كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

للمسلمين وقد يجب مع الحاجة إليها إمّا لقلّتهم أو لرجاء إسلام جماعة مع الصبر أو لحصول ما يحصل به الاستظهار (١) فان لم يكن حاجة ولا ضرورة ولا مصلحة فلا يجوز ومع حصول أحدها فأقلّ زمانها أربعة أشهر لقوله تعالى ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) (٢) وفي طرف الكثرة لا تجوز الزيادة على سنة وفيما بينهما خلاف أقربه اعتبار الأصلح ولا بدّ من تعيين المدّة فلو شرط مدّة مجهولة لم يصحّ ويجب الوفاء بالهدنة الصحيحة ولا يجوز النقض إلّا مع انقضاء المدّة أو ظهور خيانة من الكفّار ولو استشعر الخيانة جاز نبذ العهد إليهم وينذرهم ولا يجوز مع التهمة وكذا يجب الوفاء بالشروط الصحيحة ولو كانت فاسدة فلا يجوز الاغتيال إلّا بعد الإنذار.

الرابعة عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ‌ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) (٣).

قال ابن عبّاس لمّا وقع صلح الحديبية [ وكتبوا كتابا بطريق الصلح ] تضمّن

__________________

(١) الاستطاعة خ ل.

(٢) براءة : ١.

(٣) الممتحنة : ١٠ و ١١.

٣٨١

أنّ من جاء منهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يردّه عليهم ومن أتاهم من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يردّ فقدمت سبيعة بنت الحارث الأسلميّة مسلمة بعد ختم الكتاب فقدم زوجها مسافر وقيل صيفيّ ابن الراهب وكان كافرا فقال يا محمّد اردد عليّ امرأتي فإنّك شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجفّ فنزلت الآية (١) وقد تضمّنت أحكاما :

١ ـ قد تقدّم وجوب الوفاء بما تضمّنه عقد الصلح من الشروط الصحيحة لا الفاسدة وصلح الحديبية وإن تضمّن ردّ من أتا [ نا ] منهم لكنّه مطلق قابل للتقييد بعدم الاشتمال على المفسدة فلذلك كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يردّ من الرجال من له عشيرة يمنعونه من الفتنة عن دينه وأمّا من ليس له عشيرة يمنعونه فلم يردّه خوفا من الفتنة وكذا لم يردّ المرأة مطلقا وإن كان لها عشيرة لأنّهم لا يمنعونها من التزويج بالكافر وحينئذ لا تؤمن فتنتها من زوجها فإنّ المرأة تأخذ من دين بعلها.

٢ ـ إذا قدمت المرأة مسلمة تمتحن بمقتضى الآية أي تختبر قال ابن عباس هو أن تستحلف أنّها ما خرجت من بغض زوج [ ها ] ولا رغبة في أرض ولا التماس دنيا ولا عشقا لرجل منّا وإنّما خرجت حبّا لله ولرسوله وبالجملة إذا تحقّق إسلامها لم تردّ وقوله « اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ » أي أنتم مكلّفون بما يظهر لكم من حالها وحقيقة إيمانها معلومة لله سبحانه.

٣ ـ « فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ » أراد الظنّ المتاخم للعلم لا العلم حقيقة فإنّه غير ممكن وعبّر عن الظنّ بالعلم إيذانا بأنّه كهو في وجوب العمل به « فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ » فيه تصريح بوقوع فسخ النكاح من غير طلاق بمجرّد إسلامها لكن ذلك إن كان قبل الدخول وقع الفسخ في الحال وإن كان بعده توقّف استقراره على انقضاء العدّة فلو أسلم الزوج في العدّة فهو أحقّ بها هذا في غير الكتابيّين أمّا هما فان كان الإسلام من الزوج فهو على نكاحه وإن كان من الزوجة فكما تقدّم والتكرار للتأكيد أو الأوّل للفرقة والثاني لتحريم الاستيناف.

__________________

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٧٣.

٣٨٢

٤ ـ إذا قدمت مسلمة ولها زوج فجاء في طلبها فمنعناه وجب على الإمام أو نائبه أن يدفع إليه ما سلّمه إليها من مهر خاصّة دون ما أنفقه عليها من مأكل وغيره ولو كان المهر محرّما كخمر أو خنزير أو لم يكن قد دفع إليها شيئا لم يدفع إليه شي‌ء ولا قيمة المحرّم وإن قبضته ولو جاء أبوه أو أخوه لم يدفع إليه شي‌ء هذا ويدفع الإمام أو نائبه ذلك المهر من بيت المال لأنّه من المصالح ولو قدمت بلدا ليس فيه الامام ولا نايبه لم يدفع إلى الزوج شي‌ء وإن منعناه زوجته [ و ] هذا كلّه في زمان الهدنة أمّا لو قدمت لا مع الهدنة فلا يدفع إليه شي‌ء لأنّه حربيّ يقهر على ماله.

٥ ـ « وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ » أي لا جناح في نكاح المؤمنات المهاجرات لوقوع الفسخ في نكاحهنّ واستدلّ أبو حنيفة بذلك على أنّه إذا خرج إلينا أحد الزوجين مسلما أو بذمّة وبقي الآخر حربيّا وقعت الفرقة ولا يرى العدّة على المهاجرة ويصحّ نكاحها إلّا أن يكون حاملا وليس بشي‌ء لجواز اشتراطه بالعدّة كما في حقّ الحامل عنده.

قوله « إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » أي مهورهنّ وفايدة ذكر ذلك إعلام أنّ ما أخذه الأزواج من المهور لا يكفى عن مهر آخر لنكاح مستأنف.

