كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

ولا إلى قبلة النّصارى وهو المشرق فإنّ اليمين والشّمال مضلّة لأنّ التوجّه إليهما مظنّة أنّ العبادة للشّمس وفي الآية دلالة على جواز النّسخ ووقوعه.

الثّانية ( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (١)

هنا فوائد :

١ ـ « وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ » يحتمل وجهين :أحدهما أنّه ضمن الجعل معنى التّحويل أو أنّه من باب إطلاق العامّ على الخاصّ والمراد وما حوّلنا إذ التحويل جعل أيضا وهذا بناء على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يتوجّه في مكّة قبل هجرته إلى البيت المقدّس كما نقلناه عن الصّادق عليه‌السلام ورواه ابن عبّاس إلّا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس في الصّلاة وثانيهما أنّ الموصوف محذوف والتقدير وما جعلنا القبلة الجهة الّتي كنت عليها وهي الكعبة ويكون « الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها » هو المفعول الثّاني « لَجَعَلْنا » لا أنّه صفة للقبلة كما قيل وهذا بناء على أنّه كان يصلّي بمكّة إلى الكعبة كما قاله بعض المفسّرين وإنّما صلّى إلى الصخرة في المدينة تألّفا لليهود فالمخبر به على الأوّل المنسوخ وعلى الثّاني النّاسخ والأوّل أصحّ لأنّه قول علماء أهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ « إِلّا لِنَعْلَمَ » (٢) ضمّن العلم معنى التّمييزأي لنتميّز بالعلم فانّ العلم صفة

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) قال الطّبرسي في مجمع البيان : في معنى قوله تعالى ( لِنَعْلَمَ ) أقوال : أوّلها أن معناه ليعلم حزبنا من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين كما يقول الملك فتحنا بلد كذا وفعلنا كذا ، أى فتح أولياؤنا. والثّاني أنّ معناه ليحصل المعلوم موجودا وتقديره لنعلم انّه موجود ، ولا يصحّ وصفه بأنّه عالم بوجود المعلوم قبل وجوده والثّالث أنّ معناه

٨١

تقتضي تميّز المعلوم فيتميّز النّاس التّابعون لك والنّاكصون عنك وذلك إمّا بمكّة فأمرناك ببيت المقدس ليمتاز من يتّبعك من مشركي مكّة لأنّهم ألفوا التوجّه إلى الكعبة وإمّا بالمدينة فأمرناك بالكعبة ليمتاز منافقوا اليهود لأنّهم كانوا يتوجّهون إلى البيت المقدّس ، وقيل المراد بذلك : لنعلم ذلك علما يتعلّق به الجزاء ، أي لنعلمه موجودا قاله الزّمخشريّ وفيه ضعف لا يخفى. « مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ » أي يرتدّ عن دينك وفي ذلك دلالة على كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض.

٣ ـ « وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً » أي التّحويلة خصلة كبيرة على ضعفاء العقول والإيمان لعدم فهمهم الحكمة فيها وقد بيّن ذلك بقوله « إِلّا لِنَعْلَمَ » وهذا كما ميّز بين الصّادقين في الإيمان وبين غيرهم من امّة طالوت وداود بقوله ( إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ) (١) الآية. « إِلّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ » إلى معرفة حكمته في أحكامه.

٤ ـ « وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » أي ثبات أيمانكم أو إيمانكم بتحويل القبلة وحكمته أو ما رواه ابن عبّاس أنّ القبلة لمّا حوّلت قال النّاس : كيف بمن مات قبل التّحويل من إخواننا فنزلت (٢) واللّام في « لَكَبِيرَةً » هي الفاصلة بين إن المخفّفة والنّافية وفي « لِيُضِيعَ » لام تأكيد النّفي وينتصب الفعل بتقدير أن لكن لا يجوز إظهارها « إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » لا يضيع أجورهم ولا يغفل عن

__________________

لنعاملكم معاملة الممتحن الّذي كان لا يعلم إذ العدل يوجب ذلك من حيث لو عاملهم بما يعلم انّه يكون منهم قبل وقوعه كان ظلما والرّابع ما قاله علم الهدى المرتضى وهو ان قوله لنعلم يقتضي حقيقته ان يعلم هو وغيره ولا يحصل علمه مع علم غيره الّا بعد حصول علم الاتّباع فامّا قبل حصوله فيكون القديم تعالى هو المتفرّد بالعلم به فصحّ ظاهر الآية انتهى.

(١) البقرة : ٢٤٩.

(٢) قال الطّبرسي في مجمع البيان : قيل فيه أقوال : أحدها انّه لما حوّلت القبلة قال أناس : كيف بأعمالنا الّتي كنا نعمل في قبلتنا الاولى فأنزل الله ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) عن ابن عبّاس وقتادة. وقيل انّهم قالوا : كيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك وكان قد مات أسعد بن زرارة والبراء بن معرور وكانا من النّقباء. راجع ج ١ ص ٢٢٥.

٨٢

مصالحهم وقدّم الرّؤف وهو أبلغ لتوافق الفواصل.

الثّالثة ( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ ) (١).

في الآية فوائد :

١ ـ المشهور أنّ « قَدْ نَرى » معناه ربّما نرى ومعناه التّكثيركقوله « قد أنرك القرن مصفرا أنامله » (٢) والتّحقيق أنّه على أصل التّقليل في دخوله على المضارع وإنّما قلّل الرّؤية لتقلّل المرئيّ فإنّ الفعل كما يقلّ في نفسه فكذلك يقلّ لقلّة متعلّقه ولا يلزم من قلّة الفعل المتعلّق قلّة الفعل المطلق لأنّه لا يلزم من عدم المقيّد عدم المطلق وكذا القول في ( قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ ) (٣) وكذا في البيت المراد تقليل التّرك لقلّة متعلّقه فلا ينافي كثرة مطلق التّرك المقصود للشّاعر.

