كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

كنز العرفان في فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
المطبعة: الحيدري
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

« نكفّر » قرئ بالرفع أي ونحن نكفّر وبالجزم عطفا على جواب الشرط ومن للتبعيض وقيل زائدة وهو ضعيف لضعف زيادتها في الإثبات.

القسم الثالث

( في أمور تتبع الإخراج )

وفيه آيات :

الاولى :( وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) (١).

هنا ثلاثة أحكام :

١ ـ الحضّ على الإنفاق بأنّه (٢) في الحقيقة عائد إلى المنفق فانّ الشخص إذا علم أنّ فائدة إنفاقه تعود إليه كان أشدّ انبعاثا على الإنفاق وأقوى داعية إليه والمراد بالخير هنا المال كقوله تعالى ( وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (٣).

٢ ـ ( وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ) وهو نفي ويراد به النهي كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « لا تنكح المرأة على عمّتها ولا خالتها » (٤) ومراده هنا لا تنفقوا شيئا إلّا ابتغاء وجه الله أي طلب وجه الله وفيه نهي عن الرّياء وطلب السمعة بالإنفاق وأمر بالإخلاص لما في الكلام من النفي والإثبات.

فائدة : ليس المراد بالوجه هنا العضو لاستحالة الجسميّة عليه تعالى ولا الذات لأنّها قديمة والقديم لا يراد حصوله بل المراد بالوجه الرّضى وإنّما حسن الكناية به عن الرضا لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه وإذا كرهه أعرض بوجهه

__________________

(١) البقرة : ٢٧٢.

(٢) لأنه خ.

(٣) العاديات : ٨.

(٤) سنن ابى داود ج ١ ص ٤٧٦.

٢٤١

عنه وكأنّ الفعل إذا أقبل عليه بالوجه حصل الرضا به فكان إطلاقه عليه من باب إطلاق السبب على المسبّب.

٣ ـ الحكم بأنّهم إذا فعلوا الإنفاق ابتغاء وجه الله يوفّ إليهم أجرهم وفاء تامّا من غير نقص. والخير هنا إيصال المال وفي الكلام حذف تقديره : يوفّ إليكم جزاؤه.

الثانية( لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (١).

لمّا ذكر ما ينبغي أن يكون عليه المنفق من الصفة ذكر الّذين ينبغي وصول النفقة إليهم واللّام متعلّقة بمحذوف يدلّ عليه ما تقدّم أي النفقة المذكورة للفقراء كأنّه سئل لمن هذه النفقة فأجيب « لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا » أي حبسوا أنفسهم للجهاد « لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ » أي سفرا للتكسّب وتحصيل المال أي إنّهم حبسوا أنفسهم للجهاد ولم يشتغلوا بغيره من التصرّفات التكسّبية حصر من لا يستطيع تصرّفا لا لعجزهم في نفس الأمر بل لرغبتهم في العبادة هكذا ينبغي أن يقال حتّى يكون في سياق مدحهم لا أنّهم تركوا الضرب لعجزهم بمرض أو خوف « يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ » بحالهم « أَغْنِياءَ » لتعفّفهم بعدم إظهارهم الحاجة والسؤال « تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ » أي لهم علامة يعرفون بها وهي صفرة اللّون ورثاثة الحال. والالحاف الإلحاح وهو أن يلازم المسؤول لا يفارقه إلّا بشي‌ء من قولهم لحفني فلان من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الله يحبّ الحييّ الحليم المتعفّف ويبغض البذيّ الشاكي الملحف » (٢) ونفي السؤال على وجه الالحاف

__________________

(١) البقرة : ٢٧٣.

(٢) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٨٧ الدر المنثور ج ١ ص ٣٥٩ وتجده مجزئا في السراج المنير ج ١ ص ٤١١ و ٤١٧ ولفظ الحديث ، ويبغض السائل الملحف.

٢٤٢

لا يستلزم نفي مطلق السؤال فيجوز أن يكونوا سائلين على وجه اللّطف وعلى ذلك كان حالهم وهو منصوب على المصدر أي لا يسألون سؤالا إلحافا.

إذا عرفت هذا فقيل : إنّ هؤلاء قوم من مهاجري قريش لم يكن لهم شي‌ء من الدنيا ولا عشائر في المدينة وكانوا يسكنون في صفّة المسجد فيتعلّمون القرآن باللّيل ويلتقطون النّوى بالنهار يخرجون مع كلّ سريّة يبعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا نحوا من أربعمائة رجل فمن كان عنده فضل رزق يأتيهم به إذا أمسى.

وعن ابن عبّاس « وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما عليهم فرأى جهدهم وفقرهم وطيب قلوبهم بذلك فقال « أبشروا يا أصحاب الصفّة فمن بقي من أمّتي على النعت الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم رفقائي » (١) بشّر (٢) [ رسول الله ] إلى من يحبس نفسه على طلب العلم وتشييد معالم الدين في هذا الزمان قائما بوظيفة ما يجب عليه من العبادة ملتزما بولاية أهل البيت عليهم‌السلام فإنّه إنشاء الله أفضل من أولئك ثمّ أكّد سبحانه الحثّ على الإنفاق بإعادة قوله « وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ » الآية وفي الآية إشارة إلى استحباب إعطاء أهل التجمّل والتعفّف والتوصّل إليهم بإعطاء الصدقة خصوصا من اتّصف بمزيد علم أو ورع في دين.

الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (٣).

نزلت في عمرو ابن الجموح وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال يا رسول الله بما ذا أتصدّق وعلى من أتصدّق فنزلت وقد عرفت أنّ خصوص السبب لا يخصّص العامّ بل هو على عمومه وليست منسوخة بآية الزكاة كما قال السدّي إذ لا مانع من إجراء حكمها ولا يقين بنسخها فيجوز حينئذ حملها على الصدقة الواجبة ولا ينافي ذكر الوالدين لوجوب نفقتهما المانع ذلك من إعطاء الواجبة لجواز إعطائهما لا في

__________________

(١) رواه الفخر الرازي في ذيل الآية ج ٧ ص ٨٥.

(٢) يشير خ.

(٣) البقرة : ٢١٥.

٢٤٣

جهة النفقة ولو من سهم الفقراء كاعطائهما ما يحتاجان إليه في طلب علم أو فعل عبادة زائدا عن قدر حاجتهما أو في مؤنة الزواج إذ لا يجب إعفاف الوالد والوجه حملها على العموم فيدخل الواجبة وغيرها من مندوبات الصدقات وواجبات النفقات وصلة الأرحام وغير ذلك وفي الآية إشارة إلى استحباب تخصيص القرابة [ بالإنفاق ] والخير هنا المال أيضا.

وهنا سؤال وهو أنّه سئل عمّا ينفق وأجاب بالمنفق عليهم والجواب قيل :إنّه من باب المغالطة وهو حمل كلام السائل على غير مطلوبه تنبيها على أنّه أولى به والأولى في الجواب هو أنّ سؤالهم لم يكن عن مطلق الإنفاق بل عن إنفاق المال النافع في الآخرة فالنافع هو فضل المسؤول عنه فأجاب بملزوم الفضل وهو أن يكون الإنفاق على المذكورين.

الرابعة ( وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (١).

عن الصادق عليه‌السلام « أنّ العفو هو الوسط من غير إسراف ولا إقتار » (٢) وعن الباقر عليه‌السلام « ما فضل عن قوت السنة قال ونسخ ذلك بآية الزكاة » (٣) وعن ابن عبّاس ما فضل عن الأهل والعيال أو الفضل عن الغنى وقيل هو أفضل المال وأطيبه.

وقرئ العفو بالرفع على الخبريّة أي الّذي ينفقونه هو العفو وقرئ بالنصب على المفعوليّة أي أنفقوا العفو.

روي أنّ رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغزوات فقال خذها منّي صدقة فأعرض عنه فأتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ، ثمّ أتاه من جانب آخر [ فقال له مثله ] فأعرض عنه ثمّ قال له هاتها مغضبا فأخذها وحذف بها حذفا لو أصابته لشجّته أو عقرته ثمّ قال يجي‌ء أحدكم بماله كلّه فيتصدّق

__________________

(١) البقرة : ٢١٩.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ١٠٦ مجمع البيان ج ٢ ص ٣١٦.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ١٠٦ مجمع البيان ج ٢ ص ٣١٦.

٢٤٤

به ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصدقة عن ظهر غنى » (١).

وهنا فوائد :

١ ـ كلام الصادق عليه‌السلام يدلّ على الالتزام بالأوساط في الإنفاق كلّه واجبا كان أو مندوبا صدقة وغيرها وهو طريق السلامة والأمن من الإفراط والتفريط الموبقين.

٢ ـ كلام الباقر عليه‌السلام يدلّ على استحباب الصدقة بما فضل عن القوت وبذلك وردت أخبار كثيرة وترغيبات عظيمة حتّى أنّ زين العابدين عليه‌السلام كان يتصدّق بفاضل كسوته.

٣ ـ كلام ابن عبّاس يدلّ على كراهية الصدقة بما هو توسعة على العيال ولذلك قال عليه‌السلام « لا صدقة وذو رحم محتاج » (٢) وعلى كراهية ما لم يبق غنى فان آل إلى الإعدام ولا كسب له ربّما يصير حراما خصوصا مع وجود العيال وعليه تحمل الرواية المذكورة لأداء ذلك إلى الإضرار الممنوع عقلا وشرعا وقال عليه‌السلام « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (٣).

٤ ـ القول الرابع يدلّ على أنّه يستحبّ الصدقة بالمال اللذيذ والشهيّ و

__________________

(١) سنن ابى داود ج ١ ص ٣٨٩ وأخرجه في المستدرك ج ١ ص ٥٤٤ عن غوالي اللئالي.

(٢) رواه في الاختصاص ص ٢١٩ عن الحسين بن على عليهما‌السلام ولفظه « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ابدء بمن تعول : أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك فأدناك ، وقال : لا صدقة وذو رحم محتاج ، وأخرجه في البحار ج ٢٠ ص ٣٩ وفي المستدرك ج ١ ص ٥٣٦ وأخرج بمضمونه في الجامع الصغير على ما في السراج المنير ج ١ ص ٢٢ ولفظه : ابدء بمن تعول وفي لفظ : ابدء بنفسك فتصدق عليها فان فضل شي‌ء فلا هلك فان فضل عن أهلك شي‌ء فلذي قرابتك فان فضل عن ذي قرابتك شي‌ء فهكذا وهكذا ( اى بين يديك وعن يمينك وشمالك ـ والحديث عن جابر ).

