تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وإن ارتدّ أو كفر أو فسق ، فهو عادل قد رضي الله عنه ورضي هو عن الله ، فهذا ممّا يرفضـه الشرع والعقل معاً ، ولا يوجد عليه دليل قطعاً ، بل القائل به خارج عن جماعة العقلاء والمتشرّعة.

أمّا المهاجرون والأنصار من غير السابقين الأوّلين فحالهم حال سائر الناس في توقّف حُسن حالهم علىٰ إحراز اتّباعهم الحسن.

أمّا قوله تعالىٰ : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) ، فهو دالّ علىٰ أنّ الله سبحانه راض عن بيعة المؤمنين ، ولم يقل سبحانه أنّه راضٍ عن جميع المبايعين ، أو أنّه راضٍ عن الّذين بايعوا ، هكذا بشكل مطلق يستفاد منه العموم ، وإنّما قيّد سبحانه رضاه بـ : « المؤمنين » فقط ، وعندها علينا إحراز إيمان الشخص المراد شموله بهذه الآية أوّلاً ، حتّىٰ نقول بعد ذلك : إنّه داخل تحت عموم آية الرضوان ، وأنّه حقّاً من الّذين رضي الله عنهم. وإلاّ ـ أي عند الشكّ في الموضوع ، وهو الشخص المراد تعديله بهذه الآية ـ لا يصحّ التمسّك بالعموم ؛ لأنّه من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وهو محلّ منع عند الأُصوليّين.

فقولنا ـ مثلاً ـ : أكرم العلماء ، لا يصحّ شموله لزيد ـ فيما إذا كان مصداقاً مشكوكاً في كونه عالماً أو لا ـ ما لم نحرز أنّه عالم حقّاً ; ليصحّ عندئذٍ إكرامه ودخوله في حكم وجوب الإكرام ، وأمّا إدخاله في حكم العامّ ـ أي كونه من العلماء الّذين يجب إكرامهم ـ مع الشكّ في كونه عالماً ، فهذا محلّ منع ، ولا يمكن المصير إليه ; وذلك لأنّ حكم العامّ لا يحرز موضوعه بنفسه ، بل إحراز الموضوع بتمامه يجب أن يتمّ في مرحلة متقدّمة عن الحكم ليصـدق انطباقه عليه.

٦١

وعلىٰ أية حال ، فقد يقول قائل :

لماذا هذا الشكّ في المصداق ، فإنّ الآية كشفت عن إيمان المبايعين ، وأنّها دلّت علىٰ أنّ كلّ الّذين بايعوا في هذه الواقعة هم من المؤمنين الّذين رضي الله عنهم.

قلنا :

مع غضّ النظر عن البيان المتقدّم ، وما يفيده كلام القائل هنا من استدلال عقيم ; لِما فيه من جنبة الدور ، فإنّه مخالف لظاهر الآية الكريمة وللنصوص الواردة عن الواقعة ; فقد جعل سبحانه في الآية الكريمة بياناً وعلامة ـ أي للمؤمنين المبايعين تحت الشجرة ـ تكشف أنّ رضاه سبحانه كان عن بعض المبايعين لا عن جميع المبايعين ..

فقد قال سبحانه عن الّذين رضي عنهم في البيعة : ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) .. وعند العودة إلىٰ نصوص الواقعة نجد أنّ المبايعين بايعوا علىٰ أن لا يفرّوا ، وفي بعض النصوص : أنّهم بايعوا علىٰ الموت ، وفي بعضها : أنّهم بايعوا علىٰ أن لا يفرّوا وعلىٰ الموت ، وفي رابعة : أنّهم بايعوا علىٰ أن لا يفرّوا دون البيعة علىٰ الموت ، فيكون القدر المتيقّن هو : البيعة علىٰ عدم الفرار ، وإن كان لازم عدم الفرار هو معنىٰ البيعة علىٰ الموت ، فلا تختلف عندئدٍ المضامين الواردة في هذه النصوص (١) ..

__________________

(١) انظر : فتح الباري ٦ / ٨٢ و ٧ / ٣٤٥ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١٤١ ، تاريخ دمشق ٣٩ / ٧٧ ، تفسير الطبري ٢٦ / ١١٤ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٣٥٧.

٦٢

إلاّ أنّنا نجـد أنّ جملة من المبايعـين تحت الشجرة قد فرّوا في أوّل واقعة حصلت بعد هذه البيعة ، وهي واقعة خيبر ، وما جرىٰ فيها من هزيمة بعضهم ، حتّىٰ أنّه رجع إلىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه (١).