٢ ـ « تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ » أي تردّد وجهك وتصرّف نظرك تطلّعا للوحي كذا قيل والتّحقيق أنّه لا يجوز تعلّق « فِي السَّماءِ » ب « نرى » لتنزّه الرّائي عن المكان ولا بالتّقلّب لأنّ تقلّب الوجه ليس في السّماء ولا بصفة مقدّرة أي وجهك الكائن في السّماء لما قلناه بل تقديره تقلّب مطارح شعاع عين وجهك في السّماء ومطارح شعاع العين في السّماء.

بيان غلط : ظهر لك ممّا قرّرناه غلط من استدلّ بهذه الآية على كون الباري تعالى في جهة السّماء من حيث توقّعه صلى‌الله‌عليه‌وآله نزول الحكم من السّماء والحكم يجي‌ء من عند الله تعالى فيكون في السّماء وأقرّ على ذلك من غير إنكار. جوابه أنّه كان ينتظر الوحي من جهتها على لسان جبرئيل عليه‌السلام ولا يلزم من ذلك كون الباري فيها وإلّا

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.

(٢) بعده : كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد ، والفرصاد الصبغ الأحمر أو التّوت الأحمر.

(٣) الأحزاب : ١٨.

٨٣

لزم من صعود الملائكة بالأمر من الأرض أن يكون الله فيها وهو باطل.

٣ ـ ( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ) تقدّم أنّه أمر بالتوجّه إلى الصخرة تألّفا لليهود وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبّ التوجّه إلى الكعبة لأنّها قبلة أبيه إبراهيم أو لما تقدّم أنّ اليهود قالوا يخالفنا محمّد في ديننا ويصلّي إلى قبلتنا فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لجبرئيل وددت أن يحوّلني الله إلى الكعبة فقال جبرئيل عليه‌السلام إنّما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فاسأل أنت فإنّك عند الله بمكان فعرج جبرئيل وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يديم النّظر إلى السّماء رجاء أن ينزل جبرئيل بما يحبّ من أمر القبلة فنزلت ، وقيل كان قد وعد بالتّحويل فكان ينتظره ويترقّبه لموافقته لمحبّته الطّبيعيّة ولا يلزم كونه ساخطا للقبلة الاولى.

« فَلَنُوَلِّيَنَّكَ » من قولهم ولّيت فلانا الأمر أي مكّنته منه وحكّمته فيه « وترضاها » صفة ل « قبلة » أي مرضيّة لك.

٤ ـ ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) هو النّاسخ للتوجّه إلى الصخرة وكان ذلك في رجب قبل قتال بدر بشهرين قال ابن عبّاس هو أوّل نسخ وقع في القرآن وقيل هو نسخ للسنّة بالكتاب فإنّه ليس في القرآن أمر بالتوجّه إلى الصخرة صريحا. ثمّ اعلم أنّ الأمر هنا على التحتّم والجزم لا على التّخيير كما قيل لانعقاد الإجماع على بطلان التوجّه إلى الصخرة والشّطر هو النّحو والجهة قاله الجوهريّ وأنشد :

أقول لامّ زنباع أقيمي

وجوه العيس شطر بني تميم (١)

وقرأ أبيّ « تلقاء المسجد الحرام » وقول الجبّائي إنّ الشّطر النّصف باطل باتّفاق المفسّرين وإنّما كان حراما لحرمة القتال فيه أو لمنعه من الظّلمة أن يتعرّضوه.

__________________

(١) الصّحاح طبعة شربتلى ص ٦٩٧. وفيه صدور العيس ، والبيت لأبي جندب الهذلي أخي أبي خراشة أوّل أبيات قالها يخاطب بها أمرته أمّ زنباع من بنى كلب بن عوف ، في قصّة نقلها في الأغاني. واستشهد بالبيت الشّيخ قدس‌سره في التّهذيب باب القبلة وفيه أقرئ صدور العيس والشّوكانى في فتح القدير عند تفسير الآية ونسبه في تفسير الرّازي إلى ساعدة بن جوية ، والعيس جمع عيساء كبيضاء الإبل البيض يخلط بياضها شقرة.

٨٤

تحقيق : المحقّقون من أصحابنا على أنّ القبلة هي الكعبة بالحقيقة لمن كان مشاهدا لها أو في حكمه كالأعمى ومن كان بينه وبينها ما لو أزيل لشاهدها وأمّا من ليس كذلك فقبلته الجهة وبه قال جملة الفقهاء وهو الحقّ لوجوه الأوّل إجماع العلماء على وجوب استقبالها لمن هو مشاهد لها دون شي‌ء من أجزاء المسجد فتكون هي القبلة الثّاني رواية أسامة بن زيد أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى قبل الكعبة وقال هذه القبلة (١) الثّالث رواية الأصحاب عن أحدهما عليهما‌السلام أنّ بني عبد الأشهل أتوا وهم في الصّلاة وقد صلّوا ركعتين إلى البيت المقدّس فقيل إنّ نبيّكم قد صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرّجال والرّجال مكان النّساء وجعلوا الرّكعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلّوا صلاة واحدة إلى القبلتين فلذلك سمّوا مسجدهم مسجد القبلتين ، وغير ذلك من الرّوايات (٢).

سؤال : على قولكم هذا لم قال « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » أليس كان ينبغي أن يقول : فولّ وجهك إلى الكعبة.

جواب : قال الله تعالى ذلك وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة ولا ريب أنّ البعيد فرضه الجهة لا العين لأنّه حرج وأيضا لو كان الواجب التوجّه إلى المسجد أو جهته عملا بظاهر الآية لوجب ذلك أيضا للحاضر المشاهد واللّازم كالملزوم في البطلان وبيان الملازمة ظاهر إن قلت ذلك مسلّم لولا المخصّص قلت الجواب بضعف المخصّص إذ رواته بعضها عاميّ المذهب وبعضها زيديّ وبعضها مرسل وأمّا رواية المفضّل بن عمر

__________________

(١) راجع المغني لابن قدامه ج ١ ص ٤٣٩ وتفسير الطّبري ج ٢ ص ٢٣ عند تفسير الآية وفيهما : انّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى ركعتين قبل القبلة ثمّ قال هذه القبلة. نعم في رواية في تفسير الطّبري عن أسامة قال : خرج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من البيت فصلّى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة فقال هذه القبلة مرّتين. وأظنّ انّ كلمة « قبل القبلة » في المغني وبعض روايات الطّبري من سهو الناسخ.

