السراج الوهّاج

الشيخ إبراهيم بن سليمان البحراني [ الفاضل القطيفي ]

السراج الوهّاج

المؤلف:

الشيخ إبراهيم بن سليمان البحراني [ الفاضل القطيفي ]


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ١٣٢

بالحرام ، فأكثروا الحشو بالشبهات ليكون له منهم الرغبات لشدة تهمتهم وميلهم الى مقتضى الشهوات ، نعوذ بالله من نصب الدين فخا يصطاد به الحطامات واسم الرئاسات ، وقد كان في هذا القدر كفاية إذا لم يبق في الرسالة ما هو منوط بموضع نزاع مهم ، إلا أنا نتعرض لما قصر فيه فهمه واستدلاله في باقيها تحقيقا لاسم النقض والله الموفق.

قوله في المقدمة الخامسة : اعلم أن الخراج هو ما يضرب على الأرض كالأجرة وفي معناه المقاسمة ، غير أن المقاسمة تكون جزء من حاصل الزرع والخراج مقدار من النقد يضرب (١).

أقول : ظاهره أن الجزء من حاصل الزرع لا يسمى خراجا وهو باطل ، فإن تسميته خراجا شائع ذائع وهو موجود في الأخبار فضلا عن الفتاوى ، وقد ذكره المؤلف بعد هذا بيسير في الحديث المروي عن أبي الحسن الأول حيث قال : الأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان (٢) .. إلخ ، فلا أدري كيف يرمي هذا الرجل الكلام ، هب أنه لم يتأمل حال التأليف ، ألا يلتفت بعد قبل ملاحظة أهل النظر؟

قوله : وقال المقداد رحمه‌الله في التنقيح : ولم يحضرني عند كتابة هذه الرسالة لأحكي عبارته ، ولكن حاصل كلامه فيه على ما أظن أن مرجع تعيين الخراج الى العرف (٣).

أقول : هذا الكلام لا يليق بحكاية الأقوال ، ولم يستعمله المحصلون في ذلك ، وأي ضرورة الى ذلك مع أنه لم يستوف كلم أكابر القوم كالمفيد والمرتضى وابن

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٠.

(٢) تهذيب الأحكام ج ٤ ـ ١٣٠ ـ باب ٣٧ في قسمة الغنائم ـ حديث : ٢ ـ ٣٦٦.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٢.

١٠١

بابويه وغيرهم ، فحذف هذا الكلام كان أنسب ، هذا والمقداد في تنقيحه لم يتعرض لهذه المسألة أصلا ولم يودعها كتابه.

فانظر أيها المتأمل إلى كثرة خبط هذا الرجل ، وكونه لا يبالي كيف وقع الكلام منه. وأعجب من ذلك غفلة الناس منه.

قوله : ووجهه من حيث المعنى واضح لأن الخراج حق شرعي ينوط تقديره بالمصلحة عرفا ، فارتباطه بنظر الإمام ، فإذا تعدى الجائر في ذلك الى ما لا يجوز له ، وعمل ما هو منوط بنظر الامام استدلالا (١) بنفسه كان الوزر عليه في ارتكاب ما لا يجوز له ، ولم يكن المأخوذ حراما ولا مظنة حرام لأنه حق شرعي على الزارع خارج عن ملكه يستحقه قوم معلومون ، وقد رفع أئمتنا المنع من طرفهم بالنسبة إلينا فكيف يحرم!! (٢).

أقول : هذا الوجه من حيث المعنى في غاية السقوط لأن الخراج وإن كان حقا شرعيا إلا أنه في الذمة ما لم يشترط كونه من حاصل الأرض ، فالأخذ من حاصل الأرض لا بعينه له إل بالتراضي لأن المدين مخير في جهات القضاء ، فإذا أخذ من غير ماله من غير رضاه لم يصح ولم يزل استحقاقه عنه ، ولو سلم أنه في غير الزرع جبرا ودون إثباته ما لا يخفى فهو حق مشاع في عين مال معصوم لا يجوز التسلط عليه إلا بالقسمة من أهله ، فأخذ الجائر له لا يكون معينا له حتى تبرأ ذمة المأخوذ منه ، فهو على الإشاعة لم يزل فلا يزول التحريم.

ومن العجب قوله : « لأنه حق شرعي على الزارع خارج عن ملكه » لا أدري خروجه عن ملكه بمعنى عدم استحقاقه له سبب الشركة أو غيره لغيره. ( الأول ) غير مسلم ولا يقتضي رفع التحريم ـ لو سلم كما قلناه ـ لأن القابض غير مستحق ولا والي على القسمة. ( والثاني ) لا يخفى فساده. وقوله : « وقد رفع أئمتنا عليهم‌السلام المنع

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، استقلالا.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٣.

١٠٢

من طرفهم بالنسبة إلينا » ممنوع في صورة وسنكشف عليك تحقيق هذه المسألة عن قريب إن شاء الله تعالى.

قوله : في التذكرة في كتاب البيع (١).

أقول : كلام التذكرة بمجرده لا يكون حجة إنما الحجة في الدليل المذكور فيها من كتاب أو سنة أو إجماع أو دليل عقل ، نعم يحسن إيراد ما فيها إذا لم يكن عن دليل لمعرفة مذهبه وقوله فيها ، وحسن هنا أن يمتثل بقول بعض الفضلاء. وأنت خبير بما رواه ، ولسنا نقلد ما بين دفتي الشفاه.

أقول : وتعليل العلامة في تذكرة بقوله « لأن هذا مال لا يملكه الزارع وصاحب الأنعام والأرض فإن حق الله أخذه غير مستحقه فبرئت ذمته وجاز شراؤه » (٢) ضعيف لا يعرج عليه لأنه لا يلزم من استحقاق الله تعلى في مال شيئا ، إن من أخذ من المشاع بذلك الاسم يكون ما أخذه هو الحق الذي لله تعالى.

وبهذا لو أخذ المال من المال المشاع قهرا لم تبرأ ذمة المالك إلا من قدر حصة ما أخذه قهرا مع عدم التفريط ويلزمه زكاة الباقي.