فاضطر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستدعي عليّاً عليه‌السلام ، وكان أرمد العين حينها ، وأمـره بالتوجّـه إلىٰ خيبر لفتحـها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل استدعائه عليّاً عليه‌السلام تكلّم بكلام أظهر فيه تذمّره من ظاهرة الفرار الّتي تكرّرت في خيبر ; إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سأُعطي الراية غداً إلىٰ رجل يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرّار غير فرّار » (٢) ( هكذا ) ، وهو تعريض واضح بمَن تكرّرت منهم حالة الفرار من قبل.

فهل يصحّ لقائل أن يقول ، بعد معرفته بشرائط هذه البيعة ومعاهدتهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوفاء بعدم الفرار (٣) ، ثمّ فرارهم الواقعي من المعركة وعدم حصول الفتح علىٰ أيديهم ، وهم كانوا من المبايعين حتماً ، بأنّ : سياق الآية

__________________

(١) وهو : عمر بن الخطّاب ; انظر : المستدرك علىٰ الصحيحين ـ للحاكم ـ ٣ / ٤٠ ; وصحّـحه ، تلخيص المستدرك ـ للذهبي ـ ٣ / ٤٠ ; وصحّحه ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٨ / ٥٢١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٩٧.

(٢) انظر : تاريخ دمشق ٤١ / ٢١٩ ، السيرة الحلبية ٣ / ٧٣٧ ، السيرة النبوية ـ لزيني دحلان ـ ٢ / ٢٠٠ ..

ولا يخفىٰ علىٰ المحيط بعلوم العربية أنّ استعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صيغة المبالغة : « فعّال » في كلامه ، فيه من الدلالة علىٰ كثرة الفرّ ، والتعريض بفاعله في تلك الواقعة ؛ لأنّ « فعّال » معناه كثير الفعل ، وهذه الصيغة لا تستعمل إلاّ عند الإكثار من الشيء ، أو عند التعريض بالإكثار من الشيء.

(٣) قال الطبري في تفسيره جامع البيان ٢٦ / ١١٤ : وقوله : ( فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ ) يقول تعالىٰ ذكره : فعلم ربّك يا محمّد! ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة ، من صدق النية ، والوفاء بما يبايعونك عليه. انتهىٰ.

٦٣

الكريمة يمكن أن يكون هكذا : إنّ الله علم ما في قلوب بعضهم من عدم الوفاء بالبيعة وأنّهم سيفرّون ، ومع هذا أنزل السكينة علىٰ قلوبهم وأثابهم فتحاً قريباً !!

فهل يمكن قبول مثل هذا البيان وعدّه تفسيراً صحيحاً للآية ؟!

إنّ هذا في الواقع كلام لا يمكن لأحد أن ينطق به ، فضلاً عن قبوله ; لأنّ السكينة تعني الطمأنينة والثبات ، وهي خلاف الخوف والفرار من المعركة ، كما أنّ إثابة الفتح تعني الفوز والنصر ، وهي خلاف الهزيمة وعدم الفـتح ، فكيف يصـير الجمع بين هذه المتخالفات في كلام الحقّ سبحانه لتتمّ استفادة رضاء الله تعالىٰ عن جميع المبايعين تحت الشجرة كما يرغب بعضـهم ؟!!

إنّ الآية الكريمة في الحقيقة لا تفيد المدّعي في دعواه ، بل هي علىٰ خلاف المدّعىٰ تماماً ؛ لِما فيها من تمييز المرضي عنهم عن غير المرضي عنهم ، وهو خلاف دعوىٰ رضاه سبحانه عنهم جميعاً.

ومع ذلك ، لو تنزّلنا عن هذا أيضاً وقبلنا بأنّ الآية دلّت علىٰ شمول جميع المبايعين تحت الشجرة بالرضوان ، فلا يمكننا قبول القول باستمرار الرضوان عن الجميع ; وذلك لوقوع المعصية منهم بالفرار ـ في ما بعد ـ ونقض العـهد ..

قال تعالىٰ : ( وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (١).

أي : قد توعّد سبحانه علىٰ الفرار بالغضب والنار ، فدلّ علىٰ كونه

__________________

(١) سورة الأنفال : الآية ١٦.

٦٤

معصـية ، والجمع بين استمرار رضا الله وبين وقوع المعصية من العبد باطل ، بل يعدّ موهناً لحقّ الربوبية ومعنى العبودية ; فلا يمكن المصير إليه مطلقاً ...

