النّهاية

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

النّهاية

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : الفقه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٩

ويستحبّ أن يعتمر الإنسان في كلّ شهر إذا تمكّن من ذلك. وقد روي أنّه يجوز أن يعتمر في كلّ عشرة أيّام. فمن عمل على ذلك ، لم يكن به بأس.

وينبغي إذا أحرم المعتمر أن يذكر في دعائه أنّه محرم بالعمرة المفردة. وإذا دخل الحرم ، قطع التّلبية حسب ما قدّمناه. فإذا دخل مكّة ، طاف بالبيت طوافا واحدا للزّيارة ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ثمَّ يقصّر إن شاء ، وإن شاء حلق. والحلق أفضل. ويجب عليه بعد ذلك لتحلّة النّساء طواف ، وقد أحلّ من كلّ شي‌ء أحرم منه.

باب المحصور والمصدور

المحصور هو الذي يلحقه المرض في الطّريق ، فلا يقدر على النّفوذ إلى مكّة. فإذا كان كذلك ، فإن كان قد ساق هديا ، فليبعث به الى مكّة ، ويجتنب هو جميع ما يجتنبه المحرم الى أن يبلغ الهدي محلّه. ومحلّه منى يوم النّحر ، إن كان حاجّا. وإن كان معتمرا ، فمحلّه مكّة بفناء الكعبة. فإذا بلغ الهدي محلّه ، قصر من شعر رأسه ، وحلّ له كلّ شي‌ء إلّا النّساء ، ويجب عليه الحجّ من قابل ، إذا كان صرورة. وإن لم يكن صرورة ، كان عليه الحجّ من قابل استحبابا ، ولم تحلّ له النّساء الى أن يحجّ في القابل ، إن كان ممن يجب عليه ذلك ، أو

٢٨١

يأمر من يطوف عنه طواف النّساء ، إن كان متطوّعا. فإن وجد من نفسه خفّة بعد أن بعث هديه ، فليلحق بأصحابه. فإن أدرك مكّة قبل أن ينحر هديه ، قضى مناسكه كلّها ، وقد وقد أجزأه ، وليس عليه الحجّ من قابل.

وإن وجدهم قد ذبحوا الهدي ، فقد فاته الحجّ ، وكان عليه الحجّ من قابل. وإنما كان الأمر على ذلك ، لأن الذّبح إنّما يكون يوم النّحر. فإذا وجدهم قد ذبحوا الهدي ، فقد فاته الموقفان ، وإن لحقهم قبل الذّبح ، يجوز أن يلحق أحد الموقفين. فمتى لم يلحق واحدا منهما ، فقد فاته أيضا الحجّ. ومن لم يكن قد ساق الهدي فليبعث بثمنه مع أصحابه ، ويواعدهم وقتا بعينه بأن يشتروه ويذبحوا عنه ، ثمَّ يحلّ بعد ذلك. فإن ردّوا عليه الدراهم ، ولم يكونوا وجدوا الهدي ، وكان قد أحلّ ، لم يكن عليه شي‌ء. ويجب عليه أن يبعث به في العام القابل ، ويمسك ممّا يمسك عنه المحرم الى أن يذبح عنه. وإن كان المحصور معتمرا ، فعل ما ذكرناه ، وكانت عليه العمرة فرضا في الشّهر الدّاخل ، إذا كانت واجبة. وإن كانت نفلا ، كان عليه العمرة في الشّهر الدّاخل تطوّعا.

وأمّا المصدود ، فهو الذي يصدّه العدوّ عن الدّخول إلى مكّة ، كما صدوا رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله. فإذا كان ذلك ، ذبح هديه في المكان الذي صدّ فيه ، ويحلّ من كلّ

٢٨٢

شي‌ء أحرم منه من النّساء وغيره.

والمحصور إن كان قد أحصر ، وقد أحرم بالحجّ قارنا ، فليس له أن يحجّ في المستقبل متمتّعا ، بل يدخل بمثل ما خرج منه.

