كنز العرفان في فقه القرآن

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨
الجزء ١ الجزء ٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب المكاسب

التكسّب ضروريّ للإنسان من حيث افتقاره في بقاء شخصه إلى الغذاء والملبس والمسكن الّتي لم تجر العادة بخلقها له ابتداء فيجب السعي في تحصيلها على القادر عليه بطريق لا يؤدي إلى فسخ القواعد العقليّة وهتك التقديرات الشرعيّة وأمّا من ليس بقادر فقد اقتضت العناية الإلهيّة وجوب ذلك على غيره من القادرين الأولى فالأولى وسيأتي تفصيل ذلك. ثمّ إنّ الطرق للقادر كثيرة أفضلها ما كان بالاضطراب في البيع والشراء والصناعة فقد أوحى الله سبحانه إلى داود « إنّك نعم العبد لو لا أنك تأكل من بيت المال » فبكى داود عليه‌السلام فأوحى الله إليه « إنّي قد ألنت لك الحديد فكان يعمل من ذلك دروعا ويبيعها ويقتات من أثمانها ويتصدّق بالباقي (١).

ثمّ البحث هنا قسمان :

الأول

في البحث عن الاكتساب بقول مطلق

وفيه آيات :

الاولى ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْ‌ءٍ إِلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (٢).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٧٤ تحت الرقم ٥.

(٢) الحجر : ٢١.

١

مضمون الآية الأخبار بكون الأرض محلّ المعاش والارتزاق والامتنان على عباده بإباحة ذلك لهم وفيها فوائد :

١ ـ « الأرض » منصوبة بعامل محذوف يفسّره الظاهر (١) ومدّها هو

__________________

(١) هذا مذهب البصريين والمسألة من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ترى تفصيل البحث في المسئلة الثانية عشر من مسائل الخلاف من كتاب الانصاف لابن الأنباري ج ١ ص ٨٢ وص ١٦٢ من شرح الرضى على الكافية وج ١ ص ٢٩٢ من تصريح خالد الأزهري وسائر الكتب الأدبية مثل الاشمونى وشرح المفصل والحدائق الندية في شرح الصمدية للسيد عليخان مبحث الاشتغال.

وخلاصة الكلام أن البصريين يرون نصب الاسم المشغول عنه بالفعل المقدر من لفظ المفسر كما في زيدا ضربته أو ما يناسبه بالترادف أو اللزوم كما في زيدا مررت به اى جاوزته أو ضربت أخاه اى اهنت زيدا وأما الكوفيون فيرون ناصب الاسم المشغول عنه نفس المفعول المذكور ، اما لذاته كما في زيدا ضربته واما لغيره كما في زيدا مررت به لسده مسد جاوزته.

ثم ان الكسائي يقول بكون الضمير ملغى والفراء تلميذه يقول ان الفعل المذكور عامل فيهما لأنهما في المعنى كشي‌ء واحد فهو كقولهم أكرمت أباك زيدا ، ويرد عليه أنه لو جعل الضمير مثلا تأكيدا أو بدلا أو عطف بيان لوجب ان يكون الضمير مثل الظاهر في الاعراب ولا يتم ذلك في زيدا مررت به وزيدا ضربت غلامه وصححه المحقق الشارح الرضى طاب ثراه بأنه يمكن أن يقال : الضمير أو متعلقة بدل الكل من المنصوب المتقدم فالضمير في زيدا ضربته بدل من زيد وكذا الجار والمجرور في زيدا مررت به ، إذ المعنى جاوزته وكذا أخاه في زيدا ضربت أخاه بدل من زيد بحذف مضاف اى متعلق زيد ضربت وكذا في قولك زيدا ضربت عمروا في داره وزيدا لقيت عمروا أخاه بتقدير ملابس زيد ضربت وملابس زيد لقيت ، ثم بينت الملابس بقولك عمرا في داره فإنه ملابس زيد بكونه في دار زيد وبقولك عمرا أخاه فإنه ملابس زيد بكونه ملاقيا لك هو وأخو زيد وهناك أبحاث لا نطيل الكلام بذكرها.

٢

بسطها (١) وجعلها مسكنا ومستقرا ومنتعشا للحيوان وإن كانت كرة عند بعضهم فذلك غير مناف لبسطها لأنّها لعظم جرمها لا ينافي بسطها كريتها.

٢ ـ ( أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ) أي جبالا رأسيه أي ثابتة وعلّل أرباب الهيئة ذلك بأنّها كرة حاصلة في الماء وإنّما الطالع منها ربعها المسكون فلو كانت حقيقيّة (٢) لم تثبت على وضع واحد لأنّ بعض أوضاعها ليس أولى من بعض فخلقت الجبال عليها لتخرجها عن كونها حقيقيّة وتثبت ولا تضطرب ، ولأنّ الجبال إذا ثبتت ثبتت الأرض بثباتها ولذلك سمّيت الجبال أوتادا على جهة الاستعارة فإنّ الوتد يوجب ثبات ما يربط به.

واعلم أنّه لا ينافي ذلك قولنا إنها ساكنة بفعل الفاعل المختار لأنّه تعالى قد يفعل بالسبب.

٣ ـ المراد بالموزون (٣) المعتدل أي أنبتنا فيها أنواعا من النبات كلّ نوع

__________________

(١) ولحنفى احمد بيان مبسوط في بحث مد الأرض وتمهيدها وجعل وإلقاء الرواسي فيها ، تراه من ص ٣٧٨ الى ص ٤٢١ من كتابه « التفسير العلمي للايات الكونية للقرآن » من أراد فليراجع.

(٢) نص : خفيفة.

