تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وإنّ الشيخين قد أحرقا الأحاديث النبوية الشريفة (١).

وإنّ الخليفة عمر بن الخطّاب قد أمر كلّ الصحابة بأن يمحوا ما عندهم من السُنّة (٢).

وإنّ السُنّة لم تُكتب إلاّ في زمن عمر بن عبد العزيز الّذي أمر العلماء بتدوين الأحاديث وكتابتها ، كما هو المعلوم من تاريخ كتابة السُنّة النبوية (٣) !!

__________________

ابن إبراهيم بن عبد الرحمٰن بن عوف ، عن أبيه ، قال : والله ! ما مات عمر بن الخطّاب حتّىٰ بعث إلىٰ أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق : عبد الله بن حذافة ، وأبا الدرداء ، وأبا ذرّ ، وعقبة بن عامر ، فقال : ما هذه الأحاديث الّتي قد أفشيتم عن رسول الله في الآفاق ؟ قالوا : أتنهانا ؟ قال : لا ، أقيموا عندي ما عشت ، فنحن أعلم نأخذ ونردّ عليكم ، فما فارقوه حتّىٰ مات. انتهىٰ.

وروى الحاكم في مستدركه ١ / ١٩٣ : عن سعيد بن إبراهيم ، عن أبيه : أنّ عمر ابن الخطّاب قال لابن مسعود ولأبي الدرداء ولأبي ذرّ : ما هذا الحديث عن رسول الله ؟ وأحسبه حبسهم بالمدينة حتّىٰ أُصيب.

... عن شعبة ، فذكر الحديث بإسناده نحوه ، وقال : هذا حديث صحيح علىٰ شرط الشيخين ، وإنكار عمر أمير المؤمنين علىٰ الصحابة كثرة الرواية عن رسول الله فيه سُنّة ، ولم يخرجاه. انتهىٰ.

(١) انظر : تذكرة الحفّاظ ١ / ٥ الطبقات الكبرىٰ ٥ / ١٨٨.

وجاء في كنز العمّال ١٠ / ٢٨٥ : قالت عائشة : جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلّب كثيراً ، قالت : فغمّني فقلت : أتتقلّب لشكوىٰ أو لشيء بلغك ؟ فلمّا أصبح قال : أي بنية ! هلمّي الأحاديث الّتي عندك ، فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها. انتهىٰ.

(٢) عن يحيىٰ بن جعدة ، قال : أراد عمر أن يكتب السُنّة ، ثمّ بدا له أن لا يكتبها ، ثمّ كتب في الأمصار : مَن كان عنده شيء فليمحه. أخرجه ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله ١ / ٦٥.

(٣) ولمزيد الاطلاع علىٰ هذا التاريخ وتفاصيله يمكن مراجعة كتاب منع تدوين الحديث للسيّد علي الشهرستاني.

٨١

قال الدليمي :

« إنَّ الطعن فيهم ... مدعاة لتفريق المسلمين وإلقاء العداوة والبغضاء في صفوفهم كما هو مشاهد » (١).

أقول :

إنّ الاستناد إلىٰ الكتاب والسُنّة في بيان واقع الأصحاب ، وما هم عليه من تباين في الصفات لا يعدّ طعناً ، والمعترض علىٰ ذلك إنّما يعترض ـ في واقع الأمر ـ علىٰ الكتاب والسُنّة ، وهو ردّ صريح لهما لا يرضاه المؤمن لنفسه ، ولكن تبقىٰ مهمّة العلماء والكتّاب المنصفين في بيان الحقيقة كما هي للمسلمين ، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، وإنقاذ المسلمين من تلك النظرة العشوائية الّتي تعمل علىٰ خلط الأوراق وتضييع الحقائق ، والّتي تعدّ من مخلفات الهيمنة الأموية علىٰ المسلمين (٢). فإذا قام العلماء والكتّاب

__________________

(١) ص ٧.

(٢) قال ابن عرفة ، المعروف بـ : « نفطويه » ـ وهو من أكابر المحدّثين وأعلامهم ـ في تاريخه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُميّة ; تقرباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم ..

ويدلّ علىٰ ذلك كتاب معاوية إلىٰ عمّاله الّذي جاء فيه : إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر ، وفي كلّ وجه وناحية ، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلىٰ الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأوّلين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وائتوني بمناقض له في الصحابة مفتعلة ; فإنّ هذا أحبّ إليَّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته ، وأشدّ إليهم من مناقب عثمان وفضله.