ولو قيل هذا مخصوص بالجائر منعناه على أن دليله عام لإشعار فيه بكون الأخذ مخصوصا على ما لا ينفى ، فخصوصية الجائر بالحكم يقتضي تعليلا آخر لا يفهم مما ذكر والله الموفق.

قوله : والحاصل إن هذا مما وردت به النصوص وأجمع عليه الأصحاب بل المسلمون .. والمنازع فيه مدافع للنص ومنازع للإجماع ، فإذا بلغ معه الكلام الى هذا المقام فالأولى الاقتصار معه على قولي سلام (٣).

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ـ ج ١ ـ كتاب البيع ـ في بيان حل الخراج وللمقاسمة ـ الطبعة الحجرية.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٣.

١٠٣

أقول : لم يزد على دعوى النص والإجماع وهو ممنوع وعليه إثباته ، فاذا أثبته على وجه ينطبق على مدعاه ونوزع فيه فليعرض عن المنازع ، وسياق ما نذكره من النص والإجماع ، والكلام عليه وعنده يعرف من يقال له اعتراضا عنه وأشار الى جهله سلام.

قوله : من تأمل كثيرا من أحوال كبراء علمائنا السالفين .. إلخ (١).

أقول : هذا ونحوه من التزليقات والتلزيقات التي لا تشتبه على أهل الله مقاصد قائلها ، وقد أسلفنا شيئا من الجواب عنها ، وسيأتي زيادة عند ذكر زيادة كلام في هذا المقام إن شاء الله تعالى.

قوله في مقالة حل الخراج : ولنا في الدلالة على ما قلناه مسلكان ، الأولى : في الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام وهي كثيرة ، فمنها ما رواه الشيخ عن أبي بكر الحضرمي قال : دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وعنده إسماعيل ابنه فقال ما يمنع ابن أبي سماك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه مما يكفيه الناس ويعطهم ما يعطي الناس ، قال : ثم قال : لم تركت عطاءك؟ قال : قلت : مخافة على ديني ، قال : ما منع ابن أبي سماك أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيبا؟ (٢) قلت : هذا [ الخبر ] نص في باب فإنه عليه‌السلام بين السائل حيث قال : إنه ترك أخذ العطاء للخوف على دينه بأنه لا خوف عليه فإنه إنما يأخذ حقه حيث إنه يستحق في بيت المال نصيبا وقد تقرر في الأصول بتعدي الحكم بالعلة المنصوصة (٣).

أقول : جميع ما أورده وأورد في هذا الباب من الأخبار وغيرها يأتي جوابها في الجمع بين كلام الأصحاب لكن أجببت أن أشير الى ما ذكر فيه مفصلا بيازا

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٤.

(٢) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ٣٣٦ ـ حديث : ٥٤ ـ ٩٣٣ ـ باب ٩٣ في المكاسب ـ « أخبار جوائز العمال ».

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٦.

١٠٤

لقصوره في الاستدلال ، فأقول : هذا الخبر أورده العلامة في المنتهى دليلا على جواز تناول جوائز الظالم (١) إذا لم يعلم أنها حرام ، ولم يذكره في حل الخراج وتناوله ، ولا شك أن الاستدلال يتبع الدليل ، والدليل لا إشعار فيه بالخراج على أن ما فهمه هذا المؤلف من هذا الخبر ليس على الوجه ، وذلك أنه عليه‌السلام أشار الى الرد على ابن أبي سماك في إعراضه عن الشيعة بقوله « أو لا يمنع .. إلخ » ثم سأل أبا بكر عن ترك العطاء فأجابه إن تركه مخافة فأقره عليه وأعرض عنه. ثم رجع الى تقريع ابن أبي سماك وإلزامه بأنه ترك الدفع مع أنه يعلم لكل من المسلمين حقا في بيت المال وهو يدفع الى بعضهم دون بعض.

فحاصل الخبر أن أبا بكر له حجة في ترك الأخذ ولا حجة لابن أبي سماك في ترك الدفع فأين النص وأين نفيه الخوف هذا والخبر ممنوع صحة سنده فلا تثبت دلالته.

ومن العجب أن هذا الرجل لو أراد أن يستدل على مطلب صحيح لم يحسن الاستدلال عليه لقصور فهمه.

قوله : ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : مالك لا تدخل مع علي في شراء الطعام إني أظنك ضيقا ، قال : قلت : نعم ، فإن شئت وسعت علي ، قال : اشتره. (٢) وقد احتج بها العلامة في التذكرة على تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج والمقاسمة. (٣) (٤)

أقول : لا يخفى على من له أدنى تأمل في العلم أن هذا الخبر لا يدل على تناول ما يأخذه الجائر باسم الخراج ، والمقاسمة بشي‌ء من الدلالات غاية دلالته أنه

__________________

(١) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ١٠٢٦ ـ كتاب التجارة ـ الطبعة الحجرية.

(٢) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ص ٣٣٦ ـ حديث : ٥٣ ـ ٩٣٢ ـ باب ٩٣ ـ في المكاسب ـ أخبار جوائز العمال.

(٣) تذكرة الفقهاء ـ ج ١ ـ ص ٥٨٣ ـ كتاب البيع ـ في بيان حل الخراج والمقاسمة ـ الطبعة الحجرية.

(٤) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٦ ـ ٧٧.

١٠٥

يدل على ابتياع الطعام على جهة العموم وليس فيه تصريح بأن الابتياع من الجائر ولو سلم ، فنحن لا نمنع من جواز ابتياع ما يأخذه باسم الخراج. فإن قيل : يدل من حيث عمومه ، قلنا : قد ثبت إن شرط صحة الابتياع كون البيع حلالا فالخراج إن كان حلالا جاز ابتياعه وإلا فلا ، ولا دلالة في الخبر على أن الخراج حلال كما لا يخفى فإن معاملة الغاصب والابتياع منه وإن كان أكثر أمواله غصبا جائز لعموم الكتاب والسنة ، ولا يدل على ما في يده من الغصب ، وهذا واضح.

وقوله : « وقد احتج به العلامة » ليس بشي‌ء لأنا بينا عدم دلالة الخبر وقد يظهر نكتة استدلال العلامة فيما نحققه إن شاء الله تعالى.

