كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

حتّى يسلموا أو يلتزموا بشرائط الذمّة وإن لم يحصل منهم أحد الأمرين قتلوا وسيأتي حكمهم ومن ليس له كتاب ولا شبهة فهؤلاء يقاتلون حتّى يسلموا وإلّا [ ي ] قتلوا وسيأتي أيضا حكمهم.

٢ ـ الأمر بجهاد المنافقين بإقامة الحجّة فيدخل فيه جهاد كلّ مبتدع ومعتقد خلاف الحقّ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة الله » (١).

٣ ـ الأمر بالغلظة شامل للقسمين فتجب الغلظة على الكفّار وإهانتهم وكذا على المنافقين وأرباب البدع ومعتقدي خلاف الحقّ إلّا لتقيّة تمنع من ذلك أو لخوف ضرر.

السابعة ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) (٢).

هذه [ الآية ] إشارة إلى قتال أهل الكتاب وقد وصفهم بصفات أربع كلّ واحدة منها توجب قتالهم الأولى أنّهم لا يؤمنون بالله في نفس الأمر لأنّهم يعتقدون الله على صفة يستحيل أن يوصف بها كقولهم ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ) ـ و ( الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ) (٣) ولذلك وصفهم بالاشراك الثانية أنّهم لا يؤمنون باليوم الآخر كما يجب كقولهم ( لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلّا أَيّاماً مَعْدُودَةً ) (٤) الثالثة أنّهم لا يحرّمون ما حرّم الله كشرب الخمر ونكاح المحرّمات وإباحة لحم الخنزير الرابعة أنّهم لا يدينون دين الحقّ والدين إمّا

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٥٤ الرقم ٢.

(٢) براءة : ٣٠.

(٣) براءة : ٣١.

(٤) البقرة : ٨٠.

٣٦١

الإسلام أو الطاعة أي [ إنّهم ] إن كانوا يدّعون دينا أو يفعلون طاعة فهي غير مطابقة للحقّ لتحريفهم كتابهم وانتحالهم أمورا غير مشروعة إذا عرفت هذا فهنا مسائل :

١ ـ أهل الكتاب هم اليهود والنصارى حقيقة وأمّا المجوس فلهم شبهة كتاب وقيل ليسوا بأهل الكتاب لقوله ( إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا ) (١).

وإنّما للحصر والجواب أنّ لهم شبهة وقد ورد في أخبارنا أنّه كان لهم نبيّ فقتلوه وكتاب فحرّقوه ولهذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب » (٢) و « من » في الآية للبيان.

٢ ـ تقدّم أنّ أهل الكتاب يقاتلون حتّى يلتزموا بأحد الأمرين إمّا الإسلام وأحكامه أو شرائط الذمّة وإنّما اقتصر هنا في غاية القتال على أداء الجزية ولم يذكر الإسلام ولا باقي الشرائط لأنّ الإسلام معلوم الإرادة ولأنّهم وصفوا بالأوصاف الأربعة وفيه قطع لطمع الإسلام منهم وأمّا الاقتصار على ذكر الجزية فلأنّها الركن الأعظم في الشرائط وإذا أخلّوا بها ولم ينقادوا لأحكام الإسلام خرقوا الذمّة.

٣ ـ شرائط الذمّة هي قبول الجزية وأن يجري عليهم أحكام الإسلام وأن لا يؤذوا المسلمين في أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأن لا يحدثوا كنيسة ولا بيعة ولا يضربوا ناقوسا وأن لا يتظاهروا بشي‌ء من المحرّمات وأن لا يتناقصوا دين الإسلام بذكر الله سبحانه ونبيّه بما لا يجوز وبمخالفة الأوّلين يخرجون عن الذمّة.

٤ ـ الجزية فعلة كجلسة وهي اسم للنوع أي لنوع من الجزاء وعندنا أنّها غير مقدّرة بل بحسب ما يراه إمام المسلمين لأنّه أنسب بالصغار وعند أبي حنيفة يؤخذ في أوّل كلّ سنة من الفقير المكتسب اثنى عشر درهما ومن المتوسّط أربعة وعشرون ومن الغنيّ ثمانية وأربعون ولا يؤخذ من الفقير الّذي لا كسب له وعند الشافعيّ يؤخذ في آخر كلّ سنة من كلّ واحد دينارا فقيرا كان أو غنيّا ولم يفصّل

__________________

(١) الانعام : ١٥٦.

(٢) راجع الوسائل ب ٤٩ من أبواب جهاد العدو ح ٩ ، الدر المنثور ج ٣ ص ٢٢٨ و ٢٢٩.

٣٦٢

الفقير إلى المكتسب وغيره.

٥ ـ لا تؤخذ الجزية من النساء والصبيان لأنّهم ليسوا من أهل القتال وهل تؤخذ من الشيوخ؟ قيل نعم للاستسعاد (١) برأيهم وقيل لا ، لعجزهم عن القتال والأوّل أنسب.

٦ ـ اختلف في معنى « عَنْ يَدٍ » قيل أن يعطوها نقدا لا نسية كما يقال بعته يدا بيد أي نقدا بنقد وقيل أن يعطوها بأيديهم لا بنائب فإنّه أنسب بذلّتهم وهو أقرب وقيل عن قدرة وقهر لكم عليهم وقيل اليد هنا النعمة أي عن إنعام لكم عليهم بقبول الجزية منهم وإقرارهم على دينهم.

