السراج الوهّاج

الشيخ إبراهيم بن سليمان البحراني [ الفاضل القطيفي ]

السراج الوهّاج

المؤلف:

الشيخ إبراهيم بن سليمان البحراني [ الفاضل القطيفي ]


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٢

فلما ولي عمر بن عبد العزيز رجع الى ثلاثين ألف ألف في أول سنة وفي الثانية بلغ ستين ألف ألف فقال : لو عشت سنة أخرى لرددتها الى ما كان في أيام عمر فمات تلك السنة ، وكذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام لما اقضي الأمر إليه أمضى ذلك لأنه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما يجب عنده فيه ، والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة أن يكون خمسها لأهل الخمس وأربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة ، يكون الغانمين وغير الغانمين في ذلك سواء ، ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما يبوء بهم من سد الثغور ومئونة المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح ، وليس الغانمين في هذه الأرضين خصوصا شي‌ء بل هم والمسلمون فيه سواء ، ولا يصح بيع شي‌ء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تملكه ولا وقفه ولا إجارته ولا إرثه ، ولا يصح أن نبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف الذي تتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق على الأصل ، وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسر أو فرقة غزت بغير إذن الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصة هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين إن صح شي‌ء من ذلك يكون للإمام خاصة ويكون من جملة الأنفال التي لا خاصة لا يشركه فيها غيره (١).

أقول : لا خفاء ولا شبهة أن الشيخ رحمه‌الله بهذا الكلام حاكم أن الفتح كان بغير إذن علي عليه‌السلام لأنه حكم بأنه على الرواية يكون من الأنفال ، والرواية تضمنت أن ما فتح له بغير إذنه يكون له ، فلو لا أن عدم الاذن محقق عنده لم يحكم بأنها من الأنفال على الرواية بلا مرية لأنه لا يلزم من الرواية أن ما فتح بإذنه من

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٣٣.

٨١

الأنفال بل ما فتح بغير إذنه ، وقد حكم على الرواية بأن العراق وسائر ما فتح في غير أيام علي عليه‌السلام يكون من الأنفال ، وهذا صريح ينادي من له أدنى تأمل بأن غزو العسكر لم يكن بإذن أمير المؤمنين عليه‌السلام وأن مذهب الشيخ أنها من الأنفال لأنه مفت بمقتضى الرواية وجازم بها في كتبه بل ادعى في بعضها الإجماع على مقتضاها كما أسلفنا حكاية عنه.

إن قلت ما قد قال سابقا والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها ينافي حكمه بكونها من الأنفال على الرواية لأن الرواية عنده محققة مجزوم (١) بها كما ذكرته عند في هذا الكتاب وغيره كالنهاية (٢) فما الجمع بين كلاميه؟

قلت : وجه الجمع بين كلاميه أن يحمل الكلام الأول على الرد على العامة بتقدير الفتح عنوة ، فإن الذي يقتضيه المذهب في المفتوح عنوة ما ذكره ، وعند الشافعي أن حكمه حكم ما ينقل ويحول ، (٣) وبه قال الزبير ، وذهب قوم الى أن الامام مخير فيه بين شيئين بين أن يقسمه على الغانمين وبين أن ينفقه على المسلمين. ذهب اليه عمر ومعاد الثوري وعبد الله بن المبارك ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه الى أن الامام مخير فيه بين ثلاثة أشياء : بين أن يقسمه على الغانمين وبين أن ينفقه على المسلمين وبين أن يقر أهلها عليها ويضرب عليهم الجزية باسم الخراج ، فإن شاء أقر أهلها الذين كانوا فيها ، وإن شاء أخرج أولئك وأتى بقوم آخرين من المشركين وأقمرهم فيها وأضرب عليهم الجزية باسم الخراج ، وذهب مالك الى أن ذلك يصير وقفا على المسلمين بنفس الاغتنام والأخذ من غير إنفاق الامام ، ولا يجوز بيعه ولا شراؤه ، (٤) فلما علم الشيخ أنهم اتفقوا على أنها

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٧ ـ ص ١٥٢ ـ حديث ٢٣ ـ ٦٧٤ ـ من باب ١١ في أحكام الأرضين.

(٢) النهاية في مجرد والفتاوى ـ كتاب الزكاة ـ ص ٢٠٠.

(٣) الام ـ ج ٤ ـ ص ١٤٠ ـ كتاب الوصايا ـ تفريق القسم فيما أوجف عليه الخيل والركاب.

(٤) الخلاف ـ ج ٢ ـ ص ٣٣٣ ـ المسألة ١٨ و١٩ من كتاب الفي‌ء وقسمة الغنائم ـ ط « إسماعيليان ».

٨٢

فتحت عنوة وأن أكثر مذاهبهم ليس على ما هو الحق في المفتوح عنوة أشار إلى أن الذي يقتضيه المذهب في المفتوح عنوة ما ذكره بين ذلك للرد عليهم ، ثم أشار الى ما هو مذهب الإمامية واختيارهم وذكر سند اختيارهم وهو الرواية ، فهذا حقيقة كلام الشيخ رحمه‌الله يعرفه من دعاه ومن تدبر مباحثه في كتبه خصوصا المبسوط ، (١) وكيف يليق غير هذا وهو حاكم مفت بمقتضى الرواية وحاكم أن الأمر على مقتضاها أن يكون العراق من الأنفال.