ومن أراد أن يبعث بهدي تطوّعا ، فليبعثه ، ويواعد أصحابه يوما بعينه ، ثمَّ ليجتنب جميع ما يجتنبه المحرم من الثّياب والنّساء والطّيب وغيره ، إلّا أنّه لا يلبّي. فإن فعل شيئا ممّا يحرم عليه ، كانت عليه الكفّارة ، كما يجب على المحرم سواء. فإذا كان اليوم الذي واعدهم ، أحلّ. وإن بعث بالهدي من أفق من الآفاق ، يواعدهم يوما بعينه بإشعاره وتقليده. فإذا كان ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم الى أن يبلغ الهدي محلّه ، ثمَّ إنّه قد أحلّ من كلّ شي‌ء أحرم منه.

باب آخر من فقه الحج

إذا وصّى الرّجل بحجّة ، وكانت حجّة الإسلام ، أخرجت من أصل المال. وإن كانت نافلة ، أخرجت من الثّلث. فإن لم يبلغ الثلث ما يحجّ به عنه من موضعه ، حجّ عنه من بعض الطّريق. فإن لم يمكن أن يحجّ به أصلا ، صرف في وجوه البر. ومن نذر أن يحجّ الله تعالى ، ثمَّ مات قبل أن يحجّ ، ولم يكن أيضا قد حجّ حجّة الإسلام ، أخرجت عنه حجّة

٢٨٣

الإسلام من صلب المال ، وما نذر فيه من ثلثه. فإن لم يكن المال إلّا بقدر ما يحجّ به عنه حجّة الإسلام ، حجّ به. ويستحبّ لوليّه أن يحجّ عنه ما نذر فيه. ومن وجبت عليه حجّة الإسلام ، فخرج لأدائها ، فمات في الطّريق ، فان كان قد دخل الحرم ، فقد أجزأ عنه ، وإن لم يكن قد دخل الحرم ، كان على وليّه أن يقضي عنه حجّة الإسلام من تركته.

ومن أوصى أن يحجّ عنه كلّ سنة من وجه بعينه. فلم يسع ذلك المال الحجّ في كلّ سنة جاز أن يجعل مال سنتين لسنة واحدة. ومن أوصى أن يحج عنه ، ولم يذكر كم مرّة ولا بكم من ماله ، وجب عليه أن يحجّ عنه ما بقي من ثلثه شي‌ء يمكن أن يحجّ به.

ومن أحدث حدثا في غير الحرم ، فلجأ الى الحرم ، فليضيّق عليه في المطعم والمشرب ، حتى يخرج ، فيقام عليه الحدّ.

فإن أحدث في الحرم ما يجب عليه إقامة الحدّ ، أقيم عليه فيه. ولا ينبغي لأحد أن يمنع الحاجّ شيئا من دور مكّة ومنازلها لأنّ الله تعالى قال : ( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ). ولا ينبغي لأحد أن يرفع بناء فوق الكعبة.

ومن وجد شيئا في الحرم ، فلا يجوز له أخذه. فإن أخذه ، فليعرّفه سنة. فإن جاء صاحبه ، وإلا تصدق به ، وكان ضامنا ،

٢٨٤

إذا جاء صاحبه ، ولم يرض بفعله. وإذا وجد في غير الحرم فليعرّفه سنة ، ثمَّ هو كسبيل ماله يعمل به ما شاء ، إلّا أنّه ضامن له ، إذا جاء صاحبه. وتكره الصّلاة في ثلاثة مواضع : في طريق مكّة : البيداء ، وذات الصّلاصل ، وضجنان.

ويستحبّ الإتمام في الحرمين : مكّة والمدينة ما دام مقيما وإن لم ينو المقام عشرة أيّام. فإن لم يفعل وقصّر ، لم يكن عليه شي‌ء. وكذلك يستحبّ الإتمام في مسجد الكوفة والحائر. وقد رويت رواية في الإتمام في حرم أمير المؤمنين ، عليه‌السلام ، وحرم الحسين ، عليه‌السلام. فعلى هذه الرّواية يجوز الإتمام في نفس المشهد بالنّجف وخارج الحير ، إلّا أنّ الأحوط ما قدّمناه.

ويكره الحجّ والعمرة على الإبل الجلّالات.

