّتان ، كلّ ذلك من غير شرط ، لم يكن به بأس.

وإن أقرض شيئا وارتهن على ذلك ، وسوّغ له صاحب الرّهن الانتفاع به ، جاز له ذلك ، سواء كان ذلك متاعا أو آنية أو مملوكا أو جارية أو أيّ شي‌ء كان ، لم يكن به بأس ، إلّا الجارية خاصّة ، فإنّه لا يجوز له استباحة وطيها بإباحته إيّاها لمكان القرض. وإذا أهدى له هدايا ، فلا بأس بقبولها إذا لم يكن هناك شرط. والأولى تجنّب ذلك أجمع.

٣١٢

ولا بأس أن يقرض الإنسان الدراهم أو الدّنانير ، ويشترط على صاحبه أن ينقدها له بأرض أخرى ، ويلزمه الوفاء به. ومتى كان له على إنسان دراهم أو دنانير أو غيرها ، جاز له أن يأخذ مكان ماله من غير الجنس الذي له عليه بسعر الوقت.

باب الصلح

الصّلح جائز بين المسلمين ما لم يؤدّ الى تحليل حرام أو تحريم حلال. وإذا كان نفسان لكلّ واحد منهما شي‌ء عند صاحبه من طعام أو متاع أو غيرهما ، تعيّن لهما ذلك أو لم يتعيّن ، أحاطا علما بمقداره أو لم يحيطا ، فاصطلحا على أن يتتاركا ويتحلّلا ، كان ذلك جائزا بينهما. فإذا فعلا ، لم يكن لأحدهما الرّجوع على صاحبه بعد ذلك ، إذا كان ذلك بطيبة نفس كلّ واحد منهما.

ومن كان له دين على غيره آجلا ، فنقص منه شيئا ، قلّ ذلك أم كثر ، وسأل تعجيل الباقي ، كان ذلك سائغا جائزا.

والشريكان إذا تقاسما واصطلحا على أن يكون الرّبح والخسران على واحد منهما ، ويردّ على الآخر رأس ماله على الكمال كان ذلك جائزا.

وإذا كان مع نفسين درهمان ، فذكر أحدهما : أنّهما لي ، وقال الآخر : هما بيني وبينك ، أعطي المدّعي لهما معا درهما

٣١٣

لإقرار صاحبه بذلك ، ويقسم بينهما الآخر نصفين. وإذا كان مع إنسان مثلا عشرون درهما لإنسان بعينه ، ولآخر ثلاثون درهما ، فاشترى بكلّ واحد من البضاعتين ثوبا ، ثمَّ اختلطا ، فلم يتميّزا له ، بيعا ، وقسم المال على خمسة أجزاء ، فما أصاب الثّلاثة أعطي صاحب الثّلاثين ، وما أصاب الاثنين أعطي صاحب العشرين.

وإذا استودع رجل رجلا دينارين ، واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منهما ، أعطي صاحب الدينارين ممّا يبقى دينارا ، وقسم الدّينار الآخر بينهما نصفين.

باب الكفالات والضمانات والحوالات

من كان عليه حقّ ، فسأل غيره ضمانه عنه لصاحبه ، فضمنه وقبل المضمون له ضمانه ، وكان الضّامن مليّا بما ضمن ، فقد وجب عليه الخروج الى صاحبه ممّا ضمن ، وبرئ المضمون عنه من مطالبة من كان له عليه ، غير أنّه يثبت له حقّه على من ضمن عنه. فإن أراد مطالبته بذلك ، كان ذلك له. ومتى تبرّع الضّامن من غير مسألة المضمون عنه ذلك ، وقبل المضمون له ضمانه ، فقد برئ عهدة المضمون عنه ، إلّا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرّع ، ويكون الحقّ على أصله ، لم ينتقل عليه بالضّمان. وليس للضّامن على المضمون عنه رجوع فيما ضمن إذا

٣١٤

تبرّع بالضّمان عنه.

ومن ضمن حقّا وهو غير مليّ به ، لم يبرأ المضمون عنه بذلك ، إلّا أن يكون المضمون له قد علم ذلك ، وقبل ضمانه مع ذلك ، فلا يجب له مع هذه الحال الرّجوع على المضمون عنه.

وإذا كان الضّامن مليّا بما ضمن في الحال التي ضمن فيها ، وقبل المضمون له ضمانه ، ثمَّ عجز بعد ذلك عمّا ضمن ، لم يكن للمضمون له الرّجوع على المضمون عنه. وإنّما يرجع عليه ، إذا لم يكن الضّامن مليّا في وقت الضّمان. فإن ظنّ في حال ما يضمن عنه مليّ بذلك ، ثمَّ انكشف له بعد ذلك أنّه كان غير مليّ في تلك الحال ، كان له الرّجوع على المضمون عنه.