(٣) وللعلامة آية الله الخويي مد ظله في مقدمة تفسيره « البيان » عند سرده وجوه الاعجاز للقرآن بيان في ص ٤٥ ننقله بعين عبارته : « ومن هذه الأسرار التي كشف عنها الوحي السماوي وتنبه عليها المتأخرون ما في قوله تعالى ( وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‌ءٍ مَوْزُونٍ ) فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن كل ما ينبت في الأرض له وزن خاص وقد ثبت أخيرا أن كل نوع من أنواع النبات مركب من اجزاء خاصة على وزن مخصوص بحيث لو زيد في بعض اجزائه أو نقص لكان ذلك مركبا آخر وأن نسبة بعض الاجزاء الى بعض من الدقة بحيث لا يمكن ضبطها تحقيقا بأدق الموازين المعروفة انتهى ما أردنا نقله من البيان. وللطنطاوى بيان مبسوط في شرح هذا البحث من ص ١٦ ـ ٢٢ من ج ١١ من تفسيره الجواهر من أراد فليراجع.

٣

منها معتدل باعتدال يختص به بحيث لو تغيّر لبطل ، والوزن عبارة عن اعتدال الأجزاء لا بمعنى تساويها فإنّه لم يوجد [ المعتدل الحقيقي ] بل بإضافته إلى ذلك النوع وما يليق به وأمّا اختلاف أنواع النبات فبحسب اختلاف أجزائها وكيفيّاتها وقال الحسن وابن زيد : المراد الأشياء التي توزن كالذّهب والفضّة والمعادن وليس بشي‌ء.

٤ ـ إنّه جعل لنا فيها معايش أي أسباب معايش من أنواع الزرع والغرس فيضطربون فيها بالمزارعة والمساقاة والإجارة على الاعمال في ذلك والبيع للنبات وشرائه ، والاكتساب بسائر وجوهه السائغة وقياس « معايش » أن لا تهمز لأنّ الياء فيها أصليّة وإنّما تهمز الياء إذا كانت زائدة بعد ألف التكسير كصحائف ووسائل وعجائز ومن همزها على ضعف ، شبّهها بغيرها.

٥ ـ قوله ( وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ) الواو بمعنى مع نحو مالك وزيدا لامتناع العطف على المضمر المجرور (١) في « لكم » إلّا بعد إعادة الجارّ ، والمراد به

__________________

(١) هذا على مذهب البصريين وهو من مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين ذكره ابن الأنباري في المسئلة ٦٥ من مسائل الخلاف من كتاب الانصاف ص ٤٦٣ وترى البحث مبسوطا في الانصاف وشرح الرضى وشرح المفصل والحدائق الندية والتصريح وسائر الكتب الأدبية وكذلك في كتب التفسير عند تفسير الآية الاولى من سورة النساء.

وخلاصة الكلام أن البصريين يقولون بعدم جواز العطف على الضمير المخفوض من دون اعادة الجار وعللوه بان ضمير الجر شبيه بالتنوين ومعاقب له فلم يجز العطف عليه كالتنوين وبأن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصلحا لحلول كل واحد منهما محل الأخر وضمير الجر لا يصلح لذلك فامتنع إلا بإعادة الجار ولا يخفى عليك ما في تعليلهم فان شبه الضمير بالتنوين لو منع من العطف عليه لمنع من توكيده والبدل مع أن ذلك جائز بالاتفاق ولو كان الحلول شرطا في صحة العطف لم يجز « رب رجل وأخيه » لامتناع دخول « رب » على المعرفة ، والكوفيون ويونس واخفش والزجاج.

٤

__________________

يجوزونه ووافقهم الشلوبينى وصححه ابن مالك وأبو حيان وجرى عليه ابن هشام في بعض كتبه.قال ابن مالك

وعود خافض لدى عطف على

ضمير خفض لازما قد جعلا

وليس عندي لازما إذ قد أتى

في النظم والنشر الصحيح مثبتا

وعلى كل فالحق مع الكوفيين فإنه قد جاء في التنزيل وكلام العرب قال الله عز من قائل ( وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ ) بخفض الأرحام ، وهو قراءة أحد القراء السبعة وهو حمزة الزيات ، وقراءة إبراهيم النخعي وقتادة ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش ورواية الأصفهاني والحلبي عن عبد الوارث وقراءة ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابى رزين.

وقال أيضا عز من قائل ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ ) سورة النساء الآية ١٢٧ فما في موضع خفض لانه عطف على الضمير المخفوض في « فيهن » ، وقال أيضا ( لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ » الآية ١٦٧ سورة النساء ، فالمقيمين في موضع خفض بالعطف على الكاف في « إليك » أو الكاف في « من قبلك ».

وقول بعضهم : انه روى عثمان وعائشة انهما قالا « ان في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها » جرءة في الكلام والمصحف منقول بالنقل المتواتر عن رسول الله لا يمكن ثبوت اللحن فيه ، نعم لو جعلنا المقيمين عطفا على « ما » في « ما أنزل إليك » لكان متينا من القول وعليه فالمراد بالمقيمين الملائكة واهتمام الايات للايمان بالملائكة غير خفي وقال أيضا ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ » فعطف المسجد الحرام على الهاء في « به » ومن قال بكونه عطفا على سبيل الله فقد تولى محذور الفصل بين جزئي الصلة بأجنبي ومن جعله عطفا على الشهر الحرام فقد أفسد المعنى إذ لم يقع سؤال عن القتال في المسجد الحرام.