قال المؤلف في آخر المقدمة : فإن قلت أليس قد قال الشيخ في المبسوط ما صورته : وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير إذن الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام عليه‌السلام خاصة (٢) تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول إلا ما فتح بعد في أيام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ إن صح شي‌ء من ذلك ـ يكون للإمام خاصة ويكون من جملة الأنفال التي لا يشركه فيها غيره ، (٣) وهذا الكلام يقتضي أن لا يكون أرض العراق من المفتوحة عنوة. قلت : الجواب عن ذلك من وجوه :

( الأول ) أن الشيخ قال هذا على صورة الحكاية وفتواه ما تقدم في أول الكلام مع أن جميع أصحابنا مصرحون في هذا الباب بما قاله الشيخ في أول كلامه ، والعلامة في المنتهى (٤) والتذكرة (٥) أورد كلام الشيخ هذا حكاية وإيرادا بعد أن أفتى بمثل كلامه الأول حيث قال في أول كلامه : وهذه الأرض فتحت عنوة .. إلخ. ولم يتعرض لما ذكره أخيرا بشي‌ء.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ كتاب الجهاد.

(٢) تهذيب الأحكام ـ ج ٤ ـ حديث : ١٢ ـ ٣٧٨ ـ الباب ٣٨ في الأنفال ص ١٣٥.

(٣) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ ص ٣٤ ـ كتاب الجهاد.

(٤) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ٩٣٨ ـ كتاب الجهاد ـ الطبعة الحجرية.

(٥) تذكرة الفقهاء ـ ج ١ ـ ص ٤٢٨ ـ كتاب الجهاد ـ الطبعة الحجرية.

٨٣

( الثاني ) أن الرواية (١) التي أشار إليها ضعيفة الاسناد ومرسلة ، ومثل هذه كيف يحتج به أو يسكن إليه مع أن الظاهر من كلام العلامة في المنتهى ضعف العمل بها؟

( الثالث ) إنا لو سلمنا صحة الرواية (٢) المذكورة لم يكن فيها دلالة على أن أرض العراق فتحت عنوة بغير أمر الإمام ، فقد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين في ذلك ، ومما يدل على ذلك فعل عمار فإنه من خلصاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ولو لا أمره لما ساغ له الدخول في أمرها (٣). إلى هنا.

أقول : هذا الكلام مما يجب أن يقال منه على ساق وينتصر لدين الله منه فإنه مع بطلانه لا يصل الى مرتبة الشبهة بل هو أوهى من بيت العنكبوت وذلك لأن قوله في الوجه الأول من الأجوبة : إن الشيخ قال « هذا على صورة الحكاية وفتواه ما تقدم في أول كلامه » ليس بمعقول لأن الشيخ حكم على تقدير الرواية بأن العراق من الأنفال فهو حكم معلق على تقدير جواز العمل بالرواية ، ويلزم منه أن العسكر الذي افتتح العراق كان بغير إذنه لأن مقتضى الرواية ليس إلا مع ذلك. فليت شعري كيف يخيل (٤) أن يكون هذا حكاية؟ لا أدري عمن حكى. وأما الحكاية التي حكى ليس إلا حكم على تقدير ، فإما أن يمنع الملازمة ردا عليه أو يمنع الأصل الذي يبنى عليه ، وأما كون كلامه حكاية فهو حكاية لا يخلو من نكاية.

قوله : مع أن جميع أصحابنا يصرحون في هذا الباب ما قاله الشيخ في أول كلامه (٥).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٤ ـ ص ١٣٥ حديث ١٢ ـ ٣٧٨ ـ الباب ٣٨ في الأنفال.

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٣٣.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٧ ـ ٦٨.

(٤) الظاهر ( يحتمل ).

(٥) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٧ ـ ٦٨.

٨٤

أقول : قد سمعت ما حكيناه عن فخر الدين رحمه‌الله والذي أعرفه أن أكثر الأصحاب لم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات نعم ذكره أفراد منهم كالعلامة (١) والشيخ (٢) على ما سمعته من قوله الدال على أنها من الأنفال وابن إدريس أشار الى ذلك في سرائره (٣) إشارة ، فليت شعري كيف كان قول أفراد قليلين مع عدم التصريح من بعضهم جميع الأصحاب « إِنَّ هذا لَشَيْ‌ءٌ عُجابٌ » (٤).

وأعجب منه الصحيح (٥) من بعض الأصحاب بالخلاف وباختيار العكس جزما أو معلقا على ما هو مسلم ، فكيف يدخل مثل هذا في الجميع. وأعجب منه التصريح من الجمع.

قوله : والعلامة في المنتهى والتذكرة أورد كلام الشيخ هذا حكاية وإيرادا بعد أن أفتى بمثل كلامه الأول حيث قال في أول كلامه وهذا الأرض فتحت عنوة لم يتعرض لما ذكره آخرا بشي‌ء (٦).

أقول : إنما كان أعجب لأنه أورد سندا للرد على قول الشيخ بأنه مخالف لما قاله جميع الأصحاب مع أن الذي أشار إليه من الأصحاب لم يسكتوا عن كلام الشيخ بل أورده حكاية ، وفيه دلالة ظاهرة على فهمهم منه ما يخالف فتواهم وعلى اعتبار القول حيث أوردوه بعد فتواهم ، وهذا يؤكد عدم إطلاق فتوى من أفتى من الموردين لكلامه بدون إيراد قوله والإشارة إليه ، فكيف يكون سندا على أن قول الشيخ خلاف الإجماع أو أنه حكاية؟! نعم ما ذكره العلامة عنه حكاية فاعتبروا يا أولي الأبصار. هذا وكلام العلامة في المنتهى ليس فيه دلالة على أنه

__________________

(١) منتهى المطلب ـ ح ٢ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٩٣٨ ـ الطبعة الحجرية. تذكرة الفقهاء ـ ج ١ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٤٢٨ ـ الطبعة الحجرية.

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٣٤.

(٣) السرائر ـ ص ١١٦ ـ كتاب الخمس ـ باب ذكر الأنفال ومن يستحقها ـ الطبعة الثانية الحجرية.

(٤) ص : ٥.

(٥) الصحيح « التصريح ».

(٦) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٧.