(٢) الوسائل ب ٢ من أبواب القبلة ح ١ و ١٢ وغيره.

٨٥

الجعفيّ فقد طعن الكشّيّ فيه بفساد العقيدة (١).

تنبيه : في تعبيره بالشّطر بمعنى الجهة إيماء إلى أنّ أمر القبلة مبنيّ على المساهلة والمقاربة دون التّحقيق فإنّ العراقيّ والخراسانيّ [ علامة ] قبلتهم واحدة مع أنّه إذا حقّق كان توجّه العراقيّ إلى غير موضع الخراساني لاختلاف البلدان في العروض.

٥ ـ « وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » خصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأمر أوّلا تعظيما لشأنه وإجابة لرغبته ثمّ عمّم بالأمر تصريحا بعموم الحكم وتأكيدا لأمر القبلة وحضّا للأمّة على المتابعة ، وحيثما للمكان أي في أيّ مكان كنتم ويلزم من ذلك أن

__________________

(١) تلك الرّوايات مرويّة في الوسائل ب ٣ و ٤ من أبواب القبلة ، مفادها ان البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة الحرم والحرم قبلة أهل الدنيا وإليك تفصيلها وما فيها :

ألف ـ روى الشّيخ قدس‌سره في التهذيب ج ٢ ص ٤٤ عن محمد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض رجاله « عن أبى عبد الله عليه‌السلام انّ الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدّنيا » ورواها الصّدوق في العلل بهذا الطّريق وهي كما ترى مرسلة مع ما في رواية محمّد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين وتضعيف ابن الوليد أمثالهما بل تضعيف ابن بابويه رواية الحسن مطلقا راجع ترجمته.

ب ـ وبإسناده عن ابى العباس بن عقده عن الحسين بن محمد بن حازم عن تغلب بن الضحّاك قال حدثنا بشر بن جعفر الجعفي أبو الوليد « قال سمعت جعفر بن محمّد عليهما‌السلام يقول : البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للنّاس جميعا ». وأصحاب الرّجال لم يعنونوا تغلب بن الضّحاك ولا ثعلبة بن الضّحاك ولا الحسين بن محمّد بن حازم وبشر بن جعفر مجهول وأبو العباس بن عقدة وهو احمد بن محمد بن سعيد الحافظ زيدي.

ج ـ وبإسناده عن المفضّل بن عمر أنّه سال أبا عبد الله عليه‌السلام عن التّحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السّبب فيه ، فقال : « انّ الحجر الأسود لمّا انزل به من الجنّة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر الأسود فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال كلّه اثنى عشر ميلا فإذا انحرف الإنسان ذات

٨٦

يكون أهل العالم في صلواتهم على دوائر حول المسجد بعضها صغيرة قريبة وبعضها كبيرة بعيدة.

٦ ـ ( وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) الضمير عائد إلى التّحويل أو التوجّه لأنّهم يعلمون جملة أنّ كلّ شريعة لا بدّ لها من قبلة وتفصيلا لتضمّن كتبهم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي إلى القبلتين لكنّهم لا يعترفون بذلك لشدّة عنادهم « وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ » بالياء ـ وعيد لأهل الكتاب وبالتّاء وعد لهذه الأمّة.

الرّابعة ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ) (١).

في هذه الآية إخبارات يلزمها أحكام :

__________________

اليمين خرج عن حدّ القبلة لقلّة أنصاب الحرم وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا عن حدّ القبلة » ، ورواها الصّدوق في العلل ص ١١٤ والفقيه ج ١ ص ٨٨. ومفضّل بن عمر هو الّذي ضعّفه جمهور الأصحاب.

د ـ وروى الصّدوق ره في العلل ص ١١٤ عن محمد بن الحسن الصّفار عن العبّاس بن معروف عن علىّ بن مهزيار عن الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن ابى البلاد عن ابى غرة قال « قال أبو عبد الله عليه‌السلام البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الدّنيا » ونقلها في الحدائق ج ٧ ص ٤٧٤ ، ورواتها كلّها ثقات إلّا أبي غرة فإنّه مجهول : لم يذكر له مدح ولا ذمّ. والرّجل إبراهيم بن عبيد الأنصاري عدّه الشّيخ من أصحاب الصّادق عليه‌السلام وفي الرّواية عدّ مكة قبلة الحرم وليس في غيرها ولم يقل به احد.

ه ـ وروى عن مكحول عن عبد الله بن عبد الرّحمن قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكعبة قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الدّنيا » ذكره في المعتبر ص ١٤٤ والرّواية نبويّ.

(١) البقرة : ١٤٥.

٨٧

١ ـ أنّه أخبره أنّ أهل الكتاب لا يسلمون ولا يتّبعون قبلته فقوله « وَلَئِنْ أَتَيْتَ » اللّام موطّئة لقسم محذوف و « الَّذِينَ » مع صلته مفعول به والباء في « بِكُلِّ آيَةٍ » للمصاحبة نحو قولك أتيت الأمير بحجّتي أي مع حجّتي و « ما تَبِعُوا » جواب القسم واستغني به عن جواب الشّرط لأنّهما في المعنى واحد والغرض من الكلام قطع طمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاحهم لأنّهم لم يتركوا متابعته لشبهة حتّى تزول ببرهان ودليل بل عنادا ولذلك قال علماء الحكمة العمليّة : إنّ علاج الجهل المركّب غير ممكن. وهل هذا عامّ في أهل الكتاب أو خاصّ بالمعاندين منهم الأولى الثاني لأنّ منهم من أسلم وتبع قبلته ولا بعد في ذلك لأنّ العامّ قابل للتّخصيص قال ابن عبّاس ما من عامّ إلّا وقد خصّ إلّا قوله « وَاللهُ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ » مع أنّ من جملة الحكماء وغيرهم قوما قالوا لا يعلم ذاته ولا الجزئيّ الزمانيّ.