ويستحبّ لمن حجّ على طريق العراق أن يبدأ أوّلا بزيارة النّبيّ عليه‌السلام بالمدينة ، فإنّه لا يأمن أن لا يتمكّن من العود إليها. فإن بدأ بمكّة ، فلا بدّ له من العود إليها للزّيارة.

وإذا ترك النّاس الحجّ ، وجب على الإمام أن يخبرهم على ذلك. وكذلك إن تركوا زيارة النّبيّ ، كان عليه إجبارهم عليها. ولا بأس أن يستدين الرّجل ما يحجّ به ، إذا كان من ورائه ما إن مات قضي عنه. فإن لم يكن له ذلك ، كره له الاستدانة للحجّ. ويستحبّ الاجتماع يوم عرفة ، والدعاء عند

٢٨٥

مشاهد الأئمّة عليهم‌السلام. وليس ذلك بواجب. ويستحبّ للرّجل إذا انصرف من الحجّ أن يعزم على العود إليها ، ويسأل الله تعالى ذلك.

وأشهر الحجّ قد بيّنّا أنها شوّال وذو القعدة وذو الحجّة. والأيام المعلومات أيّام التّشريق. والأيّام المعدودات هي عشر ذي الحجّة.

ومن جاور بمكّة ، فالطّواف له أفضل من الصّلاة ، ما لم يجاوز ثلاث سنين. فإن جاوزها ، أو كان من أهل مكّة ، كانت الصّلاة له أفضل. ولا بأس أن يحجّ الإنسان عن غيره تطوّعا ، إذا كان ميّتا ، فإنّه يلحقه ثواب ذلك ، إلّا أن يكون مملوكا ، فإنّه لا يحجّ عنه. وتكره المجاورة بمكّة.

ويستحبّ للإنسان إذا فرغ من مناسكه الخروج منها ، ومن أخرج شيئا من حصى المسجد الحرام ، كان عليه ردّه اليه. ويكره للإنسان أن يخرج من الحرمين بعد طلوع الشّمس قبل أن يصلّي الصّلاتين. فإذا صلاهما ، خرج إن شاء.

فإذا خرج الإنسان من مكّة فليتوجّه إلى المدينة لزيارة النّبيّ عليه‌السلام. فإذا بلغ الى المعرّس ، فليدخله وليصل فيه ركعتين استحبابا ليلا كان أو نهارا. فإن جازه ونسي ، فليرجع ، وليصلّ فيه ركعتين. وليضطجع فيه قليلا. وإذا انتهى الى مسجد الغدير ، فليدخله وليصلّ فيه ركعتين. واعلم

٢٨٦

أنّ للمدينة حرما مثل حرم مكّة. وحدّه ما بين لابتيها وهو من ظلّ عائر إلى ظلّ وعير. لا يعضد شجرها. ولا بأس أن يؤكل صيدها ، إلّا ما صيد بين الحرّتين.

ويستحبّ ألّا يدخل الإنسان المدينة إلّا بغسل. وكذلك إذا أراد دخول مسجد النّبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا دخله ، أتى قبر النّبي ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزاره. فإذا فرغ من زيارته أتى المنبر فمسحه استحبابا. ويمسح أيضا رمّانتيه. ويستحبّ أن يصلّي ما بين القبر والمنبر ركعتين. فإن فيه روضة من رياض الجنّة. وقد روي أنّ فاطمة ، عليها‌السلام ، مدفونة هناك. وقد روي أنّها مدفونة في بيتها. وقد روي أنّها مدفونة بالبقيع. وهذا بعيد. والروايتان الأوليان أشبه وأقرب الى الصّواب. وينبغي أن يزور فاطمة ، عليها‌السلام ، من عند الروضة.

ويستحبّ المجاورة في المدينة وإكثار الصّلاة في مسجد النّبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله. ويكره النّوم في مسجد النّبيّ ، عليه وآله السّلام. ويستحبّ لمن له مقام بالمدينة أن يصوم ثلاثة أيّام : الأربعاء والخميس والجمعة. ويصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة. وهي أسطوانة التّوبة. ويقعد عندها يوم الأربعاء ، ويأتي ليلة الخميس الأسطوانة التي تلي مقام رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومصلّاه. ويصلّي عندها

٢٨٧

ويصلّي ليلة الجمعة عند مقام النّبيّ ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستحبّ أن تكون هذه الثّلاثة أيّام معتكفا في المسجد. ولا يخرج منه الا لضرورة.