٧ ـ « وَهُمْ صاغِرُونَ » من الصغار وهو الذلّة والواو للحال أي يعطونها حال ذلّتهم قيل هو أن يدفع ويقهر بحيث تظهر ذلّته وقيل أن يجي‌ء ماشيا يسلّمها وهو قائم والآخذ جالس ويقال له أدّ الجزية وأنت صاغر ويصفع على قفاه صفيعة.

وقال فقهاؤنا : إنّه التزام أحكام الإسلام وأن تجري عليهم وأن لا يقدّر الجزية عليهم فيوطّنوا أنفسهم على حال وقيل أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وقال الصادق عليه‌السلام « إنّ الله تعالى يقول « حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ » وللإمام أن يأخذهم بما لا يطيقون حتّى يسلموا وإلّا كيف يكون صاغرا وهو لا يكترث بما يؤخذ منه » (٢).

٨ ـ قال أبو حنيفة تؤخذ الجزية عن كلّ كافر حربيّا كان أو ذمّيا عابد وثن أو عابد كوكب إلّا من مشركي العرب لقوله عليه‌السلام لأهل مكّة « هل لكم في كلمة إذا قلتموها ذلّت (٣) لكم العرب وأدّت إليكم العجم الجزية » (٤) وعند الشافعيّ لا تؤخذ من مشركي العجم وعند أصحابنا إنّما تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس.

__________________

(١) للاستعانة ، خ.

(٢) تفسير القمي ص ٢٦٤.

(٣) دانت ، خ.

(٤) قاله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين اجتمع أبو جهل بن هشام ومعه قوم من قريش عند

٣٦٣

الثامنة ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ ) (١).

هنا فوائد :

١ ـ اللّقاء هنا في الحرب « فضرب » أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدّم المصدر نائبا منا به مضافا إلى المفعول هذا ، مع التأكيد والاختصار ، والتعبير به عن القتل إشعار [ ا ] بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة إن اختاره الامام عندنا وفيه أيضا تصوير له بأشنع صورة والإثخان قيل إكثار القتل وإغلاظه من الثخين وهو

__________________

أبى طالب في مرضه فقالوا ان ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت اليه فنهيته فبعث اليه فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل البيت وبينهم وبين ابى طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل ان جلس الى ابى طالب أن يكون ارق عليه فوثب وجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مجلسا قرب عمه وجلس عند الباب.

فقال له أبو طالب عليه‌السلام اى ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون انك تشتم آلهتهم وتقول وتقول. قال فأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « أو هل لهم في كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية » ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم نعم وأبيك عشرا فما هي؟ قال : لا إله إلا الله ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون : أجعل الالهة إلها واحدا ان هذا لشي‌ء عجاب الآية راجع الدر المنثور ج ٥ ص ٢٩٥. البحار ج ١٨ ( من طبعة دار الكتب ) ص ٢٣٨ نقلا من روضة الكافي. فراجع.

(١) القتال : ٤.

٣٦٤

الغليظ وقيل إكثار الجراح بحيث لا يتمكّن من النهوض والوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به « فَشُدُّوا الْوَثاقَ » كناية عن الأسر « فَإِمّا مَنًّا [ بَعْدُ ] » أي تمنّون منّا أو تفدون فداء و « أوزار الحرب » آلاتها وأثقالها الّتي لا تقوم إلّا بها كالسّلاح والكراع أي تنقضي الحرب والإسناد مجازيّ أي يضع أهل الحرب وقيل آثامها ومعناه حتّى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ظاهرا بحيث لم يبق إلّا مسلم أو مسالم « ذلك » أي الأمر ذلك فيكون فصل خطاب أو مفعول أي افعلوا ذلك.

٢ ـ قالت الشافعية إذا أسر الحرّ الذكر المكلّف تخيّر الامام بين القتل والمنّ والفداء والاسترقاق وقالت الحنفيّة يتخيّر بين القتل والاسترقاق فعلى قولهم الآية منسوخة أو مخصوصة بواقعة بدر وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة وفي التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان والأسر لتقييد المنّ والفداء بكونه بعد الأسر ولم يذكر معهما القتل وعلى التقادير فالاسترقاق علم بالسنّة هذا وقد قيل إنّ الأسر كان محرّما لقوله ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ) (١) الآية ثمّ نسخ بهذه الآية وقال الحسن البصريّ إنّ الامام مخيّر بين المنّ والفداء والاسترقاق وليس له القتل بعد الأسر وكأنّه جعل في الآية تقديما وتأخيرا تقديره « فَضَرْبَ الرِّقابِ ) ، ( حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) » ثمّ قال « ( حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً ) » وقيل حكم الآية منسوخ بآية السيف وليس بشي‌ء لأصالة عدم النسخ والتخصيص خير منه.

٣ ـ المنقول عن أهل البيت عليهم‌السلام (٢) أنّ الأسير إن أخذ والحرب قائمة تعيّن قتله إمّا بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويترك حتّى ينزف ويموت وإن أخذ بعد تقضّي الحرب يتخيّر الامام بين المنّ والفداء والاسترقاق ولا يجوز القتل ولو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا ويقوى القول بالتقديم والتأخير ولا حرج في ذلك.

__________________

(١) الأنفال : ٦٧.

(٢) راجع الوسائل ب ٢٣ من أبواب جهاد العدو.

٣٦٥

٤ ـ اختلف القائلون بأنّ الآية لا تقديم فيها ولا تأخير في قوله « حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها » قيل هو غاية لضرب الرقاب وقيل غاية لشدّ الوثاق وقيل للمنّ والفداء وقيل للمجموع بمعنى أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وقيل حتّى لا يبقى أحد من المشركين وقيل حتّى لا يبقى دين غير الإسلام وقيل حتّى ينزل عيسى عليه‌السلام.