(٣) السراج المنير ج ٣ ص ٤٧٢.

٢٤٥

لذلك نقل عن الحسن عليه‌السلام (١) أنّه كان يتصدّق بالسكّر فقيل له في ذلك فقال : إنّي أحبّه وقال الله تعالى ( لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ ) (٢).

الخامسة ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ‌ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ ) (٣).

المنّ هو أن يقول له ألم أعطك كذا ألم أحسن إليك وشبه ذلك والأذى أن يقول أراحني الله منك أو يعبّس في وجهه أو يجبّهه بالكلام أو يتناقص به وبالجملة المنّ والأذى يشتركان في كلّ ما ينغّص الصنيعة ويكدّرها وإنّما كانا مبطلين للصدقة لأنّ صدورهما يكشف عن كون الفعل لم يقع خالصا لله تعالى وهو معنى بطلانه فانّ من كان موطّنا نفسه على طاعة الله وطلب مرضاته لا يصدر عنه إلّا الخيرات وذلك في هذا الباب إمّا إعطاء السائل أو ردّه بأحسن الردّ كأن يقول رزقك الله أو سهّل الله عليك وشبهه وإن صدر عن الفقير سوء كلام أو تعنيف في السؤال غفر له ولم يؤاخذه به وإلى الأوّل أشار من قبل بقوله « قَوْلٌ مَعْرُوفٌ » إشارة إلى حسن الردّ « وَمَغْفِرَةٌ » إشارة إلى العفو عن سوء يقع من السائل كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « إذا لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم » (٤) ويحتمل أن يريد بالقول

__________________

(١) المروي في الكافي ج ٤ ص ٦١ ح ٤ إسناده الى ابى عبد الله عليه‌السلام ونقله في الدر المنثور ج ٢ ص ٥١ عن ابن عمر.

(٢) آل عمران : ٩٢.

(٣) البقرة : ٢٦٤.

(٤) رواه في الجامع الصغير كما في السراج المنير ج ٢ ص ٣٩ ولفظه : انكم لا تسعون للناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق ، ورواه في كتاب

٢٤٦

المعروف والمغفرة ما هو أعمّ [ من ذلك ] كسائر الأخلاق الحسنة فيدخل حسن الردّ وغيره.

ثمّ إنّه تعالى جعل المانّ بصدقته والمؤذي لمن يتصدّق عليه كالمرائي بنفقته وكالمنفق الّذي لا يؤمن بالله و [ لا ] باليوم الآخر فانّ قوله « كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ » صفة لمصدر محذوف أي إبطالا كابطال الّذي ينفق ماله فانّ كلّ واحد من الرياء والكفر سبب تامّ لعدم فائدة الإنفاق وفي الحقيقة يندرج المان والمؤذي والمرائي في عدم الايمان بالله إذ لو كان مؤمنا به ومصدّقا بصفاته الكماليّة لما أشرك معه غيره فيما غايته الإخلاص له وطلب مرصاته ، هذا وإنّه تعالى جعل مثل الّذي ينفق ماله رئاء أو ينفقه ولا يؤمن بالله واليوم الآخر « كَمَثَلِ صَفْوانٍ » أي حجر أملس « عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ » أي مطر عظيم القطر « فَتَرَكَهُ صَلْداً » أي أجرد نقيّا بلا تراب فالصفوان مثل للنفس والتراب مثل للإنفاق والوابل مثل للرياء والكفر وزوال التراب عنه مثل لزوال فائدة الإنفاق وقوله « لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ‌ءٍ مِمّا كَسَبُوا » أي لا يجدون يوم القيامة شيئا من ثواب ما كسبوا « وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ » أي لا يلطف لهم لطفا يجبرهم على فعل الطاعة لمنافاة ذلك الحكمة.

وفي وضع الكافرين موضع المرائين تشديد عظيم لحال الرياء وأنّه والشرك في واد واحد ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله « الشرك في أمّتي أخفى من [ دبيب ] النملة السوداء في اللّيلة الظلماء [ على الصخرة الصمّاء ] (١) » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قيل وما الشرك الأصغر قال الرياء » (٢).

__________________

الأخلاق كما في المستدرك ج ٢ ص ٨٣ ولفظه : يا ايها الناس انى اعلم انكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بالطلاقة وحسن الخلق. ورواه في مشكوة الأنوار كما في المستدرك أيضا ولفظه : يا بنى عبد المطلب انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.

(١) السراج المنير ج ٢ ص ٣٧٤ و ٣٧٥. بألفاظ مختلفة.

(٢) الدر المنثور ج ٤ ص ٢٥٦. عن احمد والبيهقي.

٢٤٧

السادسة ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلّى ) (١).

قيل المراد بمن تزكّى أي [ من ] أدّى زكاة الفطرة وصلّى صلاة العيد وبه قال ابن عمر وأبو العالية وابن سيرين وروي ذلك مرفوعا عن أئمّتنا عليهم‌السلام (٢) وتفصيلها وتفصيل ما تقدّم من الزكاة معلوم من بيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان الأئمّة عليهم‌السلام فلنقتصر على ذلك.