فُقرئت كتبه علىٰ الناس ، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة

٨٢

بدورهم المطلوب هذا ، عندها فقط تتحقّق الوحدة الحقيقية الّتي يرضاها الله ورسوله للمسلمين ، لا الوحدة الزائفة الّتي يرضاها الأُمويون وأتباعهم ، فهذا ممّا لا يرضي الله ورسوله وإن اجتمعت الناس عليه ..

قال تعالىٰ : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) صدق الله العليّ العظيم.

فإن كان بيان الحقّ يؤدّي إلىٰ الفُرقة بين الناس فهذا الإشكال يرد علىٰ الأنبياء أوّلا ; إذ جاؤوا الناس بالحقّ وهم أُمّة واحدة فافترقوا بين مؤيّد لهم ومنكِر ، كما هو ظاهر الآية السابقة.

فالوحدة المطلوبة إذاً إنّما هي وحدة الحقّ لا وحدة البدع والأهواء !! فلينفع العاقل نفسه ، وليتّقِ مسلمٌ ربَّه !

*                  *                 *

__________________

لا حقيقة لها ، وجدّ الناس في رواية ما يجري هذا المجرىٰ حتّىٰ أشادوا بذكر ذلك علىٰ المنابر ، وأُلقي إلىٰ معلّمي الكتاتيب فعلّموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّىٰ رووه وتعلّموه كما يتعلّمون القرآن ، وحتّىٰ علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله.

راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١١ / ٤٥ ، والنصائح الكافية : ٩٨. وانظر : سلسلة الموضوعات في الغدير ٥ / ٢٥٣ ـ ٢٨٣ ; لتقف بالتحقيق علىٰ جملة من هذه الأحاديث المفتعلة.

(١) سورة البقرة : الآية ٢١٣.

٨٣

٨٤



الفصل الثالث



موقف الإمام عليه‌السلام

من الصحابة

٨٥

٨٦



ثمّ قال الكاتب بعد كلامه السابق في الصحابة :

« فما كان قول سيّدنا وإمامنا عليّ رضي‌الله‌عنه وموقفه منهم ؟ هل صحيح أنّه كان يبغضهم ويبغضونه ؟ وأنّهم آذوه وظلموه ؟ وأنّه كان يسبّهم ويبطن لهم غير ما كان يظهر لهم ؟ تعالوا بنا إلىٰ بعض المواضع من كتاب نهج البلاغة لنرى ثمّ نجيب بعد ذلك.

من خطبة له عليه‌السلام يعنف بها أصحابه ويمدح فيها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وقد رأيت أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما أرىٰ أحداً يشبههم « منكم » ، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً وقد باتوا سجّداً وقياماً يراوحون بين جباهههم وخدودهم ، ويقفون علىٰ مثل الجمر من ذكر معادهم ، كأنّ بين أعينهم رُكب المعزى من طول سجودهم ، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتّىٰ تبلّ جيبوبهم ، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء الثواب ). نهج البلاغة ج ١ ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

ومن خطبة له عليه‌السلام يخاطب أصحابه : ( ... ولوددت أنّ الله فرّق بيني وبينكم وألحقني بمَن هو أحقّ بي منكم ، قوم والله ميامين الرأي ، مراجيح الحلم ، مقاويل بالحقّ ، متاريك للبغي ، مضوا قدماً علىٰ الطريقة ، وأوجفوا علىٰ المحجّة ، فظفروا بالعقبى الدائمة ، والكرامة الباردة ). ج ١ ص ٢٣٠ » (١).

__________________

(١) ص ٧ ـ ٨.

٨٧

ثمّ ذكر الكاتب نصوصاً أُخرىٰ من الكتاب ، تنحىٰ منحىٰ النصّين السابقين.

وفي ذلك أقول :

إنّ النصوص الّتي ذكرها الكاتب من نهج البلاغة في حقّ الصحابة هي خاصّة بالمؤمنين منهم ، دون المنافقين الّذين يعدّهم أهل السُنّة صحابة عدولاً علىٰ مصطلحهم (١) ، إذ أنّ الإمام عليه‌السلام ذكر صفاتهم دون أسمائهم ، والصفات الّتي ذكرها هي صفات المؤمنين لا المنافقين ؛لأنّ المنافقين لا يبيتون لله سُجّداً وقياماً ، وإنّما ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا ) (٢) ..