٥ ـ أخبر سبحانه أنّه لو يشاء استأصل الكفّار باهلاكهم من غير توسّط فعلكم ولكن أمركم بذلك ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب الجزيل والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم فينقلبوا إلى العذاب الوبيل.

٦ ـ ثمّ أخبر أنّ « الذين قاتلوا في سبيل الله » وقرأ البصري وحفص « قتلوا » « فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ » أي لن يضيعها ويهديهم إلى الثواب أو يثيبهم « وَيُصْلِحُ بالَهُمْ » أي شأنهم في الدنيا « وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ » تفصيل لعاقبتهم بعد الاجمال « عَرَّفَها لَهُمْ » في الدنيا فاشتاقوا إليها وعملوا لها أو بيّنها لهم فيعرف كلّ واحد منزله ويهتدي إليه كأنّه كان ساكنه منذ خلق أو طيّبها من العرف وهو طيب الرائحة.

التاسعة ( ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١).

__________________

(١) الأنفال : ٦٧ ـ ٧١.

٣٦٦

خمس آيات « ما كان » ما هنا للجحد وكان ناقصة واسمها « أن يكون » على تقدير المصدر أي لا يجوز كون الأسرى عند نبيّ وقرأ أبو جعفر أسارى والباقون أسرى والإثخان هو تكثير القتل وقيل الغلبة على البلدان والتذليل لأهلها « وعرض الدنيا » متاعها سمّي به لعروضه وعدم بقائه إذا عرفت هذا فهنا فوائد :

١ – روي (١) أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ سبعين أسيرا يوم بدر وفيهم العبّاس عمّه وعقيل ابن عمّه أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية يتقوّى بها أصحابك فقال : عمر كذّبوك [ ونبذوك ] وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإنّهم أئمّة الكفر ولا تأخذ منهم الفداء مكّن عليّا من عقيل وحمزة من العبّاس ومكّنّي من فلان وفلان لنسب له فيهم فقال [ له رسول الله ] إنّ الله يلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللّين ويقسّي قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة فمثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال « فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه‌السلام إذ قال « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيّاراً » ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه : إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتم ويستشهد منكم بعدّتهم فقالوا بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بعدّتهم بأحد كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونقل عليّ بن إبراهيم أنّه لمّا قتل النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط خافت الأنصار أن يقتل الأسرى فقالوا يا رسول الله قتلنا سبعين وهم قومك واسرتك أتجذّ أصلهم فخذ يا رسول الله منهم الفداء وكان [ أكثر ] الفداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم وقيل كان فداء كلّ واحد عشرين أوقية وقال ابن سيرين مائة أوقيّة والأوقية أربعون درهما وروي عن الصادق عليه‌السلام أنّ الفداء كان أربعين أوقيّة والأوقيّة أربعون مثقالا إلّا العباس فانّ فداءه كان مائة أوقيّة وكان قد أخذ منه حين أسر عشرين أوقيّة ذهبا فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك غنيمة ففاد نفسك

__________________

(١) ترى القصة وما يليها في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٠١ ، مجمع البيان ج ٤ ص ٥٥٩. فراجع.

٣٦٧

وابني أخيك نوفلا وعقيلا فقال يا محمّد ليس معي شي‌ء تتركني أتكفّف الناس ما بقيت؟ فقال أين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل حين خروجك من مكّة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فان حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل [ وقثم ] فقال العبّاس وما يدريك به فقال أخبرني به ربّي فقال العباس أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك عبده ورسوله والله لم يطّلع عليه أحد إلّا الله ولقد دفعته إليها في سواد اللّيل قال : فلمّا أخذوا الفداء نزلت الآية وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكره أخذ الفداء ولمّا رأى سعد بن معاذ كراهته في وجهه قال يا رسول الله هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين أردت أن تثخن فيهم القتل حتّى لا يطمع أحد منهم في خلافك وقتالك فقال كرهت ما كرهت ولكن رأيت ما صنع القوم واستدلّ جماعة من مخالفينا كأحمد بن حنبل وغيره بهذه القصة على جواز الاجتهاد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ أخذ الفداء لم يكن بالوحي وإلّا لما أنكره الله والجواب جاز أنّه كان مخيّرا بين القتل والفداء وكان القتل أولى والعتاب على تركه وأيضا قد نقلنا أنّه كان كارها للفداء فالعتاب كان لغيره.

٢ ـ قال ابن عبّاس وقتادة إنكار الفداء كان من عذر لقلّة المسلمين فلمّا كثروا أذن لهم فيه فنزلت « فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً » وسبب ذلك أنّ الله تعالى أراد إرهاب الكفّار وإلقاء الرعب في قلوبهم لإعزاز دينه ونصرة رسوله ولا يتأتّى ذلك إلّا بتكثير القتل فلمّا كثر المسلمون حصل المقصود بسبب كثرتهم فاذن لهم في المفاداة.