كتاب الخمس

وهو اسم لحقّ يجب في المال يستحقّه بنو هاشم وله شروط وتفصيل وفيه آيات :

الاولى ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ) (٣).

اعلم أنّ البحث في هذه الآية على أقسام ثلاثة :

القسم الأول

الغنيمة في الأصل هي الفائدة المكتسبة والنفل واصطلح جماعة على أنّ ما أخذ من الكفّار إن كان من غير قتال فهو في‌ء وإن كان مع القتال فهو غنيمة و

__________________

(١) الأعلى : ١٤ و ١٥.

(٢) راجع مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٧٦.

(٣) الأنفال : ٤١.

٢٤٨

هو مذهب أصحابنا والشافعيّ وهو مرويّ عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (١) وقيل إنّهما بمعنى واحد. ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفي‌ء للإمام خاصّة والغنيمة يخرج منها الخمس كما يجي‌ء والباقي بعد المؤن للمقاتلين ومن حضر وسيأتي بيانه أمّا في باب الخمس فعمّم أصحابنا موضوعها بأنّه جميع ما يستفاد من أرباح التجارات والزراعات والصناعات زائدا عن مؤنة السنّة والكنوز والمعادن والغوص والحلال المختلط بالحرام ولا يتميّز المالك ولا قدر الحرام وأرض الذمّيّ الّذي اشتراه من مسلم وما يغنم من دار الحرب كما تقدّم.

وعند الفقهاء أنّ الغنيمة هنا هي ما أخذ من دار الحرب لا غير دون الأشياء المذكورة نعم أوجب الشافعيّ في معدن الذّهب والفضّة الخمس دون باقي المعادن وقال أبو حنيفة يجب في المنطبع خاصّة ، فقد ظهر لك أنّ أصحابنا عمّموا موضوع الخمس وعلى قولهم دلّت الروايات عن أئمّتهم عليهم‌السلام.

إن قلت قوله تعالى « من شي‌ء » يدلّ على وجوب الخمس في كلّ ما يغنم حتّى الخيط والمخيط كما قيل وهو لا يتوجّه على قولكم فإنّكم تشترطون النصاب في الكنز والمعدن والغوص قلت : اللّفظ وإن اقتضى العموم لكنّ البيان من الأئمّة عليهم‌السلام خصّصه وحصره.

القسم الثاني

في كيفيّة قسمته ويظهر منه من يستحقّه. فنقول اتّفق علماء الجمهور على أنّ اسم الله هنا للتبرّك وأنّ قسمة الخمس على الخمسة (٢) المذكورين في الآية في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم وبنو [ عبد ] المطّلب دون بني عبد الشمس وبني نوفل لقوله عليه‌السلام « إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة

__________________

(١) راجع الوسائل أبواب الخمس والأنفال وأرسله في مجمع البيان ج ٤ ص ٥٤٣.

(٢) الجمل ، خ.

٢٤٩

ولا إسلام وبنو هاشم وبنو المطّلب شي‌ء واحد وشبّك بين أصابعه وإنّ الثلاثة الباقية من باقي المسلمين » (١).

وأمّا بعد حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال مالك : الأمر فيه إلى الامام يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب وقال أبو حنيفة يسقط سهمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وسهم ذي القربى وصار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين وقال الشافعيّ إنّ سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين وقيل إلى الامام وقيل إلى الأقسام الأربعة ونقل الزمخشري في الكشّاف عن ابن عباس أنّه كان يقسّم على ستّة : لله والرسول سهمان وسهم لأقاربه حتّى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وكذلك روي عن عمر وباقي الخلفاء بعده قال وروي أنّ أبا بكر منع بني هاشم من الخمس وقال إنّما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيّمكم ويخدم من لا خادم له منكم فأمّا الغنيّ منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنيّ لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر ونقل عن عليّ عليه‌السلام أنّه قيل له إنّ الله تعالى يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » فقال : « أيتامنا ومساكيننا » وعن الحسن البصريّ أنّ سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لوليّ الأمر بعده هذا.

وقال أصحابنا الإماميّة إنّه يقسم ستّة أقسام ثلاثة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته وبعده للإمام القائم مقامه وهو المعني بذي القربى والثلاثة الباقية لمن سمّاهم الله تعالى من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم وقولهم هو الحقّ أمّا أوّلا فلأنّه لا يلزمهم مخالفة الآية الكريمة بسبب إسقاط سهم الله من البين وكذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته وأمّا ثانيا فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم‌السلام وكذا نقله الخصم عن عليّ عليه‌السلام وعن ابن عبّاس كما حكيناه عن الزمخشريّ وأمّا ثالثا فلأنّا إذا أعطيناه لفقراء ذوي القربى من اليتامى والمساكين وابن السبيل جاز بالإجماع

__________________

(١) رواه أبو داود ج ٢ ص ١٣١ و ١٣٢ وأخرجه السيوطي في الدر المنثور ج ٣ ص ١٨٧ ورواه الشافعي كما في مشكاة المصابيح ص ٣٥١.