٦ ـ « وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ » أي لا تتمسّكوا بنكاح الكافرات والعصمة ما يتمسّك به من عقد أو ملك في النكاح وسمّي النكاح عصمة لأنّها لغة المنع والمرأة بالنكاح تكون ممنوعة من غير زوجها وفيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الكافرة مطلقا حربيّة وذمّيّة دائما ومنقطعا وسيأتي تحقيقه قال مجاهد هو أمر بطلاق من بقي مع الكفّار وقال النخعيّ هي المرأة تلحق بدار الحرب فترتدّ وقال ابن عباس من كانت له امرأة [ كافرة ] بمكّة فلا يعتدّ بها من نسائه لأنّ اختلاف الدارين قطع عصمتها [ وحلّ عقدتها ] وكلّ ذلك تخصيص لعموم اللّفظ من غير دليل وكذا قول من قال : إنّ المراد بالكوافر الوثنيّات لسبب النزول ، باطل أيضا لما عرفت أنّ العبرة بعموم اللّفظ وأنّ السبب لا يخصّص.

٧ ـ « وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا » أي إذا لحقت امرأة منكم بأهل

٣٨٣

العهد مرتدّة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها وهم أيضا فليفعلوا ذلك « ذلِكُمْ » أي ما ذكر في الآية « حُكْمُ اللهِ » في شرعه « يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ » لأنّه عليم بحقائق الأمور محكم لأفعاله.

٨ ـ « وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ‌ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ » لمّا أمر بأداء المهر إلى الزوج الكافر فقبل ذلك المسلمون وأمر الكفّار بأداء مهر اللّاحقة بهم مرتدّة فلم يقبلوا نزلت هذه « وَإِنْ فاتَكُمْ » أي سبقكم وانفلت منكم « شَيْ‌ءٌ » أي أحد « مِنْ أَزْواجِكُمْ » إلى الكفّار « فَعاقَبْتُمْ » قيل معناه فغزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى وهي الغنيمة فأعطوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها وقيل معناه من العقبة وهي النوبة شبّه أداء كلّ مهر نساء الآخرين بأمر يتعاقبون عليه أي فان جائت عقبتكم من أداء المهر فآتوا من فاتته امرأته إلى الكفّار مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر وقال الزجّاج « فَعاقَبْتُمْ » أي فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتّى غنمتم فآتوا الّذي ذهبت زوجته من الغنيمة المهر قال وقرئ « فأعقبتم » و « فعقّبتم » بتشديد القاف و « فعقبتم » بتخفيف القاف وفتحها وكسرها والجميع معناه واحد فكانت العقبى لكم أي الغلبة حتّى غنمتم.

وكان جميع من لحق بالكفّار ستّ نساء لا غير فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أزواجهنّ مهورهنّ من الغنيمة.

الخامسة عشر ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١).

نزلت يوم فتح مكّة ، لمّا فرغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من مبايعة الرجال جاءه النساء

__________________

(١) الممتحنة : ١٢.

٣٨٤

يبايعنه قيل كانت مبايعتهنّ بأن يغمس يده في قدح من ماء ثمّ يغمسن أيديهنّ فيه وقيل كان يصافحهنّ وعلى يده ثوب ويشترط عليهنّ الشروط الستّة المذكورة في الآية والقتل إشارة إلى وأد البنات واللّفظ في الآية أعمّ والبهتان قيل إلحاق الولد بزوجها ولم يكن منه وكانت المرأة تلتقط الولد فتقول لزوجها هذا ولدي منك وقيل هو أن تحمل به من الزناء لأنّ بطنها الّذي تحمله بين يديها وفرجها الذي تقذفه بين رجليها ، والمعروف هو كلّ طاعة يؤمر بها وقيل عني به النهي عن النوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشقّ الجيب وخمش الوجه والدعاء بالويل واللّفظ أعم من ذلك كلّه.

قوله « وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ » أي فيما فعلنه في حال الكفر وفيه دلالة على أنّ الكافر يعاقب على ترك الفروع وأنّ الإسلام يسقط الإثم عنه وروي (١) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بايعهنّ على الصفا وكان عمر أسفل منه وهند بنت عتبة متنقبّة متنكّرة مع النساء خوفا من أن يعرفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « أبايعكنّ على أن لا تشركن بالله شيئا » فقالت هند إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال وذلك أنّه بائع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقطّ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « ولا تسرقن » فقالت هند إن أبا سفيان رجل ممسك وإنّي أصبت من ماله هنات فلا أدري أيحلّ لي أم لا فقال أبو ـ سفيان ما أصبت من شي‌ء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرفها فقال لها وإنّك لهند بنت عتبة فقالت نعم فاعف عمّا سلف يا نبيّ الله عفى الله عنك فقال « ولا تزنين » فقالت هند أو تزني الحرّة فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه وبينها في الجاهليّة فقال عليه‌السلام « ولا تقتلن أولادكنّ » فقالت هند ربّيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة ابن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يوم بدر فضحك عمر حتّى استلقى [ على قفاه ] وتبسّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولمّا قال « ولا تأتين ببهتان تفترينه » قالت هند : والله إنّ البهتان قبيح وما تأمرنا إلّا بالرشد

__________________

(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٧٦.

٣٨٥

ومكارم الأخلاق ولمّا قال « ولا تعصينني في معروف » (١) قالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شي‌ء.

النوع الثالث

( في أنواع أخر من الجهاد )

وفيه آيات :

الاولى ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي‌ءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (٢).