٢ ـ أخبر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بتابع قبلتهم وفيه قطع لأطماعهم لأنّهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا ، وإنّما وحّد القبلة مع أنّ لليهود بيت المقدس وللنصارى مطلع الشمس إرادة لمعنى الجنس الصّادق في حالتي الإفراد وغيره.

٣ ـ أنّ كلّ واحد من أهل القبلتين لا يتّبع قبلة الأخرى بدلالة قوله تعالى ( وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ) وكذا قوله عنهم ( وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ‌ءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ‌ءٍ ) (١).

٤ ـ أنّه توعّده صلى‌الله‌عليه‌وآله على اتّباع أهوائهم بأنه يكون في عداد الظّالمين مبالغة في قطع طمعهم والشّرطية قد يتركّب من محالين كقولنا إن كان زيد حجرا فهو جماد.

قوله ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (٢) أي لكلّ شخص والتّنوين بدل المضاف إليه والوجهة والجهة بمعنى واحد ويقرب أن يكون المراد منه أنّ لكلّ نبيّ جهة يتعبّد بالتوجّه إليها أو يكون المراد أنّ لأهل كلّ إقليم من المسلمين جهة من جهات الكعبة يتوجّهون إليها كالّذي فيه الحجر لأهل العراق والّذي مقابله لأهل

__________________

(١) البقرة : ١١٣.

(٢) البقرة : ١٤٨.

٨٨

المغرب واليماني لأهل اليمن والّذي مقابله لأهل الشام. قوله « هُوَ مُوَلِّيها » أي ولّاه الله إيّاها أي أمره بتولّيها [ وقرئ « هو مولاها » أي هو مولّى تلك الجهة ظ ] وهي قراءة ابن عامر والباقون « مولّيها » بالياء أي هو مولّيها وجهه حذف المفعول الثّاني أو الضّمير لله أي الله مولّيها.

الخامسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ ) (١).

لمّا أمره بالتوجّه إلى جهة المسجد الحرام أمرا مطلقا محتملا للتقييد وعدمه بيّن له أنّ ذلك واجب في كلّ مكان وعلى كلّ حالة فقال « وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ » أي من أيّ مكان خرجت وصلّيت ( فَوَلِّ وَجْهَكَ ) والضّمير في إنّه عائد إلى الأمر أي أمرك بذلك هو الحقّ وأكّده بالإتيان بالجملة الاسميّة وإنّ واللّام في خبرها ووصفه بالحقّ أي الثابت الّذي لا يزول كلّ ذلك دافع لاحتمال النّسخ.

السّادسة ( وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (٢).

تقدّم البحث في صدر هذه الآية بقي فيها فوائد :

١ ـ سبب التّكرار، ذكر له وجوه : الأوّل أنّه من باب التّأكيد اللّفظيّ فإنّه يجي‌ء في المفرد والجملة. الثّاني تأكيد أمر القبلة في دفع احتمال النّسخ فانّ كلّ حكم شرعيّ في مظنّة أن ينسخ. الثّالث أنّه أعيد ليتعلّق عليه ما بعده من الكلام كما في قوله هنا « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ » إلخ وكذا ما تقدّم. الرّابع أنّه مهما أمكن حمل الكلام على معنى فلا يعدل عنها إلّا للضرورة وإذا كان كذلك فلا تكرار كما تقول هنا : إنّ الراد من الأوّل إذا خرجت مترقّبا للوحي في أمر القبلة طالبا للصّلاة

__________________

(١) البقرة : ١٤٩.

(٢) البقرة : ١٥٠.

٨٩

في مسجدك فولّ وجهك وكذلك أصحابك حيث كانوا من المواضع في المدينة ومن الثّاني إذا خرجت إلى السّفر وأردت الصّلاة ومن الثّالث أيّ مكان كنتم من البلاد فولّوا وجوهكم أو على أيّ حالة كنتم حاضرين أو مسافرين. الخامس أنّه كرّره لتعدّد علله فإنّه ذكر للتّحويل ثلاث علل تعظيم الرّسول بابتغاء مرضاته وجري العادة الإلهيّة أنّه يولّي كلّ صاحب دعوة وأهل كلّ ملّة جهة يستقبلها ويتميّز بها عن غيره ودفع حجّة المخالفين على ما بيّنه وقرن بكل علّة معلولها كما يقرن المدلول بكلّ واحد من دلائله.

٢ ـ « لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ » أي أمرتم بالتوجّه إلى الكعبة لئلّا يكون ، فإنّ العرب يقولون إنّه على ملّة إبراهيم كما يزعم وقبلة إبراهيم الكعبة واليهود عندهم في التورية أنّه يصلّي إلى الكعبة بعد صلوته إلى الصّخرة فلو دمتم على بيت المقدس لتوجّه ذلك الإيراد من الطّائفتين عليكم « إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ » أي المعاندين من أولئك « فَلا تَخْشَوْهُمْ » فانّي من ورائكم « وَاخْشَوْنِي » بمخالفتكم وسمّى شبهة الّذين ظلموا حجّة بالنّسبة إلى اعتقاد موردها.

٣ ـ « وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ » عطف على قوله « لِئَلّا يَكُونَ » أي وجوب التّولية ليتمّ نعمتي عليكم فانّ قبلتكم وسط كما أنّ نبيّكم وسط وشريعتكم وسط وأنتم أمّة وسط « وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » سبب ثالث غائيّ للتّولية.

السّابعة : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (١).

قيل : إنّها نزلت ردّا على اليهود في اعتراضهم على النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في توجّهه إلى الكعبة وقيل إنّه كان في مبدء الإسلام مخيّرا في التوجّه إلى الصخرة أو الكعبة بهذه الآية فنسخ بقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » وقيل نزلت في الدّعاء والأذكار وعن الباقر والصّادق عليهما‌السلام أنّ هذه الآية في النّافلة سفرا حيث توجّهت

__________________

(١) البقرة : ١١٦.