ويستحبّ إتيان المشاهد كلّها بالمدينة : مسجد قبا ، ومشربة أمّ إبراهيم ، ومسجد الأحزاب ، وهو مسجد الفتح ، ومسجد الفضيخ ، وقبور الشّهداء كلّهم. ويأتي قبر حمزة بأحد ، ولا يتركه إلّا عند الضّرورة ، إن شاء الله.

٢٨٨

كتاب الجهاد وسيرة الإمام

باب فرض الجهاد ومن يجب عليه وشرائط وجوبه وحكم الرباط

الجهاد فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه وهو ، فرض على الكفاية. ومعنى ذلك أنّه إذا قام به من في قيامه كفاية وغناء عن الباقين ، ولا يؤدّي الى الإخلال بشي‌ء من أمر الدين ، سقط عن الباقين. ومتى لم يقم به أحد ، لحق جميعهم الذّمّ ، واستحقّوا بأسرهم العقاب. ويسقط الجهاد عن النّساء والصبيان والشّيوخ الكبار والمجانين والمرضى ومن ليس به نهضة الى القيام بشرطه.

ومن كان متمكّنا من إقامة غيره مقامه في الدّفاع عنه ، وهو غير متمكّن من القيام به بنفسه ، وجب عليه إقامته ، وإزاحة علّته في ما يحتاج اليه. ومن تمكّن من القيام بنفسه ، فأقام غيره مقامه ، سقط فرضه ، إلّا أن يلزمه النّاظر في أمر المسلمين القيام بنفسه ، فحينئذ يجب عليه أن يتولّى هو الجهاد ولا يكفيه إقامة غيره.

٢٨٩

ومن وجب عليه الجهاد إنّما يجب عليه عند شروط ، وهي أن يكون الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلّا بأمره ولا يسوغ لهم الجهاد من دونه ظاهرا ، أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين حاضرا ، ثمَّ يدعوهم الى الجهاد ، فيجب عليهم حينئذ القيام به. ومتى لم يكن الإمام ظاهرا ، ولا من نصبه الإمام حاضرا ، لم يجز مجاهدة العدوّ. والجهاد مع أئمّة الجور أو من غير إمام ، خطأ يستحقّ فاعله به الإثم. وإن أصاب لم يؤجر عليه. وإن أصيب كان مأثوما. اللهمّ إلّا أن يدهم المسلمين أمر من قبل العدوّ يخاف منه على بيضة الإسلام ويخشى بواره ، أو يخاف على قوم منهم ، وجب حينئذ أيضا جهادهم ودفاعهم. غير أنّه يقصد المجاهد ، والحال على ما وصفناه ، الدّفاع عن نفسه وعن حوزة الإسلام وعن المؤمنين ، ولا يقصد الجهاد مع الإمام الجائر ، ولا مجاهدتهم ليدخلهم في الإسلام.

والمرابطة في سبيل الله ، فيها فضل كبير وثواب جزيل. غير أنّ الفضل فيها يكون حال كون الإمام ظاهرا. وحدّها ثلاثة أيّام إلى أربعين يوما. فإن زاد على ذلك ، كان حكمه حكم المجاهدين وثوابه ثوابهم.

ومتى لم يكن الإمام ظاهرا ، لم يكن فيه ذلك الفضل. فإن نذر في حال استتار الامام وانقباض يده عن التّصرف أن

٢٩٠

يرابط ، وجب عليه الوفاء به. غير أنّه يكون حكمه ما ذكرناه من أنّه لا يبدأ العدوّ بالقتال ، وإنّما يدفعهم إذا خاف سطوتهم.