استدلّ بهذه الآية المعاصر على قتال البغاة وهو خطاء فإنّ الباغي هو من خرج على الإمام العادل بتأويل باطل وحاربه وهو عندنا كافر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (٣) فكيف يكون الباغي المذكور مؤمنا حتّى يكون داخلا في الآية ولا يلزم من ذكر لفظ البغي في الآية أن يكون المراد بذلك البغاة المعهودين عند أهل الفقه كما قال الشافعيّ ما عرفنا أحكام البغاة إلّا من فعل عليّ عليه‌السلام يريد فعله في حرب البصرة والشام والخوارج من أنّه لم يتبع مدبري أهل البصرة والخوارج ولم يجهّز على جريحهم لأنّهم ليس لهم فئة وتبع مدبري أهل الشام وأجهز على جريحهم ، ولذلك لم يجعلها الراونديّ حجّة على قتال البغاة بل

__________________

(١) ولا تعصينك في معروف ، خ.

(٢) الحجرات : ٩.

(٣) راجع إحقاق الحق ج ٦ ص ٤٣٩ ـ ٤٤١ وقد مر ص ٣٧٢.

٣٨٦

جعلها في قسم من يكون من المسلمين أو المؤمنين فيقع بينهم قتال وتعدّى بعض على بعض فيكون البغي بمعنى التعدّي فيقاتل المتعدّي حتّى يرجع عن تعدّيه إلى طاعة الله وامتثال أوامره.

قال الراونديّ ذكر الطبريّ أنّها نزلت في طائفتين من الأنصار وقع بينهما حرب وقتال ، نعم استدلّ الراونديّ على قتال أهل البغي بقوله تعالى ( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (١) أي انفروا شبّانا وشيوخا وأغنياء وفقراء ومشاتا وركبانا. قال وظاهر الآية يقتضي قتال البغاة وهو أيضا غلط فإنّ أيّ ظاهر فيها يدلّ على قتال البغاة حتّى يكون حجّة على المطلوب بل ظاهرها يفيد تأكيد الأمر بالجهاد والمبالغة في ذلك كذا ذكره الطبرسيّ وغيره فيكون المراد بذلك جهاد الكفّار المعهود [ ين ] نعم إن كان ولا بدّ يستدلّ على قتال البغاة بعموم وجوب طاعة اولي الأمر في قوله ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) أو بقوله ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) (٣) والمنافق من ظاهره الإسلام والباغي كذلك لاظهاره الإسلام وخروجه عنه ببغيه على إمامه فهو حقيق باسم النفاق ولذلك قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ « لا يحبّك إلّا مؤمن [ تقيّ ] ولا يبغضك إلّا منافق [ شقيّ ] » (٤) رواه النسائيّ في صحيحه ورويناه نحن أيضا في أخبارنا ومن يحاربه لا يحبّه قطعا فيكون منافقا وهو المطلوب ولا يلزم من عدم جهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله للمنافقين عدم ذلك بعده ولذلك قال عليّ عليه‌السلام يوم الجمل : « والله ما قوتل أهل هذه الآية إلّا اليوم » يريد به قوله تعالى ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ) الآية. (٥)

__________________

(١) براءة : ٤٢.

(٢) النساء : ٥٨.

(٣) براءة : ٧٤.

(٤) شرح النهج لابن ابى الحديد ج ٤ ص ٣٥٨ ، الإرشاد ص ١٨ ، أمالي الشيخ الطوسي : ١٢٩ ، المحاسن ١٥٠. والحديث متفق عليه تراه في النسائي ج ٨ ص ١١٦.

(٥) براءة : ١١.

٣٨٧

الثانية ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‌ءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (١).

الإعداد والاستعداد بمعنى واحد قوله « مِنْ قُوَّةٍ » أي ما هو سببها وسبب الانتصار على عدوّكم من العدد والعدد والآية صريحة في الأمر بالرباط وهو حفظ الثغر من هجوم العدوّ [ أ ] وإرهابه ولذلك قال « تُرْهِبُونَ » وكأنّه جواب سؤال مقدّر تقديره لم نعدّ لهم ما استطعنا والعدوّ غائب عنّا؟ فأجاب بأنّ إعداد القوّة لأجل الترهيب لا القتال حتّى يشترط حضوره ويحتمل أن يكون حالا من « أَعِدُّوا » أي [ أعدّوا ] مرهّبين به من الترهيب وهو الإخافة والضمير في « بِهِ » يرجع إلى ما استطعتم و « عَدُوَّ اللهِ » قيل هم أهل مكّة لأنّها في حال حرب قريش وفيه ما فيه لما عرفت من أنّ خصوص السّبب لا يقتضي خصوص الحكم بل هو عامّ في كلّ عدوّ لله.

« وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ » قيل هم بنو قريظة وقال السدّيّ أهل فارس وقال الحسن هم المنافقون وهو أجود لقوله « لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ » وليس بعيدا أن يكون إشارة إلى البغاة لأنّ الضمير في « مِنْ دُونِهِمْ » عائد إلى « عَدُوَّ اللهِ » وقال الطبرسيّ إنّهم الجنّ أي الكفرة منهم وقد ورد أنّ صهيل الخيل يؤذيهم وهنا فوائد.

١ ـ قيل المراد بالقوّة الرمي رواه عقبة بن عامر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن عكرمة هي الحصون وفسّر ابن سيرين الحصون بالخيل وقيل له : رجل أوصى بثلث ماله في الحصون فقال يشترى به خيل وتربط في سبيل الله يغزى عليها فقيل له إنّما أوصى في الحصون فقال ألم تسمع قول الشاعر « إنّ الحصون الخيل لا مدر القرى » وفيه ركاكة فإنّ إطلاق الحصون على الخيل مجاز ولا يصرف اللّفظ إليه إلّا لقرينة ولا قرينة ظاهرة هنا.