كما أنّهم ليسوا بميامين الرأي ، ولا مراجيحَ الحلم ، بل هم ممّن ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) ..

كما أنّهم ليسوا بمقاويل بالحقّ ، وإنّما كانوا ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (٤) ..

__________________

(١) راجع تعريف الصحابي في كتاب : الإصابة في تمييز الصحابة ـ لابن حجر العسقلاني الشافعي ـ ١ / ٧.

(٢) سورة النساء : الآية ١٤٢.

(٣) سورة المنافقون : الآية ٢.

(٤) سورة البقرة : الآيات ١٤ ـ ١٦.

٨٨

ومرادنا من هذا البيان أن لا يختلط علىٰ هذا الكاتب أو غيره أنّ الإمام عليه‌السلام أراد بهذه الأقوال مدح جميع الصحابة ، مؤمنهم ومنافقهم ، فهذا ممّا لا يعقل صدوره عن مؤمن فضلاً عن أمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ.

وهذا الأمر الّذي ذكره الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هنا عن صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشمل أصحابه أيضاً ، أي أنّ فيهم المؤمن وفيهم مَن هو دون ذلك ، بدليل خطابه هنا لجماعة من أصحابه ممّن ابتُلي بتخاذلهم وتقاعسهم عن الجهاد وهو في مقام مدحه لصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخلصين وقوله لهم : « فما أرىٰ أحداً يشبههم منكم ... ».

قال عليه‌السلام في مقام آخر خاطب به الصالحين من أصحابه : « أنتم الأنصارُ علىٰ الحقّ ، والإخوانُ في الدين ، والجُنَنُ يومَ البأس (١) ، والبطانةُ دون الناس (٢) ، بكم أضربُ المُدبِرَ ، وأرجو طاعةَ المُقبل » (٣).

فالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبخس الناس أشياءهم ، وكان يعطي لكلّ ذي حقّ حقّه ، فالمؤمن عنده حقّه المدح والتقدير ، والمتخاذل عنده حقّه التعنيف والتحذير ، كما هو شأن القرآن الكريم في مدحه للمؤمنين وذمّه للمنافقين ; قال تعالىٰ : ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَٰئِكَ

__________________

(١) الجُنن ـ جمع جُنّة ـ : الوقاية. والبأس : الشدّة.

(٢) بطانة الرجل : خواصّه وأصحاب سرّه.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٢٣١.

٨٩

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (١).

وسيأتي في البحوث القادمة ذكر بيانه الصريح عليه‌السلام ومن نهج البلاغة نفسه بحقّ بعض الأصحاب بشخوصهم ، كـ : عمر بن الخطّاب ، وطلحة ، والزبير ، ومعاوية ، ممّا ينخرم معه استفادة العموم من كلماته السابقة التي أوردها الدليمي عن النهج.

قال الدليمي :

« وقال ـ أي أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ ذاكراً عمر بن الخطّاب رضي‌الله‌عنه : ( لله بلاء فلان ! فقد قوّم الأود ، وداوىٰ العمد ، خلّف الفتنة ، وأقام السُنّة ، ذهب نقي الثوب قليل العيب ، أصاب خيرها ، وسبق شرّها ، أدىٰ إلىٰ الله طاعته ، واتّقاه بحقّه ). ج ٢ ص ٢٢٢.

قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة : ( وفلان المكنّىٰ عنه : عمر بن الخطّاب ، وقد وجدت النسخة الّتي بخطّ الرضي أبي الحسن جامع نهج البلاغة وتحت فلان : عمر ، وسألت عنه النقيب أبا جعفر يحيىٰ ابن أبي زيد العلوي ، فقال لي : هو عمر ، فقلت له : أثنىٰ عليه أمير المؤمنين عليه‌السلام ؟ فقال : نعم. انتهى ). شرح نهج البلاغة ، المجلّد ٣ ص ١٢ ج ١٢ ، عن الشيعة وأهل البيت عليهم‌السلام ص ٩٦ ، لإحسان إلهي ظهير » (٢).

أقول :

اختلفت أقوال الشرّاح للـ « نهج » في معرفة الشخص الّذي عناه الإمام

__________________

(١) سورة يونس : الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) ص ٩.