قوله : ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن جميل بن صالح قال : أرادوا بيع تمر عين أبي زياد فأردت أن أشتريه ثم قلت : حتى أستأذن أبا عبد الله عليه‌السلام فأمرت مصادفا ، فسأله فقال قل له : يشتريه ، فان لم يشتره اشتراه غيره. (١) قلت : قد احتج بهذا الحديث لحل ذلك العلامة في المنتهى (٢) وصححه. (٣)

أقول : الجواب عن هذا كالجواب عن الخبر السابق ، فإنه لا دلالة فيه على موضع النزاع بل على ابتياع مال الظالم ، ونحن لا نمنعه بل نكرهه.

قوله : لكن قد يسأل عن قوله « فان لم يشتره اشتراه غيره .. إلخ » ، وحاصله أن الحل مختص بمن ليس له دخل في قيام دولة الجور ونفوذ أوامرها وفق شوكتها وهو معنى لطيف في زعمه. (٤)

أقول : هذا خلاف ما أصله من أن الخراج لجميع المسلمين فإنه إذا لا يفترق

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ص ٣٧٥ ـ حديث : ٢١٣ ـ ١٠٩٢ ـ باب ٩٣ ـ في المكاسب ـ « أخبار الشراء من الظالم ».

(٢) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ١٠٢٧ ـ كتاب التجارة ـ الطبعة الحجرية.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٧.

(٤) نفس المصدر.

١٠٦

الحكم فيه بالنسبة الى أهل يقوم به الدولة وغيرهم.

وفي الخبر الأول ـ أعني رواية أبي بكر (١) ـ دلالة على ذلك حيث رد على ابن أبي سماك بعدم استعمال شباب الشيعة على ما فهم المؤلف ، وأيضا فالأصحاب أطلقوا من غير تفصيل ولم يذكروا أنه من خواص الشيعة ، فالمخصص يحتاج الى دليل ، وهو مسلم كلامهم ويستدل به ، والذي يخطر ببالي أن قوله عليه‌السلام « فان لم يشتره اشتراه غيره » للإشارة الى أن الامتناع من أموال الظالم لا فائدة مهمة فيها إلا إذا كان أهل العصر جميعا أو أكثرهم على ذلك لأن الامتناع يفيد تورعه عن المظالم حينئذ بسبب عدم معاملة الناس له ، أما إذا لم يكن كذلك لم يظهر فائدته خصوصا أن أحدا لا يمنع عن معاملة من يعامله وإلا لبطل أكثر النظام فلا فائدة في الامتناع حينئذ ، فقول الامام ذلك للتنبيه على هذا ، فالأحاديث وكلام القوم على العموم ، وأي محصل يجزم بتخصيص ما هو عام بمثل هذا الخيال مع أنه لم يزد على الدعوى شيئا فانظر الى قصور فكره هذا الرجل تظفر بالعجب العجاب.

قوله : ومنها ما رواه أيضا عن إسحاق بن عمار قال : سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ، قال : يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا. (٢) وهذا الحديث نقلته هكذا من المنتهى (٣) وظني أنه نقله من التهذيب وبمعناه أحاديث كثيرة. (٤)

أقول : لا يخفى على الناظر أن هذا الحديث لا دلالة فيه على حل الخراج ولا على حل تناوله من الظالم بشي‌ء من الدلالات لأن دلالته ليس إلا على جواز

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ص ٣٣٦ ـ حديث : ٥٤ ـ ٩٣٣ باب ٩٣ في المكاسب « أخبار جوائز العمال ».

(٢) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ص ٣٧٥ ـ حديث : ٢١٤ ـ ١٠٩٣ ـ باب ٩٣ في المكاسب « أخبار الشراء من الظالم ».

(٣) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ١٠٢٧ ـ كتاب التجارة ـ الطبعة الحجرية.

(٤) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٨.

١٠٧

الابتياع من العامل الذي يظلم إذا لم يعلم أنه ظلم أحدا بعينه ، فأخذه إن كان ظلما لم يجز ، وإلا جاز ، فأين الدلالة وهو مع ذلك مرسل وإسحاق بن عمار ضعيف.

قوله : ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن هشام بن سالم عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل هنا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم أنهم يأخذون أكثر من الحق الذي يجب عليهم ، قال : ما الإبل والغنم إلا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس حتى يعرف الحرام بعينه ، قيل له فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ صدقات أغنامنا نقول بعناها فيبيعناها ، فما ترى في شرائها منه؟ قال : إن كان أخذها وعزلها فلا بأس. (١) (٢)

أقول : لا دلالة في هذا على المطلوب لأن جواز ابتياعهم لا يدل على جواز الابتياع مطلقا لجواز أن يكون ذلك لكونه ما لهم وفي قوله « عزلها » إشارة اليه. نعم صدر الحديث فيه دلالة ما ، وسيأتي الجواب عنهما إن شاء الله تعالى.

قوله : قيل فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل ، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال : إن كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه بغير كيل. (٣)

أقول : لا خفاء في عدم صحة الاستدلال بهذه على مطلوبه وذلك لأن المفهوم منها بقرينة السؤال والجواب أن الغرض جواز إبانة الابتياع من غير كيل ثان ، أو عدم جوازه كما هو ظاهر جلي. وقد صرح في السؤال بأنه يقسم لهم حظهم ويأخذ حظه وهو نظرا الى منطوق اللفظ يدل على أن ما أخذه حقا له ، ولا نزاع في ذلك إذ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ص ٣٧٥ ـ حديث : ٢١٥ ـ ١٠٩٤ ـ باب ٩٣ في المكاسب « أخبار الشراء من الظالم » ـ مع اختلاف ونقص يسيرين عما في التهذيب.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٨.

(٣) نفس المصدر.

