كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

الحدث فإجماع إلّا من أبي حنيفة في الوضوء بالنّبيذ مطبوخا مع عدم الماء في السّفر وأمّا الخبث فأكثر أصحابنا (١) على ذلك وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة كلّ مائع مزيل للعين يجوز إزالة النجاسة به ، حجّتنا أنّ صريح الآية يدلّ على الامتنان بكون الماء مطهّرا فلا يكون غيره كذلك وإلّا لما تمّ الامتنان بل كان ذكر الأعمّ وهو المائع أولى.

٢ ـ ( وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ) قيل هو الجنابة ، والرّجز النّجاسة وقيل العذاب وقيل الوسوسة فإنّه لمّا نزل المسلمون على كثيب أعفر تسوخ فيه أقدامهم على غير ماء [ وناموا ] فاحتلم أكثرهم والمشركون سبقوهم إلى الماء فتمثّل لهم إبليس وقال تصلّون على غير وضوء وعلى جنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحقّ لما غلبكم هؤلاء على الماء. فحزنوا حزنا شديدا فمطروا ليلا حتّى جرى الوادي وتلبّد الرمل حتّى ثبتت عليه الأقدام وطابت النفوس. فعلى القول الأوّل فيه دلالة على نجاسة المنيّ ولذلك قرئ رجس وهو مرادف للنجاسة.

الثامنة : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٢).

__________________

(١) وقد خالف في ذلك السيّد والمفيد وابن ابى عقيل ، ووافقهم في ذلك المحدّث الكاشاني ، ويشهد لهم رواية غياث ابن إبراهيم عن ابى عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عن على عليه‌السلام : لا بأس ان يغسل الدّم بالبصاق ( الوسائل ب ٤ من أبواب الماء المضاف ح ١ ) ولو صحّت الرواية فهي مختصّة بموردها اعنى البصاق ، والاستدلال بانّ الغرض ازالة عين النجاسة ، يقتضي القول بعدم وجوب تطهير المتنجّس بعد ما لا يبقى عينه ، وينافيه النّصوص الإمرة بالتطهير فضلا عن النّصوص الظّاهرة في تعيّن الماء. وعن ابن ابى عقيل مطهريّة المضاف عند الاضطرار ولا دليل عليه.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

٤١

المحيض يجي‌ء مصدرا كالمجي‌ء والمبيت واسم زمان واسم مكان فالمحيض الأوّل مصدر لا غير لعود الضّمير إليه لقوله هو أذى أي مستقذر وأمّا الثّاني فيحتمل المصدر فيكون فيه تقدير مضاف أي في زمان الحيض ويحتمل اسم الزمان أو المكان فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ ) أي لا تجامعوهنّ عرفا لا لغة حتّى يطهّرن بالتّشديد على قراءة حمزة والكسائي أي يغتسلن وقرأ الباقون بالتّخفيف أي ينقين من الدّم وحيث ظرف مكان.

إذا عرفت هذا ففي الآية أحكام.

١ ـ إنّ الحيض نجس لقوله أذى وهو المستقذر وهو إجماع أهل العلم.

٢ ـ إنّ نجاسته مغلّظة لقوله « هُوَ أَذىً » مبالغة فيه بالقذارة بالإتيان باسم الظّاهر أوّلا ثمّ بالضّمير الّذي كنى به عنه ثمّ بتنكير خبره ووصفه بالأذى وكلّ ذلك أمارة غلظة نجاسته فيجب إزالة قليله وكثيره عندنا وإلّا لما كان لغلظته فائدة زائدة وكذا النّفاس لأنّه حيض كان محتبسا.

٣ ـ إنّ دم الحيض من الأحداث الموجبة للغسل لإطلاق الطّهارة المتعلّقة به وقد تقدّم أنّ ذلك يراد به الغسل وأقلّ مدّته الّتي يصير بها موجبا للغسل عندنا ثلاثة أيّام وأكثره عشرة وبه قالت الحنفيّة وقال الشافعي : أقلّه يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما.

٤ ـ وجوب اعتزال النّساء في مكان الحيض (١) وهو القبل أي ترك مجامعتهنّ

__________________

(١) قال في مجمع البيان : في هذه الآية دلالة على وجوب اعتزال المرأة في حال الحيض وفيها ذكر غاية التّحريم ويشتمل ذلك على فصول أحدها ذكر الحيض واقلّه وأكثره وعندنا أقلّه ثلاثة أيّام وأكثره عشرة أيّام وهو قول أهل العراق وعند الشّافعي وأكثر أهل المدينة أقلّه يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وثانيها حكم الوطي في حال الحيض فانّ عندنا ان كان في أوّله يلزمه دينار وان كان في وسطه فنصف دينار وان كان في آخره فربع دينار وقال ابن عبّاس عليه دينار ولم يفصل وقال الحسن يلزمه بدنة أو رقبة أو عشرون صاعا وثالثها غاية تحريم الوطي واختلف فيه فمنهم من جعل الغاية انقطاع الدّم ومنهم من قال إذا توضّأت أو غسلت فرجها حلّ وطيها عن عطا وطاوس وهو مذهبنا وان

٤٢

إذ الأمر حقيقة في الوجوب والإجماع يؤيّده وفي وصفه بالأذى وترتيبه الحكم عليه بالفاء إشعار بأنّه العلّة. وفي كيفية الاعتزال عندهم خلاف فقال محمّد بن الحسن كما قلناه إنّه القبل وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي هو ما اشتمل عليه الإزار.

روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يؤاكلونها ولا يشاربونها ولا يساكنونها في البيت كفعل اليهود والمجوس فلمّا نزلت الآية أخذ المسلمون بظاهرها ففعلوا كذلك فقال أناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهنّ بالثّياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرناها هلكت الحيض فقال عليه‌السلام : إنّما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن ولم آمركم بإخراجهنّ كفعل الأعاجم.

وقيل : إنّ النّصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كلّ شي‌ء فأمر الله تعالى بالاقتصاد بين الأمرين.

٥ ـ اختلف في مدّة زمان الاعتزال وغايتها فقال الشافعيّ حتّى تغتسل ويحتجّ بأنّه جمع بين القرائتين ولقوله ( فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ ) فعنده لا يجوز وطيها حتّى تطهر وتتطهّر. وقال أبو حنيفة بالجمع بين القرائتين (١) بأنّ له أن يطأها في أكثر

__________________

كان المستحب الّا يقربها الّا بعد الغسل ومنهم من قال إذا انقطع دمها فاغتسلت حلّ وطيها عن الشافعي ومنهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدّم يحلّلها للزّوج وان كان دون العشرة فلا يحلّ وطيها إلّا بعد الغسل أو التيمّم أو مضىّ وقت الصلاة عليها عن أبي حنيفة.