٩٠

أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : « فلان » هنا ، وإن شئت الإطلاع علىٰ هذه الاختلافات فارجع إلىٰ شرح النهج لابن أبي الحديد نفسه ، في بداية ج ١٢ ص ٤ ; لتقف عليها.

والملاحظ من النصّ الّذي نقله الدليمي هنا بأنّ المراد من فلان : عمر ، إنّما هو : نقل ابن أبي الحديد لا غير ، وابن أبي الحديد ليس إمامي المذهب ، فنقله ليس حجّة علينا ، فالحجّة هو ظاهر كلام الإمام عليه‌السلام ، وظاهره لا يدلّ علىٰ أنّ المراد هو عمر ، وما قاله العلوي إنّما هو اجتهاد لا يلزم غيره ، وما كُتب في نسخة الرضي إن كان من غيره فالكاتب مجهول ، وإن كانت من الرضي فهو لا يتعدّىٰ كونه اجتهاداً لا يكون حجّة علىٰ غيره.

ومن هذا كلّه نعلم : إنّ كلام الإمام عليه‌السلام نفسه لا دليل فيه ، وإنّما الدليل من خارج كلامه ، والمفروض أنّ الكاتب يستند في دعواه علىٰ كلام الإمام عليه‌السلام لا علىٰ كلام غيره ، وهذا الأمر لم يحصل هنا !!

وعليه : يبقى هذا المقطع من كلام الإمام عليه‌السلام مجملا لا دليل فيه علىٰ تعيين مدح أحد بعينه.

نعم ، هناك جملة روايات تشير إلىٰ أنّ الإمام عليه‌السلام أراد به عمر بن الخطّاب ، وكان يقرّه علىٰ لسان نادبة لعمر قالته بعد موته ، إلاّ أنّ جميع هذه الروايات ليست تامّة سنداً ; فلا تتمّ الحجّة بها علىٰ أية حال (١).

__________________

(١) انظر : تاريخ المدينة المنورة ٣ / ٩٤١ تجده يرويه مرسلاً ، وتاريخ الطبري ٣ / ٢٨٥ ، وابن كثير ٧ / ١٥٧ يرويانه بسند فيه : « ابن دأب » ، وهو لم يوثّق ; كما في ميزان الاعتدال ـ للذهبي ـ ٣ / ٢١٦ ، ولسان الميزان ـ لابن حجر ـ ٤ / ٣٢٢. ويرويه ابن عساكر في تاريخه ٤٤ / ٤٥٧ بسندين يشتملان علىٰ جماعة من المجاهيل.

٩١

وممّا يشكل هنا علىٰ هذه الدعوىٰ ، بأنّ المراد من « فلان » في قول الإمام عليه‌السلام السابق : عمر بن الخطّاب ، مجموعة أُمور نذكر بعضاً منها :

ـ الأوّل :

ما ذكره الإمام عليه‌السلام في الخطبة الشقشقية عن خلافة عمر بن الخطّاب بصريح العبارة : « فيا عجباً !! بينما هو يستقيلها في حياته (١) ـ يريد أبا بكر ـ إذ عقدها لآخر بعد وفاته (٢) ، لشدّما تشطّرا

__________________

(١) قال الشيخ محمّد عبده في تعليقه علىٰ النهج : رووا أنّ أبا بكر قال بعد البيعة « أقيلوني فلست بخيّركم » وأنكر الجمهور هذه الرواية عنه ، والمعروف عندهم « وليتكم ولست بخيّركم » ص ٤٠.

وأقول : إنّ الرواية الأُولىٰ رواها : ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ / ٣١ ، ومحمّد بن الحسن الشيباني في السير الكبير ١ / ٣٦ ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٩ ، والقرطبي في تفسيره ١ / ٢٧٢ ، والطبراني في المعجم الأوسط ٨ / ٢٦٧ ..

وإنّ استشهاد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه اللفظة هنا ، دليل علىٰ أنّ أبا بكر قد قالها فعلاً ، وقد اتّفقوا علىٰ أنّ مَن طلب الإقالة من الخلافة لا يصلح للخلافة ; لأنّ الخلافة إن كانت من الله فلا يحلّ لأبي بكر أن يتخلّف عن مورد أراده الله به ، وإن كانت من الناس فهو اعتراف بالعجز عن أداء المهمّة ، لذا بدأ الإمام عليه‌السلام كلامه متعجبّاً هنا !