__________________

(١) الأنفال : ٦١.

٣٨٨

٢ ـ الخيل من أعظم عدد القتال « قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ارتبطوا الخيل فانّ ظهورها لكم عزّ وأجوافها لكم كنز » (١) وعطفها على « قوّة » من باب عطف أعظم أجزاء الشي‌ء عليه ك [ قوله ( فِيهِما ] فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ ) (٢).

٣ ـ قيل في قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا ) (٣) أنّ قوله رابطوا من الرباط المذكور لأنّه المتبادر إلى الفهم ويحتمل أن يكون المراد في قوله « اصْبِرُوا » أي على الطاعات « وَصابِرُوا » أي أنفسكم على مخالفة الهوى و [ « رابِطُوا » أي ] رابطوها على ذلك أو صابروا الأعداء ورابطوا أبدانكم وخيولكم في الثغور ويحتمل المرابطة على سائر الطاعات قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة » (٤) وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله « من رابط في سبيل الله يوما وليلة كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاة إلّا لحاجة » (٥).

٤ ـ المرابطة جائزة مع ظهور الامام بلا خلاف وهل يجوز حال الغيبة؟ منع الشيخ منها معتمدا على رواية (٦) والأجود جوازها لعموم الأمر ولأنّها ليست جهادا حتّى تكون مشروطة بالإمام بل هي إرصاد لحفظ الثغر وهو واجب على المسلمين على الكفاية والرواية لاشتمالها على الكتابة تضعف عن مقاومة الدليل.

٥ ـ من لم يرابط بنفسه فليساعد المرابطة بماله ففي ذلك أجر جزيل ولذلك أردف الأمر بالمرابطة بقوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ‌ءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ » أي لا تنقصون [ من أجوركم ] شيئا.

__________________

(١) رواه في المجمع ج ٤ ص ٥٥٥. وأخرجه في المستدرك ج ٢ ص ٢٦٦ عن غوالي اللئالي.

(٢) الرحمن : ٦٨.

(٣) آل عمران : ٢٠٠.

(٤) الدر المنثور ج ٢ ص ١١٣. مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٤٦.

وفي بعض النسخ : « سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله من الرباط قال انتظار الصلاة بعد الصلاة ».

(٥) الدر المنثور ج ٢ ص ١١٥. مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٤٦.

وفي بعض النسخ : « سئل صلى‌الله‌عليه‌وآله من الرباط قال انتظار الصلاة بعد الصلاة ».

(٦) الوسائل ب ٧ من أبواب جهاد العدو ح ١.

٣٨٩

الثالثة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) (١).

قال الراونديّ والمعاصر : إنّها نزلت في أهل البصرة ونقلا ذلك عن الباقر عليه‌السلام وابن عباس وعمّار وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال يوم الجمل : « والله ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » (٢) وتلا الآية. وعن حذيفة مثله وعندي فيه نظر بل هي أعمّ من ذلك وإنّما هي خطاب لكافّة المؤمنين في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعلام منه تعالى أنّ منهم من يرتد بعد وفاته بالقيام والتمالؤ على وصيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنكارهم النصّ عليه وذلك هو ما يقوله جمهور أصحابنا أنّ دافعي النصّ كفرة والارتداد هو قطع الإسلام بما يوجب الكفر فيكون ذلك شاملا لأهل البصرة وغيرهم.

وقول عليّ عليه‌السلام « والله ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم » حقّ وصدق فانّ منكري إمامته من المتقدّمين لم يقع بينه وبينهم قتال بل أوّل قتال وقع له عليه‌السلام بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هو حرب الجمل فلذلك قال ما قال وقد عرفت أنّه مهما أمكن حمل الكلام على عمومه فهو أولى.

ويدلّ على أنّ الارتداد بإنكار النصّ والقيام على أمير المؤمنين عليه‌السلام ذكر أوصافه في متن الآية بقوله « يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ » فهو كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرّار غير فرّار » (٣)

__________________

(١) المائدة : ٥٧.

(٢) راجع مجمع البيان ج ٣ ص ٢٠٨.

(٣) حديث متفق عليه راجع صحيح البخاري ج ٢ ص ٢٩٩ وج ٣ ص ٥١ ، مشكاة المصابيح ص ٥٦٣. سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٣٣٤.

٣٩٠

وقوله « أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » أي من شدّة تواضعهم ولين جانبهم يكونون كالذليل وقوله « أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » أي من شدّتهم في ذات الله ودينه يكونون على الكافرين كالقاهر والغالب على من بيده (١) وكذا قوله « يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ » وقوله « وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ » فهذه الصفات الخمس نصوص على أنّه عليه الصلاة والسلام هو المراد بذلك ولذلك أردفه أيضا بقوله ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٢) ولا يشكّ في ذلك كلّه إلّا مكابر.

قوله « ذلِكَ فَضْلُ اللهِ » أي تلك الأوصاف هبة ومنحة من الله سبحانه يخصّ بها من يشاء من عباده ممّن علم منه قبول الألطاف الإلهيّة واستعدّ للمنح الربّانيّة لاستحالة العبث عليه تعالى.

الرابعة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٣).