٩٠

الرّاحلة وقوله « فَوَلِّ وَجْهَكَ » في الفريضة لا يجوز فيها غير ذلك (١) فهذه الآية خاصّة بالنّافلة سفرا.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّه مهما أمكن تكثير الفائدة مع بقاء اللّفظ على عمومه كان أولى فعلى هذا يمكن أن يحتجّ بالآية في الفريضة على مسائل :

١ ـ صحّة صلاة الظانّ أو النّاسي فتبيّن خطاؤه وهو في الصّلاة غير مستدبر ولا مشرّق ولا مغرّب فيستدير.

٢ ـ صلاة الظّانّ فتبيّن خطاؤه بعد فراغه وكان التّوجّه بين المشرق والمغرب فتصحّ.

٣ ـ الصّورة بحالها وكانت صلاته إلى المشرق أو المغرب والتبيّن بعد خروج الوقت.

٤ ـ المتحيّر الفاقد الامارات يصلّي إلى أربع جهات وتصحّ صلوته.

٥ ـ صحّة صلاة شدّة الخوف حيث توجّه المصلّي.

٦ ـ صحّة صلاة الماشي ضرورة عند ضيق الوقت متوجّها إلى غير القبلة.

٧ ـ صحّة صلاة مريض لا يمكنه التوجّه بنفسه ولم يوجد غيره عنده يوجّهه.

وأمّا الاحتجاج بها على صحّة النّافلة حضرا ففيه نظر لمخالفته فعل النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّه لم ينقل عنه فعل ذلك ولا أمره به ولا تقريره فيكون إدخالا في الشّرع ما ليس منه نعم يحتجّ بها على موضع الإجماع وهو حال السّفر والحرب ويكون ذلك مخصّصا لعموم قوله تعالى ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ ) بما عدا ذلك وهو المطلوب.

قوله « إِنَّ اللهَ واسِعٌ » أي واسع الرّحمة لعباده لم يشدّد عليهم « عَلِيمٌ » أي بمصالحهم وغيرها فيدبّرهم بعلمه.

__________________

(١) الوسائل ب ١٥ من أبواب القبلة ح ١٨ و ١٩ و ٢٣. وراجع تفسير العيّاشي ج ١ ص ٥٧.

٩١

الثّامنة ( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عَلِيمٌ ) (١).

سمّيت كعبة لتربيعها وكان المربّع مكعّبا لنتوء زواياه وقرأ ابن عامر « قيما » والباقون « قياما » مصدرا كالصّيام والعياذ والمعنى أنّ الله جعلها لتقويم النّاس والتوجّه إليها في متعبّداتهم ومعاشهم أمّا المتعبّدات فالصّلاة إليها والطّواف حولها والتوجّه إليها في ذبائحهم واحتضار موتاهم وغسلهم ودفنهم ودعائهم وقضاء [ أ ] حكامهم وهنا قيل بالعكس وأمّا معاشهم فآمنهم عندها من المخاوف وأذى الظّالمين وتحصيل الرّزق عندها بالمعاش والاجتماع العامّ عندها بجملة الخلق الّذي هو أحد أسباب انتظام معاشهم إلى غير ذلك من الفوائد قوله « ذلِكَ » أي ذلك الجعل « لِتَعْلَمُوا » أنّه تعالى عالم بكلّ معلوم فيعلم أسرار الموجودات وعواقب أمرها فيدبّرها بعلمه وحكمته.

النّوع الرّابع

( في مقدمات أخر للصّلاة )

وفيه آيات :

الاولى ( يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (٢).

في الآية فوائد :

١ ـ إنّما قال أنزلنا لأنّ التّأثير بسبب العلويّات أو عند مقابلاتها وملاقياتها

__________________

(١) المائدة : ١٠٠.

(٢) الأعراف : ٢٥.

٩٢

على اختلاف الرأيين والتأثّر للسفليّات ويجوز عليكم باعتبار التّأثير وإليكم باعتبار التأثّر.

٢ ـ اللّباس اسم لما يلبس والمواراة السّتر والسوءة العورة وإنّما سمّيت سوءة لأنّ صاحبها يسوؤه كشفها لاقتضاء طبيعة الإنسان ذلك ليتميّز عن باقي الحيوانات والرّيش مصدر قولهم رشت فلانا إذا أصلحت حاله ثمّ استعمل اسما بمعنى الثّوب الفاخر الّذي يتجمّل به وقرأ عثمان في الشواذّ رياشا وهو بمعنى ريش بشهادة الجوهريّ مثل اللّبس واللّباس.

وقال الزّمخشريّ : إنّه جمع ريش كشعب وشعاب وفيه نظر لأنّ الجمع غير مراد هنا وقرأ ابن عامر والكسائيّ لباس التّقوى بالنّصب عطفا على لباسا ويجوز على ريشا وقرأ الباقون بالرّفع خبر مبتدأ ويجي‌ء الكلام عليه.

٣ ـ أنّه تعالى ذكر لحكمة إنزال اللّباس ثلاثة أغراض :

أحدها ستر العورة وينقسم أقساما الأوّل أن يكون واجبا مطلقا عن كلّ ناظر محترم وغيره حتّى عن نفسه وهو حالة الصّلاة والمراد بذلك للرّجل القبل والدّبر وهو قول أكثر علمائنا وقال شاذّ منهم أنّه ما بين السرّة والركبة وأمّا المرأة فجسدها كلّه عورة عدا الوجه والكفّين والقدمين وقال ابن عباس في قوله تعالى : ( إِلّا ما ظَهَرَ مِنْها ) (١) المراد الوجه والكفّان الثّاني أن يكون واجبا لا مطلقا بل عن كلّ ناظر محترم غير مكفوف بعمي وغيره لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الناظر والمنظور إليه (٢) كما في غير الصّلاة من سائر الحالات الثّالث أن يكون مستحبّا وهو في الصّلاة وهو ستر ما بين السرّة والرّكبة وأفضل منه ستر البدن كلّه وفي غير الصّلاة مستحبّا مطلقا ولو في الخلوة حتّى وهو في الماء.

وثانيها التجمّل به بين النّاس فانّ الله يحبّ أن يرى آثار نعمه على عبده وقد لبس زين العابدين عليه‌السلام ثوبين للصيف بخمسمائة درهم وأصيب الحسين عليه‌السلام و

__________________

(١) النور : ٣١.