(٢) قال ابن قتيبة : ثمّ دعا ـ أبو بكر ـ عثمان بن عفّان فقال : اكتُب عهدي. فكتب عثمان وأملىٰ عليه :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة آخر عهده في الدنيا نازحاً عنها ، وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها ، إنّي استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ، فإن تروه عدلاً فيكم ، فذلك ظنّي به ورجائي فيه ، وإن بدّل وغيّر فالخير أردت ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الّذين ظلموا أي منقلب ينقلبون » ثمّ ختم الكتاب ودفعه ، فدخل عليه المهاجرون والأنصار حين بلغهم أنّه استخلف عمر ، فقالوا :

٩٢

ضرعيها (١) ! فسيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها (٢) ، ويخشن مسّها ، ويكثر العثار فيها ، والاعتذار منها ; فصاحبها كراكب الصعبة (٣) ، إن أشنق لها خرم ، وإن أسلس لها تقحم ، فمُني الناس ـ لعمر الله ـ بخبط وشماس (٤) وتلوّن واعتراض ... » (٥).

فانظر ـ عزيزي القارئ ـ هل يستقيم كلامه عليه‌السلام في النصّ السابق بأنّه ـ أي عمر بن الخطّاب ـ « قوّم الأود » ، أي الاعوجاج ، مع كلامه عليه‌السلام الصريح بحقّه هنا ؟! اقرأ واحكم !!

__________________

نراك استخلفت علينا عمر ، وقد عرفته وعلمت بوائقه فينا وأنت بين أظهرنا ؟ فقال أبو بكر : لئن سألني الله لأقولن استخلفت عليهم خيّرهم في نفسي.

راجع : الإمامة والسياسة ١ / ٣٧ ، باب : مرض أبي بكر واستخلافه عمر رضي الله عنهما.

(١) لشدّما تشطّرا ضرعيها : جملة شبه قسمية ، اعترضت بين المتعاطفين ; فالفاء في فسيّرها عطف علىٰ عقدها ، ومراده عليه‌السلام هنا : أنّهما اقتسما أمر الخلافة بينهما ، قال الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج ١ / ٣٣ ـ : فأطلق علىٰ تناول الأمر واحداً بعد واحد اسم التشطّر والاقتسام ، كأنّ أحدهما ترك منه شيئاً للآخر.

(٢) قال الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج ١ / ٣٣ ـ : الكُلام ـ بالضمّ ـ : الأرض الغليظة ، وفي نسخة : كلمها ، إنّما هو بمعنىٰ : الجرح ، كأنّه يقول : خشونتها تجرح جرحاً غليظاً.

(٣) قال الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج ١ / ٣٣ ـ : الصعبة من الإبل : ما ليست بذلول ، وراكبها إمّا أن يشنقها فيخرم أنفها ، وإمّا أن يسلس لها فترمي به في مهواة تكون فيها هلكته ، والضمير في قوله : « فصاحبها » راجع للخلافة.

(٤) قال الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج ١ / ٣٣ ـ : مني الناس : ابتلوا وأُصيبوا. والشِماس ـ بالكسر ـ : إباء ظهور الفرس عن الركوب. والخبط : السير علىٰ غير جادّة. والتلوّن : التبدّل. والاعتراض : السير علىٰ غير خطّ مستقيم. كأنّه يسير عرضاً في حال سيره طولاً ; يقال : بعير عرضي يعترض في السير لأنّه لم يتمّ رياضته. وفي فلان عرضية ، أي عجرفة وصعوبة.

(٥) نهج البلاغة ـ تحقيق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٣٤.

٩٣

والنصّ الّذي أمامنا هنا يعدّ بيّنة واضحة في بيان الشخص المقصود ، بينما المدّعى هناك مجرّد احتمال وادّعاء ورد من خارج كلام الإمام عليه‌السلام ، وفي مقام التعارض تقدّم البيّنة علىٰ الادّعاء ؛كما هو معلوم.

ـ الثاني :

رفضه عليه‌السلام العمل بسيرة الشيخين « أبي بكر وعمر » كما هو المعلوم منه في قضية الشورىٰ ، الّتي وضعها عمر قبل وفاته ..