٨٥

مفت بأنها بحكم المفتوح عنوة بشي‌ء من الدلالات لأنه قال : مسألة : أرض السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر بن الخطاب وهي سواد العراق وحده في الأرض من منقطع الجبال الى طرف القادسية المتصل بقريب من أرض العرب ومن تخوم الموصل طولا الى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة. فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان بن أبي العاص ما والاها كانت سباخا ومواتا فأحياها عثمان ابن ابي العاص وسميت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سموها السواد لذلك ، وهذه الأرض فتحت عنوة ، فتحها عمر بن الخطاب ، ثم بعث إليها بعد فتحه ثلاثة أنفس عمار بن ياسر على صلاته أميرا ، وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ، وفرض. لهم كل يوم شاة شطرها مع السقوط لعمار وشطرها للآخرين وقال : ما أرى ، قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلا سريع في خرابها ، ومسح عثمان بن حنيف أرض الخراج واختلفوا في مبلغها فقال الساجي اثنان وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة : ست وثلاثون ألف ألف جريب ثم ضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين ثم كتب بذلك الى عمر فأمضاه ، وروي أن ارتفاعها كان في عهد عمر مائة وستين ألف ألف درهم ، فلما كان زمان الحجاج رجع الى ثمانية عشر ألف ألف ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز رجع الى ثلاثين ألف ألف درهم في أول سنته وفي الثانية بلغ الى ستين ألف ألف درهم ، فقال : لو عشت سنة أخرى لرددتها الى ما كان في أيام عمر ، فمات تلك السنة ، ولما أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أمضى ذلك لأنه لم يمكنه أن يخالف ويحكم بما يجب عنده فيه.

قال الشيخ (ره) : والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد

٨٦

للمسلمين قاطبة ـ الغانمين وغيرهم سواء في ذلك ـ ويكون للإمام النظر فيها وتقبيلها وتضمينها بما شاء ويأخذ ارتفاعها ويصرفه في مصالح المسلمين وما يبوء بهم من سد الثغور وتقوية المجاهدين وبناء القناطر وغير ذلك من المصالح ، وليس للغانمين في هذه الأرضين على وجه التخصيص شي‌ء بل هم والمسلمون فيه سواء ، ولا يصح بيع شي‌ء من هذه الأرضين ولا هبته ولا معاوضته ولا تملكه ولا وقفه ولا رهنه ولا إجازته ولا إرثه ، ولا يصح أن تبنى دورا ومنازلا ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف التي تتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق على الأصل. ثم قال رحمه‌الله : وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير إذن الامام فغنمت تكون الغنيمة للإمام خاصة تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ إن صح شي‌ء من ذلك ـ يكون للإمام خاصة ويكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره (١). فانظر أيها المتأمل بعين البصيرة إلى قلة تأمل هذا الرجل وجرأته على دعوى الإجماع ونفي الخلاف والنقل عن جميع الأصحاب ، مع أن عبارات أمثالهم كما تلونا عليك ، فإن العلامة قد حكى كلام الشيخ حكاية وهي كما ذكرناه عنه في المبسوط (٢) ، وقد ذكر هو فيما سبق حكم المفتوحة عنوة فلو كان أرض السواد مما فتح عنوة عنده لقال به جزما من غير أن يحكيه قولا مع أنه حكاه ولم يتعرض له بنفي أو إثبات ، ثم حكى قول الشيخ وعلى الرواية بعده فان كان حكاية القول وعدم التعرض له دليلا على عدم الاختيار فهو مشترك ، وما هو جوابه هو جوابنا ، ولم يسبق منه شي‌ء غير قوله « فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب » ولا دلالة فيه

__________________

(١) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ٩٣٧ ـ كتاب الجهاد ـ في أحكام أرض السواد الطبعة الحجرية.

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ ص ٣٣ ـ كتاب الجهاد.

٨٧

لأنه من المجزوم به أنها فتحت بالسيف فتحها الثاني ، أما أن لها حكم المفتوحة عنوة شرعا فلا ، بل لو قيل أن قوله « فتحها » فيه دلالة على أنها ليست بحكم المفتوحة عنوة عنه كان صوابا لأنه جزم بأن المغنوم بغير إذن للإمام. وقوله « فتحها » من غير أن يذكر شيئا غير ذلك فيه دلالة على أنها من الأنفال خصوصا إذا انضم إلى جملة كونها بحكم المفتوحة عنده حكاية ، وعبارته في التحرير قريب من هذا حيث قال : أرض السواد وهي الأرض المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر وهي سواد العراق وحده من سطح الجبال بحلوان الى طرف القادسية المتصلة بقريب من أرض العرب ومن تخوم الموصل طولها الى ساحل البحر ببلاد عبادان من شرقي دجلة ، فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان ابن أبي العاص وما والاها كانت شياحا ومواتا وأحياها عمار بن أبي العاص وسميت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من البادية رأوا التفات شجرها فسموها سوادا وبعث عمر إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس : عمار بن ياسر على صلاتهم أميرا وابن مسعود قاضيا وواليا على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض ، قال أبو عبيدة : فبلغ مساحتها ستة وثلاثون ألف ألف جريب فضرب على كل جريب نخل عشرة دراهم وعلى الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب الشجر والرطبة ستة دراهم وعلى الحنطة أربعة دراهم وعلى الشعير درهمين ثم كتب الى عمر فأمضاه وكان ارتفاعها مائة وستين ألف ألف درهم ولما انتهى الأمر الى أمير المؤمنين عليه‌السلام أمضى ذلك ورجع ارتفاعها في زمن الحجاج إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم. قال الشيخ : والذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي وغيرها من البلاد التي فتحت عنوة يخرج خمسها لأربابه وأربعة الأخماس الباقية للمسلمين قاطبة لا يصح التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا إجارة ولا إرث ، ولا يصح أن تبنى دورا ومنازل ومساجد وسقايات ولا غير ذلك من أنواع التصرف التي يتبع الملك ، ومتى فعل شيئا من ذلك كان التصرف باطلا وهو باق