وفي هذه الآية المبحوث عنها « من » في موضع خفض عطفا على الضمير المخفوض

٥

الحيوانات (١) الّتي ليس الإنسان سببا لرزقها كالوحوش والطيور وحيوانات البرّ والبحر لا أنّ المراد العيال والخدم بمعنى أنّكم تحسبون أنّكم ترزقونهم بل الله يرزقهم لأنّ هؤلاء من جملة المخاطبين بقوله « جَعَلْنا لَكُمْ » وكون الرازق في الحقيقة هو الله لا يمنع من إطلاقه على من هو سببه فإنّ أكثر أفعاله بالأسباب ويجوز إسناد الفعل إلى السبب القريب والبعيد ولذلك سمّى سبحانه نفسه بخير الرازقين.

__________________

في لكم وقال الشاعر :

فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فما بك والأيام من عجب

أنشده سيبويه نفسه انظر الكتاب ج ١ ص ٣٩٢ وأنشدوا أشعارا أخر لا نطيل الكلام بذكرها. ونقل قطرب « ما فيها غيره وفرسه » بجر فرسه.

وقد أطنب المفسرون الكلام في هذه المسئلة عند تفسير الآية الاولى من سورة النساء والعجب من بعضهم حيث أورد على قراءة الجر بأنه يستلزم جواز الحلف بغير الله وأنت خبير بأن التساؤل بالأرحام ليس قسما بل المراد بالتساؤل قولهم سألتك بالله وبالرحم وناشدتك بالله وبالرحم كما نقله الطبري عن معمر عن الحسن ونقله الشيخ في التبيان عن إبراهيم النخعي وغيره انه من قولهم نشدتك بالله وبالرحم وقد أفصح عن هذا البحث ابن تيمية ، انظر ص ٣٣٤ ـ ٣٣٨ من ج ٤ تفسير المنار.

ثم ان المصنف تفرد في التنبه بأن محل « من » في هذه الآية ان لم نجز الجر نصب على كونه مفعولا معه وأما الآخرون فجعلوا محلها نصبا بجعلنا أو بفعل محذوف تقديره وأعشنا كما في إعراب القرآن لابن البقاء ونقل في المجمع عن المبرد جواز كون موضعها رفعا لان الكلام قد تم ويكون التقدير « ويكون لكم فيها من لستم له برازقين » والأرجح ما تفرد المصنف بالتنبه له كما ذكره المعربون في « مالك وزيدا » إلا أنك قد عرفت عدم المانع من كون محلها خفضا.

(١) وعليه فالتعبير بمن مكان ما اما لان من وما يتقارضان معنييهما وقال الله : ومنهم من يمشى على بطنه واما على التشبيه بمن يعقل ونظيره قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ) » بصيغة جمع العقلاء وقوله في الأصنام « فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي » وقوله تعالى ( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) » ونظيره ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ) » الآية ٨٤ من سورة آل عمران على بعض الوجوه.

٦

٦ ـ أخبر سبحانه أنّه ما من شي‌ء من الأشياء الممكنة من جميع الأنواع إلّا وهو قادر على إيجاده فخزائنه كناية عن مقدوراته ومفتاح هذه الخزائن هي كلمة كن وكلمة كن مرهونة بالوقت فإذا جاء الوقت قال له كن فيكون وإنّما جمع خزائن مع أنّ إفرادها كان يفيد العموم لأنّ مقدوراته غير متناهية فلو أفرد لأوهم تناهيها.

٧ ـ إنّه وإن كان كلّ شي‌ء عنده خزائنه وهو كريم ونحن محتاجون إليه لكن أفعاله على حسب المصالح وعدم المفاسد ، ولذلك اختلف الناس في بسط الرزق وتقديره لجواز كون الرزق وبسطه مصلحة لشخص دون آخر كما ورد في الحديث القدسيّ « إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك وإنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك (١).

الثانية ( وَلَقَدْ مَكَّنّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) (٢)

« مَكَّنّاكُمْ » أي حكّمناكم « وقليلا » منصوب على التميز (٣) وهي كالّتي

__________________

(١) الكافي

(٢) الأعراف : ٩

(٣) هذا مما تفرد بالتنبه له المصنف حيث جعل نصب قليلا في أمثال هذا التركيب : فقليلا ما يؤمنون ( البقرة الآية ٨٨ ) قليلا ما تذكرون ( الآية ٣ سورة الأعراف ) قليلا ما تشكرون هذه الآية على التمييز ، وعلامة صحة كون الكلمة تمييزا صحة جعله فاعلا عند إضافته الى ما هو فاعل في اللفظ مثلا يصح في « طاب زيد نفسا » أن تقول طاب نفس زيد ويصح في الآية ان تقول يشكر قليلكم وكذا في الايات الأخر يؤمن قليلكم ويتذكر قليلكم ، وعندي ان ما صنعه المصنف من جعل نصب قليلا على التميز أمتن وأنسب مما صنعه غيره ، من كونه صفة لمفعول مطلق محذوف ، أى شكرا قليلا ، أو ظرف محذوف اى زمانا قليلا لوضوح كون المراد ان المؤمن والشاكر والمتذكر منهم قليل لا أنهم يؤمنون ايمانا قليلا أو في زمن قليل.

نعم يرد على المصنف انه جعل ابن هشام في المغني في الباب الرابع رابع الوجوه.

٧

قبلها في الامتنان ، وجعل أسباب المعيشة كلّها في الأرض ظاهر لمن تدبّره.

الثالثة ( يا أَيُّهَا النّاسُ كُلُوا مِمّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (١)

مفعول « كُلُوا » محذوف أي كلوا شيئا ومن في « مِمّا » للتبعيض و « حَلالاً طَيِّباً » صفتان للمفعول المحذوف وقيل حالان منه ، وأريد بالطيّب ما يكون بالنسبة إلى الطبع وإلّا لكان ترادفا والأصل عدمه « وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ » أي لا تقتدروا به في تناول المحرمات وفي الآية دلالة على إباحة ما علمت إباحته.