بل أقول :

لا يستقيم الأمر لأصحاب هذه الدعوىٰ باستمرار الرضوان عن جميع المبايعين ، خاصّة إذا علمنا أنّ قاتل عمّار ، أبا الغادية ، هو ممّن شهد بيعة الرضوان أيضاً (١) ؛ وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث يصحّحه الحاكم والذهبي والهيثمي والألباني وغيرهم قوله : « إنّ قاتل عمّار وسالبه في النار » (٢) ، فتأمّل !

هذا كلّه ، بالإضافة إلىٰ أنّ الاستدلال بهذه الآية علىٰ عدالة جميع الصحابة يكون أخصّ من دعوىٰ المدّعي ; لأنّ المبايعين تحت الشجرة إنّما كانوا ألفاً وأربعمائة فقط ، بينما مجموع الصحابة يتجاوز المائة وعشرين ألف ، وعليه فلا تتمّ إرادة العموم علىٰ مختلف الوجوه والحالات من هذه الآية الشريفة أيضاً ، فتدبّر جيداً !

__________________

(١) انظر : الفصل في الملل والنحل ٤ / ١٢٥.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ٤٣٧ ; وقال الحاكم : الحديث صحيح علىٰ شرط الشيخين. ووافقه الذهبي ، كما في ذيل المستدرك ، مجمع الزوائد ٧ / ٢٩٧ ; وقال الهيثمي : رواه الطبراني ... ورجاله رجال الصحيح ، سير أعلام النبلاء ١ / ٤٢٥ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ٥ / ١٩ ح ٢٠٠٨ ; وقال الألباني ـ عن رواية أحمد ، وابن سعد في الطبقات ـ : هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقات رجال مسلم. انتهىٰ.

وانظر : مسند أحمد ٤ / ١٩٨ ، الإصابة ٧ / ٢٥٩ ، الطبقات الكبرىٰ ٣ / ٢٦١ ، البداية والنهاية ٧ / ٢٩٨.

٦٥

أمّا قول الكاتب :

« وفيهم الخلفاء الراشـدون وبقيّة العشرة المبشَّرة بالجـنّة ... ».

فأقول :

إنّ حديث العشرة المبشَّـرة بالجنّة ، الّذي يشير إليه الكاتب هنا ، لم يظهر إلاّ في زمن معاوية علىٰ لسان راويه سعيد بن زيد ـ وهو أحد العشرة المبشَّـرة حسب روايـته (١) ـ ..

وهذه الرواية لا يوجد في طرقها إسناد يصحّ الاحتجاج به ؛ لمحل الخدش في الرواة ، وهي تفوح منها رائحة السياسـة الأموية الّتي سيأتي الكلام عنها ، وكيف أنّ زمان بني أُميّة امتاز عن غيره من الأزمنة بوضع الأحاديث في الصحابة ؛ كيداً لأهل البيت عليهم‌السلام ، كما أنّ نصّ الرواية لا يمكن التعويل عليه ; لمحاولته الجـمع بين الأضـداد (٢).

أمّا الرواية الأُخرىٰ للحديث ، الّتي يرويها عبد الرحمٰن بن حميد الزهري ، عن أبيه حميد ، عن عبد الرحمٰن بن عوف تارة ، وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُخرىٰ (٣) ، فهي لا تصـحّ أيضاً ؛ لأنّ هذا الإسناد باطل لا يتمّ ، نظراً لوفاة حميد بن عبد الرحمٰن ـ وهو ليس صحابياً وإنّما كان

__________________

(١) انظر : سُنن أبي داود ٢ / ٤٠١ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣١١ و ٣١٥ ، مسند أحمد ١ / ١٨٧ و ١٨٨.

(٢) راجع : موسوعة الغدير ١٠ / ١١٨ ـ ١٢٨ ; لتقف علىٰ التحقيق في الرواية ، ومجلّة « تراثنا » ، العـدد المزدوج ( ٤١ ـ ٤٢ ) لسنة ١٤١١ هـ ، الصادرة عن مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث في قم.

(٣) انظر : سُـنن الترمذي ٥ / ٣١١ ، مسند أحمد ١ / ١٩٣ ، أُسد الغابة ٢ / ٣٠٧.