٢٥٠

وبرئت الذمّة يقينا وإذا أعطيناه غيرهم لم يجز عند الإماميّة فكان التخصيص بذوي القربى أحوط.

إن قلت : لفظ الآية عامّ قلت : ما من عامّ إلّا وقد خصّ فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كزين العابدين والباقر والصادق وأولادهم عليهم‌السلام على أنّا نقول لفظ الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق فانّ ذي القربى مخصوص ببني هاشم ، واليتامى والمساكين وابن السبيل عامّ في المشرك والذمّيّ وغيرهم مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.

قال السيّد المرتضى : كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الإمام القائم مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ لو أراد الجميع لقال ذوي [ القربى ] وفيه نظر لجواز إرادة الجنس. قوله إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم لزم أن يكون ما عطف عليه أعني اليتامى والمساكين وابن السبيل من غيرهم لا منهم لأنّ العطف يقتضي المغايرة وفيه نظر أيضا لجواز عطف الخاصّ على العامّ لمزيد فائدة ووفور عناية فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المجملات على بيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان الأئمّة عليهم‌السلام بعده.

القسم الثالث

في الآية المذكورة من التواكيد ما ليس في غيرهافإنّه صدّرها بالأمر بالعلم أي يتحقّق عندكم ذلك حتّى أنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا ثمّ أتى بأنّ المؤكّدة في موضعين ثمّ قال « إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ » وهو متعلّق بمحذوف أي كون الخمس لهؤلاء المذكورين واجب فأدّوه إن كنتم آمنتم بدليل « فاعلموا » لأنّ المراد هنا من العلم العمل بمقتضاها قال الواقديّ : نزل الخمس في غزاة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيّام للنصف من [ شهر ] شوّال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وعن الكلبيّ نزلت ببدر.

قوله تعالى ( وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا ) أي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من النصر بالملائكة والفتح وغير ذلك من الآيات « يَوْمَ الْفُرْقانِ » وهو يوم بدر لأنّه فرّق بين الحقّ والباطل

٢٥١

و « يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ » بدل من « يَوْمَ الْفُرْقانِ » والجمعان أهل بدر وقريش وعن الصادق عليه‌السلام أنّه كان التاسع عشر من [ شهر ] رمضان والمشهور أنّه السابع عشر منه « وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ » أي قادر على نصر القليل على الكثير والذليل على القويّ.

الثانية ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (١).

وكذا قوله تعالى ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) (٢).

اعلم أنّ المراد بذي القربى في هذه الآية وأمثالها هو قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإعطاؤه حقّه هو إعطاؤه ما وجب له من الخمس وغيره ، روى السدّيّ « قال : إنّ زين العابدين عليه‌السلام قال لرجل من أهل الشام حين بعث به عبيد الله بن زياد إلى يزيد ابن معاوية : أقرأت القرآن؟ قال نعم قال أما قرأت « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » قال وإنّكم ذوو القربى قال (٣) نعم » وفي تفسير الثعلبيّ « عن منهال بن عمرو قال سألت زين العابدين عليه‌السلام عن الخمس فقال هو لنا فقلت إنّ الله يقول « وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ » قال يتامانا ومساكيننا » (٤).

وروى العيّاشيّ عن الصادق عليه‌السلام قال : « كتب نجدة الحروريّ إلى ابن عباس يسئل عن موضع الخمس فكتب إليه ابن عبّاس أمّا الخمس فانّا نزعم أنّه لنا ويزعم قومنا أنّه ليس لنا فصبرنا » (٥) وعن الصادق عليه‌السلام « قال : إنّ الله لمّا حرّم علينا

__________________

(١) الاسراء : ٢٦.

(٢) النحل : ٩٠.

(٣) مجمع البيان ج ٦ ص ٤١١ ومثله في الدر المنثور ج ٤ ص ١٧٦ قال أخرجه ابن جرير.

(٤) مجمع البيان ج ٤ ص ٥٤٥.

(٥) تفسير العياشي ج ٢ ص ٦١ ومثله في الدر المنثور ج ٣ ص ١٨٦ قال : أخرج الشافعي وعبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس. ثم قال وأخرج ابن

٢٥٢

الصدقة أنزل لنا الخمس فالصدقة علينا حرام والخمس لنا فريضة والكرامة لنا حلال » (١) وعن الرضا عليه‌السلام « إنّ الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا وعلى موالينا وما نفكّ وما نشتري من أعراضنا ممّن نخاف سطوته فلا تزووه (٢) عنّا ولا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم عليه فانّ إخراجه مفتاح رزقكم وتمحيص ذنوبكم وما تمهّدون لأنفسكم ليوم فاقتكم والمسلم من لقي الله بما عاهد وليس المسلم من أجاب باللّسان وخالف بالقلب » (٣).

وروى عليّ بن أسباط قال لما ورد الكاظم عليه‌السلام على المهديّ العبّاسيّ وجده يرد المظالم فقال : ما بال مظلمتنا لا تردّ. فقال وما هي يا أبا الحسن فقال إنّ الله لمّا فتح على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فدكا وما والاها ممّا لم يوجف عليه أنزل الله عليه « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » فلم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هم فراجع جبرئيل عليه‌السلام في ذلك فسأل الله عزوجل فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة عليها‌السلام فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال لها إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك فقالت قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك وساق الحديث إلى أن ذكر قصّة أبي بكر وعمر معها فقال له المهديّ حدّها فحدّها فقال هذا كثير وأنظر فيه » (٤).