١٠٨

« القاسم » يجوز أن يكون مزارعا أو وكيل المزارع الذي منه الزرع أو منهما أو من الزرع والأرض له ، ولا إشعار في الخبر بأن القاسم قاسم الجور وأن الذي يأخذه من الخراج ، سلمنا ، لكن جوازه لهم لا يدل على جوازه مطلقا لأنه ما لهم لم يزل والابتياع لأنه لا يمكن بدونه ولا يرد أنه لو كان كذلك لم تظهر فائدة السؤال لجواز أن تكون فائدته استبانة جواز ذلك فإن فيه تقريرا لفعله ورضا به من حيث معاوضته ، وربما كان في قوله وأنتم حضور إشارة الى ذلك لأن مع عدم الحضور يحتمل خلطه بغير ما أخذ منهم.

قوله : ومنها ما رواه الشيخ أيضا بإسناده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه أن الحسن والحسين عليهما‌السلام كانا يقبلان جوائز معاوية (١) قلت : قد علم أن موضع الشبهة حقيق بالاجتناب ، والامام عليه‌السلام لا يواقعها ، وما كان قبولهما عليهما‌السلام لجوائزه إلا لما لهما من الحق في بيت المال ، مع أن تصرفه عليه غضب الله وسخطه كان بغير رضا منهم عليهم‌السلام ، فتناولهما حقهما المترتب على تصرفه دليل على جواز ذلك لذوي الحقوق في بيت المال من المؤمنين نظرا الى ثبوت المتأسي. وقد نبه شيخنا في الدروس (٢) على هذا المعنى وفرق بين الجائزة والظلم وبين أخذ الحق الثابت في بيت المال أصالة ، فإن ترك قبول الأول أفضل بخلاف الثاني. (٣)

أقول : وبالله التوفيق : هذا الكلام مخبوط من أربعة أوجه :

( الأول ) : أن معرض استدلاله حل الخراج والرواية دلت على الجوائز ، وبينهما بون بعيد ، إذ جهة حل الجائزة عدم العلم بتحريمها والأصل عدم التحريم ، وعموم ما دل على جواز تناولها إذا لم يعلم غصبا بعينها وحل الخراج يستدعي

__________________

(١) تهذيب الأحكام ـ ج ٦ ـ ص ٣٣٧ ـ حديث : ٥٦ ـ ٩٣٥ ـ باب ٩٣ في المكاسب « أخبار جوائز العمال ».

(٢) الدروس الشرعية في فقه الإمامية ـ ص ٣٢٩ ـ كتاب المكاسب ـ الطبعة الحجرية.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٨ ـ ٧٩.

١٠٩

دليلا يختصه كما لا يخفى.

( الثاني ) أن قوله « قلت : لا خفاء أن موضع الشبهة حقيق بالاجتناب والامام عليه‌السلام لا يواقعها » (١) لا طائل تحته ، لأن الشبهة التي لا يواقعها الامام إن أريد بها ما يقتضي المنع والتحريم فغير الامام من العدول كذلك ، ونحن لا ندعي تحريم مال الجائر مطلقا وإن أريد ما يقتضي المرجوحية التي لا تبلغ التحريم ، فلو سلمنا عدم مواقعة الامام لها قلنا لا يقتضي مواقعته إلا عدم المرجوحية بالنسبة إليه لا مطلقا. وقد يختلف الحال بالنسبة اليه والى غيره والواقع هناك كذلك ، فإن جوائز الظالم مكروهة لسائر الناس دون الإمام لأن حق الإمامة له وما في يد الجائر يستحق هو قبضه بالأصالة بتقدير وقوع الشبهة فيه لأنه أعلم بمصارفه ويدفع نوع الشبهة عنه ، وهذا غير القبض والمال حقه بالأصالة بخلاف غيره فإنه مرجوح بالنسبة إليه.

وقد نبه على ما قلناه الشهيد رحمه‌الله في دروسه حيث قال : وترك أخذ ذلك من الظالم مع الاختيار أفضل ، ولا يعارضه أخذ الحسنين عليهما‌السلام جوائز معاوية لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة. (٢) على أن لنا أن نقول إنهم فعلوا ذلك تقية فلا دلالة فيه أصلا.

( الثالث ) أن قوله « وما كان قبولهما عليهما‌السلام لجوائزه إلا بما لهما من الحق في بيت المال » (٣) ركيك ظاهر الركاكة لأنه غير لازم أن تكون الجائزة من بيت المال لجواز أن يكون من خاصة ماله المملوكة له بأخذ أنواع التملكات.

ومن هذا يعلم ( الوجه الرابع ) من الخبط ـ أعني قوله « فتناولهما حقهما عليهما‌السلام المترتب على تصرفه دليل على جواز ذلك لذوي الحقوق نظرا الى

__________________

(١) هذا قول المحقق الثاني ( قده ) في خراجيته ، ص ٨٣.

(٢) الدروس الشرعية في فقه الإمامية ـ ص ٣٢٩ ـ كتاب المكاسب ـ الطبعة الحجرية.

(٣) هذا قول المحقق الثاني ( قده ) في خراجيته ، ص ٧٩.

١١٠

ثبوت التأسي » (١) ـ لأن تناولهما لم يثبت أنه من حقهما من بيت المال حتى يتأسى لهما من هذه الحيثية. فانظر أيها المتأمل إلى قلة فطنة هذا الرجل كيف بلغت بهذا القدر في مثل هذا المطلب اليسير.

وأبلغ من هذا كله قوله « وقد نبه شيخنا في الدروس على هذا المعنى .. إلخ » (٢) وأنت قد تعلم أن الشهيد لم ينبه إلا على جواز ابتياع ما يأخذه الجائر وجواز جائزته ، وإن ترك ذلك أفضل إلا للمعصوم فإن حقه بالأصالة ، ومن المعلوم أنه غير مطلب المؤلف لأن الجوائز لا شبهة فيها وإن أخذ المعصوم لها من حيث حقه في بيت المال ، فيثبت لغيره ما ثبت له من غير فرق ، وهذا خلاف ما نبه عليه الشهيد بلا مرية ، فان كنت في شك من ذلك فاستمع كلام الشهيد في دروسه قال قدس‌سره : ويجوز شراء ما يأخذه الجائر باسم الخراج والزكاة والمقاسمة وإن لم يكن مستحقا لها وتناول الجائزة منه إذا لم يعلم غصبها ، وإن علم ردت على المالك فإن جهله تصدق بها ، واحتاط ابن إدريس بحفظها والوصية بها.