٦٦

من التابعـين ـ سنة ١٠٥ هـ (١) عن ٧٣ عاماً ، وهذا يعني أنّه مولود سنة ٣٢ هـ ، أي في سنة وفاة عبد الرحمٰن بن عوف أو بعدها بسنة ، ولذلك يرىٰ ابن حجر رواية حميد عن عمر وعثمان منقطعة قطعاً (٢) ، وعثمان قد توفّي بعد عبد الرحمٰن بن عوف.

أمّا بقيّة الآيات الكريمة الّتي جاء بها الكاتب ليستدلّ بها علىٰ صلاح الصحابة جميعاً فهي ممّا لا يتمّ بها المطلوب مطلقاً ..

قال الكاتب :

« ووعدهم ـ أي الصحابة ـ جميعاً بالجنّة ، الّذين آمنوا من قبل الفتح والّذين آمنوا من بعده ، فقال سبحانه : ( لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَىٰ ) الحديد ـ ١٠ ، والله لا يخلف الميعاد ، هو القائل : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ) الأنبياء ـ ١٠١ ، ١٠٢ » (٣).

وأقول :

إنّ هذه الآيات لا تدلّ سوىٰ علىٰ أنّ الله وعد المنفقين والمقاتلين في سبيله من الصحابة الحسنىٰ ، وهي مثل قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١) كما اختاره : أحمد ، والفلاس ، والحربي ، وابن أبي عاصم ، وابن خياط ، وابن سفيان ، وابن معين ؛ انظر : تهذيب التهذيب ٣ / ٤١.

(٢) تهذيب التهذيب ٣ / ٤٦.

(٣) ص ٦.

٦٧

فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) ، الشامل لكلّ مؤمن أنفق وجاهد في سبيل الله.

كما أنّ الآية السابقة الّتي استدلّ بها الدليمي ـ وهي الآية ١٠ من سورة الحديد ـ تخرج عنها صنفين من الصحابة :

١ ـ مَن لم ينفق ويقاتل في سبيل الله وكان من القاعدين ، وقد دلّ القرآن الكريم عليهم في مواضـع عديدة منه (٢).

٢ ـ مَن أنفق وقاتل ولكن في سبيل مصالح دنيوية وأطماع شخصية ، كـ : « قزمان بن الحرث » ، الّذي قاتل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أُحد قتال الأبطال ، فقال أصحاب النبيّ : ما أجزأ عنّا أحد كما أجزأ عنّا فلان. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إنّه من أهل النار. ولمّا أصابته الجراح فسقط قيل له : هنيئاً لك الجنّة يا أبا الغيداق. قال : جنّة من حرمل ! والله ما قاتلنا إلاّ علىٰ الأحساب (٣).

وغير قزمان من الصحابة من الّذين كانوا يقاتلون مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن من أجل غايات دنيوية ومطامع فردية ، حتّىٰ سُمّي بعضهم بـ : « قتيل الحمار » ; لأنّه كان يبغي من مقاتلته لأحد المشركين أن ينتصر عليه ويأخذ الحمار الّذي كان يركبه ، ولكن المشرك كان أسرع منه فقتله ، ثمّ كشف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها عن نيّة هذا الصحابي المقتول.

وهناك مَن سمّاه المسلمون بـ : « مهاجر أُمّ جميل » ...

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١١١.

(٢) اقرأ علىٰ سبيل المثال : الآيات الكريمة من سورة التوبة : ٤١ ـ ٥٧ و ٨٦ ـ ٨٩.

(٣) الإصابة في تمييز الصحابة ٥ / ٣٣٥.

٦٨

إلى غيرها من الشواهد المذكورة في كتب السير والتاريخ الّتي تبيّن لنا أن ليس كلّ مَن أنفق وقاتل أو هاجر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أهل الجـنّة (١).

فلا معنىٰ بعد هذا لقول الكاتب : « ووعدهم جميعاً الجنّة ... » !!

فالأوْلىٰ بالكاتب ، بل بكلّ باحث ، أن يسلك في هذا الموضوع منهجاً وسطاً لا إفراط فيه ولا تفريط ، ويعطي لكلّ ذي حقّ حقّه ، ولا يخلط الحابل بالنابل ، فيأتي بأدلّة من القرآن الكريم تفيد العموم مثلاً ، وهو بعد لم يراجع مخصّصاتها ، ليصل إلىٰ القول الفصل في الموضوع ، ويطلق أحكامه قبل ذلك ، وقد اشتهر علىٰ لسان العلماء : ما من عامّ إلاّ وقد خصّ !