__________________

أبي شيبة وابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس رضى الله عنهما أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر الله فكتب إليه انا كنا نرى أناهم فأبى ذلك علينا قومنا وقالوا : « قريش كلها ذوو قربى » ويقول لمن تراه فقال ابن عباس رضى الله عنهما هو لقربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قسمه لهم رسول الله وقد كان عمر رضى الله عنه عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضى عن غارمهم وأن يعطى فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك.

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ٦٤.

(٢) فلا تذودوه خ.

(٣) الوسائل ب ٣ من أبواب الأنفال ح ٢.

(٤) أصول الكافي ج ١ ص ٤٤٥.

٢٥٣

الثالثة ( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (١).

اختلف في الأنفال ما هي فقال ابن عبّاس وجماعة إنّها غنيمة بدر وقال قوم هي أنفال السرايا وقيل هي ما شذّ من المشركين من عبد وجارية من غير قتال وقال قوم هي الخمس والصحيح ما قاله الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّها ما أخذ من دار الحرب من غير قتال كالّذي انجلى عنها أهلها وهو المسمّى فيئا وميراث من لا وارث له وقطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة والآجام وبطون الأودية والموات فإنّها لله ولرسوله وبعده لمن قام مقامه يصرفه حيث يشاء من مصالحه ومصالح عياله (٢) وقال الصادق عليه‌السلام « إنّ غنائم بدر كانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة فقسّمها بينهم تفضّلا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) وهو مذهب أصحابنا الإماميّة ويؤيّده أنّ الأنفال جمع نفل وهو الزيادة على شي‌ء سمّي به لكونه زائدا على الغنيمة كما سمّيت النافلة نافلة لزيادتها على الفرض وسمّي ولد الولد نافلة لزيادته على الأولاد وقيل سمّيت الغنيمة نفلا لأنّ هذه الأمّة فضّلت بها على سائر الأمم. وهنا فوائد :

١ ـ هل الآية منسوخة؟ قال جماعة من المفسّرين نعم نسخت بآية ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) إلخ (٤) وقال الطبريّ وأصحابنا ليست منسوخة وهو الحقّ لعدم المنافاة بينها وبين آية الخمس لما ذكرنا من المغايرة بين الموضوعين.

٢ ـ هل حكم الأنفال باق بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال سعيد بن المسيّب وجماعة لا نفل بعده ومنعه جماعة من الفقهاء وأصحابنا لما بيّنّا أنّها للإمام القائم مقامه.

__________________

(١) الأنفال : ١.

(٢) تفسير العياشي ج ٢ ص ٤٧ ، الوسائل ب ١ من أبواب الأنفال فيه ٣٣ حديثا.

(٣) مجمع البيان ج ٤ ص ٥١٧.

(٤) الأنفال : ٤١.

٢٥٤

٣ ـ قال قوم : إنّها نزلت في غنائم بدر لاختلاف وقع بينهم فيها (١) وقيل : إنّ أصحابه سألوه غنيمة بدر فأعلمهم الله أنّ ذلك لله ولرسوله ليس لهم فيه شي‌ء وعن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم بدر من فعل كذا فله كذا فانبعث الشبّان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلمّا كانت [ وقت ] (٢) الغنيمة جاءت الشبّان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فانّا كنّا ردءا لكم فنزلت الآية فقسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم بالسويّة وقال عبادة بن الصامت اختلفنا في النفل وساءت فيه اختلافنا فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقسّمه بيننا على السواء.

٤ ـ فايدة الجمع بين الله و [ بين ] رسوله في الآية كفائدته في قوله تعالى ( فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ) (٣) أي ملكه لله ورسوله وتخصيصها علم بفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ فعله حجّة كقوله وقال الزمخشريّ إنّ حكمها يختصّ بهما : الله حاكم والرسول منفذ.

٥ ـ « فَاتَّقُوا اللهَ » أي في المنازعة في الأنفال « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي الحال الّتي بينكم من المنازعة وقال الزجّاج « ذاتَ بَيْنِكُمْ » أي حقيقة وصلكم ومنه ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ) (٤) أي وصلكم واجتماعكم على أوامر الله « وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ » إن كنتم كاملين في الإيمان أو أنّ طاعة الله ورسوله من لوازم الايمان فالتزموا باللّازم إن كنتم صادقين في الملزوم.

الرابعة (٥) ( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ

__________________

(١) راجع الدر المنثور ج ٣ ص ١٥٨ ، سيرة ابن هشام ج ١ ص ٦٦٦.

(٢) فلما جمعت الغنيمة خ ل.

(٣) الأنفال : ٤١.

(٤) الأنعام : ٩٤.

(٥) في النسختين المطبوعتين : « السادسة ( ٦ ـ و ) قوله تعالى « وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ » أى والذي أفاءه الله » إلخ من دون ذكر الآية بتمامها وهو سهو والصحيح ما أثبتناه في الصلب وفقا للنسخ المخطوطة التي عندنا فإنها آية مستقلة كالثالثة معطوفة عليها.