فلو كان عمر قد « قوّم الأود ، وداوى العمد ، وأقام السُنّة » ، كما هو المدّعى ، فلِمَ رفض الإمام عليه‌السلام العمل بسيرته ، ورفض الشرط المذكور الّذي اشترطه عليه عبد الرحمٰن بن عوف ، وخرج من الشورىٰ لم يبايَع له بسبب رفضه لهذا الشرط (١) ؟!

ـ الثالث :

عرف عن عمر مخالفته للكتاب والسُنّة النبوية معاً في موارد كثيرة وإنصاته لاجتهاد نفسه ، الأمر الّذي لا يستقيم معه قول الإمام عليه‌السلام بحقّه : « أقام السُنّة » ، نذكر هنا جملة من تلك الموارد علىٰ سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في منع سهم المؤلّفة قلوبهم (٢).

٢ ـ مخالفته القرآن والسُنّة في منع متعة الحجّ وكذلك متعة النساء (٣).

__________________

(١) انظر : مسند أحمد ١ / ٧٥ ، فتح الباري ١٣ / ١٧١ ، تاريخ دمشق ٣٩ / ١٩٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ١٨٨.

(٢) انظر : الجوهرة النيّرة في الفقه الحنفي ١ / ١٦٤ ; نقلاً عن : الفصول المهمّة لتأليف الأُمّة ـ لشرف الدين ـ : ٨٧ ، حاشية ردّ المختار ٢ / ٣٧٤.

(٣) انظر : مسند أحمد ٣ / ٣٢٥ ، تفسير الرازي ٥ / ١٦٧.

٩٤

٣ ـ مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في الطلاق الثلاث ، فجعله ثلاثاً ، والسُنّة جعلُه واحدة (١).

٤ ـ مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في فريضة التيمّم وأسقط الصلاة عند فقد الماء (٢).

٥ ـ مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في عدم التجسّس علىٰ المسلمين ، فابتدعه من نفسه (٣).

٦ ـ مخالفته القرآن والسُنّة النبوية في عدم إقامة الحدّ علىٰ العامد القاتل في شأن خالد بن الوليد ، وكان يتوعّده بذلك (٤).

٧ ـ مخالفته السُنّة النبوية في إسقاط فصل من الأذان وإبداله بفصل من عنده (٥).

٨ ـ مخالفته السُنّة النبوية في تشريع صلاة النافلة جماعة ، فابتدع التراويح من نفسه ، وقال عنها : نعمت البدعة هذه (٦) !

٩ ـ مخالفته السُنّة النبوية في العطاء ، فابتدع المفاضلة وخلق الطبقية في الإسلام ولم تكن تعرف فيه من قبل (٧).

١٠ ـ لم يمتثل لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تسييره ضمن جيش أُسامة

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم ٤ / ١٨٣ كتاب الطلاق ، باب : طلاق الثلاث.

(٢) انظر : صحيح البخاري ، كتاب التيمّم ، باب : المتيمم هل يَنْفخُ فيهما ؟

(٣) انظر : الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ ٣ / ٢٤ حوادث سنة ٢٣.

(٤) راجع : تاريخ ابن الأثير ٢ / ٣٦٧ حوادث سنة ١١ ، وغيره.

(٥) انظر : الموطّأ ـ لمالك ـ : ٢٤ ، باب : ما جاء في النداء للصلاة.

(٦) انظر : صحيح البخاري ٢ / ٢٥٢ كتاب صلاة التراويح ، سُنن البيهقي ٢ / ٢٩٣ باب قيام شهر رمضان.

(٧) انظر : المغني ـ لابن قدامة ـ ٧ / ٣٠٩ ، كنز العمّال ٤ / ٥٧٧ ، تفسير القرطبي ٨ / ٢٣٨.

٩٥

وتخلّف عنه ، وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « انفذوا بعث أُسامة ، لعن الله من تخلّف عنه » ..

وهو الحديث الّذي أرسله الشهرستاني في الملل والنحل في المقدّمة الرابعة إرسال المسلّمات ، وأورده أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة برواية أحمد بن إسحاق بن صالح ، عن أحمد بن سيار ، عن سعيد بن كثير الأنصاري ، عن رجاله ، عن عبد الله بن عبد الرحمٰن : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مرض موته أمّر أُسامة بن زيد بن حارثة علىٰ جيش فيه جلّة المهاجرين والأنصار ، منهم : أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمٰن ابن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وأمره أن يغير علىٰ « مؤتة » حيث قتل أبوه زيد ... إلىٰ آخر الحديث (١).