(١) قد أشرنا في بعض الحواشي السّابقة إلى إجمال البحث في القرائات المختلفة وعدم تواترها ونرشدك الان إلى مراجعة رسالة نفيسة أدرجها صاحب مفتاح الكرامة في مباحث القراءة ص ٣٩٠ الى ٣٩٦ من كتاب الصّلوة المجلّد الأوّل لا يستغنى الفقيه عن مراجعتها فراجع وانّ للعلامة آية الله السيد ابى القاسم الخويي دام ظلّه في مقدّمة كتابه البيان في التفسير بيانا تامّا في اسناد القراءات والخدشة في كلّها مستدلّا فراجعه من ص ٩٢ الى ص ١١٥ فإنّه مفيد جدّا.

ونزيدك بيانا في عدم التّواتر واللّزوم للقرائات السّبع : انّه لم يكن عرفت في الأمصار الإسلاميّة ، حين بدء العلماء يؤلّفون في القراءات ، والسّابقون منهم كأبي عبيد

٤٣

الحيض بعد الانقطاع وإن لم تغتسل وفي أقلّه لا يقربها بعد الانقطاع إلّا مع الاغتسال

__________________

القاسم بن سلام وابى جعفر الطّبري وابى حاتم السجستاني ذكروا في مصنّفاتهم أضعاف تلك القرائات وانّما كان ابن مجاهد هو الّذي قام على رأس الثّلاث مأة للهجرة في البغداد الّذي قالوا في حقّه : انّه تسبّع السّبعة ، وقد حظيت قراءة السّبعة من لدن ابن مجاهد بشهرة واسعة حتى توهّم عدّة رواية نزول القرآن بالأحرف السّبع ارادة القراءات السّبع.

والحاصل انّ المتواتر من القرآن ليس الّا ما بين الدّفتين وانّ القراءات ليست بمتواترة بل انّما هي امّا اجتهاد من القرّاء ، أو نقل آحاد لم يثبت عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعليه يكون الآية بالنسبة إلى حكم الطاهرة غير المتطهّرة مجملة ، فيكون موردا لما شرحه الشّيخ الأنصاري في التّنبيه العاشر من تنبيهات الاستصحاب وذكره المحقّق الخراساني في التّنبيه الثّالث.

وحيث انّ حكم العام ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) ليس حكما مجعولا على نحو الدّوام والاستمرار بل جعل كلّ يوم بل كل آن من الآنات فردا لموضوع العام ، فالمتّبع في غير ما تيقّن تخصيصه هو العمل بالعام ، ونتيجته جواز الوطي بعد الطّهر. ولو فرض تواتر القراءات أيضا قلنا : انّه مع الفرض لا يكون بينهما تعارض بحسب السّند ، بل التّعارض بينهما بحسب الدّلالة. فإذا علمنا إجمالا انّ احد الظّاهرين غير مراد في الواقع فلا بدّ من القول بتساقطهما ، فإنّ أدلّة التّرجيح أو التّخيير انّما هو في تعارض الاخبار ، وبعد التساقط يكون عموم العام ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) متبعا. هذا من حيث الاستناد الى الكتاب. وامّا الاخبار فحيث إنّها متعارضة ، فالمتّبع هو التّخيير ، ولازمه جواز الأخذ بما دلّ على الإباحة. وحيث انّ اخبار المنع ليست بصريحة في الحرمة فالجمع بينهما بحمل ما دلّ على المنع على الكراهة جمعا عرفيّا أخرى فتدبّر.

وقال العلّامة الحكيم مدّ ظلّه في المستمسك ( ج ٣ ص ٢٩٨ ) « وعلى قراءة التّخفيف بتعارض الصدر والذّيل لظهور الطّهارة في النقاء وكما يمكن التّصرف في الأوّل بحمل الطّهارة على الغسل يمكن في الثّاني بحمل التّطهّر على النّقاء أو حمل الأمر على الإباحة بالمعنى الأخصّ المقابل للحرمة والكراهة والأخير أقرب لما فيه من المحافظة على التعليل بالأذى المختص بالدّم وعلى اختلاف معنيي الفعل المجعول غاية والمجعول شرطا في الجملة الثانية الّذي يشهد به اختلافها في الهيئة. نعم الأقرب من ذلك كلّه تقييد إطلاق الغاية بمفهوم الشرطية ويتعيّن حينئذ الخروج عن ظاهرها بما عرفت من النصوص فتعيّن حمل الأمر على الإباحة بالمعنى الأخصّ ».

٤٤

وأمّا أصحابنا فجمعوا بينهما بأنّه قبل الغسل جائز على كراهيّة وبعده لا على كراهية وقال بعض أصحابنا بقول الشافعيّ وليس بشي‌ء لأنّ تفعّل قد جاء بمعنى فعل كالمتكبّر في أسمائه تعالى وكقولك تطعّمت الطعام بمعنى طعمته.

٦ ـ ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ) الأمر هنا ليس للوجوب مطلقا بل قد يكون للوجوب كما لو كان قد اعتزلها أربعة أشهر آخرها أوّل رمان الانقطاع والغسل وكذا لو وافق انقضاء مدّة التربّص في الإيلاء والظهار وقد يكون للندب كما في اقتضاء الحال ذلك فهو إذا لمطلق الرّجحان واختلف في معنى « مِنْ حَيْثُ » قيل عن ابن عبّاس أنّه من حيث أمركم الله بتجنّبه وهو محلّ الحيض أعني القبل وقيل من حيث الطهر دون الحيض وقال محمّد بن الحنفيّة من قبل النكاح دون الفجور ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ) عن النجاسات الباطنة وهي الذنوب ( وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) من النجاسات الظاهرة.

التاسعة ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (١).

إنّما للحصر معناه لا نجس من الإنسان غير المشركين (٢) والنجس مصدر في

__________________

(١) التوبة : ٢٨.

(٢) ظاهر الآية حصر أوصاف المشركين في النجاسة أي ليس لهم وصف إلا النجاسة فالحصر إضافي بالنسبة إلى الطهارة أي لا طهارة لهم فقول الفخر الرازي « حصر الله تعالى في هذه الآية الشريفة النجاسة في المشركين اى لا نجس غيرهم وعكس بعض الناس ذلك وقال لا نجس الا المسلم حيث ذهب الى ان الماء الذي استعمله المسلم في رفع الحدث مثل الوضوء والغسل نجس فالمنفصل من أعضائه من ذلك الماء حينئذ نجس بخلاف الماء الذي استعمله المشرك فإنه طاهر لعدم ازالة حدثه » باطل وأراد منه أبا حنيفة فإنه الذي ذهب الى ذلك على ما هو المشهور وفيه تعريض عظيم على ابى حنيفة حيث انه عكس ما قال الله تعالى مع أنه ليس في محله على ما عرفت. انتهى زبدة البيان.