٨٨

على الأصل ـ قال ـ وعلى الرواية التي رواها أصحابنا أن كل عسكر أو فرقة عزت بغير إذن الامام تكون تلك الغنيمة للإمام خاصة تكون هذه الأرضون وغيرها مما فتحت بعد الرسول عليه‌السلام إلا ما فتح في أيام أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ إن صح شي‌ء من ذلك ـ يكون للإمام خاصة ويكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا شركة فيها غيره (١). الى هنا ، فتفطن أيها المنصف ، هل حكم بأنها فتحت عنوة في كلامه هذا أو احترز عنه بقول « المفتوحة من الفرس التي فتحها عمر » ثم حكى قول الشيخ ولم يتعرض له مع أنه صرح في باب الخمس بحكم المفتوحة عنوة ولم يذكره هنا إلا قولا ، وهذا بعينه هو كلامه في المنتهى (٢) من غير فرق ، وتوهم الفرق بقوله في المنتهى « فتحت عنوة فتحها عمر » في غاية الضعف بعد ما ذكرناه ، فأين الدلالة من كلام العلامة فضلا عن كلام جميع الأصحاب؟ والله يهدي الى طريق الصواب. واعلم أن في عبارة الشيخ والعلامة دلالة على أن عليا عليه‌السلام ما أمضى ما فعله عمر إلا تقية ، والظاهر أنه لكونها من الأنفال لأنها غنيمة من غزا بغير إذنه.

قوله : إن الرواية التي أشار إليها الشيخ ضعيفة الإسناد (٣).

أقول : هذا لا يحتاج الى رد بعد ما أثبتناه وحققناه من أنها معتضدة بعمل الأصحاب مشهورة الفتوى منهم بل مضمونها في الحقيقة إجماع ، وقد تقدم فلا نعيده ، والمؤلف قال سابقا ومضمون هذه الرواية مشهور بين الأصحاب مع كونها مرسلة ولا شك أن الشهرة تعضد الضعف وتحقق جواز العمل جزما.

قوله : مع أن الظاهر من كلام العلامة في المنتهى (٤) ضعف العمل بها (٥).

__________________

(١) تحرير الأحكام ـ ج ١ ـ ص ١٤٢ ـ كتاب الجهاد ـ القسم الثالث في الأرضين. الرابع الأنفال ـ « و » ارض السواد ـ الطبعة الحجرية.

(٢) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ٩٣٧ ـ كتاب الجهاد ـ الطبعة الحجرية.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٧.

(٤) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ٩٣٧ ـ كتاب الجهاد.

(٥) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٧.

٨٩

أقول : لا أدري قوله هذا لأي شي‌ء نشأ ولا أي شي‌ء قصد به وذلك لأنا إذا سلمنا أن ظاهر العلامة في المنتهى (١) ضعف العمل بها لهم يقدح في حجيتها المستندة إلى شهرتها بين الأصحاب بوجه من الوجوه أصلا ، بل لا يقدح في الإجماع لأن العلامة أفتى بها فيما تقدم من المنتهى وما تأخر عنه فلا يقدح خلافه فيه في الإجماع لو كان صريحا فضلا عن أن يكون ظاهرا على أنا لا نسلم أن ظاهر العلامة في المنتهى ضعف العمل بها وهذه عبارته فيه وإذا قاتل قوم من غير إذن الامام فغنموا كانت الغنيمة للإمام. ذهب إليه الشيخان والسيد المرتضى رحمه‌الله وأتباعهم. وقال الشافعي : حكمها حكم الغنيمة مع إذن الامام لكنه مكروه. وقال أبو حنيفة : هي لهم ولا خمس ولأحمد ثلاثة أقوال كقول الشافعي وأبي حنيفة وثالثها لا شي‌ء لهم. احتج الأصحاب بما رواه العباس الوراق عن رجل سماه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا غزا قوم بغير إذن الامام كانت الغنيمة كلها للإمام ، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس (٢). احتج الشافعي بعموم قوله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‌ءٍ » (٣) الآية ، وهو يتناول المأذون فيه وغيره واحتج أبو حنيفة بأنه اكتساب مباح من غير جهاد فكان كالاحتطاب والاحتشاش. واحتج أحمد على ثالث أقواله بأنهم عصاة بالفعل فلا يكون ذريعة إلى الفائدة والتملك الشرعي. والجواب عن الأول أنه غير دال على المطلوب إذ الآية تدل على إخراج الخمس في الغنيمة إلا على المالك ، وإن كان قول الشافعي فيه قوة ، وعن الثاني بالمنع من المساواة لأنه منهي عنه إلا بإذنه عليه‌السلام ، وعن الثالث بالتسليم فإنه غير دال على المطلوب (٤) الى هنا ، ولا أعرف وجه ظهور استعطافه العمل بالرواية من هذا الكلام ، فإن كان

__________________

(١) منتهى المطلب ـ ج ـ ص ٩٣٧ ـ كتاب الجهاد ـ الطبعة الحجرية

(٢) تهذيب الأحكام ج ٤ ص ١٣٥ حديث : ١٢ ـ ٣٧٨ ـ باب ٣٨ ـ في الأنفال وفيه اختلاف يسير.

(٣) الأنفال : ٤١.

(٤) منتهى المطلب : ج ١ ـ ص ٥٥٣ ـ كتاب الخمس ـ الطبعة الحجرية.

٩٠

المؤلف توهم ذلك من قوله « ذهب إليه الشيخان .. إلخ » أو من قوله « احتج الأصحاب » أو من قوله « وان كان قول الشافعي فيه قوة » (١) فليس من الظهور الذي ذكره في شي‌ء كما لا يخفى ، فإن قوله الأول ذهب إليه بعد فتواه ظاهرا ، وقوله « احتج الأصحاب » مؤيد في الحقيقة ، وكون قول الشافعي لا يخلو من قوة لا يدل على ضعف العمل بضده مع أنه أورد ذلك بعد جوابه بقصور استدلاله عن الدلالة على مطلوبه.