(٢) الوسائل ب ٣ من أبواب آداب الحمّام ح ٥.

٩٣

عليه الخز ولبس الصّادق عليه‌السلام الخزّ (١).

وثالثها كونه للتّقوى قيل المراد به ما يحترز به عن الضّرر كالحرّ والبرد وحال الحرب وليس بشي‌ء إذ التقوى عرفا وشرعا يراد بها الطّاعة وقيل ما يقصد به العبادة أو الخشية من الله تعالى والتّواضع له كالصّوف والشّعر.

٤ ـ يظهر من كلام الزمخشريّ كون الأغراض الثّلاثة لثلاثة أثواب وفيه تكلّف والأولى أنّ اللّباس يوصف بالصّفات الثلاث لإمكان كون الثوب الواحد يجتمع فيه الأغراض الثّلاثة فيكون أبلغ في الحكمة فعلى هذا يكون قراءة الرفع في « ولباس » على أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو أيضا لباس التقوى.

٥ ـ « ذلِكَ خَيْرٌ » يحتمل أن يكون « خير » أفعل التفضيل كما هو المشهور فيكون ذلك إشارة إمّا إلى لباس التّقوى أو إلى اللباس الجامع للصّفات الثلاث ويحتمل أن لا يكون أفعل التفضيل وتنكيره للتعظيم أي ذلك اللباس الجامع للصفات خير عظيم أنزل ولذلك أردفه بقوله « ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ » أي إنزال اللّباس الموصوف على نوع الإنسان آية عظيمة دالّة على غاية حكمة الله سبحانه ونهاية رحمته « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي يتذكّرون ما دلّت عليه عقولهم الصّريحة من حكمة الله وعنايته الشّاملة لبريّته.

الثّانية ( يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (٢).

روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال كان العرب يطوفون بالبيت عراة ويعلّلون ذلك بأنّهم لا يطوفون في ثياب قد عصوا الله فيها فطافت امرأة وعلى فرجها خرقة أو سير وهي تقول :

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ٢ ص ١٤ ـ ١٥. الوسائل ب ٥٤ من أبواب لباس المصلى ، قرب الاسناد ص ١٥٧.

(٢) الأعراف : ٣٠.

٩٤

اليوم يبدو بعضه أو كلّه

فما بدا منه فلا أحلّه

فنزلت. (١) واتّفق المفسّرون على أنّ المراد بأخذ الزّينة هو ستر العورة في الصّلاة وهنا أحكام :

١ ـ الستر واجب لصريح الأمر والأمر للوجوب.

٢ ـ هل السّتر شرط في الصّحة مع الإمكان مطلقا أو مقيّدا بحال العمد ، الشّيخ وابن سعيد على الثّاني وابن الجنيد على الأوّل وهو الأقوى ويظهر الفائدة في الناسي وغير العالم بالكشف فأوجب ابن الجنيد الإعادة عليهما في الوقت خاصّة والحقّ الوجوب مطلقا لأنّ الإخلال بالشّرط الواجب مطلقا مبطل مطلقا كالطّهارة.

٣ ـ لا يسقط الصّلاة مع عدم السّاتر بل يجب فإن أمن المطّلع صلّى قائما مؤميا ومع عدم أمنه جالسا مؤميا.

٤ ـ يجب شراء السّاتر أو استيجاره ويقدّم ثمنه على ثمن الماء لو تعارضا إذ الماء له بدل وكذا يجب قبول إعارته وهبته لا قبول هبة ثمنه.

٥ ـ يجب كونه غير ميتة لما يجي‌ء ولا جلد غير مأكول ولا صوفه ولا شعره ولا ريشه مطلقا إلّا الخزّ إجماعا والسّنجاب على قول ويزيد في الرّجل أن لا يكون حريرا محضا ولا ذهبا.

قوله « عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ » أي كلّ صلاة تسمية الحالّ باسم المحلّ وعن الباقر والصّادق عليهما‌السلام هو استحباب لبس أجمل الثياب في الجمع والأعياد (٢) وفيه دليل على استحباب التحسّن في الصّلاة لا التّخشّن اللهمّ إلّا أن يكون الخشن شعارا (٣) كما فعل الرّضا عليه‌السلام في لبسه الخزّ فوق والصّوف تحت وقضيّته مع جهلة الصّوفية مشهورة (٤).

__________________

(١) راجع الدّر المنثور ومجمع البيان ذيل الآية.

(٢) تفسير العيّاشي ج ٢ ص ١٣ والوسائل ب ٥٤ من أبواب لباس المصلّى.

(٣) تفسير العيّاشي ج ٢ ص ١٣ والوسائل ب ٥٤ من أبواب لباس المصلّى.

(٤) دخل عليه بخراسان قوم من الصوفية فقالوا ان أمير المؤمنين المأمون نظر فيما ولّاه الله تعالى من الأمر فرآكم أهل البيت أولى النّاس بأن تؤموا النّاس ونظر

٩٥

قوله ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا ) كان بنو عامر في أيّام حجّهم لا يأكلون الطّعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظّمون بذلك حجّهم فقال المسلمون نحن أحقّ بفعل ذلك فنزلت الآية.

واعلم أنّ خصوص السّبب لا يخصّ العامّ كما بيّن في الأصول فالآية حينئذ عامّة في الأمر بالأكل والشّرب وعدم الإسراف فيهما وفيه جمع لقواعد الطبّ البدنيّ في بعض آية وكذا جمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله : « المعدة بيت الداء والحميّة رأس الدّواء وأعط كلّ بدن ما عوّدته » وقضيّة عليّ بن واقد بين يدي الرّشيد مع بختيشوع الطّبيب مشهورة (١).

الثّالثة ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) (٢).