٤٥

الأصل تقول نجس بكسر العين ينجس بفتحها نجسا بفتحتين فهو نجس بفتح العين وكسرها وإذا استعمل مع الرّجس كسر أوّله ويقال رجس نجس بكسر أوّلهما وسكون الجيم قاله الفرّاء وقرئ به شاذا ولكون النّجس مصدرا في الأصل لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث قال ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) ولم يقل نجسون والمراد بالمسجد الحرام قيل هو جملة الحرم سمّي به تسمية للشي‌ء باسم أشرف أجزائه ( فَلا يَقْرَبُوا ) قيل المراد أمر المؤمنين أن لا يمكّنوهم منه ولذلك صدّر الآية بيا أيّها الّذين آمنوا والنهي عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع من دخول الحرم وذلك العام قبل سنة حجّة الوداع والأصحّ أنّه سنة تسع لمّا بعث أبا بكر ببراءة ثمّ أمره الله بردّها وأن لا يقرأها إلّا هو أو أحد من أهله فبعث عليّا عليه‌السلام ويدلّ عليه قول عليّ عليه‌السلام « لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك » (١) وبه قال أبو حنيفة وفي الآية أحكام :

١ ـ إنّ المشركين أنجاس نجاسة عينيّة لا حكميّة وهو مذهب أصحابنا (٢)

__________________

(١) راجع الدّر المنثور والعيّاشي وغيرهما من التفاسير آيات أول براءة.

(٢) الإنصاف انّ دلالة الآية على نجاسة المشرك ظاهرة ، والاشكال عليه بان النجس مصدر لا يصح حمله على العين الّا بتقدير ذو ليكون في الإضافة أدنى ملابسة. مدفوع بصحة حمل المصدر على العين للمبالغة ، نحو زيد عدل ، ويشهد لإرادته المنع من دخولهم المساجد كلية ولا كلية في تلوّثهم بالنّجاسة الوصفيّة. مضافا الى انّ بعض أهل اللّغة صرّحوا بانّ النّجس بالفتح وصف كالنجس بالكسر ، ولو سلّم انّ المراد ذو نجاسة ، أمكن الاستدلال على النّجاسة الذّاتية بإطلاقه حيث يشملهم مع عدم ملاقاة الأعيان النجسة ، ومع استعمال المطهّر ، والإيراد بأنّه لم يثبت الحقيقة الشرعيّة للنجس مدفوع بثبوت الحقيقة المتشرّعة ، والألفاظ المستعملة في لسان الشّارع إذا تعذّر حملها على المعنى العرفي فإنّها تحمل على المفهوم عند المتشرعة والحمل على المعنى العرفي في الآية كما ذكره المقدّس الأردبيلي خلاف وظيفة الشارع وخلاف ما هو الواقع في كثير من المشركين ولا يختص بهم بل يشاركهم فيه غيرهم من المسلمين ، ولا يناسب الحكم المفرع عليه ولو جاز التشكيك المذكور في الآية لجاز مثله فيما ورد في الكلب من انه نجس ولم يحتمله احد بل عدوه

٤٦

وبه قال ابن عبّاس قال : إنّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وقال الحسن : من صافح مشركا توضّأ. والوضوء قد يطلق على غسل اليد وخالف باقي الفقهاء (١) في ذلك وقالوا معنى كونهم نجسا أنّهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتجنّبون النجاسات أو كناية عن خبث اعتقادهم.

واعلم أنّ تعليق الحكم على المشتقّ يدلّ على أنّ المشتقّ منه علّة في الحكم كقولك : « أكرم العلماء » أي لعلمهم و « أهن الجهّال » أي لجهلهم فلو غسلوا أبدانهم سبعين مرّة لم يزيدوا إلّا نجاسة وروايات أهل البيت عليهم‌السلام وإجماعهم على نجاستهم مشهورة (٢).

٢ ـ إنّهم إذا كانوا أنجاسا فأسئارهم وكلّما باشروه برطوبة نجس أيضا (٣) و

__________________

من أصرح التعبير عن النجاسة.

وقد أنصف الإمام الرازي في تفسير الآية وأذعن دلالتها على نجاسة المشركين وتعجب من ابى حنيفة كيف يقول بعدم نجاستهم مع القول بنجاسة الماء المستعمل في الوضوء والغسل ولازمه نجاسة المؤمن وتعقبه بما يناسب نقل عبارته بعينه قال : واعلم انّ قوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) يدلّ على فساد هذا القول لانّ كلمة انّما للحصر وهذا يقتضي ان لا نجس الّا المشرك ، فالقول بأنّ أعضاء المحدث نجسة مخالف للنصّ ، والعجب انّ هذا النّص صريح في انّ المشرك نجس وفي انّ المؤمن ليس بنجس ، ثمّ انّ أقواما قلّبوا القضيّة وقالوا : المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثا أو جنبا نجس وزعموا انّ المياه الّتي استعملها المشركون في اعضائهم بقيت طاهرة مطهرة ، والمياه الّتي يستعملها أكابر الأنبياء في اعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، وهذا من العجائب انتهى كلامه.

(١) قال قتادة : سمّاهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون ويحدثون ولا يتوضأون فمنعوا من دخول المسجد لانّ الجنب لا يجوز له دخول المسجد.

(٢) الوسائل ب ١٣ من أبواب النّجاسات.

(٣) نجاسة سؤرهم انّما هو على القول بانفعال الماء القليل ولذلك قالوا لا يحسن عد ابن ابى عقيل في عداد من يقول بطهارة أهل الكتاب مع تخصيصه عدم النّجاسة بأسئارهم وهو لا يقول بانفعال الماء القليل.

٤٧

هو ظاهر ، أمّا قوله تعالى ( وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) (١) فالمراد به الحنطة والشعير والحبوب (٢) وهو مرويّ عن الصادق عليه‌السلام (٣) وسيأتي تمام البحث

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) والانصاف انّ هذه الآية لا تدلّ على طهارتهم ولتوضيح المرام نقول : قال المحقق الخراساني في مبحث الإطلاق « انّه يمكن أن يكون للمطلق جهات عديدة كان يكون واردا في مقام البيان من جهة منها وفي مقام الإهمال أو الإجمال من اخرى فلا بدّ في حمله على الإطلاق بالنسبة إلى جهة من كونه بصدد البيان من تلك الجهة ولا يكفى كونه بصدده من جهة أخرى إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة ».