بل أفيد الدليمي : إنّ منزلة عمر بن الخطّاب عند عليّ عليه‌السلام قد أفصح عنها عمر بن الخطّاب نفسه ، كما يروي ذلك مسلم في صحيحه ؛ قد روىٰ أنّ عمر بن الخطّاب خاطب عليّاً عليه‌السلام والعبّاس عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال لهما في جملة كلام له : ... ثمّ توفّي أبو بكر وأنا وليُّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووليُّ أبي بكر فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً (٢).

فهذه شهادة صريحة من عمر في ما يراه أمير المؤمنين عليه‌السلام عنه ، وهي تنسف ـ للأسف ـ كلّ جهود الدليمي في محاولة التمويه علىٰ الواقع

__________________

(١) راجع تتمّة الحديث في شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٥٢.

وانظر : تفاصيل سرية أُسامة في البداية والنهاية ٥ / ٣٣٢ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ / ١٨٩.

وانظر : تفاصيل الموارد المتقدّمة وغيرها من مخالفات الخليفة عمر بن الخطّاب للكتاب والسُنّة في كتاب : النصّ والاجتهاد للسيد شرف الدين العاملي رحمه‌الله.

(٢) صحيح مسلم ٥ / ١٥٢ كتاب الجهاد والسير ، باب : الفيء.

٩٦

الحقيقي الذي يحاول جاهداً ترقيعه بأي حال من الأحوال !

ومع ملاحظة المخالفات المتقدّمة للكتاب والسُنّة من قبل عمر بن الخطّاب ينبغي الالتفات إلىٰ أنّ الله عزّ وجلّ قد نهىٰ عباده عن مخالفته ، وأنّه قد هدّد نبيّه الأعظم ورسوله الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن تقوّل عليه بعض الأقاويل أن يقطع منه الوتين ـ أي : نياط القلب ; وهو : حبله ـ قال تعالىٰ : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (١).

كما أنّ الله تعالىٰ أمر رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول للناس إن أرادوا منه تبديل حكم الله وكلامه : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ) (٢).

وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً قوله : « وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ محدَث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار » (٣).

كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو ردّ » (٤).

وروى الحاكم والطبراني وابن حبان ، عن عائشة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « ستّة لعنتهم ولعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب ... والتارك لسنّتي » (٥).

وروي عن مالك بن أنس أنّه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتّىٰ يأتيه الوحي من السماء.

__________________

(١) سورة الحاقة : الآيات ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) سورة يونس : الآية ١٥.

(٣) سنن النسائي ٣ / ١٨٩.

(٤) صحيح البخاري ٣ / ١٨٨.

(٥) المستدرك علىٰ الصحيحين ـ للحاكم ـ ٢ / ٥٧٢ وصحّحه.

٩٧

قال ابن حزم ، بعد ذكره لكلام مالك المتقدّم : أفيحلّ لأحد صحّ هذا عنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي عنه أخذنا ديننا ، ثمّ يفتي بعد ذلك بغير ما أتاه به الوحي ويستعمل الرأي والقياس ؟! معاذ الله من ذلك (١).

وعن أحمد بن حنبل ، قال : « مَن ردّ حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو علىٰ شفا هلكة » (٢).

وقال الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني : وإنّ من عجائب الدنيا أن يحتجّ بعض الناس ... علىٰ أنّ في الدنيا بدعة حسنة ، وأنّ الدليل علىٰ حسنها اعتياد الناس لها (٣) !!

وأورد الكاتب نصّاً آخر من نهج البلاغة ، قال فيه بأنّه : جاء في ذكر عمر بن الخطّاب ، وهو قوله عليه‌السلام : « ووليهم والٍ فأقام واستقام حتّىٰ ضرب الدين بجرانه » (٤).

وهذا النصّ يرد عليه ما ورد علىٰ النصّ السابق من حيث الإجمال حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ، وقد ورد عن الشيخ محمّد عبده في خصوص هذا النصّ ، أنّ الإمام عليه‌السلام أراد بالوالي هنا : النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونسب مَن أراد به : عمر بن الخطّاب ، إلىٰ قول قائل ; إشارة منه إلىٰ ضعفه عنده (٥).