قيل : وفيه دلالة على إباحة أكل ما يمر به الإنسان من الثمرة إذا لم يقصده ولم يحمل معه شيئا ولم يعلم كراهية المالك. وفيه نظر لأنّا بيّنّا أنّها تدلّ على إباحة ما علم إباحته لا ما لم يعلم إباحته فلو جعل دليلا على إباحة ما ذكر لكان مصادرة على المطلوب.

فإن قيل : إنّه علم بالبيان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام إباحة ذلك قلنا يكون ذلك هو الدليل لا الآية مع أنّا نقول : الأولى عدم جواز أكل ما ذكر من الثمرة لأصالة عصمة مال المسلم إلّا عن طيب نفس منه وما ورد من أخبار الآحاد الموهمة لا يعارض ذلك وسبب نزول الآية أن قوما حرّموا على أنفسهم أشياء من المباحات اللّذيذة زهدا فنزلت (٢).

__________________

مما افترق فيه الحال والتميز أنه لا يقدم التميز على عامله ، والجواب أنه جوز التقديم أساطين الأدب كالكسائى والمبرد والمازني وابن مالك وتأول المانعون ما استشهد به المجوزون مثل : « أنفسا تطيب بنيل المعنى ». « وما ارعويت ورأسي شيبا اشتملا » و « إذا المرء عينا قر بالعيش مشريا » بكون التميز للفعل المقدر المفسر بالمذكور قلنا وهذا التأويل بعينه جار في الايات. وذكر أبو الفتوح الرازي احتمال كون النصب على الحال وذكر معمر كونه بنزع الخافض.

(١) البقرة : ١٦٨.

(٢) راجع مجمع البيان ج ١ ص ٢٥٢.

٨

الرابعة ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ) (١).

« من » للبيان والطيّب الحلال وفيه دلالة على إباحة التكسّب وطلب الرزق وأن لا يشتمل على الطغيان إمّا بتجاوز الحدود الشرعيّة في جهات التكسّب وإمّا في حالات المكتسب بعد حصول المال له ، من منع الفقراء حقوقهم والتكبّر عليهم واستشعار الفخر والتجبّر كما قال الله تعالى « إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » (٢) وقرئ يحلّ بضمّ الحاء أي ينزل وبكسرها من الحلال أي الحلال العقليّ وقيل : بمعنى الوجوب من قولهم حلّ الدّين أي وجب أداؤه و « هوى » أي سقط والمراد لازم السقوط وهو الهلاك.

الخامسة ( وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ ) (٣).

« مُبارَكاً » كثير المنافع « وَحَبَّ الْحَصِيدِ » من باب إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء والمراد به الحنطة والشعير وما شابههما من [ الخضراوات ] المحصودات « باسِقاتٍ » أي طوالا وقيل : حوامل من قولهم بسقت الشاة إذا حملت والنضيد بمعنى المنضود أي بعضه فوق بعض و « رِزْقاً » منصوب على المفعول له وهو علّة لأنبتنا أو مصدر والبلدة الميتة أي المجدبة وفي الآية دلالة على أنه خلق هذه الأشياء لأجل انتفاع العباد بها بسائر وجوه الانتفاعات فتكون مباحة لهم إلّا ما ورد النهي عن استعماله.

السادسة ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا

__________________

(١) طه : ٨١.

(٢) العلق : ٦.

(٣) ق : ١١.

٩

مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (١).

« ذَلُولاً » أي لينة يسهل لكم السلوك فيها و « مَناكِبِها » جبالها أو جوانبها وهو مثل لفرط التذلّل فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب ولا يتذلّل له فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شي‌ء منها لم يتذلّل وفي الآية دلالة على جواز طلب الرزق خلافا للصوفية حيث منعوا من ذلك لاشتماله على مساعدة الظلمة بإعطاء التمغاء والباج وهو جهل منهم فإنّ ذلك الإعطاء غير مقصود بالذات بل لو أمكن المنع لما أعطوا شيئا وفي الحديث أنّه لمّا نزل « وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » (٢) انقطع رجال من الصحابة في بيوتهم واشتغلوا بالعبادة وثوقا بما ضمن الله لهم فعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فعاب عليهم ذلك وقال : إنّي لأبغض الرجل فاغرا فاه إلى ربّه يقول اللهمّ ارزقني ويترك الطلب » (٣).

ثمّ طلب الرزق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة واجب وهو ما اضطرّ الإنسان إليه ولا جهة له غيره ، وندب وهو ما قصد به زيادة [ في ] المال للتوسعة على العيال وإعطاء المحاويج والافضال على الغير ، ومباح وهو ما قصد به جمع المال الخالي عن جهة منهيّ عنها ، ومكروه وهو ما اشتمل على ما ينبغي التنزه عنه ، وحرام وهو ما اشتمل على وجه قبح.

وفي طلب الحلال للعود على العيال أجر عظيم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله (٤) ».

__________________

(١) الملك : ١٥.

(٢) الطلاق : ٣.

(٣) أخرجه في المستدرك عن غوالي اللئالي ج ٢ ص ٤١٥.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٨٨.

١٠

القسم الثاني

في البحث عن أشياء يحرم التكسب بها أشير إليها في القرآن

وفيه آيات :

الاولى ( قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (١).