وهذا الكلام متين ولأجله قالوا : لا يصحّ التّمسك بالإطلاق في قوله تعالى ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) لإثبات طهارة موضع عضّ الكلب إذ الآية واردة في مقام بيان الحلية من حيث التّذكية ولا ترتبط بحيثيّة الطّهارة والنّجاسة.

وكذا نقول في هذه الآية انّها واردة في مقام بيان الحليّة من جهة إضافة الطّعام إليهم إضافة الملك بقرينة « وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ » لا اضافة العمل والمباشرة المؤدّية إلى سراية النّجاسة وهل تراك تقول بحليّة طعامهم ولو كان لحم خنزير أو مغصوبا بإطلاق الآية.

(٣) تفسير العيّاشي ج ١ ص ٢٩٦. وهذا التّفسير الصّادر عن أهل البيت موافق لما ذكره أهل اللّغة فنقل ابن الأثير عن الخليل انّ الطعام في كلام العرب هو البرّ خاصة وقال الفيومي : إذا أطلق أهل الحجاز لفظ الطّعام عنوا به البرّ خاصّة. وقال ابن فارس في مقاييس اللّغة ( ج ٣ ) كان بعض أهل اللّغة يقول الطّعام هو البرّ خاصّة وذكر حديث ابى سعيد كما في تيسير الوصول ( ج ٢ ص ١٢٣ ) قال كنّا نخرج صدقة الفطرة على عهد رسول الله صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر. أخرجه السّتة ، وقال الرّاغب : وقد اختصّ بالبرّ فيما روى أبو سعيد ، ونقل الشّوكانى في ج ٤ ص ١٩٢ عن الخطابي وغيره انّ المراد بالطّعام هنا الحنطة وانّه اسم خاصّ به وقد كانت تستعمل في الحنطة عند الإطلاق حتى إذا قيل اذهب الى سوق الطّعام فهم سوق القمح.

وإذا راجعت شرح الموطإ للزّرقانى ( ج ٢ ص ١٤٩ ) وشرح فتح القدير لابن همام الحنفي ( ج ٢ ص ٣٦ ـ ٤٠ ) وكتب التفاسير في ذيل الآية ، والآية ١٨٤ من البقرة ( فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) والآية ٩٥ المائدة ( كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ) والآية ١٤ في عبس ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ ) تجد صدق ذلك. وسيوافيك تمام الكلام مشروحا في الأطعمة إنشاء الله.

٤٨

في الأطعمة إنشاء الله تعالى.

٣ ـ أنّه لا يجوز دخولهم المسجد الحرام وكذا باقي المساجد عندنا لنصوص أهل البيت عليهم‌السلام (١) وبه قال مالك واقتصر الشافعيّ على المسجد الحرام وهو عجيب فهلّا قاس ما عداه عليه لأنّه قائل بالقياس والعلّة وهي النّجاسة حاصلة وأبو حنيفة لا يمنعهم دخوله ولا دخول غيره ويقول : إنّ النهي عن حجّهم لقوله عليه‌السلام : « لا يحجّنّ بعد العام مشرك » وذلك لا يستلزم النّهي عن الدخول. (٢) وهو فاسد لأنّ دخولهم يستلزم القرب المنهيّ عنه.

٤ ـ أنّه لا فرق بينهم وبين باقي الكفّار عندنا في جميع ما تقدّم للإجماع

__________________

(١) روى في البحار ج ١٨ ص ١٢٧ من طبعة كمپانى ، عن نوادر الرّاوندي بإسناده عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي ص ١٣٦ عن كتاب دعائم الإسلام عن على عليه‌السلام أنّه « قال : لتمنعن مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم أو ليمسخن الله تعالى قردة وخنازير ركّعا سجّدا.

ونقلهما في الحدائق ج ٧ ص ٢٧٩ طبعة النّجف وقال قدس‌سره : وحينئذ فما ورد في هذين الخبرين من اضافة المجانين والصبيان محمول على الكراهة ثم قال : ويكون النّهى هنا مستعملا في التحريم والكراهة واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه كثير في الاخبار. ولا يخفى عليك ما فيه الّا أنّ المتراءى من كلمات الأصحاب كون الحكم مجمعا عليه كما في مفتاح الكرامة ص ٢٤١ من المجلّد الأوّل من كتاب الصّلاة.

واستدلّ أيضا بما عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « جنّبوا مساجدكم النّجاسة » تراه في الوسائل ب ٢٤ من أحكام المساجد ح ٢ نقلا عن جماعة من أصحابنا في كتب الاستدلال وقال الشّهيد : لم أقف على اسناد الحديث.

(٢) ونقل عن الحنفيّة أيضا توقّف الدّخول على اذن المسلم مستدلّين بانّ المشركين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لانّه لم تكن لهم ذمّة ، وليس بقوي حيث علّل المنع في الآية بالنّجاسة واستدلّوا أيضا بدخول ابى سفيان مسجد المدينة حين إقباله من مكّة لتجديد العهد قبل الفتح واستدلّ به الشّافعيّ أيضا على الجواز في غير مسجد الحرام والجواب انّه كان قبل نزول الآية وكذا ربط ثمامة بن أثال في المسجد كما نقل قصّته في الإصابة.

٤٩

المركّب (١) فانّ كلّ من قال بنجاستهم عينا قال بنجاسة كلّ كافر ولأنّ أهل الذمّة مشركون لقوله تعالى ( وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) إلى قوله ( سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (٢) وكلّ مشرك نجس بالآية.

__________________

(١) ولكن عزّى الى الشّيخ في النّهاية والمفيد في المسائل الغريّة وابن الجنيد وابن ابى عقيل القول بطهارة أهل الكتاب ويستشمّ من صاحب المدارك والذّخيرة والمفاتيح الميل الى القول بالطّهارة ولصاحب المعالم في التّرديد في صحة الإسناد إلى الشّيخ بيان تجده في ص ٢٤٩ ـ ٢٥١. من فقه المعالم كما نقله صاحب الحدائق بعين كلامه ص ١٦٢ ـ ١٦٤ ج ٥ من طبعة النجف.

(٢) التوبة ٣١ و ٣٠ ولكن الاستدلال بها على نجاستهم مشكل إذ نسبة الإشراك إليهم ليست على الحقيقة فإنّ ذلك خلاف العرف عند المتشرّعة كما انّ المستفاد من الايات خلاف ذلك فمنها ما يجعل المشركين في مقابل أهل الكتاب كما في قوله تعالى ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ ) ومنها ما يفصل بينهم وبين أصناف أهل الكتاب كما في قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) فالمتعيّن عندئذ حمله على التّجوز في الاسناد وليس الكلام واردا في مقام جعل الحكم ليؤخذ بإطلاق التنزيل ويثبت حكم المشركين لهم مع انّه لا يطرد في من لا يقول منهم بذلك ولا في المجوس ولا في غيرهم من الكفّار.