لا ريب أنّ إسناد التّحريم إلى الذّوات ليس حقيقة لكونها غير مقدورة فلا بدّ من تقدير مضاف يتعلّق به التّحريم فقال قوم ليس بعض المقدّرات أولى من بعض

__________________

فيكم أهل البيت فرآك أولى النّاس بالنّاس فرأى أن يرد هذا الأمر إليك والأمة تحتاج الى من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويركب الحمار ويعود المريض وكان الرّضا عليه‌السلام متّكئا فاستوى جالسا ثم قال : كان يوسف نبيّا يلبس أقبية الدّيباج المطرّزة بالذهب ويجلس على متّكئات آل فرعون ويحكم انّما يراد من الامام قسطه وعدله وإذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز انّ الله لم يحرم ملبوسا ولا مأكولا وتلا « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ». راجع كشف الغمّة ج ٣ ص ١٤٧.

(١) قال الزّمخشري في الكشّاف : يحكى أن الرّشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق فقال ذات يوم لعلىّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شي‌ء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان. فقال له قد جمع الله الطّب كلّه في نصف آية من كتابه قال وما هي؟ قال قوله « كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا » فقال النّصراني هل يؤثر من رسولكم شي‌ء في الطّب فقال قد جمع رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الطّب في ألفاظ يسيرة قال وما هي قال قوله « المعدة بيت الدّاء والحميّة رأس الدّواء وأعط كل بدن ما عودّته » فقال النّصراني ما ترك كتابكم ولا نبيّكم لجالينوس طبّا. راجع ج ٢ ص ٦٠.

(٢) المائدة : ٤.

٩٦

فيقدّر لفظ يعمّ الجميع وهو هنا الانتفاع وفيه نظر لأنّا نسلّم أنّه لا بدّ من تقدير لكنّ الذّهن يسبق عند الإطلاق إلى تقدير ما يراد من تلك الذّوات كما يسبق إلى الذّهن من إطلاق ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (١) تحريم النّكاح فعلى الأوّل تقدير الآية حرّمت عليكم وجوه الانتفاعات بالميتة فيدخل في ذلك لبس جلدها واستعمالها بسائر وجوه الاستعمال سواء دبّغ أولا (٢) ويؤيّده قول الباقر عليه‌السلام وقد سئل عن جلد

__________________

(١) النّساء : ٢٢.

(٢) اختلف فقهاء الإسلام في حكم دباغ جلد الميتة على سبعة أقوال :

القول الأوّل : أنه لا يطهر مطلقا وهو المشهور من مذهب الإماميّة لو لم يكن عليه الإجماع ويشهد له رواية أبي بصير المرويّة في الوسائل في الباب ٦١ من أبواب لباس المصلّى ح ١ : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصّلاة في الفراء فقال عليه‌السلام كان علىّ بن الحسين عليه‌السلام رجلا صردا لا يدفؤه فراء الحجاز لانّ دباغها بالقرظ فكان يبعث الى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا حضرت الصّلاة ألقاه وألقى القميص الذي عليه وكان يسأل عن ذلك فيقول : ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون أنّ دباغه ذكاته.

وخبر عبد الرّحمن بن الحجّاج المرويّة في الوسائل الباب ٦١ من أبواب النّجاسات ح ٤ : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انّى أدخل سوق المسلمين أعنى هذا الخلق الّذين يدعون الإسلام فأشتري منهم الفراء للتّجارة فأقول لصاحبها أليست هي ذكيّة؟ فيقول : بلى ، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال : لا ، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول : قد شرط لي الّذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة ، قلت : وما أفسد ذلك؟ قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكائة ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك الّا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأنت خبير بما في الروايتين من اضطراب المتن مع قطع النظر عن السّند ، أليس فيهما جواز البيع وبيع الميتة ممنوع نصّا وفتوى إجماعا منقولا ومحصّلا. أليس المأخوذ من يد المسلم محكوما بالتّذكية وقد نصّ الإمام في صحيح البزنطي : ليس عليكم المسألة انّ أبا جعفر كان يقول : أنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم انّ الدّين أوسع من ذلك؟ وكيف يمكن اسناد لبس الفراء الى الامام وهو متحرّز.

فمع صحّة الرّوايتين لا بدّ من حمل الاولى على الاحتياط الاستحبابيّ أو الكراهة

٩٧

__________________

والثّانية على عدم جواز الاخبار بالتّذكية اعتمادا على اخبار البائع الا أنه يمكن القول بأنّ إطلاق النّصوص المتضمّنة عدم الانتفاع بالميتة غير شامل لما بعد الدبغ ولا أقل من الأصل.

وقد خالف في المسئلة ابن الجنيد ونسب الى الصدوق أيضا وظاهره طهارته وان لم يدبغ أو نجاسته حكما بمعنى عدم التعدي لأنه قال في المقنع : « ولا بأس أن يتوضأ من الماء إذا كان في زق من جلد ميتة » ، وأرسل في الفقيه عن الصادق عليه‌السلام عند السؤال عن جلود الميتة : « لا بأس بأن تجعل فيها ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتوضأ منه واشرب ولا تصل فيه » الا أنهم حملوه على ما بعد الدبغ ، قلت حمله على ميتة ما لا نفس له أولى ولعلّه كان عند السؤال عن الصّادق قرينة على ذلك اعتقدها الصدوق فأورد الخبر في سلك ما يجوز التّعويل عليه.

وممن قال بالطّهارة بالدبغ المحدث الكاشاني في المفاتيح ومال إليه أيضا صاحب المدارك حيث قال : وبالجملة فالمسئلة محل تردّد لما بيناه فيما سبق من أنه ليس على نجاسة الميتة دليل يعتد به سوى الإجماع وهو انما انعقد على النجاسة قبل الدبغ لا بعده وعلى هذا يمكن القول بالطهارة تمسكا بمقتضى الأصل وتخرج الروايتان شاهدا » ، والرّوايتان إحداهما ما في الفقيه كما سمعتها والثانية ما رواه الشيخ في الصحيح الى الحسين بن زرارة ( وهو وان كان في كتب الرجال مهملا الا أنه يمكن استفادة مدحه من دعاء الصّادق عليه‌السلام له ولأخيه الحسن ) عن الصادق عليه‌السلام في جلد شاة ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن والماء فأشرب منه وأتوضّأ؟ قال نعم وقال يدبغ فينتفع به ولا يصلى فيه راجع الرّواية في الوسائل ب ٣٣ من أبواب الأطعمة المحرّمة.