وإن نذر أن يصرف شيئا من ماله الى المرابطين في حال ظهور الإمام ، وجب عليه الوفاء به. وإن نذر ذلك في حال انقباض يد الإمام ، صرف ذلك في وجوه البر. اللهمّ إلّا أن يكون قد نذر ظاهرا ويخاف في الإخلال به الشّنعة عليه. فحينئذ يجب الوفاء به.

ومن أخذ من إنسان شيئا ، ليرابط عنه في حال انقباض يد الإمام ، فليردّ عليه ، ولا يلزمه الوفاء به. فإن لم يجد من أخذه منه ، وجب عليه الوفاء به ، ولزمته المرابطة.

ومن لا يمكنه المرابطة بنفسه ، فرابط دابّة ، أو أعان المرابطين بشي‌ء يقوم بأحوالهم ، كان له في ذلك أجر كبير.

ومن دخل أرض العدوّ بأمان من جهتهم ، فغزاهم قوم آخرون من الكفّار ، جاز له قتالهم ، ويكون قصده بذلك الدّفاع عن نفسه ، ولا يقصد معاونة المشركين والكفّار.

باب من يجب قتاله من المشركين وكيفية قتالهم

كلّ من خالف الإسلام من سائر أصناف الكفّار يجب مجاهدتهم وقتالهم. غير أنّهم ينقسمون قسمين :

قسم لا يقبل منهم إلّا الإسلام والدّخول فيه ، أو يقتلون

٢٩١

وتسبى ذراريّهم وتؤخذ أموالهم. وهم جميع أصناف الكفّار ، إلّا اليهود والنّصارى والمجوس.

والقسم الآخر هم الذين تؤخذ منهم الجزية. وهم الأجناس الثلاثة الذين ذكرناهم. فإنّهم متى انقادوا للجزية وقبلوها وقاموا بشرائطها ، لم يجز قتالهم ، ولم يسغ سبي ذراريهم. ومتى أبوا الجزية أو أخلّوا بشرائطها ، كان حكمهم حكم غيرهم من الكفّار في أنّه يجب عليهم القتل وسبي الذراري وأخذ الأموال.

ولا يجوز قتال أحد من الكفّار إلّا بعد دعائهم إلى الإسلام وإظهار الشّهادتين والإقرار بالتّوحيد والعدل والتزام جميع شرائع الإسلام. فمتى دعوا الى ذلك ، فلم يجيبوا حلّ قتالهم. ومتى لم يدعوا ، لم يجز قتالهم. والدّاعي ينبغي أن يكون الإمام أو من يأمره الإمام.

ولا يجوز قتال النّساء. فإن قاتلن المسلمين وعاونّ أزواجهنّ ورجالهنّ ، أمسك عنهنّ. فإن اضطرّوا الى قتلهنّ ، جاز حينئذ قتلهنّ ، ولم يكن به بأس.

وشرائط الذّمّة الامتناع من مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير وشرب الخمور وأكل الرّبا ونكاح المحرّمات في شريعة الإسلام. فمتى فعلوا شيئا من ذلك ، فقد خرجوا من الذّمّة ، وجرى عليهم أحكام الكفّار.

ومن أسلم من الكفّار وهو بعد في دار الحرب ، كان إسلامه

٢٩٢

حقنا لدمه من القتل ، وولده الصّغار من السّبي ، فأمّا الكبار منهم والبالغون ، فحكمهم حكم غيرهم من الكفّار ، وماله من الأخذ ، كلّ ما كان صامتا أو متاعا أو أثاثا ، وما يمكن نقله الى دار الإسلام. واما الأرضون والعقارات وما لا يمكن نقله ، فهو في‌ء للمسلمين.

ويجوز قتال الكفّار بسائر أنواع القتل إلّا السمّ ، فإنّه لا يجوز أن يلقى في بلادهم السّم. ومتى استعصى على المسلمين موضع منهم ، كان لهم أن يرموهم بالمناجيق والنّيران وغير ذلك ممّا يكون فيه فتح لهم ، وإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النّازلين عليهم. ومتى هلك المسلمون فيما بينهم ، أو هلك لهم من أموالهم شي‌ء ، لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامتهم من الدّية والأرش ، وكان ضائعا.