وقد أعجبني من كتّاب أهل السُنّة الّذين بحثوا هذا الموضوع بتجرّد

__________________

(١) وقد ورد أيضاً أنّ من الصحابة : مَن قتل نفسه في إحدىٰ المعارك بسهم ، وقد أخبر النبي صلىٰ‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه قبل ذلك بأنّه من أهل النار ; راجع : سُـنن البيهقي ٨ / ١٩٧ ، ورواه البخاري ومسلم.

ومنهم : مَن قتل نفسه بمشاقص ورفض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يصلّي عليه ; راجع : سُنن البيهقي ٤ / ١٩ ، وقال : رواه مسلم في الصحيح عن عون بن سلام ، وقريب منه في سُـنن ابن ماجة ١ / ٤٨٨.

ومن الصحابة : مَن قام بقتل المسلِّم عليه ، فخالف بذلك أُسلوب ردّ التحية في الإسلام ، الّتي نزل بها القرآن وعلّمهم إيّاها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; راجع : المستدرك علىٰ الصحيحين ـ للحاكم ـ ٢ / ٢٥٦ وصحّحه ، وتلخيص المستدرك ـ للذهبي ـ ٢ / ٢٥٦ وصحّحه ، سُـنن الترمذي ٤ / ٣٠٧ ، سُـنن البيهقي ٩ / ١١٥.

بل منهم : مَن كان يتمنّى أو ينتظر موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي يتزوّج من نسائه ، ومن أجل ذلك أنزل الله تعالىٰ قوله : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللهِ عَظِيمًا ) ؛ راجع : سُـنن البيهقي ٧ / ٦٩ ، والآية في سورة الأحزاب : ٥٣ ... إلىٰ غير ذلك من الشواهد.

٦٩

وموضوعية تنمّ عن قدرة كبيرة في البحث والتنقيب : الكاتب والباحث الأُردني المحامي « أحمد حسين يعقوب » في كتابه : نظرية عدالة الصحابة ، فليرجع الدليمي إليه فإنّه سيجد الفائدة المرجوة إن شاء الله تعالىٰ.

ولا يشفع للدليمي أن يذهب إلىٰ ما ذهب إليه من رأي مشبع بالخيال حول صلاح جميع الأصحاب أن يقول مثلاً : « إنّ الطعن فيهم ـ أي في الصحابة ـ تكذيب صريح لكتاب الله » (١).

أقول :

كيف يكون بيان الحقّ ، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه ، تكذيب صريح لكتاب الله ، ولم يدلّنا علىٰ هذا البيان سوىٰ كتاب الله عزّ وجلّ ؟!

ألم يقرأ الدليمي قوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (٢) ..

وقوله تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (٣).

__________________

(١) ص ٣٧.

(٢) سورة التوبة : الآيتان ٣٨ و ٣٩.

(٣) سورة المائدة : الآية ٥٤.

٧٠

إلىٰ غير ذلك من الآيات الدالّة علىٰ أنّ في الصحابة قابلية الخطأ ، وقابلية التخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجهاد وحبّ الحياة الدنيا ، بل قابلية الانقلاب والارتداد عن الدين ، أم أنّ المخاطبين بهذه الآيات قوم آخرون غير الصحابة ؟!

أو يقرأ قوله تعالىٰ : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ) (١).

أو الآيات الّتي جاءت بعد هذه الآية الكريمة ليقف عندها ، ثمّ ينظر إلىٰ التقسيم الإلهي الّذي جاء فيها لواقع الأصحاب وما هم عليه ، قال تعالىٰ : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ... وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

فهذا التقسيم القرآني لواقع الأصحاب يعطينا صورة واضحة عمّا كانوا عليه في حياة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلامه عزّ وجلّ أصدق الكلام ، فالأجدر بالكاتب ، بل بكلّ باحث عن الحقيقة ، راغب في بيانها واطّلاع الناس عليها ، أن يتّخذه أساساً له في البحث في هذا الموضوع ، وأن لا يقول في دين الله إلاّ الحقّ ، ولا يغلو في الأصحاب ويحكم بعدالة كلّ فرد سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو رآه من المسلمين مطلقاً (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ١٠١.

(٢) سورة التوبة : الآيات ١٠٢ و ١٠٦ و ١٠٧.

(٣) انظر : نظرية عدالة الصحابة ، للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب ; لتقف علىٰ تعاريف القوم للصحبة وأقوالهم فيها.