« اتَّقُوا اللهَ » باجتناب معاصيه « وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ » بفعل طاعاته ولمّا كان هذان القسمان إنّما يتمّان بقهر القوّة الغضبيّة والشهوانيّة والمحاربة مع النفس الأمّارة واللّوّامة أردفه بالأمر بالجهاد معهما في سبيل الله أي جهادا حاصلا في طريقه وطلب مرضاته لا لغير ذلك من الأغراض إذ لو لا ذلك الجهاد لم يحصل التقوى والوسيلة فلم يحصل الفوز برضوان الله واستحقاق دخول جنانه كما قال سبحانه ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (٤) والاستفهام على سبيل الإنكار.

__________________

(١) نبذه ، خ.

(٢) المائدة : ٥٨.

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) آل عمران : ١٤٢.

٣٩١

الخامسة ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١).

اعلم أنّه لا يجوز المحاربة والمقاتلة للكفّار والبغاة إلّا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام وإقامة الحجّة عليهم كما قال سبحانه ( لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى ) (٢) وكأنّ الآية إشارة إلى وجوب دعاء الكفّار إلى الدّين أوّلا قبل محاربتهم فقيل المراد بالحكمة الكتاب والموعظة الحسنة وصف ثان له والجدل دليل العقل والتحقيق أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو الناس على قدر استعدادهم كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم الناس على قدر؟؟؟؟؟؟ ثلاثة أقسام لأنّه لا يخلو المخاطب إمّا أن يكون له قدرة على إدراك المطلوب بالبرهان أولا والثاني إمّا أن يكون له قوّة الجدال والمغالبة أو لا فغاية [ أمر ] النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قام مقامه في هداية الخلق مع الفرقة الأولى إقامة البرهان وإيقاع التصديق الجازم في أذهانهم وغايته مع الفرقة الثانية الإلزام ليلتزموا بما أمروا به وغايته مع الفرقة الثالثة إيقاع المقدّمات الاقناعيّة في أذهانهم لينقادوا للحقّ لقصورهم عن رتبة البرهان والجدال.

فالحكمة إشارة إلى البرهان والموعظة الحسنة إشارة إلى الخطابة « وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » إشارة إلى علم الجدل ، وإنّما قدّم الخطابة على الجدل لأنّ المنتفعين به أكثر لأنّهم أغلب الناس أو لأنّ الواو لا يفيد الترتيب. ووصف الموعظة بالحسنة أي يظهر لهم حسنها والجدال بالّتي هي أحسن أي بالرفق والخلق (٣)

__________________

(١) النحل : ١٢٥.

(٢) طه : ١٣٤.

(٣) مجمع البيان ج ٦ ص ٣٩٣.

٣٩٢

الحسن والكلام الطيّب فانّ ذلك أقرب إلى القبول والانقياد لا على وجه السفاهة والغلظة.

قوله « إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ » أي ليس عليك أن توقع فيهم الهداية ولا أن تردّهم عن الضلالة وإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب والله أعلم.

السادسة ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (١).

« مَنْ » مبتدأ و « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » خبره و « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ » مستثنى من قوله « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » وقوله « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » في المعنى بيان للكفرة أي الّذين كفروا بالله [ و ] هم الّذين تطيب (٢) به قلوبهم لا بإكراه قيل إنّ جماعة ممّن أسلم من أهل مكّة فتنوا وارتدّوا عن الإسلام طوعا وبعضهم اكرهوا وهم عمّار وأبواه ياسر وسميّة وصهيب وبلال وخبّاب أمّا سميّة فربطت بين بعيرين ووجئ في قبلها بحربة وقيل لها إنّك أسلمت طلبا للرجال فقتلت وقتل ياسر معها وأعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ونجا [ منهم ] ثمّ أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك وقال قوم كفر عمّار فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا إنّ عمّارا ملي‌ء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه وجاء عمّار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يبكي فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله ما وراءك قال شرّ يا رسول الله ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عينيه ويقول له : فان عادوا لك فعدلهم بما قلت (٣).

ثمّ اعلم أنّ هنا فوائد :

١ ـ دلّت الآية الكريمة على جواز التقيّة في الجملة وكذا قوله تعالى ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

(٢) تطمئن ، خ.

(٣) راجع الدر المنثور ج ٤ ص ١٣٢.

٣٩٣

شَيْ‌ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (١) وقرئ تقيّة ولأنّها دافعة للضرر لأنّه الغرض ودفع الضرر وإن لم يكن واجبا فلا أقلّ من جوازه ولأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله محي اسمه يوم الحديبية وأعطاهم أمورا هو محارب عليها في الباطن وهو قريب من النقيّة ولأنّ البخاريّ نقل في باب الإكراه عن الحسن البصريّ « التقيّة إلى يوم القيمة » يعني أنّها باقية أو جائزة إلى يوم القيمة ولأنّ [ الفقهاء ] الأربعة عدا أبي حنيفة (٢) يفتون بأنّ طلاق المكره لا يقع وقالوا من اكره على شرب الخمر والزناء فلا إثم عليه ولا حدّ وقال جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام « التقية ديني ودين آبائي » (٣).

واحتجّ المخالف بأنّها نفاق لأنّ كلّ واحد منهما إبطان أمر وإظهار خلافه دفعا للضرر والنفاق حرام ، ولأنّها لو جازت لجاز على الأنبياء إظهار كلمة الكفر تقيّة واللازم كالملزوم في البطلان.

وأجيب عن الأوّل بالفرق بينهما فانّ النفاق إبطان الكفر واعتقاده وهو حرام والتقيّة إبطان الإيمان واعتقاده وهو واجب فلا يكون أحدهما هو الآخر وعن الثاني بأنّه خارج بالإجماع وبأنّه لو جاز لزم انعدام الدين بالكليّة لأنّه لو جاز لكان أولى الأوقات به ابتداء الدعوة لكثرة العدوّ والمنكر حينئذ وذلك باطل.