أي خزائن أرض مصر واللّام للعهد لأنّه لم [ يكن ] يملك سواها. لمّا قال له الملك « إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ » فوصفه بوصفين صالحين للولاية ، وجد فرصة للسؤال فسأل الولاية وقال « إِنِّي حَفِيظٌ » أي حافظ لما تستحفظنيه « عَلِيمٌ » أي عالم بوجوه التصرفات.

واستدلّ الفقهاء بهذه الآية على جواز الولاية من قبل الظالم إذا عرف المتولّي من حال نفسه وحال المنوب [ عنه ] أنّه يتمكّن من العدل ولا يخالفه المنوب عنه كحال يوسف عليه‌السلام مع ملك مصر ، والّذي يظهر لي أنّ نبيّ الله أجل قدرا من أن ينسب إليه طلب الولاية من الظالم وإنّما قصد إيصال الحقّ إلى مستحقّه لأنه وظيفته.

واعلم أنّ الولاية تنقسم أقساما : الأوّل : أن تكون من قبل الامام العادل إلزاما فيجب قبولها الثاني : أن يأمره لا إلزاما فيستحب قبولها الثالث : أن لا يأمره بها ويكون مستعدّ لها وليس هناك مستعدّ سواه ولم يعلم به الامام فيستحبّ طلبها الرابع : الفرض بحاله ويكون هناك مستعدّ آخر فيباح طلبها ولا يستحبّ لجواز أن لا يكون صالحا لها من جهة لا يعلمها الخامس : أن لا يكون مستعدّا [ لها ] ولم يأمره الإمام بها فيكره له طلبها بل قد يحرم للزوم القبح لو ولّاه أو العبث إن لم يولّه ، السادس الولاية من قبل الجائر ولم يتمكّن من العدل ولم يلزمه بها فيحرم

__________________

(١) يوسف : ٥٥.

١١

طلبها ، السابع : الفرض بحاله ويتمكّن من العدل فيباح طلبها ولا يستحبّ الثامن : الفرض بحاله وألزمه إلزاما يخشى بمخالفته الضرر فيجب قبولها ، التاسع : الفرض بحاله ولم يخش الضرر بالمخالفة فيستحب قبولها العاشر : الفرض بحاله ولم يتمكّن من العدل وألزمه إلزاما يخشى الضّرر الكثير بالمخالفة فيباح إلّا في قتل غير سائغ فيحرم إذ لا تقيّة في الدماء ، ولو كان الضرر يسيرا ولم يستلزم الحكم قتلا كره قبولها.

الثانية ( سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (١).

روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ السّحت هو الرشوة في الحكم وعن عليّ عليه‌السلام هو الرشوة في الحكم ومهر البغيّ وكسب الحجّام وعسيب الفحل وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعمال (٢) في المعصية وعن الصادق عليه‌السلام [ أنّ ] السحت أنواع كثيرة فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله (٣) وهنا فوائد :

١ ـ حاصل تفسير السحت أنّه كل ما لا يحل كسبه ، واشتقاقه من السّحت وهو الاستئصال يقال : سحته وأسحته أي استأصله وسمّي الحرام به لأنه يعقّب عذاب الاستئصال وقيل لأنّه لا بركة فيه وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان.

٢ ـ لمّا كان الرشا في الحكم يجمع عدّة قبائح فإنّه يأخذه بقصد إبطال الحقّ فيستلزم ذلك الكذب على الله وعلى رسوله ، والعمل بشهادة الزور ، وأخذ المال من مستحقّه وإعطاؤه غير مستحقّه ، وسماع شهادة الفسّاق ، والخيانة لله ولرسوله وعدم المروّة ، ومخالفة حسن الظنّ ممّن احتكم إليه ، وغير ذلك فلذلك فسّر عليه‌السلام السحت بالرّشوة.

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) الاستكتاب خ ل ، الاستكساب خ ل ، وفي المجمع : الاستجعال.

(٣) الكافي ج ٥ ص ١٢٦ ، مجمع البيان ج ٣ ص ١٩٦.

١٢

٣ ـ دافع الرشوة إن توصّل بها إلى باطل فهو كآخذها في فعل الحرام وإن توصّل بها إلى حقّ لا يمكنه تحصيله إلّا به فليس فاعلا للحرام وأمّا آخذها فهو فاعل حرام سواء حكم بحقّ أو بباطل للدافع أو عليه.

٤ ـ القاضي إذا لم يوجد غيره في البلد ممّن يقوم بوظيفته يتعيّن عليه القضاء ويكون بالقضاء مؤديا للواجب فلا يجوز أخذ الأجرة على ذلك وهل يجوز لهذا أخذ الرزق من بيت المال فنقول : إن كان ذا كفاية فلا وإلّا جاز.

٥ ـ إن لم يتعيّن عليه القضاء فلا يجوز [ أخذ ] الأجرة [ عليه ] أيضا فإن كان ذا كفاية فالأفضل له ترك الرزق من بيت المال وإن لم يكن جاز لأنه من المصالح.

الثالثة ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١).

يستدلّ بهذه الآية على تحريم أجر الزانية وكان ذلك سنة في الجاهليّة ولذلك كان سبب نزولها أنّ عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين كان له جوار يكرههنّ على الزنى ويضرب عليهنّ ضرائب فاشتكت منهنّ اثنتان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت الآية (٢) وهنا فوائد :

١ ـ أجر الزانية حرام سواء كانت حرّة أو أمة مكرهة أو غير مكرهة للإجماع على ذلك.

٢ ـ التحريم شامل للزانية وغيرها ممّن يعلم ذلك وإلّا فلا ، نعم يكره معاملة من هذه سيرتها.

٣ ـ تحريم الإكراه مع إرادة التحصّن خرج مخرج الغالب ولعدم تحقق الإكراه بدون الإرادة وإلّا فالإكراه مطلقا حرام سواء أردن التحصّن أو لم يردن وسواء كان لطلب عرض الدّنيا أو لا.