وروي أنها كاللقطة قال : وينبغي إخراج خمسها والصدقة على إخوانه منها والظاهر أنه أراد الاستحباب في الصدقة ، وترك أخذ ذلك من الظالم مع الاختيار أفضل ولا يعارض ذلك أخذ الحسن عليه‌السلام جوائز معاوية لأن ذلك من حقوقهم بالأصالة. (٣)

فانظر أيها المتأمل هل الذي نبه عليه الذي أشرنا إليه أو الذي توهم المؤلف ، فإن كلامه ظاهر في المرجوحية وعدم صلاحية فعله عليه‌السلام للرجحان لاختصاص الرجحان به لأنه حقه بالأصالة ، هذا ما أفاده تغمده الله برحمته وأسكنه بحبوحة جنته ، ولا كلام في مرجوحية جوائز الظالم عقلا وشرعا ، وقد

__________________

(١) هذا قول المحقق الثاني ( قده ) في خراجيته ، ص ٧٩.

(٢) الدروس الشرعية في فقه الإمامية ـ ص ٣٢٩ ـ كتاب المكاسب ـ الطبعة الحجرية.

(٣) الدروس الشرعية في فقه الإمامية ـ ص ٣٢٩ ـ كتاب المكاسب ـ الطبعة الحجرية.

١١١

أحببت أن أزيد هذا البحث إيضاحا بالاستشهاد بكلام بعض الأصحاب.

قال العلامة في المنتهى : ولا بأس بمعاملة الظالمين وإن كان مكروها ـ الى أن قال ـ : وانما قلنا إنه مكروه لاحتمال أن يكون ما أخذه ظلما فكان الأولى التحري عنه دفعا للشبهة المحتملة. ( مسألة ) متى تمكن الإنسان من ترك معاملة الظالمين والامتناع من جوائزهم كان الأولى له ذلك لما فيه من التنزه. (١)

وقال فيه أيضا : ولو لم يعلم حراما جاز تناولها وإن كان المجيز لها ظالما.

وينبغي أن يخرج الخمس من جوائز الظالم ليظهر بذلك ما له ، لأن الخمس يطهر المختلط بالحرام ، فتطهر ما لم يعلم فيه الحرام أولى (٢).

وقال المقداد في تنقيحه : جوائز الظالم والفاعل من قبله يجوز قبولها والتصرف فيها إلا أن يعلم الظلم بعينه ولا يجوز أخذه (٣).

وقال ابن إدريس وينبغي إخراج خمسها والصدقة على إخوانه منها ، (٤) والظاهر أن مراده بالاستحباب في الصدقة وترك الجائزة من الظالم أفضل ، وكذا ترك معاملته أيضا ، ولا يكون ما بيده من الأمور محرما بمجرد ظلمه لجواز أن يتملك شيئا على جهة الظلم فلا يحرم حينئذ معاملته لقول الصادق عليه‌السلام « كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو حلال حتى يعرف تحريمه بعينه ». (٥)

نعم يكره ذلك مع الاختيار ، وأما حال الضرورة فجائز ، ولا يعارض الأول أخذ الحسنين عليهما‌السلام جوائز معاوية لأن ذلك حقهم بالأصالة ، ولو لا كراهة

__________________

(١) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ١٠٢٦ ـ كتاب التجارة ـ وهذا الكلام في مسألتين متمايزتين ـ مع اختلاف يسير عما فيها ـ الطبعة الحجرية.

(٢) منتهى المطلب ـ ج ٢ ـ ص ١٠٢٥ ـ كتاب التجارة ـ الطبعة الحجرية.

(٣) التنقيح الرائع لمختصر الشرائع ـ ج ٢ ـ ص ١٩ ـ كتاب التجارة ـ مسائل فيما يكتسب به ـ فوائد ـ الرابعة ـ مع اختلاف يسير.

(٤) السرائر ـ ص ٢٠٣ ـ كتاب القضايا ـ باب النوادر في القضاء والأحكام ـ مع اختلاف في التعبير ـ الطبعة الحجرية.

(٥) وسائل الشيعة ـ ج ١٢ ـ ص ٥٩ ـ حديث ١ ـ باب ٤ من أبواب ما يكتسب به ـ كتاب التجارة ـ « والرواية عن ابي عبد الله عليه‌السلام ».

١١٢

الإطالة في مثل هذا مع ظهوره لأوردت عبارات اخرى ، وبالجملة فلا شك عند أهل الله أن من الورع تجنب جوائز الظالم ، وإنكار ذلك جهل.

قوله : فإن قيل : هنا سؤالان : ( الأول ) أن هذه الأخبار إنما تضمت حال الشراء خاصة ، فمن أين ثبت حل التناول مطلقا؟ ( الثاني ) أن هذه الأخبار إنما دلت على جواز التناول من الجائر بعد استيلائه والأخذ كما يفعله الجائر.

قلنا : الجواب عن الأول أن حل الشراء كاف في ثبوت المطلوب لأن حله يستلزم حل جميع أسباب النقل كالصلح والهبة لعدم الفرق بل الحكم بجواز غير الشراء على ذلك التقدير بطريق أولى لأن شرط صحة الشراء أكثر. وقد صرح الأصحاب بذلك بل يستلزم جواز قبول هبته وهو في يد ذي المال والحوالة ما عرفت من أن ذلك غير مملوك بل إنما هو حق تسلط على التصرف فيه غير من له أهلية التصرف ، وقد سوغ أئمتنا تملكنا له على ذلك التصرف الغير الشائع لأن تحريمه إنما كان من حقهم فاغتفروا لشيعتهم ، ذلك طلبا لزوال المشقة عنهم ، فعليهم من الله التحية والسلام وقد صرح بذلك بعض الأصحاب (١).