٢٥٥

وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ ) (١).

أي والّذي أفاءه الله أي ردّه إليه من أموال اليهود فذلك لم توجفوا أي لم تسيروا إليه بخيل ـ والإيجاف من الوجيف وهو سرعة السير ـ ولكن بقدرة الله تعالى وتسليطه لرسوله عليهم.

ثمّ قال ( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) (٢) بيان للأولى ولذلك لم يعطفه عليه « فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » قيل كان قسمة الفي‌ء في مبدء الإسلام هكذا مسدّسة ثمّ نسخ ذلك بالآية المتقدّمة. ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ ) (٣) وقيل بل ذلك إشارة إلى قسمة غنيمة بدر الّتي كانت تختصّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفيه نظر لأنّ هذه على تقدير كونها بيانا للأولى تكون في أحكام بني النضير والأولى والله أعلم أن لا تكون بيانا بل تكون إشارة إلى قسمة الخمس ستّة أقسام ويكون المذكورون مع الرسول هنا هم مستحقّي الخمس وقد تقدّم بيانهم وهذا أجود الوجوه ويكون قوله تعالى ( كَيْ لا يَكُونَ ) أي الّذي أفاءه الله على رسوله « دُولَةً » أي متداولا « بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ » فيمنعونه مستحقّه.

واعلم أنّ لمباحث الخمس تفصيلا وشروطا علمت من بيانه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان الأئمّة [ المعصومين ] عليهم‌السلام مذكورة في كتب الفقه (٤).

__________________

(١) الحشر : ٦.

(٢) الحشر : ٧.

(٣) الأنفال : ٤١.

(٤) لا يخفى أن في نسخة من النسخ المخطوطة التي عندنا وهي المؤرخة كتابتها بسنة ٩٧٩ تأخير كتاب الصوم الى هنا فيكون ترتيبه بعد كتاب الصلاة : كتاب الزكاة ، كتاب الخمس ، كتاب الصوم ، كتاب الحج ، وباقي النسخ على ما أثبتناه كالمطبوعتين.

٢٥٦

كتاب الحج

وهو لغة القصد المتكرّر وشرعا قيل هو القصد إلى بيت الله لأداء مناسك مخصوصة عنده وفيه نظر لاستلزامه خروج عرفة ومناسك منى من البين بل خروج سائر المناسك لانطباقه على من يقصد البيت لأداء المناسك ولم يؤدّها وقيل هو اسم لمجموع المناسك المؤدّاة في المشاعر المخصوصة وفيه أيضا نظر لأنّ من أخلّ ببعضها سهوا ممّا ليس بمبطل للحجّ يصحّ حجّه ويسمّى حاجّا مع أنّه ما أتى بمجموع المناسك ولأنّه إن أراد المناسك الصحيحة لم يحتج إلى قوله المؤدّاة في المشاعر المخصوصة لأنّ الصحيح لا يكون إلّا كذلك وإن أراد الأعمّ دخل الفاسد هذا مع انطباقه على كلّ عبادة مقيّدة بمكان.

والأولى أن يقال إنّه القصد إلى بيت الله بمكّة مع أداء مناسك مخصوصة في مشاعر مخصوصة هناك.

واعلم أنّ التعريف الثاني فيه استعمال النقل والأوّل والثالث فيهما التخصيص وهو خير من النقل.

والحجّ من أعظم أركان الإسلام وأفضلها لأنّه تكليف شاقّ جامع بين كسر النفس وإتعاب البدن وصرف المال والتجرّد عن الشهوات والإقبال على الله وهو من المعلوم وجوبه ومشروعيّته من دين الإسلام ضرورة والبحث [ فيه ] هنا أنواع :

٢٥٧

[ النوع ] الأول

( في وجوبه )

وفيه آيتان :

الاولى :( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (١).

اللّام في « لَلَّذِي » لام تأكيد وقع في خبر إنّ و « مُبارَكاً » منصوب على الحال قيل والعامل فيه وضع وقيل العامل متعلّق الجارّ والمجرور يعني « بِبَكَّةَ » أي استقرّ ببكّة مباركا فعلى الأوّل يجوز أن يكون قد وضع قبله بيت وعلى الثاني لا يجوز. وبكّة ومكّة لغتان (٢) وقيل مكّة البلد كلّه وبكّة موضع المسجد وقيل هو مشتقّ من بكّة إذا زحمه سمّيت بذلك لازدحام الناس بها وقيل لأنّها تبك أعناق الجبابرة أي تدقّها إذا قصدوها بالأذى وهنا بحثان :

__________________

(١) آل عمران : ٩٦.