٢ ـ قسم أصحابنا التقيّة إلى ثلاثة أقسام الأوّل حرام وهو في الدماء فإنّه لا تقيّة فيها فكلّ ما يستلزم إباحة دم من لا يجوز قتله لا يجوز التقيّة فيه لأنّها إنّما وجبت حقنا للدّم فلا تكون سببا في إباحته الثاني مباح وهو في إظهار كلمة الكفر فإنّه يباح الأمران استدلالا بقضيّة عمّار وأبويه فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صوّب الفعلين معا كما نقل. الثالث واجب وهو ما عدا هذين القسمين فإنّ الأدلّة المذكورة تقتضي ذلك ولأنّ إجماع الطائفة على ذلك هذا مع تحقّق الضرر بتركها أمّا لو لم يتحقّق ضرر فيكون فعلها مباحا أو مستحبّا.

__________________

(١) آل عمران : ٢٨.

(٢) أبا حنيفة ، خ.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٢٢٤ الرقم ٨.

٣٩٤

٣ ـ اختلف أيّهما أفضل (١) فعل عمّار أو فعل أبويه؟ فقيل فعل أبويه أفضل

__________________

(١) أقول ـ : قد نزل في التقية آيتان أولاهما في النحل : ١٠٦ « مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ».

المراد بالكفر هو التكلم بكلمة الكفر بقرينة الاستثناء وانما جعل التكلم بكلمة الكفر كفرا ، فإنها لو خلى وطبعها تكشف عن اعتقاد الكفر كما جعل التكلم بكلمة الايمان ايمانا لأنها تكشف عن اعتقاده.

لكنه من يكفر بالله كذلك اما يكون مكرها عليه بالجبر والتعذيب فيتلفظ به ضيقا حرجا صدره وقلبه مطمئن بالإيمان يعرج على كلمة التوحيد ، واما يكون منشرح الصدر به مبتهجا بذلك. وقد يكون خائضا مع الخائضين يتلفظ به لهوا ولعبا.

فقوله تعالى ( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ ) عنوان عام يشمل الأقسام الثلاثة وقوله « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ » يخرج القسم الأول ، وقوله « وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً » استدراك بياني يبين المراد من قوله « مَنْ كَفَرَ بِاللهِ » ويخصه بالقسم الثاني.

فلما اقتحم الاستثناء ثم الاستدراك بين المبتدأ وهو قوله « مَنْ كَفَرَ بِاللهِ » وبين خبره وهو « فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ » وطال البعد بينهما لزم دخول الفاء على الخبر ، ومعنى الآية « من تكلم بكلمة الكفر ولا أريد به من اكره على ذلك ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ ) الآية.

وانما فصل البحث وخص الحكم بالقسمين الأولين وأضرب عن القسم الثالث بيانا وحكما لانه من آثار النفاق وسفاسف المنافقين ولم يظهروا إلا بالمدينة ولذلك نزلت فيهم بالمدينة في التوبة ٦٥ و ٧٤ « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ». ( يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) الآية.

واما الاستثناء بقوله « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » فالظاهر منه هو الرخصة في التكلم بكلمة الكفر بالله ، منة على العباد بالحنيفية السهلة ، وإبقاء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وإذا كان الكفر بالله تعالى عزوجل مرخصا فيه عند الاضطرار والإكراه فالكفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمة الهداة المهديين عليهم‌السلام

٣٩٥

لأنّ في ترك التقيّة إعزازا للدين وتشييدا له ولما روي أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ

__________________

أو سبهم أو البراءة منهم أو ما شابه ذلك أولى بالرخصة والجواز.

وثانيهما في آل عمران : ٢٨ ( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ ).

والآية تنهى عن أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء : يأتمرون بأوامرهم ويتناهون عن نواهيهم ، ويصدرون ويخرجون طلبا لمرضاتهم وغير ذلك مما هو من شؤن الولاية التي تنشأ بالعهد أو الحلف أو الالتزام. ومنها الاستخدام المعهود في عصرنا الحاضر للكافرين بأحكام القرآن المعاندين لها من دول الضلال.

فمن يفعل ذلك فليس من الله في شي‌ء من ولايته فان الله ولي المؤمنين يخرجهم من الظلمات الى النور والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم ( إياهم مع من في ولايتهم وعهدهم ) من النور الى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فلا يجتمع هاتان الولايتان في مورد.

اللهم الا أن يتقوا منهم تقيّة فيدخلون في ولايتهم حذرا منهم وتقية ودفعا لنقماتهم المتوجهة إليهم ان خالفوهم. لكنه انما يختص بما اضطروا اليه أو أكرهوا عليه فلو رضوا منهم بالايتمار بأوامرهم ليس لهم أن يتناهوا عن نواهيهم أيضا أو يجلبوا إليهم المنافع وهكذا.

فالله يحذرهم نفسه إذا خرجوا عن ولايته ودخلوا في ولاية الكفار من دون اضطرار اليه والى الله المصير يؤاخذ الناس وهم مسئولون.

والظاهر من الاستثناء هو الرخصة في الدخول في ولايتهم وإطاعتهم منة على العباد بالحنيفية السمحة ، وإبقاء على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم عند طرو الاضطرار والتقية كما مر في الآية السالفة وهذه الرخصة إنما وردت طبقا لحكم الفطرة وجريا على سيرة العقلاء ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ).