قوله : الثالث : لو سلمنا صحة الرواية المذكورة لم يكن فيها دلالة على أن أرض العراق فتحت عنوة بغير إذن الامام عليه‌السلام (٢).

أقول : لم يدع الشيخ ولا غيره ولا فاه به فوه عالم أن الرواية تدل على عدم الاذن حتى يكون ثالث الأجوبة عدم دلالتها على الفتح عنوة بغير إذن ، فهذا الجواب لا ينطبق ولا يبتني على قانون أهل النظر بوجه من الوجوه أصلا ، وحاصل الأمر أن الشيخ حكم بأن العراق من الأنفال على الرواية ، (٣) فقضية شرطية بيان ملازمتها لم يتعرض له إلا أنه من كلامه أنه يعتقده ، وقد وجهناه سابقا (٤) فجوابه بأن الرواية لا دلالة فيها بغير إذن خبط ظاهر.

قوله : فقد سمعنا أن عمر استشار أمير المؤمنين عليه‌السلام في ذلك (٥).

أقول : السماع لا يكون دليلا إلا إذا ثبت بطريق شرعي ولو آحادا ، ولم يثبت ، والأصل عدم الإذن فيتمسك به الى أن يقوم ما يخالفه.

قوله : ومما يدل عليه فعل عمار فإنه من خلصاء أمير المؤمنين عليه‌السلام ولولا أمره لما ساغ له الدخول (٦).

__________________

(١) إشارة إلى كلام العلامة في المنتهى.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٨.

(٣) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٣٤.

(٤) انظر ص ٦٧.

(٥) راجع خراجيته (ره) ص ٦٨.

(٦) راجع خراجيته (ره) ص ٦٨.

٩١

أقول : هذا من أوهى الأدلة لأن عمر كان في الظاهر إماما تجب متابعته تقية ، وقد بعث عماله الى البلاد وفيهم خواص علي عليه‌السلام فلم يمتنعوا فعدم امتناعهم لا يدل على وجوب اتباعه لأنه أهل لذلك ، ولا على صحة تصرفه على أن عمار لو تمكن من عدم الطاعة له وسلمنا أنه استأذن عليا عليه‌السلام فأذن له لم يدل ، إلا أن فعل عمار لم يكن معصية لا أن فعل عمر كان صحيحا وفتحه كان صحيحا وتوليته كانت صحيحة ، وكيف يخفى هذا على من له أدنى عقل وفكر ، هذا والصحيح أنها حمله الامام عليه‌السلام لأنها من الأنفال ، فلو أذن لعمار لكان أذن له في ماله ، وإذنه عليه‌السلام في ماله جائز وكذا إذنه في صرفه في مصالح المسلمين ـ لو ثبت ـ وجواز هذا كاف في عدم صحة الاستدلال ولات حين مناص ، وبالجملة فهذا الكلام بعيد عن التحقيق وبالله التوفيق.

قوله : ومما يقطع النزاع ويدفع السؤال ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد الحلبي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن السواد ما منزلته؟ فقال : هو لجميع المسلمين .. إلخ (١) (٢).

أقول : هذا خبر واحد غير معتضد بالإجماع بل ولا شهرة وهو محمول على التقية فلا يعرج على مثله محصل ، وقد مر في خلال كلام الشيخ (٣) والعلامة (٤) الإشارة إلى التقية في إمضاء علي عليه‌السلام بعد توليته.

قوله : وروى أيضا عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما اختلف فيه ابن أبي ليلى وابن شبرمة في السواد وأرضه فقلت : إن ابن أبي ليلى قال : إنهم إذا أسلموا فهم أحرار وما في أيديهم من أرضهم لهم وأما ابن شبرمة فزعم أنهم عبيد وأن أرضهم التي بأيديهم ليست لهم ، فقال في الأرض

__________________

(١) تهذيب الأحكام ج ٧ ص ١٤٧ ـ حديث : ١ ـ ٦٥٢ ـ باب ١١ في أحكام الأرضين.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٨.

(٣) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ ص ٣٤ ـ كتاب الجهاد.

(٤) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ٩٣٧ ـ كتاب الجهاد.

٩٢

ما قال ابن شبرمة وابن بشير (١) وقال في الرجال ما قال ابن أبي ليلى بأنهم إذا أسلموا فإنهم أحرار (٢). وهذا قاطع في الدلالة على ما قلناه لا سيما وفتوى الأصحاب وتصريحهم موافق لذلك فلا مجال للتردد. (٣)

أقول : هذا عن التحقيق بمعزل لأنا إذا سلمنا الخبر ولم نتعرض لضعف إسناده ، وقلناه بمضمونه لم يلزم أكثر مما دل عليه ، وإنما دل على أن الأرض ليست لهم وكونها لا تدل على أنها فتحت عنوة لأنه أعم ولا دلالة للعام على الخاص ، كيف ونفي كونها لهم يجتمع مع ما هو الحق من كونها من الأنفال ، والأنفال للإمام عليه‌السلام فلا يكون لهم ، فانظر أيها المتأمل إلى كثرة خبط هذا الرجل خبط عشواء فلا يكاد أن يرتب دليلا على محله ، فمن هو بهذا القصور أولى أن يتحذر عن القصور ، ومن العجب أن دليله غير منطبق على مدعاه وهو يقول « وهذا قاطع في الدلالة على ما قلناه » وأما قوله « لا سيما وفتوى الأصحاب وتصريحهم موافق لذلك فلا مجال للتردد » علم جوابه فيما مضى فلا يحتاج الى بيان طائل.

قوله : وأما أرض الشام فقد ذكر كونها مفتوحة عنوة بعض الأصحاب ، وممن ذكر ذلك العلامة في كتاب إحياء الموات من التذكرة لكن لم يذكر أحد حدودها (٤) ، وأما البواقي فذكر حكمها القطب الراوندي في شرح نهاية الشيخ وأسنده إلى المبسوط وعبارته هذه « والظاهر على ما في المبسوط أن الأرضين التي هي من أقصى خراسان الى كرمان وخوزستان وهمدان وقزوين وما حواليها أخذت بالسيف » (٥) هذا ما وجدته فيما حضرني من كتب الأصحاب. (٦)

__________________

(١) يبدو ان « وابن بشير » زائدة.