ولا بأس بقتال المشركين في أيّ وقت كان ، وفي أيّ شهر كان ، إلّا الأشهر الحرم. فإن من يري منهم خاصّة لهذه الأشهر حرمة لا يبتدءون فيها بالقتال. فإن بدءوهم بقتال المسلمين ، جاز حينئذ قتالهم. وإن لم يبتدءوا أمسك عنهم الى انقضاء هذه الأشهر. فأمّا غيرهم من سائر أصناف الكفّار فإنّهم يبتدءون فيها بالقتال على كلّ حال. ولا بأس بالمبارزة بين الصّفّين في حال القتال ، ولا يجوز له أن يطلب المبارزة ، إلّا بإذن الإمام. ولا يجوز لأحد أن يؤمن إنسانا على نفسه ثمَّ يقتله ، فإنّه يكون غادرا. ويلحق

٢٩٣

بالذّراريّ من لم يكن قد أنبت بعد. ومن أنبت ، ألحق بالرّجال ، وأجري عليه أحكامهم. ويكره قتل من يجب قتله صبرا. وإنّما يقتل على غير ذلك الوجه. ولا يجوز أن يفرّ واحد من واحد ولا اثنين. فإن فرّ منهما ، كان مأثوما. ومن فرّ من أكثر من اثنين ، لم يكن عليه شي‌ء.

باب قسمة الفي‌ء وأحكام الأسارى

قد بيّنّا في كتاب الزّكاة كيفيّة قسمة الفي‌ء على التفصيل ، غير أنّا نذكره هاهنا مجملا ، ونزيد عليه ما يحتاج اليه ممّا يليق بهذا المكان.

كلّ ما غنمه المسلمون من المشركين ، ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس ، فيصرفه إلى أهله ومستحقّيه حسب ما قدّمناه في كتاب الزّكاة.

والباقي على ضربين :

ضرب منه للمقاتلة خاصّة دون غيرهم من المسلمين.

وضرب هو عام لجميع المسلمين مقاتلتهم وغير مقاتلتهم.

فالذي هو عامّ لجميع المسلمين ، فكلّ ما عدا ما حوى العسكر من الأرضين والعقارات وغير ذلك ، فإنّه بأجمعه في‌ء للمسلمين : من غاب منهم ومن حضر على السّواء.

وما حوى العسكر يقسم بين المقاتلة خاصّة ، ولا يشركهم

٢٩٤

فيه غيرهم. فإن قاتلوا ، وغنموا ، فلحقهم قوم آخرون لمعاونتهم ، كان لهم من القسمة مثل ما لهم ، يشاركونهم فيها. وينبغي للإمام أن يسوّي بين المسلمين في القسمة ، ولا يفضّل أحدا منهم لشرفه أو علمه أو زهده على من ليس كذلك في قسمة الفي‌ء.

وينبغي أن يقسم للفارس سهمين وللرّاجل سهما : فإن كان مع الرّجل أفراس جماعة لم يسهم منها الّا لفرسين منها. ومن ولد في أرض الجهاد ، كان له من السّهم مثل ما للمقاتل على السّواء. وإذا قاتل قوم من المسلمين المشركين في السفينة ، فغنموا. وفيهم الفرسان والرّجّالة ، كان قسمتهم مثل قسمتهم لو قاتلوا على البرّ ، سواء : للفارس سهمان ، وللرّجل سهم.

وعبيد المشركين ، إذا لحقوا بالمسلمين قبل مواليهم ، وأسلموا كانوا أحرارا ، وحكمهم حكم المسلمين ، وإن لحقوا بهم بعد مواليهم كان حكمهم حكم العبيد.

ومتى أغار المشركون على المسلمين ، فأخذوا منهم ذراريّهم وعبيدهم وأموالهم ، ثمَّ ظفر بهم المسلمون ، فأخذوا منهم ما كانوا أخذوا منهم المشركون ، فإنّ أولادهم يردّون إليهم بعد أن يقيموا بذلك بيّنة ، ولا يسترقّون. فأمّا العبيد فإنّهم يقوّمون في سهام المقاتلة. ويعطي الإمام مواليهم أثمانهم من بيت المال. وكذلك الحكم في أمتعتهم وأثاثاتهم على السّواء.