أقول : هذا الكلام خبط ظاهر وذلك لأن متعلق البيع ـ أعني الخراج المبحوث عنه ـ غير مملوك للجائر ـ وقد سلمه المؤلف ، وإذا لم يكن مملوكا فهو مملوك لغيره لاستحالة بقاء ملك بلا مالك. ولو قيل : أنه على حكم مال الله تعالى حتى يقبضه الامام لم يقدح في المطلوب ومستحق قبضه والتصرف فيه الامام عليه‌السلام ، فاذا فرضنا أنه أجاز الابتياع لم يدل على جواز غيره بشي‌ء من الدلالات فضلا عن كون جواز غير البيع أولى وذلك لأنه محجوب فيه وأمره الى الوالي ، فإذا جاز نوعا معينا لم يجز تخطيه وإنما يمكن تسليم المساواة والأولوية في صورة ما إذا كان الإجازة يقتضي كون الابتياع ملكا للبائع ، فإن ما ذكره قد يتم

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٧٩ ـ ٨٠.

١١٣

وتعليله قد يتحقق ، وهو لم يتفطن في الفرق بين الأمرين كما هو عادته من المجازفة.

وقوله « بل يستلزم جواز قبول هبته وهو في يد ذي المال » (١) ظاهر المنع بل البطلان وأي وجه اقتضى استلزام جواز ابتياع مال يأخذه بإجازة من له التصرف في بيعه جواز اتهابه مال من أجيز له في البيع هذا أمر لا نعرفه فلعله حصله من تدقيقات اجتهاده وحسن تأمله فيه.

وقوله في إثباته « لما عرفت من : أن ذلك غير مملوك » (٢) لا يصح تعليلا للاستلزام كما لا يخفى لأن غير المملوك يوقف التصرف فيه على إذن المالك أو من له التصرف ، ولا يستلزم الإذن في معين الاذن في غيره ، وإن كان ما يؤذن فيه أبلغ مما لا يؤذن فيه ، فإن الإذن في الهبة بغير عوض لا يستلزم الاذن في البيع ، فكيف بالعكس.

وقوله « وقد سوغ أئمتنا تملكنا له على ذلك التصرف » (٣) عجيب غريب لأنه إن أراد بتسويغ أئمتنا للتملك بتسويغهم له بغير الابتياع فهو ممنوع ، وقد سلم أن غيره بالاستلزام والأولوية ، وإن أراد بتسويغهم له بالانتفاع فلا منازعة فيه ، وإنما البحث في كون ذلك يستلزم غيره أم له ، وعليه بني الإيراد ، وقوله « وقد صرح به بعض الأصحاب » (٤) لا طائل تحته لأن فتوى بعض الأصحاب بمجرده لا يقوم دليلا.

قوله : واما الجواب عن الثاني فإن الأخذ من الجائر والأخذ بأمره سواء ، على أنه إذا لو حظ أن المأخوذ حق ثبت شرعا ليس فيه وجه تحريم ولا غصب ولا قبح حيث إن هذا حق مفروض على هذه الأراضي المحدث عنها ، وكونه منوطا بنظر

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٠.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٠.

(٣) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٠.

(٤) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٠.

١١٤

الامام انتفى الحظر اللازم بسببه ترخص (١) الإمام في تناوله من الجائر سقط السؤال بالكلية أصلا ورأسا (٢).

أقول : هذا الكلام أو له ممنوع أشد المنع ، أعني قوله « الأخذ من الجائر والأخذ بامره سواء ».

ليت شعري أي وجه اقتضى المساواة مع أن هذا مال محرم يتوقف على إذن الامام وليس هو في يد الجائر حتى يدخل تحت الأخبار بتقدير حجيتها؟ ومن أين يحتمل المساواة فضلا عن القطع بها مع أن أخذه محرم أجيز الأخذ منه بالابتياع للنص مثلا والأخذ على حاله من التحريم ، فالأخذ ابتداء عن أمره لا وجه لإباحته.

وآخره ركيك جدا ، أعني قوله « إذا لوحظ .. إلخ » لأنا إذا لاحظنا كون المأخوذ حقا لا قبح فيه وأنه منوط ينظر الامام وأجاز تناوله من الجائر كيف يسقط السؤال بالكلية أصلا ورأسا ، إذ القائل يقول هذا حق لا قبح فيه أصلا ، لكن لا يجوز تناوله ابتداء ، فهذا السؤال كما لا يخفى قائم باق يفتقر الى الجواب بل لا جواب فيه لأصالة المنع من التصرف إلا بإذن الإمام خرج منه التناول من الجائر على وجه المخصوص فيبقي الباقي على المنع ، إذا تأمل المتأمل هذا الكلام علم منه أن المؤلف في أي مقام هذا ، وبعض الأصحاب صرح بعدم جواز التناول بغير ذلك.

قال الفاضل السيد ابن عبد الحميد الحسيني في شرحه للنافع : وإنما يحل بعد قبض السلطان له أو نائبه ، (٣) ولهذا المصنف ما يأخذه باسم المقاسمة فقيده بالأخذ وهو على الجائر ونائبه حرام ، وغيره من المصنفين أيضا ذكر ذلك.

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ترخيص.

(٢) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٠.

(٣) لم يتوفر عندنا المصدر.

١١٥

والحاصل : أن ما دل عليه الروايات في زعمه لا يقتضي ما ذكره وأما الإجماع على ما ذكره فهو على المنع وبالله التوفيق.

قوله : المسلك الثاني .. (١) إلى آخر ما نقل من العبارات.

أقول : وبالله التوفيق وهو ولي التحقيق : ( أولا ) حيث حققنا فيما مضى أن العراق ليست مفتوحة عنوة وأبطلنا ما زيفه المؤلف من الأدلة على أن ذلك لم يجديه حل الخراج بتقدير تسليمه لأنه إنما يكون في الأرض المفتوحة عنوة ومحل قريته بحث عنها ليس كذلك.

( وثانيا ) إنا قد حققنا أيضا أن كون أرض العراق مفتوحة عنوة لا يقتضي حل الخراج في مطلوب هذا المؤلف.