٣ ـ قوله « لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ » قال مجاهد معناه لو لا أنّه لا يعذّب على ذنب إلّا بعد النهي عنه لعذّبكم لكن لم يسبق منه نهي فلم يعذّبكم وقال الجبائيّ لو لا ما سبق في حكمه أنّه لا يعذّب على الصغائر لعذّبكم وقال ابن جبير لو لا ما سبق أنّه يحلّ لكم الفداء فيما بعد لعذّبكم قلت ويحتمل معنيين آخرين أحدهما لولا ما سبق في حكمه أنّ أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعذّبون في الدنيا على ذنب كما كانت الأمم الماضية لعذّبكم وثانيهما لو لا ما كتب لكم أنّكم لا تؤاخذون على خطأ في الاجتهاد لعذّبكم وبيان خطائهم أنّهم قالوا لا مصلحة في قتلهم لرجاء إسلامهم وفي

٣٦٨

أخذ الفداء منهم مصلحة للمسلمين لأنّ أكثرهم كانوا فقراء لا مركوب لهم ولا زاد ولا شكّ أنّ مصلحة المسلمين جزئيّة والإثخان في الأرض مصلحة كلّيّة فإذا تعارضتا فالكلّية أولى كما إذا وقعت آكلة في عضو فإنّه يجب قطعه لئلّا يتعدّى إلى البدن كلّه والخطاب لمن أخذ الفداء لا له صلى‌الله‌عليه‌وآله لعصمته من الخطاء ولما نقلنا من كراهته لأخذ الفداء وقال الجبائيّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عصى في هذه القضيّة إجماعا ولم يعيّن والظاهر أنّه في ترك القتل والإثخان وقوله باطل لما ثبت من عصمته مطلقا هذا وقد نقلنا كراهته لأخذ الفداء حتّى قال البلخيّ أجلّاء الصحابة [ كانوا ] برآء من أخذ الفداء وإنّما رغّب فيه غيرهم.

٤ ـ « فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً » إشارة إلى إباحة المغنم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فضّلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الكافّة وأحلّ لي المغنم ونصرت بالرعب وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وخصّصت بالشفاعة » (١) والغنيمة ما أخذ من الكفّار قهرا وهل الفداء من الغنيمة قيل نعم والمراد بها هنا هو الفداء لأنّ الكلام فيه وقيل لا ، لأنّ الفداء ما أخذ عوضا من النفس وهو غير الغنيمة وفائدة الخلاف في وجوب الخمس وعدمه وأصل الحلال من حلّ العقد ولا فرق بينه وبين المباح في المعنى إلّا أنّ المباح ليس مسبوقا بالحظر بخلاف الحلال لما قلناه أنّه من حلّ العقد ولمّا كانت الغنائم محرّمة على الأمم السالفة قال حلالا والمباح مأخوذ من باحة الدار وسعتها فكونه مباحا معناه موسّع فيه والطيّب ما كان موافقا للطبع و « من » في « مِمّا غَنِمْتُمْ » للتبعيض ولولاها لأوهم تحريم الانتفاعات الباقية وتخصيص الأكل لكونه أعظم الانتفاعات.

٥ ـ [ ثمّ ] إنّه تعالى بشّر الأسرى عقيب أخذ الفداء منهم بأنّه إذا صلحت نيّاتهم وخلص الإسلام في قلوبهم أن يؤتيهم خيرا ممّا أخذ منهم من الفداء وروي عن العبّاس أنّه قال أبدلني الله خيرا ممّا أخذ منّي أملك الآن عشرين عبدا وإنّ

__________________

(١) السراج المنير ج ٣ ص ٢٣

٣٦٩

أدناهم ليضرب بعشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحبّ أنّ لي بها جميع أموال مكّة وأنا أنتظر المغفرة.

وأنذرهم أنّهم إن يريدوا خيانة الرسول بالردّة عن الإسلام فقد خانوا الله من قبل بالشرك ومعاونة المشركين فأمكن منهم بالقدرة عليهم ، كذلك إذا ارتدّوا يمكّن منهم ثانيا كما مكّن منهم أوّلا كما وقع لدريد بن الصمّة ومن ضارعه ممّن أسلم ثمّ ارتدّ وخرج على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع المشركين.

العاشرة ( فَإِمّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (١).

الضمير عائد إلى الّذين نقضوا عهدهم وهم بنو قريظة عاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أن لا ينصروا قريشا فأعانوا مشركي مكّة يوم الخندق فلمّا عرّفهم نقضهم قالوا نسينا وأخطأنا فأمره الله بمكافاتهم « وإن » شرطية « وما » زائدة لتأكيد الشرط والنون للتوكيد في الفعل أيضا ومعناه إن صادفتهم يا محمّد في الحرب فشرّد بهم من خلفهم أي نكّل بهم تنكيلا تشرّد غيرهم من ناقضي العهود خوفا أن ينكل به قاله أكثر المفسّرين « لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ » أي إذا فعلت ذلك كان عظة لغيرهم فيعلمون أنّ عاقبة الغدر وخيمة « وَإِمّا تَخافَنَّ » أيضا جملة شرطيّة كما تقدّم أي إن خفت « مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً » أي نقض عهد « فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ » عهدهم أي ألق إليهم عهدهم واقتصر على ذلك ولا تحاربهم قوله « عَلى سَواءٍ » أي على عدل فإنّهم إذا نقضوا العهد فنبذت إليهم عهدهم لتساويتم لكنّهم لمّا بدءوا استحقّوا الذمّ فعلى هذا نكون الآية الاولى في حال من تكرّر منهم نقض العهد لقوله قبلها « الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ » وهذه لمن ظهر منه أمارات النقض لأنّ التفصيل قاطع للشركة.

__________________

(١) الأنفال : ٥٩.

٣٧٠

لكن يرد هنا سؤال وهو أنّ أهل مكّة حاربهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عدم تكرار النقض منهم فيجاب بأنّ معنى الآية الثانية ظهور أمارة النقض وظنّ ذلك وأهل مكّة نقضوا العهد بالفعل وقتلوا رجلا من خزاعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفرق بين ظنّ النقض وبين تيقّنه أو يكون المراد أنّ النقض بغير القتل ولم يتكرّر فيقتصر معه على نبذ العهد وبالقتل كأهل مكّة أو مع التكرار كبني قريظة تجوز المحاربة فيكون ممّا خصّ بمنفصل.