(٢) تهذيب الأحكام ج ٧ ص ١٥٥ حديث : ٣٣ ـ ٦٨٤ ـ باب ١١ في أحكام الأرضين وفيه اختلاف يسير.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٨.

(٤) تذكرة الفقهاء ـ ج ٢ ـ ص ٤٠٢ ـ كتاب احياء الموات ـ في بيان تقسيم الأراضي ـ الطبعة الحجرية.

(٥) لا يوجد عندنا هذا الكتاب.

(٦) راجع خراجيته (ره) ، ص ٦٨ ـ ٦٩.

٩٣

أقول : هذا كلام لا يحتاج الى نقض لأنه لم يزد فيه على كون بعض الأصحاب ذكر ذلك وهو حكاية حال ، ولا يخفى أن مجرد الفتوى ليس دليلا ، وقد صدر المقام بقوله في تعيين ما فتح عنوة ، فإن أراد أن هذا القدر يقتضي التعيين فلا يخفى فساده وإن أراد أنه يفيد الدعوى فلا نزاع معه ، على أن في المبسوط (١) قد سمعته وسمعت ما ذيله به من قوله « وعلى الرواية » ، (٢) وإذ قد عرفت ما أفدناه وضعف ما استدل به فاعلم أن هنا أمر إذا نظره المتأمل بعين البصيرة لم يجد معه لهذا الرجل المتحمل في حل هذه الشعرية وجها وأنه وفيما فعل وألف لا يخلو من أمرين قصور في العلم أسقط فيما فعل ، أو شدة فهمه لحب جمع الدنيا لا يبالي معه من أين أصاب ، وذكر ما ذكرتموها لدفع الشناعة من بعض قاصري النظر ، ولعل الثاني هو الوجه ، فإن ولاة العراق قد ألموا أهله بتخريج مال لا شبهة في تحريمه ، ضرب في تحصيله السيد والعامي وبكر من ضيق ذمة الفقير والمسكين وكنت من المشاهدين لذلك ، حتى أن الحائك وغيره من أرباب الصنائع من المؤمنين المكتسبين يؤخذ منهم إلى مرتبة الدرهم والدرهمين وجمعوا ذلك وجعلوه في وجه المعونة للزاد والراحلة وما تبعهما عند توجهنا الى الرضا عليه‌السلام بإشارة من خلدت دولته فبولغت فيه ، فكان جوابي بحضرة هذا المؤلف وحضرات أكبار أهل العراق من السادة والعوام أنه ـ دامت سلطنته ـ بعث إلينا من أقاصي خراسان ونحن في طرف عراق العرب طلبنا لترويج الدين وإظهار فضل التشيع وأهله المستنين بسنته أهل بيت النبوة عليهم‌السلام فاذا تركنا الدين وأخذنا الحرام كيف نكون أهلا لترويج الدين ، فلم ألبث قليلا وإذا به قد أخذه وصرفه فيما يشاء غير متأثم ولا خائف من موقف العرق ولا مستح من شناعة أهل الإيمان

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ـ ج ٢ ـ كتاب الجهاد ـ ص ٣٤.

(٢) إشارة إلى كلام المحقق الثاني ( قده ) في خراجيته ص ٦٧.

٩٤

وأهل الخلاف على دين التشيع نظرا الى فعل من هو مسمى فيهم بالرئاسة وربما زعم أنه عمل حيلة له ، فليت شعري كيف كانت تلك الحيلة مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي وجوب السعي في رده الى أهله على الفور بجميع أنواع القدرة ، فلو لم يكن على المتحيل في أخذه إلا عدم رده والسعي فيه لكان من موبقات الذنوب بل الرضا والسكوت عنه مع المكنة من موبقاتها ، وإنما ذكرت هذه الحكاية في هذا المحل لأنها مشهورة بلغت مرتبة لا يمكن أحد أن ينازع فيها ولا يمكن من الجواب عنها هو ، وقد زعم أنه قد عمل عليها صورة وجاز أمره مع ذلك عند أهل الدنيا الغافلين عن مصالح المعاد ، فكيف لا يجوز ما يحتمل أن يكون شبهة!! وقد كنت أكره أن أوقعها في مثل هذه الرسالة لولا ما علمته من وجوب التنبيه لأهل الله ليأخذوا الحذر من مثله وليمتنعوا من تقليده لفقد ما يشترط في صحة أخذه من مثل الثقة والأمانة. قال الله في الشهادة ـ ولا شك في كونها دون مرتبة الانتصاب في منصب النبوة للفتوى وتكملة الاستقامة ـ « فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما » (١) وأكثر فائدة في ذكرها تعريف أهل الخلاف لنا أن ديننا ومذهبنا لا يقتضي ذلك ، فإنه قد اشتهر عنهم بسبب مثل هذه الأفعال ممن يزعمه أنه من رؤساء المذهب ما لا يكاد يقال ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولنرجع الى ما نحن بصدده فنقول : لا شك ولا خفاء أن المفتوحة عنوة مواتها للإمام وعامرها للمسلمين ، فما علم أنه عامر وقت الفتح فهو للمسلمين ، وما علم أنه موات فهو للإمام ، وما لم يعلم فهو محتمل وكونه عامرا الآن أعلم دلالة فيه على كونه عامرا وقت الفتح ، والأصل عدم العمارة حيث يثبت ، فلا يجوز التسلط على أخذ الخراج من قرية الآن إلا إذا علم أنها كانت وقت الفتح عامرة ، وهو في آخر

__________________

(١) المائدة : ١٠٧.