وكيف كان فأخبار الباب في ذلك مختلفة حيث انّ ظاهر جملة وافرة منها نجاسة أهل الكتاب وجملة وافرة اخرى طهارتهم قال المحقّق الخراساني في كتاب اللّمعات ص ١٠٧ ( بعد حمل الأخبار المصرّحة بعدم البأس في المؤاكلة معهم والصّلاة في ثيابهم وجواز التوضّي والشّرب من أسئارهم ـ مع التقييد بعدم العلم بنجاسة أيديهم وآنيتهم ـ امّا على عدم مباشرتهم للنّجس أو بعد غسل الأيدي قبل المباشرة كما في صحيحة إبراهيم بن ابى محمود المرويّة في الوسائل « قال قلت للرّضا عليه‌السلام : الجارية النّصرانية تخدمك وأنت تعلم أنها نصرانيّة لا تتوضّأ ولا تغتسل من جنابة؟ قال لا بأس تغسل يديها » فإنها قرينة على انّ النّهى في الاخبار النّاهية عن المصافحة والمؤاكلة للنّجاسة العرضيّة أو على أنّ النّهى فيها تنزيهيّ امّا لاحتمال عدم الخلوّ من النّجاسة غالبا أو لأجل خبثهم الذّاتي المقتضي للاجتناب

٥٠

العاشرة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (١).

استدلّ أصحابنا القائلون بنجاسة الخمر (٢) بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين :

__________________

الّا عند الاضطرار كما تضمّنه رواية علىّ بن جعفر المرويّة في الوسائل ) ما هذه عبارته :

« وبالجملة قضيّة التّوفيق العرفي بين الاخبار حمل تلك الأخبار ( الدّالة على نجاستهم بظاهرها ) على احد هذه المحامل ومن الواضح أنّ الجمع العرفي كان مقدّما على التّرجيح سندا أو جهة والرّجوع الى المرجّحات للصّدور أو المرجّحات الجهتيّة انّما يكون بعد عدم إمكان الجمع عرفا فلا تكون موافقة الأخبار ـ المصرّحة بالطّهارة ـ للعامّة مانعة عن حمل تلك الاخبار على ما لا ينافيها كما جعله شيخنا العلّامة أعلى الله مقامه أحد الأمرين المانعين وثانيها موافقة تلك الأخبار للإجماعات المستفيضة.

قال : أترى انّ هؤلاء لم يطّلعوا على هذه الرّوايات وهل وصلت إلينا الّا بواسطتهم؟ قلت لا ريب في أنّهم اطّلعوا عليها لكن من المحتمل ان يكون عدم عملهم بها لتوهّم كون موافقتها للعامّة مانعا عنه ولا بعد فيه بعد توهّمهم مثل جنابه قدّس سره كونها مانعا عن حمل تلك الاخبار مع انّ الجمع العرفي عنده على ما حقّقه في التعادل والتراجيح مقدّم على التّرجيح سندا المقدّم على التّرجيح جهة أو للظّفر بما قطعوا منه بالحكم بالنّجاسة ولذا ادّعوا الإجماع عليه ولكنّه لا ينفع الغير الّا ان يقول بحجّية الإجماع المنقول أو بتحقيقه ولا دليل على حجيّته وانّى لنا تحقيقه بعد احتمال ان يكون مدرك الفتاوى تلك الاخبار ومنشأ دعوى الإجماع الوهم في القطع. ومع ذلك كان الفتوى على خلافهم جسارة وجرءة والاحتياط طريق النجاة » انتهى كلامه أعلى الله مقامه وهو كلام متين.

(١) المائدة : ٩٣.

(٢) إشارة إلى الخلاف في ذلك ممّن قال بطهارته كالصّدوق وأبيه والجعفي والعماني وجماعة من المتأخّرين كالأردبيلي والمحقّق الخوانساري وصاحب المدارك والذّخيرة وقد قال بالطّهارة من غير أصحابنا أيضا ربيعة شيخ الامام مالك وداود الظاهري والشوكانى كما في مقدمة السيد رشيد رضا على المغني لابن قدامة ص ٣٢ والباقون متفقون على النجاسة انظر الفقه على المذاهب ج ١ ص ١٨ وعن الحبل المتين انّه قال : أطبق علماؤنا الخاصّة والعامّة على نجاسة الخمر إلّا شرذمة منّا ومنهم لم يعتدّ الفريقان بمخالفتهم.

٥١

١ ـ أنّه وصفه بالرّجس وهو وصف النّجاسة لترادفهما ولذلك يؤكّد الرجس بالنّجس فيقال : رجس نجس.

٢ ـ أنّه أمر باجتنابه وهو موجب للتّباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه لأنّ معنى الاجتناب كون كلّ منهما في جانب وهو مستلزم للهجران ويؤيّد ذلك أيضا روايات عن أهل البيت عليهم‌السلام في طرقها ضعف ينجبر بموافقة القرآن (١).

( فروع )

١ ـ كلّ مسكر حكمه حكم الخمر في النجاسة (٢) لأنّه خمر فكلّ خمر نجس أمّا الكبرى فقد تقدّمت وأمّا الصغرى فلأنّ الخمر إنّما سمّي خمرا لأنّه يخمر العقل أي يستره فكلّ ما يساويه في هذا المعنى فهو مساو له في الاسم ولقول أبي جعفر عليه‌السلام « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ مسكر حرام وكلّ مسكر خمر » (٣) ومثله

__________________

(١) في الخمر طائفتان من الاخبار فطائفة تقرب من عشرين على النجاسة وطائفة تزيد على العشرين على الطّهارة وقد قيل في ترجيح إحدى الطائفتين على الأخرى وجوه والحقّ انّ في المسئلة روايتين مخصّصتين لعمومات التّعادل والتّراجيح أو حاكمتين عليها.

الاولى ما رواه الكليني في الصحيح عن علىّ بن مهزيار قال قرأت في كتاب عبد الله بن محمّد الى ابى الحسن : جعلت فداك روى زرارة عن أبى جعفر وابى عبد الله في الخمر يصيب ثوب الرّجل انّهما قالا لا بأس بان يصلّى فيه انّما حرّم شربها وروى زرارة عن أبي عبد الله انّه قال : إذا أصاب ثوبك خمر أو نبيذ فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كلّه وان صلّيت فيه فأعد صلاتك فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع بخطّه وقرأته : خذ بقول أبى عبد الله عليه‌السلام.