ولا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجل. ومن ضمن لغيره نفس إنسان إلى أجل معلوم بشرط ضمان النّفوس ، ثمَّ لم يأت به عند الأجل ، كان للمضمون له حبسه حتّى يحضر المضمون ، أو يخرج اليه ممّا عليه. ومن ضمن غيره إلى أجل ، وقال : إن لم آت به كان عليّ كذا ، وحضر الأجل ، لم يلزمه إلّا إحضار الرّجل. فإن قال : عليّ كذا الى كذا إن لم أحضر فلانا ، ثمَّ لم يحضره ، وجب عليه ما ذكره من المال. وإن لم يكن عيّن المال ، وقال : أنا أضمن له ما يثبت لك عليه ، إن لم آت به الى وقت كذا ، ثمَّ لم يحضره ، وجب عليه ما قامت به البيّنة للمضمون عنه ، ولا يلزمه ما لم تقم به البيّنة ممّا يخرج به الحساب في دفتر

٣١٥

أو كتاب. وإنما يلزمه ما قامت له به البيّنة ، أو يحلف خصمه عليه. فإن حلف على ما يدّعيه ، واختار هو ذلك ، وجب عليه الخروج منه.

ومن خلّى غريما لرجل من يده قهرا وإكراها ، كان ضامنا لما عليه. فإن خلّاه بمسألة وشفاعة ، لم يلزمه شي‌ء ، إلّا أن يضمن عنه ما عليه حسب ما قدّمناه. ومن خلّى قاتلا من يد وليّ المقتول بالجبر والإكراه ، كان ضامنا لدية المقتول ، إلّا أن يردّ القاتل إلى الوليّ ، ويمكنه منه.

ومن كان له على غيره مال ، فأحاله به على غيره ، وكان المحال عليه مليّا به في الحال ، وقبل الحوالة ، وأبرأه منه ، لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه أو لم يضمن بعد أن يكون قد قبل الحوالة. فإن لم يقبل الحوالة إلّا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة. فإن انكشف لصاحب المال ، أنّ الذي أحيل به غير مليّ بالمال ، بطلت الحوالة ، وكان له الرّجوع على المديون بحقّه عليه. ومتى لم يبرئ المحال له بالمال المحيل في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرّجوع عليه أيّ وقت شاء.

٣١٦

باب الوكالات

من وكل غيره في الخصومة عنه والمطالبة والمحاكمة والبيع والشّرى وجميع أنواع ما يتصرّف فيه بنفسه ، فقبل الموكّل عنه ذلك ، وضمن القيام به ، فقد صار وكيله ، يجب له ما يجب لموكله ، ويجب عليه ما يجب على موكّله ، إلّا ما يقتضيه الإقرار من الحدود والآداب والأيمان.

والوكالة يعتبر فيها شرط الموكل. فإن شرط أن يكون في خاصّ من الأشياء ، لم يجز فيما عداه. وإن شرط أن تكون عامّة ، قام الوكيل مقام الموكّل على العموم حسب ما قدّمناه. والوكالة تصحّ للحاضر كما تصحّ للغائب. ولا يجب الحكم بها على طريق التبرّع دون أن يلتزم ذلك بإيثار الموكّل واختياره.

وللناظر في أمور المسلمين ولحاكمهم ، أن يوكّل على سفهائهم وأيتامهم ونواقصي عقولهم ، من يطالب بحقوقهم ، ويحتجّ عنهم ولهم. وينبغي لذوي المروّات من النّاس ، أن يوكّلوا لأنفسهم في الحقوق ، ولا يباشروا الخصومة بنفوسهم.

وللمسلم أن يتوكّل على أهل الإسلام وأهل الذّمّة ، ولأهل الذّمّة على أهل الذّمّة خاصة ، ولا يتوكّل للذّمي على المسلم. ويتوكّل الذّمّي للمسلم على الذّمّي ولأهل الذّمّة على أمثالهم من الكفّار. ولا يجوز له أن يتوكّل على أحد من أهل الإسلام لا لذمّيّ ولا

٣١٧

لمسلم على حال.

وينبغي أن يكون الوكيل عاقلا بصيرا في الحكم فيما أسند إليه الوكالة فيه عارفا باللّغة التي يحتاج إلى المحاورة بها في وكالته لئلّا يأتي بلفظ يقتضي إقرارا بشي‌ء وهو يريد غيره. ولا يجوز لحاكم أن يسمع من متوكّل لغيره إلّا بعد أن تقوم له عنده البيّنة بثبوت وكالته عنه.