٩٥

رسالته قال « وليس لأحد أن يقول : هؤلاء أحيوا هذه البلاد وقد كانت قبل مواتا لأن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل.

أما ( أولا ) فلأن بلاد العراق على ما حكيناه كانت بتمامها معمورة لم يكن لأحد مجال أن يعمروها في وسط البلاد قرى متعددة ، وما كان بين القريتين والبلدين في البعد قدر فرسخ إلا نادرا ، كيف ومجموع معمورهما من الموصل الى عبادان ستة وثلاثون ألف ألف جريب.

وأما ( ثانيا ) فلأن عمارة القرى أمر عظيم يحتاج الى زمان طويل وصرف مال جزيل وهم كانوا بعيدين عن هذا الاستعداد مع أن هذه التمحلات بعد ما تلوناه من كلامهم في أحكام هذه الأرضين وأحوال خراجها وحل ذلك من التكلفات الباردة والأمور السامجة » (١).

أقول تنبيها لأهل العقول :

يا اولي الألباب انظروا يا ذوي البصائر تكفروا كيف جعل الإيراد كون البلاد محياة بعد الموات وهذا لا يعترض به أحد؟ ومن ثم قال : إنه معلوم البطلان ببديهة العقل ، ثم خبط في توجيه معلوميته بالبديهة بما يشعر بأن مراده أعم من إحياء الجميع والبعض ونحن نفصل الجواب عن كلامه على طريق البحث والنظر.

فنقول : إما أن يريد بقوله هذه البلاد مجموعها ـ أي مجموع بلاد العراق ـ أو البلاد التي يتعلق بها غرضه كالقرية مثلا ، فإن أراد الأول فمسلم أنه مسلم البطلان بالبديهة فلا حاجة الى الاستدلال عليه ، بل الاستدلال الذي ذكره عليه لا يخلو من قصور إذ قوله « لم يكن لأحد مجال أن يعمر في وسط البلاد قرى » (٢) ممنوع أشد المنع ، إذ لا شاهد له من الأدلة ، وكون معمورها ما ذكر لا يدل عليه إلا

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٦ ـ ٨٧.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٦ ـ ٨٧.

٩٦

إذا تحقق أن ذلك هو قدر مجموع أراضيها طوعا وعرضا ، وهو إن لم يكن معلوم البطلان بالضرورة يفتقر إثباته إلى دليل ، وقوله « وأما ثانيا .. إلخ » (١) ركيك جدا لأنه مجرد استبعاد وخطابية ، ومن العجب إسناد ما هو معلوم البطلان بالبديهة مثل هذا ، وإن أراد الثاني فمعلوم أنه ليس معلوم البطلان بالبديهة ودعواه مكابرة ، وما أسنده من الوجهين ظاهر الضعف كما نبهنا عليه آنفا ، ومما يؤكده ويزيده بيانا ما هو في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار من تجدد قرى وبلاد بعد الفتح لم تكن معمورة ، فإن الحلة التي هي اليوم من أقطاب العراق كانت مواتا وقت الفتح وغيرها كثير من أراضي العراق.

ويؤيد ما ذكرناه أن العلامة الفهامة قطب رحى الدين وإمام المجتهدين وقف قرى متعددة كما أشرنا إليه سابقا ، وفي صدر وقفه أنه أحياها وهي ميتة وعمرها وكانت خرابا ، وعلى وقفه خطوط أماثل العلماء والفقهاء من المذاهب الأربعة ومذهب الخاصة ، وهل يستجيز محصل أن يقول إن أرض العراق يوم الفتح لم يكن فيها شي‌ء من الموات؟ إلا أن يكون ممن لا يبالي كيف يرمي الكلام على أن معمورها المذكور ليس بطريق ثابت يصح الاعتماد عليها؟ هذا والمعترض لا يعترض بأنها محياة بعد الممات ، إذ لا حاجة الى ذلك بل يقول لا نسلم أن هذه المعينة من أرض الخراج وكون العراق مفتوحة عنوة لا يدل عليه إلا إذا ثبت أنها كانت بحيث لا موات فيها ، وأن هذه المعينة كانت محياة حينئذ ودونه خرط القتاد بل كون بعضها كان مواتا معلوم بالضرورة. لا يقال لو تم ما ذكرتم لقام الاحتمال في كل شي‌ء من المفتوح عنوة فلا يتحقق حكم الخراج في شي‌ء منه.

فنقول : إن لم يعلم أن شيئا منه على التعيين كان عامرا وقت الفتح ولا ثبت أنه قد أخذ منه الخراج متصلا من غير انقطاع أو أخذه عادل ونحو ذلك مما يدل

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٧.

٩٧

على أنها محياة وقت الفتح التزمنا ذلك ولا ضرورة ولا محذور فيه إذ طريان ما يمنع الحكم بسبب لا حق لا يقتضي نفيه سابقا ، وإن علم على التعيين تعلق الحكم به وترك في غيره الى أن ثبت ، ومن المعلوم أراضي عدة كانت عمارات وقت الفتح ذكر أهل السير وغيرهم وأشار إليها الأصحاب.

وقال ابن إدريس في السرائر (١) وقد أورد شيخنا المفيد في مقنعه في باب الخراج وعمارة الأرضين خبرا وهو : روى يونس بن إبراهيم عن يحيى بن أشعث الكسري عن مصعب بن مصعب بن يزيد الأنصاري قال : استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام على أربعة رساتيق : المدائن والهفتادات [ والبهقباذات ] وبهرسير وشهر جويرب ونهر الملك (٢) (٣). قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : بهر سير ـ بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة والسين الغير المعجمة ـ وهي المدائن ، الدليل على ذلك أن الراوي قال : استعملني على أربعة رساتيق ثم عد خمسة فذكر المدائن ثم ذكر من جملة الخمسة نهر سير وعطف على

__________________

(١) السرائر : كتاب الخمس والغنائم ـ ص ١١٢ وفيه اختلاف كثير.