والثّانية عن خيران الخادم قال كتبت الى الرّجل أسأله عن الثّوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير يصلّى فيه أم لا فإنّ أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم صلّ فيه فانّ الله انّما حرّم شربها وبعضهم قال لا تصلّ فيه ، فكتب عليه‌السلام لا تصلّ فيه فإنّه رجس. راجع الوسائل ب ٣٨ من أبواب النّجاسات والحديثان تحت رقم ٢ و ٤.

(٢) سنشرح البحث عن ذلك في كتاب المطاعم والمشارب إنشاء الله.

(٣) الوسائل ب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة.

٥٢

رواية ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

٢ ـ العصير من العنب قبل غليانه طاهر حلال وبعد غليانه واشتداده نجس حرام وذلك إجماع من فقهائنا أمّا بعد غليانه وقبل اشتداده فحرام إجماعا منّا وأمّا النّجاسة فعند بعضنا أنّه نجس أيضا وعند آخرين أنّه طاهر (٢) والأوّل أحوط والمراد بالاشتداد صيرورة أعلاه أسفله أو أن يصير له قوام ، هذا إذا لم يذهب ثلثاه بالغليان وإلّا فهو طاهر حلال.

٣ ـ الفقّاع عندنا حكمه حكم الخمر في النجاسة والتحريم لما ورد من طريقهم عن ضميرة قال : الغبيراء الّتي نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنها هي الفقّاع. (٣) ومن طريقنا عن سليم بن جعفر « قال قلت للرضا عليه‌السلام : ما تقول في شرب الفقّاع فقال هو خمر مجهول (٤) » وعن الوشّاء « قال كتبت إليه يعني الرّضا عليه‌السلام أسأله عن الفقّاع فقال هو حرام وهو خمر (٥) » وعنه عليه‌السلام « هي خمر استصغرها النّاس (٦) » قال ابن الجنيد

__________________

(١) سنن أبى داود ج ٢ ص ٢٩٣.

(٢) وهو الحقّ إذ ليس في الاخبار ما يمكن الاستناد إليه في النّجاسة راجع المستمسك ج ١ ص ٣٤٢ و ٣٤٣.

(٣) روى مالك عن عطاء بن يساران رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن الغبيراء فقال : « لا خير فيها » ونهى عنها ، قال مالك قال زيد بن أسلم هي السكركة راجع مختصر المزني ذيل الام ج ٨ ص ٤٣٧. وروى أبو داود عن عبد الله بن عمران النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال : « كلّ مسكر حرام » ثمّ نقل عن ابى عبيد ابن سلام انّه قال : الغبيراء السكركة تعمل من الذّرة شراب يعمله الحبشة راجع ج ٢ ص ٢٩٥.

نعم قال الشّيخ في كتاب الخلاف المسألة السّادسة من كتاب الأشربة : روى أحمد بن حنبل بإسناده عن ضميرة أنّه قال : « الغبيراء الّتي نهى النّبي عنها هي السكركة » ثمّ نقل عن زيد بن أسلم أنّه قال : السكركة اسم يختص بالفقّاع.

(٤) الوسائل ب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ٣.

(٥) الوسائل ب ٢٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ١ وفيه : قال فكتب إلخ.

(٦) الوسائل ب ٢٨ من أبواب الأشربة المحرّمة ح ١.

٥٣

من أصحابنا : تحريمه من جهة نشيشه وضراوة إنائه إذا كرّر فيه العمل. وفي الآية المذكورة فوائد تأتي في باب الأطعمة.

الحادية عشر ( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (١).

الأكثر على أنّ المراد الطّهارة من النّجاسات وقيل ثيابك فقصّر لأنّه أبعد من القذر والتّلف وترك لعادات العرب في طول ثيابهم المستهجن وقيل نفسك فطهّر من الرّذائل يقال فلان طاهر الثوب نقيّ الجيب ومنه قول عنترة الشّاعر :

وشككت بالرّمح الأصمّ ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم

كنّى بما يشتمل على البدن عنه وهو أمر باستكمال قوّته العملية.

وفي الآية أحكام :

١ ـ أنّ الأمر بالتّطهير واجب لأنّه حقيقة في الوجوب.

٢ ـ أنّه واجب لأجل الصّلاة لا لذاته أمّا أوّلا فللإجماع وأمّا ثانيا فلقرينة ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) فإنّ المراد تكبير الافتتاح كما سيجي‌ء.

٣ ـ أنّ هذا العموم مخصوص لما ورد في النقل بالعفو عن الدّم غير المغلّظ الّذي يقصر عن الدّرهم والجروح والقروح الّتي لا ترقأ أو حال الضّرورة ولا يمكن النّزع أو كون الملبوس لا تتمّ الصّلاة فيه وحده أو غير ذلك من الرّخص.

٤ ـ أنّ التّطهير لغير الصّلاة ليس بواجب بل يستحبّ للتهيّأ لها وللتمرّن عليه فيسهل عند إرادتها :

٥ ـ الرّجز إمّا العذاب لقول الأكثر فيكون أمره بهجرانه أمرا بهجران أسبابه الموجبة له وهو أمارة وجوب تطهير الثّياب ، أو النّجاسة فهو حينئذ صريح في وجوب توقّي النّجاسة حال الصّلاة.

__________________

(١) المدّثّر : ٤ و ٥.

(٢) المدّثّر : ٣.

٥٤

الثانية عشر ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) (١).

قيل هي خمس (٢) في الرّأس وخمس في البدن أمّا الرّأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقصّ الشّارب والسّواك وأمّا البدن فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء. وإذا كانت هذه من شريعة إبراهيم عليه‌السلام كانت أيضا من شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله تعالى ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ) (٣) ولقوله تعالى ( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) (٤) أي اتّبعوها فهنا أحكام :

١ ـ المضمضة والاستنشاق مستحبّان في الطّهارتين الصّغرى والكبرى (٥) ويبدأ بالمضمضة ثلاثا بثلاث أكفّ من الماء ومع الإعواز بكفّ واحد ويدير الماء في فيه ثمّ يمجّه وليبالغ فيها بإيصال الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللّثات ويمرّ إصبعه عليها وكذا الاستنشاق ثلاثا بثلاث أكفّ لكنّ الصّائم لا يبالغ فيهما.

٢ ـ الفرق يكون لمن اتّخذ شعرا مستحبّا والرّواية بأنّه « إذا لم يفرّقه فرّق

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) لا يخفى وهن هذا التّفسير كيف وهذه الخصال يسهل إتمامها لا ضعف الافراد ولا يعدّ امرا عظيما يستحقّ به الإمامة مع انّه لم يثبت فيه خبر لا من أحاديث الإماميّة ولا غيرهم والظّاهر انّ الله تبارك وتعالى عامل إبراهيم عليه‌السلام معاملة المبتلى اختبارا لتظهر حقيقة حاله فيترتّب عليها أثرها فلمّا أتمها ظهر فضله ولياقته للإمامة فالقرآن الكريم يبيّن الأثر وهو الإمامة ولا يبيّن حقيقة الكلمات لانّ الغرض غير متعلق بها.