ومن وكل وكيلا ، وأشهد على وكالته ، ثمَّ أراد عزله ، فليشهد على عزله علانية بمحضر من الوكيل ، أو يعلمه ذلك كما أشهد على وكالته. فإذا أعلمه عزله ، أو أشهد على عزله ، إذا لم يمكنه إعلامه ، فقد انعزل الوكيل عن وكالته. فكلّ أمر ينفّذه بعد ذلك ، كان باطلا ، لا يلزم الموكّل منه قليل ولا كثير. وإن عزله ، ولم يشهد على عزله ، أو لم يعلمه ذلك مع إمكان ذلك ، لم ينعزل الوكيل. وكلّ أمر ينفّذه بعد ذلك ، كان ماضيا على موكّله الى أن يعلم بعزله. فإن اختلف الموكّل والوكيل في العزل ، فقال الموكّل : قد أعلمته العزل ، وأنكر ذلك الوكيل ، كان على الموكّل البيّنة بأنّه أعلمه ذلك ، ولم يكفه إقامة البيّنة على أنّه قد عزله. فإن لم يمكنه إقامة البيّنة على ذلك ، كان على ذلك الوكيل اليمين : أنّه ما علم بعزله عن الوكالة. فإن حلف ، كانت وكالته ثابتة حسب ما قدّمناه. وإن امتنع من اليمين ، بطلت وكالته من وقت ما أقام البيّنة على عزله.

٣١٨

ومتى تعدّى الوكيل شيئا ممّا رسمه الموكّل ، كان ضامنا لما تعدّى فيه. فإن وكله في تزويجه امرأة بعينها ، فزوّجه غيرها ، لم يثبت النّكاح ، ولزم الوكيل مهرها ، لأنّه غرّها. وإن عقد له على التي أمره بالعقد عليها ، ثمَّ أنكر الموكّل أن يكون أمره بذلك ، ولم يقم للوكيل بيّنة بوكالته ، لزم الوكيل أيضا مهر المرأة ، ولم يلزم الموكّل شي‌ء ، وجاز للمرأة أن تتزوّج بعد ذلك. غير أنّه لا يحلّ للموكّل فيما بينه وبين الله تعالى إلّا أن يطلّقها. لأنّ العقد قد ثبت عليه. ومن وكل غيره في أن يطلّق عنه امرأته ، وكان غائبا ، جاز طلاق الوكيل. وإن كان شاهدا ، لم يجز طلاق الوكيل.

والرّجل إذا قبض صداق ابنته ، وكانت صبيّة في حجره ، برئت ذمّة الزّوج من المهر على كلّ حال ، ولم يكن للبنت مطالبته بالمهر بعد البلوغ. وإن كانت البنت بالغة ، فإن كانت وكّلته في قبض صداقها ، فقد برئ أيضا ذمّته. وإن لم تكن وكّلته على ذلك ، لم تبرأ ذمّة الزّوج ، وكان لها مطالبته بالمهر ، وللزّوج الرّجوع على الأب في مطالبته بالمهر. فإن كان الأب قد مات ، كان له الرّجوع على الورثة ومطالبتهم به كما كان له مطالبته في حال حياته

٣١٩

باب اللقطة والضالة

اللّقطة على ضربين :

ضرب منه يجوز أخذه ، ولا يكون على من أخذه ضمانه ولا تعريفه ، وهو كلّ ما كان دون الدرهم ، أو يكون ما يجده في موضع خرب قد باد أهله واستنكر رسمه.

والضّرب الآخر ، وهو الذي لا يجوز له أخذه ، فإن أخذه لزمه حفظه وتعريفه ، فعلى ضربين :

ضرب منه ما يجده في الحرم ، والضّرب الآخر في غير الحرم.

فما يجده في الحرم ، يلزمه تعريفه سنة في المواقف والمواسم. فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه. وإن لم يجي‌ء صاحبه بعد السّنة ، تصدّق به عنه ، وليس عليه شي‌ء. فإن جاء صاحبه بعد ذلك ، لم يلزمه شي‌ء. فإن أراد أن يخيّره بين أن يغرم له ويكون الأجر له ، واختار ذلك صاحب المال ، فعل ، وليس ذلك واجبا عليه.

وأمّا الذي يجده في غير الحرم ، فيلزمه أيضا أن يعرّفه سنة. فإن جاء صاحبه ردّ عليه. وإن لم يجي‌ء ، كان سبيله كسبيل ماله ، ويجوز له التّصرّف فيه. إلّا أنّه يكون ضامنا له : متى جاء صاحبه ، وجب عليه ردّه. فإن تصدّق به عنه ، لزمه أن يغرمه عنه متى جاء ، إلّا أن يشاء صاحب المال أن يكون الأجر له ، فيحتسب له بذلك عند الله.

٣٢٠