(٢) تهذيب الأحكام ج ٤ ص ١٢٠ الحديث : ٣ ـ ٣٤٣ ـ باب ٣٤ ـ في الخراج وعمارة الأرضين وسند الرواية فيه هكذا « سعد ابن عبد الله عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن إبراهيم بن عمران الشيباني عن يونس بن إبراهيم عن يحيى بن أشعث الكندي عن مصعب بن يزيد الأنصاري قال : استعملني إلخ » ، وأيضا فيه « البهقباذات وبهرسير ونهرجوير ونهر الملك ». (*)

(٣) المقنعة ـ ص ٤٥ ـ باب الخراج وعمارة الأرضين.

__________________

(*) البهقباذات وهي ثلاثة ـ ا ـ الأعلى : ويشمل بابل والفلوجة العليا والسفلى وبهمن أردشير وابزقباذ وعين الثمر ـ ب ـ الأوسط : ويشمل نهر البدأة وسورا وبربيسما وباروسما ونهر الملك ـ ج ـ الأسفل : ويشمل خمسة طساسيج كانت على الفرات الأسفل حيث يدخل البطائح.

نهر سير من طنساسيج كورة أستان أردشير بابكان وهي على امتداد نهر كوئي والنيل.

نهر جوير أيضا من طساسيج كورة أستان أردشير بابكان المتقدم ذكرها.

نهر الملك : وهو أحد الأنهر التي كانت تحمل من الفرات إلى دجلة وأوله عند قرية الفلوجة ومصبة في دجلة أسفل من المدائن بثلاثة فراسخ ( من هامش التهذيب : ج ٤ ص ١٢٠ ).

٩٨

اللفظ دون معناه وهذا كثير في القرآن والشعر. قال الشاعر :

إني (١) الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وكل الصفات راجعة إلى موصوف واحد وقد عطف بعضها على بعض لاختلاف ألفاظها ، وقول الحطيئة :

وهند أتى من دونها النأي والبعد.

والبعد هو النأي ، ويدل على ما قلناه أيضا ما ذكره أصحاب السير في كتاب صفين ، قالوا لما سار أمير المؤمنين عليه‌السلام الى صفين ـ قالوا : ـ ثم مضى نحو ساباط حتى انتهى الى مدينة نهر سير وإذا رجل من أصحابه ينظر في آثار كسرى وهو يتمثل قول أبي يغفر النهشلي :

جرت الرياح على محل ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

فقال علي عليه‌السلام : أولا قلت « كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ » (٢) الآية.

فأما الهفتادات فهي ثلاثة : الهفتاد الأعلى وهو ستة طساسيج طسوج بأجل وحطرسة والفلوجة العليا والسفلى والنهرين وعين النهر. والهفتاد الأوسط أربعة طساسيج : طسوج الحبة الحبة والبدأة وسورا ونهر سما ونهر الملك وباروسما. والهفتاد الأسفل خمسة طساسيج فيما طسوج مزابت باد قلي وطسوج المسلحين الذي فيه الخورنق والسدير ، ذكر عبد الله بن جودد (٣) أنه في كتاب الممالك والمسالك. الى هنا.

وإنما ذكرنا الخبر الذي فيه ذكر أمير المؤمنين عليا عليه‌السلام تيمنا ببركته ، وإلا فالأخبار المعمور وقت الفتح في ولاية الثاني كثيرة فلا يقال يحتمل تجرد هذه المذكورة.

__________________

(١) وفي نسخة ( أنا ).

(٢) الدخان : ٢٥ ـ ٢٨.

(٣) الظاهر ( خورداد ).

٩٩

ثم نعود الى ما كنا فيه فنقول : ليس لقائل أن يقول إن الظاهر أن العراق كانت عمارا ولهذا سميت السواد لشدة التفاف شجرها ونخلها فيجوز البناء عليه ، لأنا نقول : لا يصح عند الشريعة التمسك بالظاهر في رفع يد المسلم عما في يده لأن يد المسلم على المال على معلوم وكونه من أرض الخراج فلا يصح ما يتصرف فيه مما يتأتى ذلك غير معلوم ولا يجوز رفع يده عنه لأن الشارع جعل لرفع اليد عن الملك أمر يناط به من شهادة العدلين أورد اليمين على اختلاف المذهبين ومما ينبهك على ذلك أن الوقف ثبت بالشياع وإذا كان في يد مسلم شي‌ء يعارضه الشياع فيه قولان أصحهما تقدم يد المسلم على الشياع ، فكيف بما لا يتمسك فيه إلا بمثل هذه الاحتمالات الباردة ، ومن نظر الشريعة خصوصا باب الإقرار والقضاء علم أن رفع يد المسلم لا يصح إلا في موضع اليقين شرعا لجواز رفعها وأن رفعها يبتني على الاحتياط التام ، وهذا بأصله يصح متمسكا على عدم أخذ الخراج مما عليه يد أحد المسلمين إذا لم يعلم أنه كان من الذي حيا وقت الفتح بطريق شرعي ، ومن العجائب قول هذا المؤلف « مع أن هذه التمحلات بعد ما تلوناه من كلامهم في أحكام هذه الأرضين وحل خراجها من التكلفات الباردة والأمور السامجة » (١) ليت شعري التكليف البارد والأمر السامج هو التلزيق والخطابات التي لا طائل تحتها ولا دليل عليها أو التمسك بثبوت يد المسلم وأصالة عدم استحقاق الغير أيهما أولى بما ذكر.

قوله : بعد ما تلوناه من كلامهم.

أقول : كلام القوم في أرض الخراج أو في أرض معينة ، الأول لا نزاع فيه ، والثاني لم يذكر فلا يحتاج الى المنع ، وكأني أرى هذا الرجل نظر بعين الفكرة الصائبة ، في الدنيا. إن أكثر الناس في هذا الزمان يميلون الى تحصيل الحطام ولو

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٧.

١٠٠