وهذا الصنف من الرخصة إنما تجعل للأخذ بها لا للاعراض عنها والرغبة منها ولو لا ذلك لما خلق الناس مفطورا عليها بل الله عزوجل يحب أن تؤتى رخصه كما يجب أن تؤتى عزائمه وقد مر شطر من تلك الأحاديث في ص ٢١٠ عند البحث عن الرخصة في الإفطار في السفر فراجع.

٣٩٦

رجلين من المسلمين فقال لأحدهما : ما تقول في محمّد؟ قال : رسول الله [ حقّا ] قال

__________________

ولا يتوهم متوهم أن فائدة هذه الرخصة إنما ترجع الى المكلفين فقط وأن الرخصة إنما جعلت إبقاء لأنفسهم وأعراضهم وأموالهم وإشفاقا عليهم من أن يصيروا بمخالفتهم تلك العزائم كافرين مخلدين في النار ، فيحكم بأن عدم الأخذ بهذه الرخصة هو الأفضل فإن فيه إعزاز الدين والمؤمنين إلخ.

فان في جعل هذه الرخصة حقيقة إبقاء الحق والدين بإبقاء أهله فلو كان الأخذ بالعزيمة هو الاولى والأفضل مطلقا ولم يأخذ أحد من أهل الحق بهذه الرخصة أو أخذ بها من لا حريجة له في الدين أو من لا فائدة في بقائه للحق ، لاضمحل الحق باضمحلال أهله.

ولو كان الأخذ بالعزيمة هو الاولى وأخذ بها على وأهل بيته بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واقتفى به الخواص من أصحابهم ممن يرى ويعتقد الحق لما وجد اليوم أهل حق ابدا ولانقرض الحق بانقراض أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولذلك ترى أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما تواتر عنهم من الحديث يخطئون من لا يرى الأخذ بالتقية ويجبهونهم بأنه « من لا تقية له لا دين له. التقية ديني ودين آبائي ، اتقوا الله على دينكم واحجبوه بالتقية فإنه لا ايمان لمن لا تقية له انما أنتم في الناس كالنحل في الطير ولو ان الطير تعلم ما في أجواف النحل ما بقي منها شي‌ء إلا أكلته ولو ان الناس علموا في أجوافكم أنكم تحبونا أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية ».

ولو لم ينكروا على شيعتهم ـ الخاصة بهم الحاملة لا رأيهم وفتاواهم إلينا ـ حبهم للجهاد ورأيهم في الثورة على أهل الضلال لاستئصلوا عن آخرهم في تلك الفتن ولا وردوا أهل بيت نبيهم عليهم‌السلام موارد الهلكة والاستئصال.

لكن مع ذلك كله ، الرخصة لا تخرج عن كونها رخصة إلى العزيمة فالعزيمة انما جعلت عزيمة لا رخصة والرخصة إنما جعلت رخصة لا عزيمة ، فإذا كانت الفتنة بحيث تجلب إلى المؤمن ذلة وحقارة عند المؤمنين وحطة عن شرافته ومقامه وتلبسه خزيا وعارا وشنارا ولم يكن عنده حق مكتوم أو كان في حياة غيره كفاية ، له بل عليه ان يعرج على قوله الحق ويتفانى دونه ويعرض نفسه وأمواله للنهب والقتل ، عليه ان يستبدل الحياة الفانية الموهونة الحقيرة في ولاية الظالمين الكافرين بالحياة الآخرة الباقية عند الله ويلحق بالرفيق الأعلى.

٣٩٧

فما تقول في؟ قال [ له ] أنت أيضا فخلّاه وقال للآخر : ما تقول في محمّد؟ قال :

__________________

ففي الوسائل باب كراهة التعرض للذل روايات في ذلك منها ما رواه عن محمد بن يعقوب الكليني بإسناده عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان الله فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض اليه أن يكون ذليلا ، أما تسمع الله عزوجل يقول ( وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) فالمؤمن يكون عزيزا ولا يكون ذليلا ، يعزه الله بالايمان والإسلام.

فهذا أبو عبد الله الحسين بن على بن ابى طالب صلوات الله عليه صدر الاعزة ورأس أباه الضيم يقول في خطبته : « ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ، ونفوس أبيه ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ، الأواني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ».

وهو الذي يقول : « اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها الا صبابة كصبابة الإماء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله فانى لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما ».

وهو الذي يقول : « لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد ، عباد الله انى عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ». ( راجع مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ص ٢٦٣ و ٢١٠ و ٢٥٧ ).

هذا تمام البحث في مفاد الآيتين وأما الروايات الواردة في الباب فعلى أنواع تذكر من كل نوع واحدة ونذيلها بكلمة موجزة توضيحا للمرام.

فمنها ما عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان مثل ابى طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين.

أقول : هذه الرواية وما شابهها واردة في ظرف لم يأخذ الحق نصابه ولو كان أبو طالب أظهر الإيمان لما اتيح له الذب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومنها ما عن عبد الله بن عجلان عنه عليه‌السلام قال : سألته فقلت له ان الضحاك قد ظهر بالكوفة ويوشك أن ندعى إلى البراءة من على عليه‌السلام فكيف نصنع؟. قال : فابرء منه قلت :

أى شي‌ء أحب إليك؟. قال : أن تمضوا علي ما مضى عليه عمار بن ياسر ، أخذ بمكة

٣٩٨

رسول الله قال : فما تقول في؟ قال أنا أصمّ فأعاد عليه ثلاثا فأعاد جوابه الأوّل فقتله

__________________

فقالوا له : ابرء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فبرئ منه فأنزل الله عزوجل : « إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ».