٢٩٥

والأسارى على ضربين : ضرب منهم هو كلّ أسير أخذ قبل أن ( تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) ، وينقضي القتال ، فإنّه لا يجوز للإمام استبقاءهم ، ويكون مخيّرا بين أن يضرب رقابهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم ، ويتركهم حتّى ينزفوا ويموتوا. والضّرب الآخر هو كلّ أسير أخذ بعد أن وضعت ( الْحَرْبُ أَوْزارَها ) ، فإنّه يكون الإمام فيه مخيّرا : إن شاء منّ عليه فأطلقه ، وإن شاء استبعده ، وإن شاء فاداه.

ومن أخذ أسيرا ، فعجز عن المشي ، ولم يكن معه ما يحمله عليه الى الإمام ، فليطلقه ، فإنّه لا يدري : ما حكم الإمام فيه. ومن كان في يده أسير ، وجب عليه أن يطعمه ويسقيه ، وإن أرادوا قتله بعد لحظة.

والمسلم إذا أسره المشركون ، لم يجز له أن يتزوّج فيما بينهم. فإن اضطرّ ، جاز له أن يتزوّج في اليهود والنّصارى. فأمّا غيرهم فلا يقربهم على حال.

باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفية قتالهم والسيرة فيهم

كلّ من خرج على إمام عادل ، ونكث بيعته ، وخالفه في أحكامه ، فهو باغ ، وجاز للإمام قتاله ومجاهدته. ويجب على من يستنهضه الإمام في قتالهم ، النّهوض معه. ولا يسوغ له

٢٩٦

التّأخّر عن ذلك. ومن خرج على إمام جائر ، لم يجز قتالهم على حال. ولا يجوز لأحد قتال أهل البغي إلّا بأمر الإمام. ومن قاتلهم ، فلا ينصرف عنهم إلّا بعد الظّفر أو يفيئوا إلى الحقّ. ومن رجع عنهم من دون ذلك ، كان فارّا من الزّحف.

وأهل البغي على ضربين : ضرب منهم يقاتلون ولا تكون لهم فئة يرجعون اليه. والضّرب الآخر تكون لهم فئة يرجعون إليه.

فإذا لم يكن لهم فئة يرجعون إليه ، فإنّه لا يجاز على جريحهم ولا يتّبع مدبرهم ولا تسبى ذراريّهم ، ولا يقتل أسيرهم.

ومتى كان لهم فئة يرجعون اليه ، جاز للإمام أن يجيز على جرحاهم وأن يتّبع مدبرهم وأن يقتل أسيرهم. ولا يجوز سبي الذّراري على حال. ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر ، ويقسم على المقاتلة حسب ما قدّمناه. وليس له ما لم يحوه العسكر ، ولا له اليه سبيل على حال.

والمحارب هو كلّ من قصد إلى أخذ مال الإنسان وأشهر السّلاح في برّ أو بحر أو سفر أو حضر. فمتى كان شي‌ء من ذلك ، جاز للإنسان دفعه عن نفسه وعن ماله. فإن أدّى ذلك الى قتل اللّصّ ، لم يكن عليه شي‌ء. وإن أدّى الى قتله هو ، كان شهيدا ، وثوابه ثواب الشّهداء.

٢٩٧

باب من الزيادات في ذلك

يجوز للإمام أن يذمّ لقوم من المشركين ، ويجوز له أن يصالحهم على ما يراه. ولا يجوز لأحد أن يذمّ عليه إلّا بإذنه وإذا كانوا جماعة من المسلمين في سريّة ، فأذمّ واحد منهم لمشرك ، كانت ذمّته ماضية على الكلّ ، ولم يجز لأحد منهم الخلاف عليهم ، وإن كان أدونهم في الشّرف ، حرّا كان أو عبدا. ومتى استذمّ قوم من المشركين الى المسلمين ، فقال لهم المسلمون لا نذمّكم ، فجاءوا إليهم ظنّا منهم أنّهم أذمّوهم ، كانوا مأمونين ولم يكن عليهم سبيل. ومن أذمّ مشركا أو غير مشرك ، ثمَّ أخفره ونقض ذمامه ، كان غادرا آثما.