(٢) لمكة زادها الله شرفا سبعة عشر اسما :

١ و ٢ ـ مكة وبكة ، قال الماوردي في الأحكام السلطانية في الباب الرابع عشر ص ١٥٧ : اختلف الناس في هذين الاسمين فقال قوم هما لغتان والمسمى بهما واحد لان العرب تبدل الميم بالباء فتقول ضربة لازم وضربة لازب لقرب المخرجين وهذا قول مجاهد ، وقال آخرون : بل هما اسمان والمسمى بهما شيئان لأن الاختلاف في الأسماء موضوع لاختلاف المسمى ، ومن قال بهذا اختلف في المسمى بهما على قولين أحدهما ان مكة اسم للبلد كله وبكة اسم البيت وهذا قول إبراهيم النخعي ويحيى بن أبي أيوب ، والثاني

٢٥٨

[ البحث ] الأول

قوله « وُضِعَ لِلنّاسِ » أي لعبادتهم سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أوّل مسجد وضع فقال المسجد الحرام ثمّ بيت المقدس وسئل عليّ عليه‌السلام أهو أوّل بيت قال لا قد كان قبله بيوت لكنّه أوّل بيت وضع للناس وأوّل من بناه إبراهيم عليه‌السلام ثمّ بناه قوم من العرب من جرهم ثمّ هدم فبنته العمالقة ثمّ هدم فبناه قريش وعن ابن عباس هو أوّل بيت حجّ بعد الطوفان وقيل أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماوات

__________________

أن مكة الحرم وبكة المسجد ، وهو قول الزهري وزيد بن أسلم انتهى ما في الأحكام السلطانية.

وفي تفسير البرهان ج ٢ ص ٣٠٠ عن جابر عن ابى جعفر عليه‌السلام أن بكة موضع البيت وان مكة جميع ما اكتنفه الحرم وفيه عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام سألته : لم سميت بكة بكة؟ قال لان الناس يبك بعضهم بعضا بالأيدي ، وفي رواية عن موسى بن جعفر عليه‌السلام يعنى يدفع بعضهم بعضا بالأيدي في المسجد حول الكعبة.

٣ ـ صلاح على وزن قطام ، قال الماوردي : سميت بها لا منها وأنشد :

أبا مطر هلم الى صلاح

فيكفيك التدامى من قريش

وتنزل بلدة عزت قديما

وتأمن أن يزورك رب جيش

٤ ـ أم رحم ، قال الماوردي : لان الناس يتزاحمون بها ويتنازعون ، قلت وأظن أنه من غلط الناسخ والظاهر أن الأصل : لأن الناس يتراحمون فيها ويتوادعون ، وكذلك نقله النووي عنه في تهذيب الأسماء واللغات ، وأم رحم بالراء المهملة المضمومة والحاء المهملة الساكنة ، صرح به ياقوت في معجم البلدان.

٥ ـ إلباسه ، قال الماوردي : لأنها تبس من ألحد ، أى تحطمه وتهلكه ، قال : ومنه « وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ».

٦ ـ البساسة ، في الخصال ج ١ ص ١٣١ أبواب الخمسة : عن أبى عبد الله عليه‌السلام أن أسماء مكة خمسة : أم القرى ، ومكة ، وبكة ، والبساسة ، إذا ظلموا بها بستهم أى أخرجتهم وأهلكتهم ، وأم رحم إذا لزموا رحموا.

٧ ـ الناسة ، قال الماوردي معناه أنها تنس من ألحد فيها أى تطرده وتنفيه

٢٥٩

والأرض خلقه الله قبل أن خلق الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ثمّ دحيت الأرض من تحته وهذا القول محمول على مكان البيت نفسه وقيل أوّل بيت بناه آدم عليه‌السلام في الأرض وقيل [ إنّه ] لمّا اهبط آدم عليه‌السلام قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الضراح فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة تطوف به الملائكة وقيل إنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان (١)

وعن أبي خديجة « عن الصادق عليه‌السلام أنّ الله أنزله من الجنّة وكان درّة بيضاء فرفعه الله إلى السماء وبقي أساسه وبني بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون

__________________

وقال الجوهري في صحاحه : قال الأصمعي : النس اليبس قال : ومنه قيل لمكة الناسة لقلة مائها.

٨ ـ الحاطمة ، لحطمها الملحدين.

٩ ـ الرأس ، قال ياقوت : لأنها مثل رأس الإنسان.

١٠ ـ كوبى ، باسم بقعة كانت منزل بنى عبد الدار ، ذكره ياقوت.

١١ و ١٢ ـ القادس والمقدسة ، لأنها تقدس من الذنوب اى تطهر.

١٣ ـ العرش.

١٤ ـ المذهب ذكره ياقوت وأنشد معه شعرا.

١٥ و ١٦ و ١٧ ـ البلد ، والبلد الأمين ، وأم القرى. سماها الله تعالى كما تقرأ ( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى ) الآية ٩٢ سورة الانعام ، ( وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ) الآية ٣ سورة التين و ( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ) سورة البلد الآية الاولى.

وفي تفسير البرهان ج ٢ ص ٥٤٠ عن العياشي ، عن على بن أسباط قال قلت لأبي جعفر عليه‌السلام لم سمي النبي الأمي قال نسب إلى مكة وذلك من قول الله تعالى ( لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) وأم القرى مكة ومن حولها الطائف.

قال الشريف الرضى في كتابه تلخيص البيان ص ٣٦ : والمراد بأم القرى مكّة وانما سماها سبحانه بذلك لأنها كالأصل للقرى وكل قرية كأنما هي طارئة ومضافة إليها.

(١) راجع الأقوال والروايات في الدر المنثور ج ٢ ص ٥٢ وفيه مزيد فائدة.

٢٦٠