نعم روى في تفسير قوله تعالى ( وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) أنّ تلك العشرة من الحنيفيّة الّتي جاء بها إبراهيم عليه‌السلام ولا تنسخ الى يوم القيامة ( تفسير البرهان ذيل الآية الشّريفة ) كما روى أنّها من السّنن ( الوسائل ب ١ من أبواب السّواك ح ٢٣ ) وكأنّ القائل خلط بين الآيتين وهما.

(٣) النّساء : ١٢٤.

(٤) الحج : ٧٨.

(٥) وبه قال الشّافعي وقال الثّوري وأبو حنيفة هما واجبان في الغسل من الجنابة مسنونان في الوضوء وقال ابن ابى ليلى وإسحاق هما واجبان في الطّهارتين وقال احمد الاستنشاق واجب فيهما والمضمضة لا تجب راجع الخلاف المسئلة ٢١ من كتاب الطّهارة.

٥٥

بمنشار من نار (١) » محمول على شدّة الاستحباب أو على ترك اعتقاد المشروعيّة أو أنّه يمنع المسح في الوضوء على البشرة.

٣ ـ السّواك مستحبّ لمن عدا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّا هو عليه‌السلام فيجب عليه لقوله عليه‌السلام « ما زال جبرئيل يوصيني بالسّواك حتّى خشيت أن أحفي ـ أو أدرد (٢) ـ » وهما رقّة الأسنان وتساقطها وقال عليه‌السلام : « لو لا أنّ أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسّواك عند وضوء كلّ صلاة (٣) » وفيه إشعار بأنّ الأمر للوجوب مع أنّ الندبيّة مجمع عليها واستحبابه عامّ للصّائم والمحرم وغيرهما وينبغي أن يكون عرضا ويكون بقضبان الأشجار عدا الرّمان والرّيحان ويجوز بالإصبع والخرقة لحصول المعنى ويكره في الخلإ ويستحبّ عند قراءة القرآن والقيام إلى الصّلاة وعند تغير النّكهة إمّا لنوم أو لطول سكوت أو ترك أكل أو أكل شي‌ء كريه الرّائحة أو وسخ الأسنان أو أبخرة المعدة.

٤ ـ الختان حال الصّغر مستحبّ للذّكر وللأنثى الخفض ومع البلوغ يجب على الذّكر فعله فيعاقب لو تركه متمكّنا ولا يصحّ طوافه وأمّا صلوته فان تمكّن من كشف الغلفة للتطهير من البول وجب ومع تركه يبطل الصّلاة وإن لم يتمكّن فلا ويحتمل ضعيفا بطلانها مطلقا لنجاسة الغلفة إذ هي في حكم المنفصلة وفي القدوة بالأغلف تفصيل حرّرناه في بعض رسائلنا.

٥ ـ حلق العانة مستحبّ بل تنوير البدن كلّه في كلّ خمسة عشر يوما مرّة وأكثره أربعون يوما.

٦ ـ حلق الإبطين أفضل من النّتف والإطلاء بالنّورة أفضل من الحلق.

٧ ـ الاستنجاء لغة استفعال من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض وأصله للسباع لأنّها تقصد النّجوات عند الحاجة وقيل من نجوت الشّجرة أي قطعتها كأنّه يقطع

__________________

(١) الوسائل ب ٦٢ من أبواب آداب الحمّام ح ١.

(٢) الوسائل ب ١ من أبواب السّواك ح ١ و ٧.

(٣) الوسائل ب ٣ من أبواب السّواك ح ٤.

٥٦

الأذى عنه ويسمّى أيضا استطابة وشرعا هو واجب في محلّ البول بالماء لا غير عندنا وعند الجمهور يجوز فيه الاستجمار ما لم يتعدّ المخرج وأمّا الغائط فمع التعدّي يتعيّن الماء فيه إجماعا ومع عدم التعدّي يتخيّر المكلّف بين الحجارة والماء ولا يجزي أقلّ من ثلاثة أحجار. وقال أبو حنيفة لا يجب إذا لم يتعدّ.

كتاب الصّلاة

وهي لغة الدّعاء (١) قال الله تعالى ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ) أي ادع لهم وقال الأعشى :

عليك مثل الّذي صلّيت فاغتمضي

نوما فانّ لجنب المرء مضطجعا

وقيل أصلها من رفع الصّلاة في الرّكوع وهو عظم في العجز وشرعا قيل هي أذكار معهودة مقترنة بحركات وسكنات يتقرّب بها إلى الله تعالى. قيل هو منقوض طردا بأذكار الطواف وعكسا بصلاة الأخرس والأولى أنّها أفعال معهودة يجب فيها القيام اختيارا افتتاحها التّكبير واختتامها التسليم يتقرّب بها إلى الله تعالى. فصلاة الجنازة صلاة بحسب المجاز.

واعلم أنّ أكثر المحقّقين على ثبوت الحقيقة الشرعيّة (٢) لوجود خواصّها

__________________

(١) قال ابن هشام في المغني ( الجهة العاشرة من باب الخامس ) : الصّواب عندي انّ الصّلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثمّ العطف بالنسبة الى الله تعالى الرّحمة والى الملائكة الاستغفار والى الآدميّين دعاء بعضهم لبعض وامّا قول الجماعة « بأنّ الصّلوة ان كانت من الله فهي الرّحمة وان كانت من الملائكة فهو الاستغفار وان كانت من الآدميّين فهو الدّعاء » فبعيد من جهات :

منها انّا لا نعرف في العربيّة فعلا واحدا يختلف معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الاسناد حقيقيّا ومنها انّ الرّحمة فعلها متعدّ والصّلاة فعلها قاصر ومنها انّه لو قيل مكان صلّى عليه ، دعا عليه ، انعكس المعنى. انتهى ملخّصا.

(٢) الحقّ في المسئلة أنّ نقل الألفاظ المتنازع فيها إلى المعاني المستحدثة بالوضع التّعيينيّ مقطوع العدم ولو كان لنقل ذلك إلينا ولم ينقل وامّا بالوضع التّعيني فلعله مما

٥٧

وقد قرّر ذلك في الأصول فعلى هذا هل إطلاق لفظ الصّلاة على المعنى المذكور من باب النقل أو من باب المجاز؟ قيل بالأوّل وقيل بالثّاني وهو الأصحّ لأنّ المعنى اللّغويّ موجود في الحقيقة الشرعيّة قطعا على القولين ثمّ البحث هنا يتنوّع أنواعا.