وعلى كلّ فالمشهور عن الإماميّة هو القول ببقاء النجاسة وهو مذهب احمد بن محمّد بن حنبل على أشهر الروايتين ومذهب مالك على احدى الروايتين ونسبه النوويّ في شرح صحيح مسلم الى عمر بن الخطّاب ، وابنه عبد الله وعائشة ونسب أيضا الى عمران ابن الحصين. والمستند لهذا القول عند أهل السّنة ما عن عبد الله بن عليم ففي المنتقى على ما في نيل الأوطار ج ١ ص ٧٦ عن عبد الله بن عكيم قال : كتب إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب رواه الخمسة ولم يذكر منهم المدّة إلّا أحمد وأبو داود ، قال الترمذي هذا حديث حسن ، وللدّارقطنى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب الى جهينة انّى كنت رخصت لكم في جلود الميتة

٩٨

__________________

فإذا جاء أحدكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وللبخاري في تاريخه عن عبد الله بن عكيم قال حدّثنا مشيخة لنا من جهينة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كتب إليهم إلا تنتفعوا من الميتة بشي‌ء.

وحيث ان الرواية كانت قبل وفاة النبي بشهر أو شهرين أو أربعين يوما أو ثلاثة أيام على ما في نيل الأوطار ج ١ ص ٧٨. قالوا : انّه ناسخ لما ورد من الحكم بالطّهارة ويؤيده ما صرّح به في رواية الدّارقطنى ، وهذا هو المطابق للقواعد الأصوليّة لأهل السنة فإنهم يحكمون عند تعارض الاخبار بناسخية المتأخر ان علم التاريخ والتساقط أو الترجيح ان لم يعلم ولا يخفى عليك ان المرجح للأخذ برواية ابن عكيم ومع قطع النّظر عن تأخره كما عرفت عمل الصحابة حيث قد عرفت عمل عمر وابنه وعمران وعائشة بها وإنكار عائشة لروايتها الطّهارة يوقظنا بأنّها كانت عالمة بنسخها ولذا لم تعمل بما روتها فقد عرفت حكاية النووي عنها الحكم بالنّجاسة وروايتها الطّهارة كما في المنتقى على ما في نيل الأوطار ج ١ ص ٧٥ عن عائشة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أمران ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت رواه الخمسة إلّا الترمذي وللنسائى سئل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جلود الميتة فقال دباغها ذكاتها وللدارقطنى عنها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : طهور كل أديم دباغه قال الدارقطنى إسناده كلهم ثقات.

فعدم عملها بما روته يضعّف الحكم بما روته ويقوّى الحكم بالنّجاسة كما رواه ابن عكيم. وضعّف روايتها الطّهارة ابن التركمان في ص ١١ ج ١ من الجوهر النقي بإبراهيم بن الهيثم. وما ذكرناه في حكم التعارض موافق لما في كتبهم الأصولية انظر جمع الجوامع للسبكى بشرح المحلّى وحاشية البناني وتيسير التّحرير للأمير پادشا والمنهاج والمختصر وغيرها من الكتب الأصولية ولبعضهم في وجوه الترجيح تقديم خبر الحظر على الإباحة وعليه فالترجيح أيضا لخبر ابن عكيم.

القول الثاني : انّه يطهر بالدّباغ جميع جلود الميتة إلّا الكلب والخنزير والمتولّد منهما ظاهره وباطنه ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة والمائعة من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره ، والى هذا ذهب الشافعي واستدل على استثناء الخنزير بقوله تعالى « فَإِنَّهُ رِجْسٌ » وجعل الضمير عائدا إلى المضاف اليه وقاس الكلب عليه بجامع النجاسة ، واستدل أهل هذا المذهب على طهارة ما عداهما بما رووه عن ابن عباس على ما في المنتقى

٩٩

__________________

في ص ٧٢ ج ١ من نيل الأوطار عن ابن عبّاس قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت ، فمرّ بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : هلّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟

فقالوا انّها ميتة ، فقال : انّما حرّم أكلها ، رواه الجماعة إلّا ابن ماجة قال فيه « من ميمونة » جعله من مسندها وليس فيه للبخاري والنّسائي ذكر الدباغ بحال. وغيرها ممّا هو مسطور في كتبهم.

وقد أسلفنا لك في شرح المذهب الأوّل انّها معارضة بما عن ابن عكيم وبسطنا الكلام في وجوه ترجيح الثّاني ونزيدك هنا أنّه يمكن كون الميتة في تلك الرّوايات بالتّشديد وقد فرّق أهل اللّغة بين الميّت بالتشديد والتّخفيف وانشدوا :

يسائلني تفسير ميت وميت

فدونك قد فسرت ان كنت تعقل

فمن كان ذا روح فذلك ميت

وما الميّت الّا من الى القبر يحمل

والشاهد لكون الميّت بالتّشديد لما لم يمت قوله تعالى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد أشار الشاطبي الى ذلك في فرش القراءات في البيت الخامس من سورة آل عمران :

وميتا لدى الانعام والحجرات ( خ ) ذ

وما لم يمت للكل جاء مثقلا

راجع سراج القاري ص ١٧٩.

وممّا يؤيّد هذا التّخريج من طرق الإماميّة ما روى في الكافي في الصحيح عن على بن المغيرة قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك الميتة ينتفع منها بشي‌ء؟ قال لا قلت بلغنا انّ رسول الله مرّ بشاة ميتة فقال ما كان على أهل هذه الشّاة إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها قال عليه‌السلام تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النّبي وكانت مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان على أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها ، أي تذكّى.

وروى الشّيخ في الموثّق عن ابى مريم قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام السخلة التي مرّ بها رسول الله وهي ميتة فقال ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ قال فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لم تكن ميتة يا أبا مريم ولكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها. راجع الوسائل ب ٦١ من أبواب النّجاسات ح ٢ و ٥ وب ٤٣ من الأطعمة المحرّمة ح ٣ و ١.

القول الثّالث : انّه يطهر بالدّباغ جلد مأكول اللّحم دون غيره وهو مذهب

١٠٠