قوله « إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ » عدم المحبّة أعمّ من البغضة لجواز أن لا يحبّ ولا يبغض كما أنّ ظهور أمارة النقض أعمّ من نقضه بالفعل ومن عدمه.

الحادية عشر ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (١).

روي في سبب نزولها أنّ رجلا يقال له مرداس من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سريّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأميرهم غالب العبسي (٢) فهربوا و

__________________

(١) النساء : ٩٧.

(٢) كذا في النسخ وفي بعضها « البستي » خ ل والمذكور في الإصابة المذيل بالاستيعاب ج ٣ ص ١٨١ غالب بن عبد الله بن مسعر بن جعفر بن كليب بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة الكلبي ثم الليثي ، بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سنة خمس في ستين راكبا إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم فخرج الحديث.

وقال ابن إسحاق ( ج ٢ ص ٦٢٢ من سيرته ) : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بنى مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك حليفا لهم من

٣٧١

بقي مرداس متّكلا على إسلامه فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلمّا تلاحقوا وكبّروا كبّر ونزل وقالت لا إله إلّا الله محمّد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فنزلت وقيل كان أمير السريّة المقداد وقرأ حمزة وابن عامر « السلم » بغير الألف والباقون « السلام » بالألف ومعناهما واحد قوله « لَسْتَ مُؤْمِناً » أي لست مصدّقا بالإسلام عن قصد وإنّما قلتها خوفا [ من القتل ] « كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ » أي كنتم كفّارا فلمّا أظهرتم الإسلام قبل منكم وقيل كنتم مستخفين بالإسلام خوفا على أنفسكم كذلك مرداس « فَتَبَيَّنُوا » أعادها للتأكيد وقرأ الكسائيّ « فتثبّتوا » بالثاء المنقّطة ثلاثا والباقون بالتاء فوقها نقطتان وهنا فوائد :

١ ـ أنّ كلمة الإسلام تحقن الدّم والمال على أيّ حال حصلت.

٢ ـ أنّ أسامة بن زيد لم يخرج بتلك الفعلة عن الايمان لمخاطبته به وأنّه لم يقتله إلّا طمعا في ماله لا غير لا لله تعالى ولا إنكارا لإيمانه.

٣ ـ روى ابن عبّاس أنّه لمّا نزلت هذه الآية حلف أسامة أنّه لا يقتل رجلا يقول لا إله إلّا الله وبهذا اعتذر إلى عليّ عليه‌السلام لمّا تخلّف عنه ، وهو عذر غير مقبول لأنّه قام الدليل على وجوب إطاعته في محاربة من حاربه من البغاة خصوصا وقد سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول « يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي » (١) ولكن كرم

__________________

الحرقة قتله أسامة بن زيد وذكر هشام بن الكلبي ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه إلى فدك فاستشهد دون فدك –

قال ابن حجر : قلت المبعوث الى فدك غيره واسمه أيضا غالب لكن : ابن فضالة الكناني.

وقد قيل في نزولها أقوال وروى فيها روايات راجع الدر المنثور ج ٢ ص ١٩٩ ، مجمع البيان ج ٣ ص ٩٥.

(١) راجع مجمع البيان ج ٣ ص ٩٥ ، إحقاق الحق ج ٤ ص ٤٨٣ ، الطبعة الحديثة.

٣٧٢

علي عليه‌السلام ستر خطيئته « والعذر عند كرام الناس مقبول ».

٤ ـ في الآية إشارة إلى التثبّت في الأمور والنهي عن العجلة حذرا من سوء عاقبتها.

الثانية عشر ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ ) (١).

هذه [ الآية ] إشارة إلى قصّة بدر ومضمونها أنّ جبرئيل عليه‌السلام أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ عيرا لقريش أقبلت من الشأم وهي خمس مائة بعير موقّرة عن أمتعة الشأم وفيها أربعون راكبا وإنّ فيها أبا سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام فأخبر المسلمين بذلك وأمرهم بالخروج إليها وقال لعلّ الله أن ينفلكموها فخفّ بعضهم وثقل بعض ولم يظنّوا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يلقى حربا فخرجوا لا يريدون إلّا العير ، فسمع أبو سفيان بخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستأجر رجلا يقال له ضمضم بعشرة دنانير وبعثه إلى مكّة يخبر قريشا بذلك وكانت عاتكة بنت عبد المطّلب قد رأت قبل ذلك في المنام أنّ رجلا صعد على أبي قبيس فأخذ حجرا فدهدهه فما ترك دارا من دور قريش إلّا أصابته منه فلذة فانتبهت فزعة وأخبرت العباس [ بذلك ] وبلغ ذلك أبا جهل فقال هذه نبيّة ثانية في بني عبد المطّلب ف [ ل ] ما كان اليوم الثالث من الرؤيا [ حتّى ] جاء ضمضم يصيح بأعلى صوته يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير إنّ محمّدا وأصحابه قد خرجوا يتعرّضون لعيركم فخرج أبو جهل ينادي النجا النجا عيركم وأموالكم إن أصابها محمّد لن تفلحوا ، فخرجوا بأجمعهم وهم النفير وفي المثل السائر « لا يعدّ في العير ولا في النفير » (٢).

__________________

(١) الأنفال : ٧.