__________________

(١) النور : ٣٣.

(٢) مجمع البيان ج ٧ ص ١٤١.

١٣

٤ ـ قوله « فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ » أي لهنّ لأنّهنّ مكرهات والإكراه رافع للإثم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه (١) » ولذلك قرأ عبد الله بن عباس « فانّ الله لهنّ غفور رحيم » وأمّا المكرهون فهم أيضا مغفورون عند الوعيديّة مع التوبة وعندنا يجوز لا معها تفضّلا من الله لمن يشاء.

الرابعة والخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (٢).

هاتان آيتان اشتملتا على محرمات وهي آخر آية نزلت في شأن الخمر (٣) وقد أكد التحريم في الآية بتسعة أمور الأوّل : تصديرها بانّما المؤكّدة الثاني : ضم

__________________

(١) السراج المنير ج ٢ ص ٣١٧.

(٢) المائدة : ٩١ و ٩٠.

(٣) قال الابشيهى في المستطرف ج ٢ ص ٢٢٩ الباب الرابع والسبعون في تحريم الخمر وذمها والنهي عنها : قد انزل الله في الخمر ثلاث آيات الاولى قوله تعالى : ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ ) الآية فكان من المسلمين من شارب وتارك الى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنزل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) فشربها من شربها من المسلمين وتركها من تركها حتى شربها عمر فأخذ بلحى بعير وشج به رأس عبد الرحمن بن عوف ثم قعد ينوح على قتلي بدر بشعر الأسود بن يعفر يقول :

وكائن بالقليب قليب بدر

من الفتيان والعرب الكرام

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيى

وكيف حياة أصداء وهام

أيعجز ان يرد الموت عنى

وينشرنى إذا بليت عظامي

١٤

__________________

الا من مبلغ الرحمن عين

بأني تارك شهر الصيام

فقل لله يمنعني شرابي

وقل لله يمنعني طعامي

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج مغضبا يجر رداءه فرفع شيئا كان في يده فضربه به ، فقال : أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله فانزل الله تعالى ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال عمر : انتهينا انتهينا.

وذكر القصة في تفسير البرهان ص ٤٩٨ عند تفسير الآية نقلا عن الزمخشري في ربيع الأبرار مع تفاوت في نقل الاشعار ونظيره ما في تفسير الطبري مع تغيير في الاشعار عند تفسير الآية ٢١٩ من سورة البقرة ج ٢ ص ٣٦٢ وفيه مكان عمر في الموضع الأول رجل.

وفي تيسير الوصول ج ١ ص ١٢١ وعن عمر بن الخطاب انه قال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت التي في البقرة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) فدعى عمر فقرئت عليه فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت التي في النساء ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) الآية ، فدعى عمر فقرئت عليه فقال اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت التي في المائدة ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فدعى عمر فقرئت عليه فقال انتهينا انتهينا ، أخرجه أصحاب السنن ومثله ما في تفسير الطبري والرازي والخازن والدر المنثور وغيرها في تفسير احدى آيات تحريم الخمر والظاهر مما يرى في كثير من كتب أهل السنة أن عمر مع ذلك لم ينته :

ففي أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٥٦٥ عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر ، فجلده عمر الحد ، فقال الأعرابي انما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال من رابه شي‌ء فليكسر بالماء. قال ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال انه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابي وفيه أيضا حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتى بالنبيذ فشربه وفي العقد الفريد ج ٤ ص ٣٣٩ عن الشعبي : شرب أعرابي من إداوة عمر فأغشى فحده

١٥

__________________

عمر وانما حده للسكر لا للشرب.

وفي جامع مسانيد الإمام الأعظم للخوارزمي ج ٢ ص ١٩٢ عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم ان عمر بن الخطاب اتى بأعرابي قد سكر فطلب له عذرا فلما أعياه قال : فاحبسوه فان صحا فاجلدوه ، ودعا عمر بفضله ودعا بماء فصبه عليه فكسره ثم شرب وسقى جلساءه ثم قال : هكذا فاكسروه بالماء إذا غلبكم شيطانه ، قال : وكان يحب الشراب الشديد. قال وأخرجه الحافظ الحسين بن محمد خسرو في مسنده عن ابى القاسم أحمد بالإسناد السابق الى ابى حنيفة وأخرجه الإمام محمد بن الحسن في الآثار فرواه عن الإمام أبي حنيفة وأخرجه الحسن بن زياد في مسنده عن أبي حنيفة.

وفي الجوهر النقي لابن التركمانى ج ٢ ص ١٩٢ في مصنف عبد الرزاق ثنا جريح خبرني إسماعيل ان رجلا عب في شراب منبذ لعمر بطريق المدينة فسكر فتركه عمر حتى أفاق فحده ثم أوجعه عمر بالماء فشرب منه وفي سنن النسائي ج ٨ ص ٣٢٦ : ومما احتجوا به فعل عمر بن الخطاب : أخبرنا سويد قال أنبأنا عبد الله عن السري بن يحيى قال حدثنا أبو حفص امام لنا وكان من أسنان الحسن عن ابى رافع أن عمر بن الخطاب قال : إذا خشيتم من نبيذ شدته فاكسروه بالماء ، قال عبد الله من قبل أن يشتد ، ثم ذكر حديثا أخرجه يحيى بن سعيد : سمع سعيد بن المسيب يقول : تلقت ثقيف عمر بشراب فدعا به فلما قربه الى فيه كرهه فدعا به فكسره بالماء فقال : هكذا فافعلوا. وذكر في تفسير المنار رواية نحوه عن البيهقي.