أقول : والروايات بمضمونها كثيرة ، وانما كانت الرخصة أحب إليهم عليهم‌السلام لمحبوبيتها بحكم الفطرة والشرع ولان على الامام بما أنه قدوة المجتمع والحافظ على بيضة الحق أن يقدم مصالح المجتمع على مصلحة الفرد ومصالح المجتمع والحق في ذاك الظرف بقاء أهل الحق وحملة علوم أهل البيت وتكثير النسل حتى يضرب الحق بجرانه ويتحول اقلية الشيعة إلى أكثرية تذب عن نفسها وعن حقها ، ومصلحة الفرد هو الاستشهاد والدخول إلى الجنة انما تخصه وترجع الى نفسه وليس الإمام الأمة أن يرغب لأحد في ذلك فيدع مصالح الاجتماع إلى مصلحة الفرد ويعرض شيعته على القتل والنهب.

ومنها ما عن عبد الله بن عطا قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجلان من أهل الكوفة أخذا فقيل لهما ابرئا عن أمير المؤمنين فبرئ واحد منهما وأبى الأخر فخلى سبيل الذي بري‌ء وقتل الأخر فقال : اما الذي بري‌ء فرجل فقيه في دينه واما الذي لم يبرء فرجل تعجل إلى الجنة.

أقول : ومثلها ما روى في عمار وأبيه قبل نزول الآية وما روى في صاحبي مسيلمة كما ذكر في متن الكتاب بعد نزول الآيتين ، والظاهر من الرواية هو فرض رجلين كذلك لا ان القصة وقعت في زمن أبى جعفر عليه‌السلام فإنه بعيد جدا.

وأما كون الآخذ بالرخصة رجلا فقيها فلانه أخذ بحكم الفطرة أو بحكم الله عزوجل في كتابه ، وأما كون التارك لها متعجلا إلى الجنة فإنه تارك للرخصة إلى العزيمة فلا يكون عاصيا مرتكبا لكبيرة بل هو رجل مسلم قد اضطهد في دينه ولم يرض أن يتفوه بكلمة الكفر أو السب والبراءة من مولاه فاختار لقاء الله واستشهد بأيدي الجبابرة الكفار.

ومن يحكم بان تارك الرخصة تيك عاص قد ألقى نفسه إلى التهلكة بيديه ، له أن يوجه دخولهم الجنة بأن ياسرا أبا عمار لم يتنبه ولم يكترث بها اعتقادا بأن ذلك غير مرخص فيه بلسان الشرع المتبع فاستشهد وتعجل إلى الجنة وان هذا الرجل المفروض في الحديث لعله سمع ما اشتهر واستفاض عن على عليه‌السلام أنه قال : « وأما البراءة فلا تبرؤا منى » فلم يتبرء بحكم مولاه واستشهد وتعجل إلى الجنة ، وأن صاحب مسيلمة الكذاب الذي صدع

٣٩٩

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أمّا الأوّل فقد أخذ يرخصه الله وأمّا الثاني فقد

__________________

بالحق لعله لم يسمع الآيتين.

غير انه يلزمه أن يقول في فعل يعقوب بن السكيت بدخوله النار ، أعاذنا الله منه.

ومنها ما عن يوسف بن عمران الميثمي قال : سمعت ميثم النهرواني يقول : دعاني أمير المؤمنين على بن ابى طالب عليه‌السلام وقال : كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعي بنى أمية عبيد الله بن زياد إلى البراءة مني؟ فقلت : يا أمير المؤمنين انا والله لا ابرء منك قال : إذا والله يقتلك ويصلبك قلت أصبر فذاك في الله قليل فقال : يا ميثم إذا تكون معي في درجتي.

أقول : وقد روى أصحاب السير والتواريخ نحوا من ذلك في رشيد الهجري وكميل بن زياد النخعي وقنبر وأمثالهم من حواري أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ونقل أنهم لم يبرؤا منه حين عرض البراءة عليهم فصلبوا وقتلوا وقطعت أيديهم وأرجلهم ولسانهم لكنه لم يشك احد من الفقهاء في أنهم قد دخلوا الجنة مع أوليائهم الأبرار وحسن أولئك رفيقا.

وانما صدعوا بالحق ولم يبرؤا منه بظاهر من القول ، لاختصاصهم به عليه‌السلام أشد اختصاص معروفين بصداقته وحبه العميق فلو تبرؤا منه عليه‌السلام إيثارا على أنفسهم المقبوضة غدا أو بعد غد كان ذلك موجبا لهوانهم وحط منزلتهم وقدرهم حيث كانوا يفرون من الموت كفرار من أخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا.

فهم على اختصاصهم به عليه‌السلام وكونهم من حواريه وأصحاب سره لا يليق بهم أن يرغبوا بأنفسهم عن إعزازه عند الاعداء ويجعلوا أنفسهم سخريّة عند المحب والعدو بالتفوه بالسب أو البراءة أو النيل منه على رؤس الاشهاد ولو أنهم أخذوا بالرخصة وآثروا الحياة الدنيا الفانية لنزلوا عن درجته عليه‌السلام في الجنة إلى الدرجات النازلة المنحطة ان لم يصيروا بذلك مصداقا لتأويل قوله تعالى ( فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ).

وعندي ان عملهم ذلك دعا الناس الى أن توهموا عليه قوله عليه‌السلام : « ستدعون إلى سبى والبراءة مني أما السب فسبوني وأما البراءة فلا تبرؤا مني فإني ولدت على الفطرة وسبقت الى الايمان والهجرة » وذلك لان السب أفحش من البراءة ومتضمن له فكيف

٤٠٠