٧١

فالأصحاب ـ وحسب التقسيم القرآني المستفاد من الآيات السابقة وآيات أُخرىٰ ـ فيهم العدول ، وهم عظماء الصحابة وعلماؤهم وأولياء أُمورهم ، وفيهم البغاة ، وفيهم أهل الجرائم من المنافقين ، وفيهم مجهول الحال.

بل علىٰ الكاتب أن يقرأ قوله تعالىٰ في سورة التوبة ذاتها ، الآية ١١٩ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ، الدالّ بكلّ وضوح علىٰ أنّ في الأُمّة صنفين من الناس :

الأوّل : المطالَبون بالتقوىٰ ، وبالكون مع الصادقين ، وهم عامّتها.

والثاني : الصادقون ، الّذين أمر الله المؤمنين بالكون معهم ..

فإن قلنا : إنّ الصحابة هم الصادقون حسب هذا الخطاب ، وكذلك هم المؤمنون المطالبون بالتقوىٰ ؛ يكون معنىٰ الآية إذاً : يا أيّها الصحابة ! كونوا مع أنفسكم !! وهذا الكلام غير مراد قطعاً ، فهو لا يصدر من البليغ ، لأنّه لا معنىٰ له ، فلا بُدّ أن يكون الصادقون ، الّذين أمر الله المؤمنين أن يكونوا معهم حسب هذه الآية ، قوماً آخرين غير مجموع الصحابة ، فمَن هؤلاء ؟!

أقول :

مَن رجع إلىٰ حديث الثقلين المار ذكره ، يجد الجواب جليّاً لا غطش ـ لا ظلمة ـ فيه (١).

وسيأتي بعد قليل بيان السُنّة النبوية لواقع الأصحاب وما هم عليه بما

__________________

(١) راجع : تفسير الرازي للآية الكريمة تجده يفسّرها كما بيّناه أعلاه.

وراجع : مَن ذكر أنّ المراد بالكون مع الصادقين في الآية الكريمة أي : مع عليّ ابن أبي طالب في الصواعق المحرقة : ٩٠ ، وفتح القدير ٢ / ٤١٥ وغيرها.

٧٢

يؤيّد القرآن الكريم ويطابقه تماماً.

قال الدليمي :

« إنّ الطعن فيهم ... طعن في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه معلّمهم ومربّيهم » (١).

أقول :

لم نعلم أنّ الطعن في التلميذ طعن في المعلّم حتّىٰ قرأنا كلام الدليمي هنا ، فمن أين أتت الملازمة بين الاثنين يا ترىٰ ؟!

وما ذنب المعلّم الناصح الشفيق الّذي لم يقصّر في تربية تلاميذه قيد شعرة بينما كان بعض تلاميذه لاهين ساهين يتركون معلّمهم قائماً في خطبته وتأديبه لهم لِيُهرَعُوا نحو تجارة أقبلت قد سمعوا طبولها ، أو لهو دقّت كِبره ومزاميره (٢) ؟!

وقد قال تعالىٰ من قبل : ( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرىٰ ) (٣) ، كما قال جلّ شأنه : ( لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) (٤).

وبعد هذا لنضرب للقائل بهذا الكلام مثلا ونقول له :

هل قصّر الله سبحانه مع عباده من حيث توفير وتهيئة كلّ سبل الهداية

__________________

(١) ص ٧.

(٢) راجع كتب تفاسير المسلمين عند قوله تعالىٰ : ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ، سورة الجمعة : الآية ١١.

(٣) سورة آل عمران : الآية ١٦٤ ، سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٨٦.

٧٣

والتدبّر والتفكّر لهم ، وقد منّ عليهم بإرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتسخير العلماء لتعليمهم وتهذيبهم ؟!

ومع هذا قال سبحانه وتعالىٰ بحقّ عباده هؤلاء : ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَرِهُونَ ) (١) ، وقال : ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) (٢) ، وقال عزّ اسمه : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٣) ...

إلىٰ غيرها من الآيات الدالّة علىٰ تخلّف العباد عن مراد المولىٰ سبحانه وعدم استقامتهم لما ندبهم للسير عليه ; فهل يكون الطعن فيهم طعن في الخالق سبحانه ، مع أنّه سبحانه ـ وهذا ثابت بدلالة العقل والنقل ـ لم يقصّر مع عباده قيد أُنملة ؟

إنّ هذا في الواقع تهافت من التفكير ، وإلغاء للحجّة مع تمام المحجّة ; إذ لا تلازم بين الاثنين كما ترىٰ ، فهل يشكّ أحد ـ مثلاً ـ في إخلاص نبيّ الله نوح عليه‌السلام ـ وهو شيخ الأنبياء ـ في إعداده وتربيته لابنه ، ومع هذا قد حصل الانحراف من الابن ، بل بان هذا الانحراف واشتهر حتّىٰ صرّح المولىٰ سبحانه بحقّه : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (٤).