( وثالثا ) أن حله إنما ثبت بتقدير أخذه من الجائر ابتياعا لأنه مدلول الروايات ، والذي حكاه من الأقوال إنما هو قول عدد قليل وبعضهم لم يذكر غير الابتياع كالشيخ في النهاية (٢) وبعضهم كالعلامة (٣) والشهيد (٤) ذكر غيره وبعض من لم يذكره صرح بنفي غيره كما حكيناه عن السيد الحسيني شارح النافع رحمه‌الله ، وظاهر بعض الأصحاب أيضا ذلك ، بل بعض ما ذكره عبارته ظاهره ذلك ، فالتناول بغير الابتياع غايته أنه فتوى آحاد من الأصحاب وليس دليلا إذ لا شاهد له من الأخبار ولا إجماع عليه والعقل ينفيه ، وظاهر الكتاب العزيز شاهد بنفيه

__________________

(١) راجع خراجيته (ره) ، ص ٨٠.

(٢) النهاية في مجرد الفقه والفتاوى ـ ص ٣٥٨ ـ باب عمل السلطان وأخذ جوائزهم ـ كتاب المكاسب.

(٣) منتهى الكتاب ـ ج ٢ ـ ص ١٠٢٧ ـ كتاب التجارة ـ الطبعة الحجرية. تذكرة الفقهاء ـ ج ١ ـ ص ٥٨٣ ـ في بيان حل الخراج والمقاسمة ـ كتاب البيع ـ الطبعة الحجرية ، تحرير الأحكام ـ ج ١ ـ ص ١٦٣ ـ تفصيل المكاسب المكروهة ـ كتاب التجارات ـ الطبعة الحجرية ، قواعد الأحكام ـ ج ١ ـ ص ١٢٢ ـ الأحكام السادس من الخاتمة ـ كتاب المشاجر ـ الطبعة الحجرية.

(٤) الدروس الشرعية في فقه الإمامية ـ ص ٣٢٩ ـ كتاب المكاسب ـ الطبعة الحجرية.

١١٦

فلا يقوم حجة ، وقد سبق ما فيه كفاية عند ذكره الاستلزام فلا يتم مطلوبه.

( ورابعا ) أن حل التناول من الجائر مطلقا لو ثبت لم يستلزم حل الأخذ ابتداء فلا يحل غرضه إذ غرضه حل الخراج مطلقا ، ولا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قول من يعتمد عليه من الأصحاب ، ألا ترى أنه استدل بالاتفاق المستند الى عبارات الأصحاب ولم يذكر عبارة يدل على ذلك أصلا بل في بعضها ما يدل على العدم كقول الشهيد في آخر عبارته « وكما يجوز الشراء يجوز سائر المعاوضات والهبة والصدقة والوقف ولا يحل تناولها بغير ذلك » (١) فسقط كلامه بالكلية.

ولنرجع الى تحقيق كلام الأصحاب في الباب تبرعا وقصدا لإبانة الحق ومن الله تعالى نسأل الاسناد بإلهام الصواب والسداد والتمسك بسبيل الرشاد فنقول : لا شك ولا خفاء في أن الأصحاب ذكروا جواز ابتياع ما يأخذه السلطان الجائر باسم المقاسمة وسام الزكاة من الأراضي والأنعام ، ولا شبهة أن ذلك ليس من حيث الاستحقاق منه لذلك لا للعين المأخوذة ولا لجواز الأخذ بل هو ظلم ، كما لا شبهة أن هذه المسألة لا تعلق لها بحل الخراج وعدم حله لأن الزكاة من الأنعام ، والغلات لا تعلق لها بذلك بوجه من الوجوه ، وقد أجازوا فيها ذلك مع أنها ظلم وغصب فلو كانت العلة حل الخراج لاختص الحكم به ، ولم يخصه به أحد فيما علمته ، ومن ذكر ذلك ذكره غالبا في باب المكاسب وذكر أنه يجوز ابتياع ما يأخذه الجائر من الزكاة والأرض.

بل لنا أن نقول : إن أخذ الظالم الخراج من الأرض باسم المقاسمة غصب وظلم ، إذ لا يلزم من استحقاق المسلمين له جواز أخذه لغير وإليهم ، ولا جواز قسمته بحيث يبعث ما أخذه لهم لأن قسمة غير الوالي غير معتبرة ، ألا ترى أنهم

__________________

(١) الدروس الشرعية في فقه الإمامية ـ ص ٣٢٩ ـ كتاب المكاسب ـ الطبعة الحجرية.

١١٧

حكموا بجواز ابتياع ما يأخذه باسم الزكاة مع حكمهم إلا من شذ بعدم براءة الدافع منها بها أوجبوا الزكاة عليه فيما بقي عنده ثانيا ، وزكاة الجميع مع سبق تفريطه ، وحرموا الدفع إليه مع المكنة ، فيمكن أن يقال في الخراج ذلك للاشتراك في العلة ، ومما يؤيد هذا ويؤيده بيانا أن مصرف الزكاة الثمانية المذكورين في الآية الكريمة (١) وجواز الابتياع لما يأخذه الظالم لا يختص بهم بل هو جائز على الإطلاق فلا يكون لعلة الاستحقاق.

نعم قد وردت رخصة بكفاية ما يأخذه الظالم عن الزكاة دلت عليه روايات من طرقنا لكني لم أقف على مفت بها بل أكثر من تعرض لها قرب الإخراج ثانيا أو لم يعتمد شيئا إلا الشيخ في التهذيب فإنه قال فيه لما ذكر حديث أبي بكر وفيه ، وليس على أهل الأرض اليوم زكاة فإنه قد رخص اليوم لمن وجبت عليه وأخذت منه ذلك السلطان الجائر أن يحتسب من الزكاة وإن كان الأفضل إخراجه ثانيا لأن ذلك ظلم ظلم به (٢). ثم أورد الروايات الدالة على الإسقاط.

أقول : وحكمه بأنه ظلم ظلم به يقتضي الجزم بالإعادة لا أفضلية الإعادة إذا عرفت هذا فلا يخفى أن الجمع بين تحريم مال المسلم إلا بوجه شرعي وتجويز ابتياع ما يؤخذ منه ظلما أمر مشكل ، فلا بد من تحقيق هذه المسألة لأنها من المهمات في الشريعة ، وسأفصل ما يتضح به في مباحث.