(٢) العير أصله قافلة الحمير مؤنثة ثم كثرت حتى سميت بها كل قافلة تحمل الميرة

٣٧٣

وأخرجوا معهم القيان يضربون بالدفوف فأخبروا أنّ العير أخذت الساحل ونجت وقيل لأبي جهل نرجع إلى مكّة قال لا والله لا يكون ذلك حتّى ننحر الجزور ونشرب الخمور فيتسامع العرب أنّ محمّدا لم يصب عيرنا فمضى بهم إلى بدر وهي ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنّة.

فنزل جبرئيل عليه‌السلام فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقصّة وأنّ الله وعده إحدى الطائفتين إمّا العير وإمّا النفير فاستشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه أيّهما أحبّ إليكم فقالوا العير فتغيّر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال إنّ العير قد مضت وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا عليك بالعير فاشتدّ غضبه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام أبو بكر وعمر فتكلّما بكلام مضمونه إنّها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلّت منذ عزّت فقال لهما اجلسا فجلسا فقام المقداد رحمه‌الله فقال إنّا نشهد بأنّ ما جئتنا به حقّ والله لو أمرتنا أن نخوض الجمر لخضناه معك لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام ( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ) (١) بل نقول امض لأمر ربّك إنّا معك [ م ] مقاتلون فجزّاه رسول الله خيرا.

فاستبشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال أشيروا عليّ ويريد

__________________

وغيرها للتجارة ، والنفير هم القوم ينفرون للقتال ويتنافرون فيه ، وكانت اهتمام قريش على أمرين : أمر المعاش والتجارة ، والذين يهمون به مع القوافل هم العير ، وأمر الدفاع عن حريمهم ، والذين يهمون به من الشبان والفوارس هم النفير ، وكانت في بدر رئاسة العير الى ابى سفيان ورئاسة النفير إلى عتبة بن ربيعة وبعد بدر لما لم يبق لهم من رجال الرئاسة إلا أبا سفيان صار على العير والنفير.

فهم إذا أرادوا أن يوبخوا أحدا بأنه لا يصلح لأي مهم قالوا : لا في العير ولا في النفير ، ومنه قول الشاعر :

إذا ما فضلت عليا قريش

فلا في العير أنت ولا النفير

(١) المائدة : ٢٧.

٣٧٤

بذلك الأنصار لأنّهم كانوا أكثر الناس يومئذ ولأنّهم كانوا بايعوه بالعقبة فقالوا إنّا برآء من ذمّتك حتّى تصل إلى دارنا ثمّ أنت في ذمّتنا نمنعك ما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتخوّف أن لا يرى الأنصار نصرته إلّا على عدوّ دهمه بالمدينة لا غير ، فقام سعد بن معاذ فقال كأنّك أردتنا يا رسول الله! قال : نعم ، فقال : إنّا آمنا بك وصدّفناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، إنّا لصبر عند الحرب وصدق عند اللّقاء والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك ولعلّ الله أن يريك ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله. ففرح بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال سيروا على بركة الله وعونه إنّ الله قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله وعده والله لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل وعتبة بن ربيعة وفلان وفلان.

ثمّ أمر بالرحيل إلى بدر فأقبلت قريش وبعثت عبيدها ليستقوا من الماء فأخذهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا من أنتم قالوا نحن عبيد قريش قالوا فأين العير قالوا لا علم لنا بالعير فأقبلوا يضربونهم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي فانفتل من صلاته وقال إن صدقوكم ضربتموهم وإن كذبوكم تركتموهم [ عليّ بهم ] فأتوه بهم فقال من أنتم قالوا يا محمّد نحن عبيد قريش قال كم القوم قالوا لا علم لنا بعددهم قال كم ينحرون في كلّ يوم من جزور قالوا تسعة إلى عشرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله القوم تسعمائة إلى ألف رجل وأمر عليه‌السلام بحبسهم فحبسوا ، وبلغ ذلك قريشا ففزعوا وندموا على مسيرهم ولقي عتبة بن ربيعة أبا البختريّ بن هشام قال أما ترى هذا البغي والله ما أبصر موضع قدمي خرجنا لنمنع عيرنا وقد أفلتت فجئنا بغيا وعدوانا [ على محمّد وأصحابه ] والله ما أفلح قوم بغوا قطّ ولوددت أنّ ما في العير من أموال بني عبد مناف ذهبت ولم نسر هذا المسير.

فقال له أبو البختري إنّك سيّد من سادات قريش فسر في الناس وتحمّل العير الّتي أصابها محمّد وأصحابه بنخلة ودم ابن الحضرميّ فإنّه حليفك فقال له عليّ ذلك وما على أحد منّا خلاف إلّا ابن الحنظليّة ـ يعني أبا جهل ـ فسر إليه وأعلمه

٣٧٥

أنّي تحمّلت العير ودم ابن الحضرميّ وهو حليفي وعليّ عقله.