فادّعاء الملازمة بأنّ الطعن في التلميذ يستلزم الطعن في المعلّم هذا الأمر لا وجه له ، بل ترد عليه اشكالات لا مخرج منها ، كما تقدّم.

وبعد هذا فلينظر الكاتب إلىٰ أقوال النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أصحابه ، ممّا رواه أهل السُنّة في كتبهم ..

__________________

(١) سورة المؤمنون : الآية ٧٠.

(٢) سورة يوسف : الآية ١٠٦.

(٣) سورة سبأ : الآية ١٣.

(٤) سورة هود : الآية ٤٦.

٧٤

أخرج البخاري في صحيحه : عن أبي هريرة ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يرد علَيَّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُحلّؤن (١) عن الحوض ، فأقول : يا ربّ ! أصحابي ، فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا علىٰ أدبارهم القهقرىٰ » (٢).

وعن أبي هريرة أيضاً ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « بينا أنا قائم إذا زمرة ، حتّىٰ إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال : هلمّ. فقلت : أين ؟ قال : إلىٰ النار والله. قلت : وما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك علىٰ أدبارهم القهقرىٰ. ثمّ إذا زمرة ، حتّىٰ إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم. فقال : هلمّ. فقلت : أين ؟ قال : إلىٰ النار والله. قلت : ما شأنهم ؟ قال : إنّهم ارتدّوا علىٰ أدبارهم القهقرىٰ ، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » (٣).

أقول :

ومَن قرأ قوله تعالىٰ : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (٤) ، ثمّ قرأ قوله تعالىٰ :

__________________

(١) أي : يُطردون ويُبعدون.

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٨ كتاب الرقاق ، باب : في الحوض.

(٣) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٨ ..

قال في لسان العرب ١١ / ٧١٠ : وفي حديث الحوض : « فلا يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم » ، الهمل : ضوالّ الإبل ، واحدها : هامل ; أي : إنّ الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة.

(٤) سورة آل عمران : الآية ١٤٤.

٧٥

( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ، تبيّن له تطابق الكتاب والسُنّة في هذا المورد تماماً ، وإنّهما يصدّقان بعضهما البعض ; فانظر هل ترىٰ من فطور ؟!

قال تعالىٰ : ( مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) (١) صدق الله العليّ العظيم.

وكذا أخرج مسلم في صحيحه عن قيس ، عن عمّار ، أنّ حذيفة بن اليمان أخبره ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّىٰ يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدُّبيلة » (٢) ، وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم (٣).

وأيضاً أخرج البخاري ـ واللفظ له ـ ومسلم ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله : « إنّي فرطكم علىٰ الحوض ، مَن مرّ علَيَّ شَرِب ، ومَن شَرِب لم يظمأ أبداً ، ليرِدنّ علَيَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم » ..

قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عيّاش ، فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم. فقال : أشهدُ علىٰ أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : « فأقول : إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً ! لمَن غيَّرَ بعدي » (٤).

وهذه الأحاديث رواها حفّاظ الحديث من أهل السُنّة بطرق كثيرة

__________________

(١) سورة الملك : الآية ٣ و ٤.

(٢) الدُّبيلة : خُرّاج ودُمّل كبير ، تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً ، وورد تفسيرها في بعض أحاديث الباب بأنّها : شهاب من نار يقع علىٰ نياط قلب أحدهم فيهلك.

(٣) صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ ح ٩ ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

(٤) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٨ ، صحيح مسلم ٧ / ٦٦.

٧٦

جدّاً وبألفاظ متقاربة ، وفي ما ذكرناه كفاية (١).

قال الدليمي :

« إنّ الطعن فيهم ... هو قنطرة للقول بتحريف القرآن ، إضافة إلىٰ السُنّة النبوية ; لأنّهم هم الّذين رووا ذلك كلّه وعن طريقهم نقل ، والطعن في الراوي طعن في الرواية ولا بُدّ » (٢).