ثم تأوله صاحب المنار ج ٧ ص ٩٦ بان المراد كسر النبيذ بالماء إذا أخذ في الاشتداد والتغيير خشية أن يصير مسكرا ، قال : ويمكن أن يحمل على هذا التفسير كل ما ورد في الاشتداد على طريقة العرب في التعبير بالفعل عن قرب وقوعه.

قلت : وهذا التأويل لا يتم فيما سردناه قبيل ذلك ، وقد تنبه ابن التركمانى لهذا عند الكلام في تأويل البيهقي نظير ما ذكره في المنار وقال بعد ذكر ما في مصنف عبد الرزاق : فقوله « فسكر » يضعف تأويل البيهقي ولا يمكنهم القول بان اسم الخمر عنده كان مختصا بما يؤخذ من العنب فإنه هو الذي صعد المنبر وقال : اما بعد ايها الناس انه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل. نقل في المنتقى كما في نيل الأوطار ج ٨ ص ١٨٠ وقال انه متفق عليه ونقل الشوكانى في شرحه عن الفتح انه قال هذا الحديث أورده أصحاب

١٦

الخمر إلى الأصنام في وجوب اجتنابها الثالث : تسميتها رجسا الرابع : جعلها من عمل الشيطان والشيطان لا يأتي منه إلّا الشرّ الخامس : أنه أمر باجتنابها الشامل لجميع أوصافها السادس : أنه جعل الاجتناب موجبا للفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحا كان الركون إليه خيبة السابع : أنه ذكر ما ينتج منها وهو العداوة والبغضاء. الثامن : أنها تصدّ عن ذكر الله والصلاة التاسع : إنّ فيه وعيدا بقوله ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ )؟ وهو مبالغة في الوعيد والتهديد وهو أبلغ من « انتهوا » عرفا وسيأتي في الخمر مزيد كلام. والضمير في « فَاجْتَنِبُوهُ » يعود إلى « الرّجس » أو إلى « عمل الشيطان » وعمل الشيطان أعمّ من الرجس والرجس أعمّ من الخمر والميسر والنهي عن العامّ يستلزم النهي عن الخاصّ وإنّما خصّ العداوة والبغضاء بالخمر والميسر ، لأنّ الخمر موجب لزوال العقل والميسر موجب لزوال المال وزوال العقل والمال موجبان للعداوة والبغضاء بخلاف الأنصاب والأزلام فإنّهما يوجبان سخط الله والنار لا العداوة بين العابدين إذا عرفت هذا فهنا أحكام :

١ ـ يحرم التكسّب بالخمر وسائر المسكرات (١) فانّ الله إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها » (٢).

__________________

المسانيد والأبواب في الأحاديث المرفوعة لأن له عندهم حكم الرفع لانه خبر صحابي شهد التنزيل وأخبر عن سبب وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم فلم ينقل عن احد منهم إنكاره وأراد عمر بنزول تحريم الخمر نزول قوله تعالى ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) الآية فأراد عمر التنبيه على ان المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيره. انتهى.

وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أسكر قليله فكثيرة حرام. وما أسكر منه الفرق فمل‌ء الكف منه حرام. انظر سنن ابى داود الرقم ٣٦٨١ و ٣٦٨٧ ونقل في تيسير الوصول ج ٢ ص ١٦٣ عن الترمذي : فالحسوة منه حرام. قال : الفرق بفتح الراء وسكونها إناء واسع يسع ستة عشر رطلا والحسوة الجرعة من الماء ، وسيوافيك تتمة الكلام منافي البحث في كتاب الأطعمة والأشربة.

(١) المذكورات ، خ ل.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٤٥٢.

١٧

وكذا الأجرة على عمل يتعلّق بها من حمل أو عصر أو سقي أو غير ذلك « روى جابر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الخمر وشاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها فقام إليه أعرابيّ فقال يا رسول الله إنّي كنت رجلا هذه تجارتي فحصل لي من بيع الخمر مال فهل ينفعني المال إن عملت به طاعة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو أنفقته في حجّ أو جهاد لم يعدل عند الله جناح بعوضة إنّ الله لا يقبل إلّا الطيّب فنزل « قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (١) ».

٢ ـ « الميسر » هو القمار بسائر أنواعه كالنرد والشطرنج قاله جل المفسّرين وهو المرويّ عن أهل البيت عليهم‌السلام حتّى قالوا : إنّ لعب الصبيان بالجوز من القمار فيحرم التكسّب به وعمل آلاته وبيعها والجلوس على مجلس يكون فيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله « اللّاعب بالنرد شير كمن غمس يده في لحم الخنزير ودمه » (٢) وقال الصادق عليه‌السلام « اللّعب بالشطرنج شرك والسلام على اللّاهي به معصية (٣) » ولا خلاف في تحريم النرد (٤) وكذا الشطرنج إلّا ما نقل عن بعض الشافعيّة من جوازه إلّا حال إلهائه عن الصلاة.

٣ ـ « الأنصاب » قيل هي الأصنام الّتي كانوا يعبدونها ويحرم أيضا التكسّب بعملها وبيع الخشب وشبهه ليعمل صنما قال الشيخ : وكذا يحرم بيعه على من عهد منه عملها وكذا بيع العنب على من يعمل الخمر والمشهور كراهية ذلك إلّا مع الشرط فيحرم.