ويكره أن يعرقب الإنسان الدّابة على جميع الأحوال. فإن وقفت عليه في أرض العدوّ ، فليخلّها ولا يعرقبها.

وإذا اشتبه قتلى المشركين بقتلى المسلمين ، فليوار منهم من كان صغير الذّكر على ما روي في بعض الأخبار.

ولا بأس أن يغزو الإنسان عن غيره ، ويأخذ منه على ذلك الجعل.

ويكره تبييت العدوّ ليلا ، وإنّما يلاقون بالنّهار. ويستحبّ ألّا يؤخذ في القتال إلّا بعد زوال الشّمس ، فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل الزّوال ، لم يكن به بأس. ولا يجوز التّمثيل

٢٩٨

بالكفّار ولا الغدر بهم ولا الغلول منهم. ولا ينبغي أن تقطع المثمرة في أرض العدوّ والإضرار بهم ، إلّا عند الحاجة إليها. ولا ينبغي تغريق المساكن والزّروع إلّا عند الحاجة الشّديدة الى ذلك.

وليس للأعراب من الغنيمة شي‌ء ، وإن قاتلوا مع المهاجرين.

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن له اقامة الحدود والقضاء ومن ليس له ذلك

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام ، وهما فرضان على الأعيان ، لا يسع أحدا تركهما والإخلال بهما.

والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يجبان بالقلب واللّسان واليد ، إذا تمكّن المكلّف من ذلك ، وعلم أنّه لا يؤدّي الى ضرر عليه ولا على أحد من المؤمنين لا في الحال ولا في مستقبل الأوقات ، أو ظنّ ذلك. فإن علم الضّرر في ذلك ، إمّا عليه أو على غيره ، إمّا في الحال أو في مستقبل الأوقات ، أو غلب على ظنّه. لم يجب عليه من هذه الأنواع ، إلّا ما يأمن معه الضّرر على كلّ حال.

والأمر بالمعروف يكون باليد واللّسان. فأمّا باليد ، فهو أن يفعل المعروف ويجتنب المنكر على وجه يتأسّى به النّاس. وأمّا باللّسان ، فهو أن يدعو النّاس الى المعروف ، ويعدهم على فعله المدح والثّواب ، ويزجرهم ، ويحذرهم في الإخلال به من العقاب.

٢٩٩

فمتى لم يتمكّن من هذين النّوعين ، بأن يخاف ضررا عليه أو على غيره ، اقتصر على اعتقاد وجوب الأمر بالمعروف بالقلب ، وليس عليه أكثر من ذلك.

وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل النّاس على ذلك بالتأديب والرّدع وقتل النّفوس وضرب من الجراحات ، إلّا أنّ هذا الضّرب لا يجب فعله إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرّئاسة. فإن فقد الإذن من جهته ، اقتصر على الأنواع التي ذكرناها.

وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها : فأمّا باليد ، فهو أن يؤدّب فاعله بضرب من التأديب : إمّا الجراح أو الألم أو الضّرب ، غير أنّ ذلك مشروط بالإذن من جهة السّلطان حسب ما قدّمناه. فمتى فقد الإذن من جهته اقتصر على الإنكار باللّسان والقلب. ويكون الإنكار باللّسان ، بالوعظ والإنذار والتّخويف من فعله بالعقاب والذّمّ. وقد يجب عليه إنكار المنكر بضرب من الفعل ، وهو أن يهجر فاعله ، ويعرض عنه وعن تعظيمه ، ويفعل معه من الاستخفاف ما يرتدع معه من المناكير. وإن خاف الفاعل للإنكار باللّسان ضررا ، اقتصر على الإنكار بالقلب حسب ما قدّمناه في المعروف سواء.

فأمّا إقامة الحدود ، فليس يجوز لأحد إقامتها ، إلّا لسلطان الزّمان المنصوب من قبل الله تعالى ، أو من نصبه الإمام لإقامتها

٣٠٠