ومع هذا ، فهذا النصّ لا ينفع الكاتب في المقام ; فهو وإن كان قد ذكر قول الشارح ابن أبي الحديد ، إلاّ أنّه لم يكمل تمام كلامه عليه‌السلام الّذي أورده الشارح ، لسبب سيدركه القارئ الكريم معنا عند متابعة تمام كلام

__________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام ٦ / ٧٩١.

(٢) سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٩٦.

(٣) سلسلة الأحاديث الضعيفة ٢ / ١٧.

(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٤ / ١٠٧.

(٥) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٤ / ١٠٧.

٩٨

الإمام عليه‌السلام ; إذ هو ينافي الغرض الّذي يصبو الدليمي إلىٰ إثباته في نفسه.

قال الدليمي :

« يقول ابن أبي الحديد : وهذا الوالي هو : عمر بن الخطّاب ، وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة ، ويذكر فيها قربه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختصاصه به وإفضائه بأسراره إليه ، حتّىٰ قال : فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلاً منهم ، فقارب وسدّد حسب استطاعته علىٰ ضعف وجدّ كانا فيه ، ثمّ وليهم وال فأقام واستقام ، حتّىٰ ضرب الدين بجرانه ... » (١).

أقول :

إليك ـ عزيزي القارئ ـ كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بتمامه مع شرح ابن أبي الحديد له لتعرف علّة توقّف الكاتب عن إتمامه !

قال ابن أبي الحديد في شرحه : « الجران : مقدّم العنق. وهذا الوالي هو : عمر بن الخطّاب. وهذا الكلام من خطبة خطبها في أيام خلافته طويلة ، يذكر فيها قربه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واختصاصه به وإفضاءه بأسراره إليه ، حتّىٰ قال فيها : فاختار المسلمون بعده بآرائهم رجلاً منهم (٢) ، فقارب

__________________

(١) ص ١٠.

(٢) يرجى الانتباه إلىٰ كلام الإمام عليه‌السلام والتوقّف عنده ; فهو يدلّ علىٰ أنّ الاختيار لم يكن خاضعاً لأي دليل من الكتاب والسُنّة ، وإنّما كان خاضعاً للآراء الشخصية والمبادرات الفردية ، الأمر الّذي سيأتي الحديث عنه في الصفحات القادمة من الكتاب عند مناقشة الكاتب وإجابته عن سؤاله بشأن الخلافة : هل هي شورىٰ أو بالنصّ ؟

٩٩

وسدّد حسب استطاعته علىٰ ضعف وجدّ كانا فيه.

ثمّ وليهم بعده وال فأقام واستقام حتّىٰ ضرب الدين بجرانه ، علىٰ عسف وعجرفية كانا فيه (١).

ثمّ اختلفوا ثالثاً لم يكن يملك من أمر نفسه شيئاً ، غلب عليه أهله فقادوه إلىٰ أهوائهم كما تقود الوليدة البعير المخطوم ، فلم يزل الأمر بينه وبين الناس يبعد تارة ويقرب أُخرىٰ حتّىٰ نزوا عليه فقتلوه.

ثمّ جاؤوا بي مدب الدبا يريدون بيعتي.

ـ ثمّ قال ابن أبي الحديد : ـ وتمام الخطبة معروف ، فليطلب من الكتب الموضوعة لهذا الفن » (٢). انتهى ..

فهل أدركت ـ قارئي العزيز ـ علّة توقّف الكاتب عن إتمام كلام الإمام عليه‌السلام وكلام الشارح ابن أبي الحديد ؟!

قال الدليمي :

« ومن كلام له عليه‌السلام وقد استشاره عمر بن الخطّاب في الشخوص لقتال الفرس بنفسه : إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة ، وهو دين الله الّذي أظهره ... فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتّىٰ يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك. إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون : هذا أصل

__________________

(١) العسف : الأخذ علىٰ غير الطريق ، والعسوف الظلوم. والعجرفة : التكبّر ; قال الزهري : العجرفة : جفوة في الكلام وخرق في العمل ; راجع : مختار الصحاح : ٤١٣ ، ٤٣٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢٠ / ٢١٨.

١٠٠