النّوع الأوّل

( في البحث عن الصّلاة بقول مطلق )

وفيه آيات :

الاولى ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) (١).

كتابا أي مكتوبا فإنّ الكتاب مصدر كالقتال والضّراب والمصدر قد يراد به المفعول أي المكتوب وهو يرادف الفرض ومنه ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) (٢) أي فرض والموقوت أي المحدود بأوقات لا تزيد فيها ولا تنقص ولا يجوز التقديم عليها ولا التأخير. وفي الآية أحكام :

١ ـ أنّها واجبة وفرض على كلّ مؤمن.

٢ ـ أنّها تدلّ بظاهرها على أنّ الوجوب يختصّ بمن له صفة التعقّل إذ الإيمان

__________________

لا ريب فيه بالنّسبة إلى زمان أمير المؤمنين علىّ عليه‌السلام كما يحكم بذلك العادة عند استعمال لفظ عند قوم في لسان جماعة كثيرة زمانا معتدّا به وفي زمان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غير معلوم وان كان مظنونا بالنّسبة إلى أواخر أيّامه ولكن الظّن لا يغني من الحقّ شيئا الّا انّه لا اثر لهذا الجهل حيث انّ السّنة النّبويّة غير مبتلى بها الّا ما نقل لنا من طريق أهل البيت عليهم‌السلام على لسانهم وقد عرفت الحال في كلماتهم والأغلب ما ورد في القرآن المجيد من هذه الألفاظ وكلّها محفوفة بالقرائن المعيّنة.

ثمّ انّ الألفاظ الشرعيّة ليست على نسق واحد فانّ بعضها كثير التّداول كالصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ ويبعد ان لا تصير حقائق في معانيها المستحدثة بأقرب وقت في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعضها ليست بهذه المثابة فاحفظ ذلك ولا تغفل فإنّه سينفعك إنشاء الله في المباحث الاتية.

(١) النّساء : ١٠٢.

(٢) البقرة : ١٨٠.

٥٨

التّصديق فالمؤمنون هم المصدّقون والتّصديق لا يصدر إلّا عن تصوّر وجزم وإذعان وذلك غير متصوّر إلّا فيمن له تعقّل فلا يجب على الصبيّ ولا على المجنون ولا على المغمى عليه.

٣ ـ أنّ الصّلاة ليست من العبادات المطلقة غير المحدودة بحدّ ووقت بل هي محدودة بحدود وشرائط وأوقات لا يجوز تغييرها وتبديلها.

٤ ـ ربّما يذهب بعض الأفهام إلى اختصاص الوجوب بالمؤمنين فلا يجب على الكافر كما هو مذهب أبي حنيفة وهو خلاف مذهبنا ومذهب الشافعيّ والجواب أنّ التخصيص بالذّكر لا يدلّ على نفي ما عداه إلّا بدلالة مفهوم المخالفة وليس بحجّة عندنا هذا مع أنّ غير هذه من الآيات تنادي بالوجوب عليهم وأنّهم يعاقبون على تركها كقوله تعالى ( ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ) إلى قوله ( وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ) (١) وهو صريح في إرادة الكفّار بالخطاب.

الثّانية ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (٢).

المحافظة عليها هي شدّة الاعتناء بإيقاعها وعدم تضييعها في أوقاتها والوسطى إمّا بمعنى التوسّط أي بين الصلوات أو الفضلي أي الكثيرة الفضل والقنوت قيل هي المداومة على الشي‌ء أي قوموا لله مداومين على القيام وقيل الدّعاء قائما وقيل الخشوع أي قوموا لله خاشعين والشائع عند الفقهاء هو الدّعاء في الصّلاة مع رفع اليدين فالأولى الحمل على ذلك ولذلك قال ابن المسيّب المراد به القنوت في الصّبح والرّجال جمع راجل كالقيام جمع قائم وكذا الرّكبان جمع راكب.

__________________

(١) المدّثّر : ٧٥.

(٢) البقرة : ٢٣٨ و ٢٣٩.

٥٩

( فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ ) أي فصلّوا صلاة أمن واشكروا لله كما علّمكم ثمّ إن قلنا أنّ الذّكر هو الصّلاة يكون معناه صلّوا كما علّمكم من الصّلاة وكيفيّتها وإن قلنا أنّه الشّكر يكون معناه فاشكروه شكرا مماثلا لإنعامه عليكم بتعليمكم ما لا تهتدي إليه عقولكم من كيفيّة الصّلاة حال الأمن وحال الخوف وفيها أحكام :

١ ـ وجوب المحافظة على الصّلوات الموجب ذلك للثّناء الجميل والأجر الجزيل كما قال في موضع آخر ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ) (١) وفي موضع آخر ( الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) (٢) فقيل المحافظة متعلّقها الأفعال والحدود والشّرائط (٣) والمداومة متعلّقها التكرّر بحسب الأوقات وقيل المحافظة على الفرائض والمداومة على النّوافل وهو مرويّ عن الباقر والصّادق عليهما‌السلام (٤) كلّ ذلك فرارا ـ من التّرادف والتّأكيد غير المفيد ـ فائدة زائدة ـ إلى التأسيس المفيد.

٢ ـ يمكن أن يستدلّ بهذه الآية وما قبلها على وجوب الصّلوات التّسع المشهورة (٥) وبيان ذلك أنّهما دلّتا على وجوب الإتيان بكلّ ما يصدق عليه اسم الصّلاة

__________________

(١) المؤمنون : ٩ والمعارج : ٣٤.

(٢) المعارج : ٢٣.

(٣) قال في تفسير المنار : ولو لا أنّهم اتّفقوا على أنّها ـ اى الصّلاة الوسطى ـ احدى الخمس لكان يتبادر إلى فهمي من قوله ( وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) أنّ المراد بالصّلاة الفعل وبالوسطى الفضلي ، أى حافظوا على أفضل أنواع الصّلاة وهي الصلاة الّتي يحضر فيها القلب وتتوجّه بها النّفس الى الله تعالى وتحتشم لذكره وتدبّر كلامه لا صلاة المرائين ولا الغافلين.

قال ويقوى هذا قوله بعدها ( وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ ) فهو بيان معنى الفضل في الفضلي وتأكيد له إذ قالوا انّ في القنوت معنى المداومة على الضّراعة والخشوع أى قوموا ملتزمين لخشية الله واستشعار هيبته وعظمته ولا تكمل الصّلاة ولا تكون حقيقة ينشأ عنها ما ذكر الله من فائدتها إلّا بهذا.

(٤) الوسائل ب ٧ من أبواب أعداد الفرائض ح ٣.

(٥) قالوا : هي : الصّلاة اليوميّة ، صلاة الجمعة ، صلاة العيدين ، صلاة الكسوف

٦٠