قال [ أبو البختري ] فقصدت خباءه وأبلغته ذلك فقال إنّ عتبة يتعصّب لمحمّد فإنّه من بني عبد مناف وابنه معه فيريد أن نخذل بين الناس لا واللّات والعزّى حتّى نهجم عليهم بيثرب أو نأخذهم أسارى فندخلهم مكّة ويتسامع العرب بذلك وكان أبو حذيفة بن عتبة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان أبو سفيان لمّا جاز بالعير بعث إلى قريش : قد نجّى الله عيركم فارجعوا ودعوا محمّدا والعرب وادفعوه بالسراح ما اندفع وإن لم ترجعوا فردّوا القيان فلحقهم الرسول بالجحفة فأراد عتبة أن يرجع فأبى أبو جهل وبنو مخزوم وردّوا القيان من الجحفة قال وفزع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا بلغهم كثرة قريش واستغاثوا وتضرّعوا فأنزل الله تعالى ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) (١) قال ابن عبّاس فلمّا اصطفّ القوم قال أبو جهل اللهمّ أولانا بالنصر فانصره وقيل إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نظر الكثرة من المشركين وقلّة عدد المسلمين استقبل القبلة وقال « اللهمّ أنجز لي ما وعدتني اللهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » فما زال يهتف ربّه مادّا يديه حتّى سقط رداؤه [ عن منكبيه ] قال ولمّا أمسى رسول الله وجنّه الليل ألقى الله على أصحابه النعاس وكانوا قد نزلوا في موضع كثير الرمل لا يثبت فيه قدم فأنزل الله المطر رذاذا حتّى اشتدّ وتثبّت أقدامهم وكان المطر على قريش مثل العزالى وألقى الله في قلوبهم الرّعب كما قال سبحانه ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) (٢).

فعبّأ رسول الله أصحابه وكان معه فرسان لا غير أحدهما للزبير ابن العوّام والأخرى للمقداد وسبعون جملا يتعاقبون عليها وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد الغنويّ يتعاقبون على جمل لمرثد وكان مع قريش أربعمائة فرس وقيل مائتان وقيل خمسمائة فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين قال أبو ـ

__________________

(١) الأنفال : ٩.

(٢) الأنفال : ١٢.

٣٧٦

جهل ما هم إلّا أكله رأس ولو بعثنا إليهم عبيدنا لأخذوهم أخذا باليد فقال له عتبة أترى لهم كمينا في الحرب أو مددا فبعثوا عمرو بن وهب فجال بفرسه حول المسلمين فرجع فقال : ما لهم كمين ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي ما لهم ملجأ إلّا سيوفهم وما أراهم يألون حتّى يقتلوا ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم فقال أبو جهل كذبت وجبنت.

فأنزل الله تعالى « وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها » (١) فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يا معشر قريش إنّي أكره أن أبدأ بكم فخلّوني والعرب وارجعوا فقال عتبة ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ثمّ ركب جملا له أحمر فنظر إليه رسول الله وهو يجول بين العسكرين وينهى عن القتال فقال عليه‌السلام إن يكن عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر فان يطيعوه يرشدوا فخطب عتبة فقال أطيعوني اليوم واعصوني الدهر كلّه إنّ محمّدا له إلّ وذمّة وهو ابن عمّكم فخلّوه والعرب فان يك صادقا فأنتم أعلى عينا به وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره فقال له أبو جهل جبنت وانتفخ سحرك (٢) فقال يا مصفّر استه (٣) أمثلي يجبن ستعلم قريش أيّنا الأم وأجبن

__________________

(١) منخرك ، خ ل.

(٢) الأنفال : ٦٢.

(٣) قيل في شرح هذا الكلام ذيل سيرة ابن هشام ج ١ ص ٦٢٤ : قال السهيلي : « قوله » « مصفر استه » كلمة لم يخترعها عتبة ولا هو بأبى عذرتها : قد قيلت قبله لقابوس بن النعمان أو القابوس بن المنذر لانه كان مرفها لا يغزو في الحروب فقيل له صفر استه يريدون صفرة الخلوق والطيب وقد قال هذه الكلمة قيس بن زهير في حذيفة يوم الهباءة ولم يقل أحد ان حذيفة كان مستوها فإذا لا يصح قول من قال في أبي جهل من قول عتبة فيه هذه الكلمة أنه كان مستوها.

وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة والخفض وتعيبه في الحرب أشد العيب وأحسب أن أبا جهل لما سلمت العير وأراد أن ينحر الجزر ويشرب الخمر ببدر وتعزف عليه القيان بها استعمل الطيب أو هم به فلذلك قال له عتبة هذه المقالة ، ألا ترى الى قول الشاعر في بني مخزوم :

٣٧٧

وأيّنا المفسد لقومه ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد وقالوا يا محمّد أخرج إلينا أكفاءنا من قريش فبرز إليه ثلاثة نفر من الأنصار فانتسبوا لهم فقالوا ارجعوا إنّما نريد الأكفاء فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عبيدة ابن الحارث وكان له يومئذ سبعون سنة فقال له قم يا عبيدة ونظر إلى حمزة وقال قم يا عمّ ثمّ نظر إلى عليّ بن أبي طالب وهو أصغر القوم فقال قم يا عليّ واطلبوا بحقّكم الّذي جعله الله لكم فلقد جائت قريش بخيلائها وفخرها « يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ وَيَأْبَى اللهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ».

ثمّ قال يا عبيدة عليك بعتبة ويا حمزة عليك بشيبة ويا عليّ عليك بالوليد فمرّوا حتّى انتهوا إلى القوم فقالوا أكفاء كرام فحمل عبيدة على عتبة فضربه على رأسه ضربة فلقت هامته وضرب عتبة عبيدة على ساقه فأظنّها فسقطا جميعا وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتّى انثلما وحمل أمير المؤمنين عليه‌السلام على الوليد فضربه على حبل عاتقه فأخرج السيف من إبطه فقال عليّ عليه‌السلام لقد أخذ الوليد يمينه بيساره فضرب بها على هامتي فظننت أنّ السماء وقعت على الأرض.