الأول : في ما يدل على أن ذلك حرام وظلم في الزكاة صريحا وفي غيره بالإطلاق وما يتبعه من الضمان.

الثاني : في الجمع بين ذلك وبين جواز الابتياع من الظالم.

الثالث : في رد اللازم من هذه المسألة وتوابعها.

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) تهذيب الأحكام ـ ج ٤ ـ ص ٣٨ ـ حديث : ٩ ـ ٩٧ ـ باب ١٠ في وقت الزكاة ـ والراوي « عبد الله بن بكير » ومع اختلاف في النص عما في المصدر.

١١٨

فالبحث الأول فيه مسألتان : ( الاولى ) في المأخوذ من الزكاة. ( والثانية ) في المأخوذ من غيرها.

أما الأولى : فيدل على تحريم أخذها وأن المأخوذ ظلم وعدوان عموم قوله تعالى « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ » (١) الآية ، حصرها فيمن ذكره ، فأخذ غيرهم إلا من الوالي عليها للقسمة بينهم وتصرفه بجميع الأنواع غير مشروع وظلم لأهل الحق ، وغيرها من الآيات وعموم قوله عليه‌السلام « خذ الصدقة من أغنيائهم واجعلها في فقرائهم » (٢) فأخذها على غير الوجه ظلم محرم وعدوان ، ولأنها شرعت لسد فاقة الفقراء ومواساتهم ، فأخذها لا لصرفها في الوجه مناف للحكمة ، فيجب أن يكون محرما ولأنها حق في العين ، فيتوقف تمييزه على القسمة الشرعية أجاز الشارع للمالك الدفع منها أو من غيرها عينا أو قيمة إلى الوالي والمستحق تحقيقا ، فاذا لم يدفع لم تبرأ الذمة ولم يخرج الاستحقاق عن العين عملا باستصحاب بقاء الحق الى أن يتحقق ما يخرج عنه ، وليس أخذ الجائر مخرجا لأنه ليس واليا ولا مستحقا ، ويؤيد ما ذكرناه ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد ابن علي بن محبوب عن إبراهيم بن عثمان عن حماد عن حريز عن أبي أسامة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك إن هؤلاء المتصدقين يأتوننا فيأخذون منا الصدقة فنعطيهم إياها ، أيجزي عنا؟ فقال : لا ، إنما هؤلاء قوم غصبوكم ـ أو قال ـ ظلموكم أموالكم وإنما الصدقة لأهلها (٣).

إن قلت : أورد الشيخ في التهذيب ثلاث روايات تدل على عدم وجوب الزكاة ثانيا ، (٤) قلنا : مع عدم التعرض لدلالتها لا إيراد علينا بها لأن مطلوبنا

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) السرائر ـ ص ٩٩ س ١٩ من الطبعة الحجرية.

(٣) تهذيب الأحكام ـ ج ٤ ـ ص ٤٠ ـ حديث : ١٣ ـ ١٠١ ـ باب ١٠ في وقت الزكاة.

(٤) تهذيب الأحكام ـ ج ٤ ـ ص ٣٩ ـ حديث ١١ ـ ٩٩ ـ وص ٤٠ ـ حديث ١٢ ـ ١٠٠ و١٤ ـ ١٠٢ ـ باب ١٠ ـ في وقت الزكاة.

١١٩

إثبات أنها ظلم وقد ثبت ، فيقع الكلام في الجمع خاصة إذ لا يلزم من السقوط بتقدير ترجيحه على عدم سقوط الظلم الذي لا معارض له ، ويؤيد عدم السقوط من فتوى الأصحاب ما قال العلامة في المنتهى : لا يجوز للمالك دفعها الى الجائر طوعا ولو دفعها إليه باختياره لم تجز عنه ـ ثم قال : لو عزلها المالك فأخذها الظالم أو تلفت لم يضمن المالك حصة الفقراء مما أخذ الظالم إجماعا إذا لم يفرط ويؤدي زكاة ما بقي عليه على ما تقدم من الخلاف (١).

وقال في التحرير : ولو أخذ الجائر الزكاة ففي إجزائها روايتان الأقرب عدمه لكن لا يضمن حصة الفقراء مما أخذه (٢).

وقال الشيخ في الخلاف : إذا أخذ الصدقة لم تبرأ ذلك ذمته من وجوب الزكاة عليه لأن ذلك ظلم ظلم به ، والصدقة لأهلها يجب عليه إخراجها ، وقد روي أن ذلك مخبر عنه ، والأول أحوط. قال الشافعي : إذا أخذ الزكاة إمام غير عالم ( عادل خ ) أجزأت عنه لأن إمامته لم تزل بفسقه ، وذهب أكثر الفقهاء من المحققين وأكثر أصحاب الشافعي إلى أنه إذا فسق زالت إمامته ـ ثم قال : ـ والذي يدل على أن ذمته لم تبرأ مما أخذه المغلب أن الزكاة حق لأهلها فلا تبرأ ذمته بأخذ غير من له الحق ، ومن أبرأ الذمة بذلك فعلية الدلالة (٣).

وقال الشهيد في البيان : لو أخذ الظالم العشر أو نصفه باسم الزكاة ففي الإجزاء بها روايتان والأقرب عدمه ، وحينئذ يزكي الباقي وإن نقص عن النصاب بالمخرج (٤).

__________________

(١) منتهى المطلب ـ ج ١ ـ ص ٥١٤ ـ كتاب الزكاة ـ البحث الثاني في المتولي للإخراج ـ فروع : الأول ، الثاني ، الثالث ـ الطبعة الحجرية.

(٢) تحرير الأحكام ـ ج ١ ـ ص ٦٧ ـ كتاب الزكاة ، في المتولي لإخراج الزكاة ـ الطبعة الحجرية.

(٣) الخلاف ـ ج ١ ـ ص ٢٨١ ـ مسألة : ٣١ ـ كتاب الزكاة ـ ط : إسماعيليان.

(٤) البيان ـ ص ١٨٤ ـ الفرع السادس من فروع زكاة الغلات وما يتعلق بها ـ الطبعة الحجرية.

١٢٠