٤ ـ « الأزلام » جمع زلم بفتح الزاء وضمّها كحمل وصرد وهي قداح لا ريش لها ولا نصل كانوا يتفاءلون بها في أسفارهم وأعمالهم مكتوب على بعضها أمرني ربّي وعلى بعضها نهاني ربّي وبعضها غفل لم يكتب عليها شي‌ء فإذا أرادوا أمرا أجالوا تلك القداح فان خرج الّذي عليه أمرني ربّي مضى الرجل لحاجته وإن

__________________

(١) المائدة : ١٠٣ ، راجع. المستدرك ج ٢ ص ٤٢٦.

(٢) سنن ابى داود ج ٢ ص ٥٨٢ والنرد منسوب الى أردشير من ملوك العجم ولذلك قيل نرد شير.

(٣) الوسائل أبواب ما يكتسب به باب ١٠٣ ح ٤.

(٤) نص : تحريم الخمر.

١٨

خرج الّذي فيه النهي لم يمض وإن خرج ما ليس عليه شي‌ء أعادوها.

هذا قول جماعة من المفسّرين.

ونقل عليّ بن إبراهيم عن الصادق (١) عليه‌السلام أنّها عشرة سبعة لها أنصباء وثلاثة لا أنصباء لها فالسبعة هي الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلّى ، فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والرقيب له ثلاثة والحلس له أربعة والنافس له خمسة والمسبل له ستّة والمعلّى له سبعة والثلاثة الباقية هي السفيح والمنيح والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّؤنه أجزاء ثمّ يجتمعون عليه

__________________

(١) لم أجد الرواية من طريق على ابن إبراهيم عن الصادق عليه‌السلام وانما هي عن الباقر عليه‌السلام انظر البرهان ص ٤٣٣ عند تفسير الآية ٣ من سورة المائدة ج ٢ ونظيره ما رواه في التهذيب والفقيه عن أبى جعفر محمد بن على الرضا صلوات الله عليه تراه في البرهان الحديث ١ وفي الوافي ص ١٧ من الجزء ١٥ الباب ١٢ الاضطرار إلى الميتة.

ثم ان ترتيب القداح التي لها أنصباء في رواية التهذيب والفقيه : الفذ ، والتوأم والنافس ، والحلس ، والمسبل ، والمعلى ، والرقيب. وفي رواية على بن إبراهيم على ما في البرهان : الفذ ، والتوأم ، والمسبل ، والنافس ، والحلس ، والرقيب ، والمعلى. والمذكور في تفسير فتح القدير للشوكانى عند تفسير الآية ٢١٩ سورة البقرة في ترتيب ما له أنصباء : الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، والنافس ، والمسبل والمعلى. ومثله ما في بلوغ الارب للالوسى ج ٣ ص ٥٨ وتاريخ اليعقوبي ج ١ ص ٢٥٩ ط بيروت.

وعلى كل فالفذ بفتح الفاء بعدها معجمه مشدودة والتوأم بفتح المثناة الفوقانية وسكون الواو وفتح الهمزة والحلس بمهملتين الاولى مكسورة واللام ساكنة والنافس بالنون والفاء والمهملة ، ويقال : النافر بالراء المهملة مكان السين. والمسبل بضم الميم وسكون المهملة وفتح الباء الموحدة. والمعلى بضم الميم وفتح المهملة وتشديد اللام المفتوحة. وفي الوافي بسكون العين. والرقيب على وزن فعيل وكذا السفيح والمنيح ، والأول بالسين والحاء المهملتين والثاني بالنون والحاء المهملة والوغد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة. وزاد في فتح القدير على ما لا أنصباء لها : الضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء. وجعل السهام أحد عشر.

١٩

فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من لم يخرج له شي‌ء من الغفل وهو القمار.

ونقل الزمخشريّ أنّهم كانوا يجعلون الأجزاء عشرة وقيل ثمانية وعشرون ولا شي‌ء للغفل ومن خرج له سهم من ذوات الأنصباء أخذ ما سمّى له ذلك القدح وكانوا يدفعون ذلك إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئا ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل معهم فيه ويسمّونه البرم وقد جمع بعض الفضلاء (١) أسماء القداح في أبيات وهي هذه شعر :

هي فذّ وتوأم ورقيب

ثمّ حلس ونافس ثمّ مسبل

والمعلّى والوغد ثمّ سفيح

ومنيح وذي الثلاثة تهمل

ولكلّ ممّا عداها نصيب

مثله أن تعدّ أوّل أوّل

إذا عرفت هذا فاعلم أنه تعالى حرم العمل بهذه الأزلام أما على الأوّل فلأنّه نوع من التكهّن من غير إذن من الله فيه وأما القرعة الشرعيّة (٢) كما نقل

__________________

(١) نسبها في بلوغ الارب ج ٣ ص ٥٨ الى ابن الحاجب وذكر جمعها في تفسير المنار في أبيات أخر عند تفسير الآية ٢١٩ سورة البقرة ج ٢ ص ٣٢٥.

كل سهام الياسرين عشرة

فأودعوها صحفا منشرة

لها فروض ولها نصيب

الفذ والتوأم والرقيب

والحلس يتلوهن ثم النافس

وبعده مسبلهن السادس

ثم المعلى كاسمه المعلى

صاحبه في الياسرين الأعلى

والوغد والسفيح والمنيح

غفل فما فيها يرى ربيح

وجمعها على بن محمد الهمداني على ما ذكره الآلوسي في بلوغ الارب في بيتين هكذا :

يلي الفذ منها توأم ثم بعده

رقيب وحلس بعده ثم نافس

ومسبلها ثم المعلى فهذه السهام

التي دارت عليه المجالس

(٢) حكم القرعة ثابت بالكتاب والسنة والإجماع :

أما الكتاب فقد قال الله تعالى ( فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ) وقال عز من قائل :

٢٠