ثمّ اعتنق حمزة وشيبة فقال المسلمون يا عليّ أما ترى الكلب قد بهر عمّك فحمل عليه عليّ عليه‌السلام ثمّ قال يا عمّ طأطئ رأسك وكان حمزة أطول من شيبة فأدخل حمزة رأسه في صدره فضربه عليّ عليه‌السلام فطرح نصفه ثمّ جاء إلى عتبة وبه رمق فأجهز

__________________

ومن جهل أبو جهل أخوكم

غزا بدرا بمجمرة وتور

يريد انه تبخر وتطيب في الحرب وقوله « مصفر استه » انما أراد مصفر بدنه ، ولكنه قصد المبالغة في الذم ، فخص منه بالذكر ما يسوء أن يذكر ». انتهى وهذا كما ترى معنى بعيد من الكلام غاية البعد وعندي ان معنى قوله « مصفر استه » أن أبا جهل خاف وذعر من القتال حتى سلح وصفر استه بالعذرة فكما أن الجبان الذي ذعر ودهشة القتال ينتفخ سحرة ورئته حتى لا يتمكن من التنفس العادي بل يخفق قلبه ، قد يكون يسلح ويبول على نفسه فيصفر استه ثم إزاره أو سروا له ، وهذا معروف عند الناس بالكناية والتعبير لكنه مقذع.

٣٧٨

عليه وحمل عبيدة حمزة وعليّ حتّى أتيا به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستعبر فقال يا رسول الله ألست شهيدا قال : أنت أوّل شهيد من أهل بيتي.

وقال أبو جهل لقريش لا تعجلوا ولا تبطروا كما بطر أبناء ربيعة عليكم بأهل يثرب فاجزروهم جزرا وعليكم بقريش فخذوهم أخذا حتّى ندخلهم مكّة فنعرّفهم ضلالتهم وجاء إبليس في صورة سراقة مالك بن جعشم فقال لهم إنّي جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم فدفعوا إليه راية الميسرة وكانت الراية مع بني عبد الدار فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لأصحابه « غضّوا أبصاركم وعضّوا على النواجذ » ورفع يديه فقال « يا ربّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد » ثمّ أصابه الغشي فسري عنه وهو يسكب العرق عن وجهه فقال « هذا جبرئيل عليه‌السلام قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين ».

وروي عن سهل بن حنيف قال لقد رأينا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه من جسده قبل أن يصل إليه السيف وقتل ذلك اليوم من المشركين اثنان وسبعون من صناديدهم قتل عليّ عليه‌السلام منهم ستّة وثلاثين والملائكة وباقي المسلمين ستّة وثلاثين ولمّا ظفر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفرغ من الحرب قال له بعض أصحابه يا رسول الله عليك بالعير فإنّه ليس دونها ذائد فقال العباس وهو في القيد لا يصلح لك فقال عليه‌السلام ولم ذلك فقال إنّ الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك وهذه القصّة وقعت في البين (١).

وهنا فوائد :

١ ـ أنّ المراد بإحدى الطائفتين العير أو النفير وذات الشوكة هي النفير وغير ذات الشوكة [ هي ] العير والشوكة القوّة.

__________________

(١) ترى تفصيلها في كتب السير وكتب التفاسير ذيل الآية الشريفة راجع سيرة ابن هشام ج ١ ص ٦٠٦ ـ ٧١٥. مجمع البيان ج ٣ ص ٥٢١ ـ ٥٢٨. بحار الأنوار الطبعة الحديثة ج ١٩ ص ٢٠٢ ـ ٣٦٧. الدر المنثور ج ٣ ص ١٦٤ ـ ١٧٠.

٣٧٩

٢ ـ أنّه أخبرهم إجمالا أنّه وعدهم إحدى الطائفتين وأشار إلى أنّ الواقع هو الظفر بذات الشوكة لأنّه قال « وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ » وقال « وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » وقطع دابرهم هو الظفر بذات الشوكة وإذا أراد الله أمرا وجب وقوعه خصوصا إذا كان من أفعال نفسه وكانت إرادة العبد لا أثر لها ومن هذا المعنى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كأنّي أنظر إلى مصارع القوم. وقال العبّاس لا يصلح لك الظفر بالعير.

٣ ـ معنى قوله « يُحِقَّ الْحَقَّ » أي يثبته ويظهره « بِكَلِماتِهِ » أي آياته المنزلة أو أفعاله الخارقة للعادة كانزال الملائكة وقذف الرّعب في قلوب الكفّار وضرب الملائكة أعناقهم وقطع أيديهم. وقطع دابر الكافرين أي استيصالهم ودابر الإنسان عرقوبه ودابر الطائر كالإصبع يضرب بها وهذه الآية ليس فيها شي‌ء من فقه الجهاد ولكنّي ذكرتها وذكرت القصّة متابعة لمن تقدّمني ولما فيها من معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الثالثة عشر ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (١).

جنح أي مال والسلم المسالمة أي المصالحة قال ابن عباس هي منسوخة بقوله ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (٢) وقال الحسن وقتادة ومجاهد منسوخة بقوله ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (٣) والحقّ أنّها غير منسوخة لتعلّق الصلح برأي الامام وبحسب المصالح المتجدّدة ويدلّ على عدم نسخها أنّ قوله « فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ » نزلت في سنة تسع وبعث بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة ثمّ صالح أهل نجران على ألفي حلّة ألف في صفر وألف في رجب.

واعلم أنّ الصلح ويقال له الهدنة جائز شرعا لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صالح أهل مكّة عام الحديبية وكأنّ الآية إشارة إلى ذلك ثم إنّه إنّما يجوز مع رعاية المصلحة

__________________

(١) الأنفال : ٦٢.

(٢) براءة : ٣٠.

(٣) براءة : ٥.

٣٨٠