أقول :

حاشا لله ! أن يجعل رواة كتابه الكريم ـ وهو خاتمة الكتب السماوية ـ ونقلته إلىٰ الأجيال اللاحقة من المنافقين أو الفاسقين أو البغاة ، الّذين علمنا بوجودهم الإجمالي ، ووجودهم التفصيلي في بعض الموارد ، بين الصحابة (٣).

__________________

(١) راجع إن شئت : سُنن ابن ماجة ٢ / ١٠١٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٨٤ ، و ٤٠٢ و ٤٠٦ و ٤٠٧ و ٤٢٥ و ٤٣٩ و ٤٥٣ و ٤٥٥ ، و ج ٥ / ٣٣٩ و ٣٩٣ ، مجمع الزوائد ١٠ / ٣٦٣ و ٣٦٤.

(٢) ص ٧.

(٣) انظر : قوله تعالىٰ : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ـ إلىٰ قوله ـ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ ) ، سورة التوبة : الآية ٧٥ ـ ٧٧ ، الّذي جاء بحقّ الصحابي ثعلبة.

وقوله تعالىٰ : ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ ) ، سورة السجدة : الآية ١٨ ، والمؤمن في الآية هو : عليّ بن أبي طالب ، والفاسق هو : الصحابي الوليد بن عقبة.

وقوله تعالىٰ : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) ، سورة الصفّ : الآية ٧ ، الّذي جاء بحقّ الصحابي

٧٧

وحاشا أيضاً للصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتمن علىٰ أمانته العظيمة ـ القرآن الكريم ـ أمثال هؤلاء ، بل الثابت المعلوم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيّن جماعة من الصحابة يحفظون القرآن ثمّ يعرضـونه عليه ، وكان كلّ ذلك يجري تحت عنايته وإشرافه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كـ : ابن مسعود ، وأُبيّ بن كعب ، وغيرهما (١).

أضف إلىٰ ذلك : وجود باب مدينة علم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين عليه‌السلام بين ظهراني الصحابة بعد وفاة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الّذي كان يقول : « والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيم نزلت ، وأين نزلت ، وعلىٰ مَن نزلت ، إنّ ربّي وهب لي قلباً عقولا ، ولساناً طلقاً » (٢).

كما كان عليه‌السلام يقول : « سلوني عن كتاب الله ! فإنّه ليس من آية إلاّ وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار ، وفي سهل أم في جبل ... » (٣).

الأمر الّذي يدلّ علىٰ أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل لدينه قلوباً صافيات

__________________

عبد الله بن أبي سرح ، الّذي ولاّه الخليفة عثمان بعد ذلك مصر.

راجع تفسير الآيات وسبب نزولها في تفسير ابن كثير ، وتفسير الطبري ، والكشّاف للزمخشري ، وأسباب النزول للسيوطي ، والسيرة الحلبية ـ للحلبي الشافعي ـ باب : فتح مكّة ، وغيرها.

(١) جاء في تفسير مجمع البيان ـ للشيخ الطبرسي ـ ١ / ١٥ ، وأيضا عن الشبلنجي المصري في نور الأبصار : ٤٨ ـ في ما نقله عن العلاّمة الدميري في حياة الحيوان ـ : وأمّا مَن جمع القرآن حفظاً علىٰ عهده فأُبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وأبو يزيد الأنصاري ، وأبو الدرداء ، وزيد بن ثابت ، وعثمان بن عفّان ، وتميم الداري ، وعبادة بن الصامت ، وأبو أيّوب الأنصاري. انتهىٰ.

وانظر للاستزادة : البرهان في علوم القرآن ـ للزركشي ـ ١ / ٢٤٠ فصل : في بيان مَن جمع القرآن حفظاً من الصحابة علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) حلية الأولياء ١ / ٦٨ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٩٧.

(٣) الطبقات الكبرىٰ ٢ / ٣٣٨.

٧٨

وآذاناً واعيات ، كما في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام عند نزول قوله تعالىٰ : ( وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ ) (١) : « سألت الله أن يجعلها أُذنك يا عليّ ». قال عليّ : « فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسىٰ » (٢).

كلّ هذا مع ملاحظة : أنّ القرآن لا يدّعي أحد بأنّ نقله قد تمّ عن فلان الثقة عن مثله وهكذا ؛ إذ لم يثبت بهذه الطريقة ، وإنّما ثبت القرآن بالتواتر جيلاً عن جيل ، وعصر عن عصر ، وقرن عن قرن ، وأُمّة عن أُمّة ، ولهذا لا يُلتفت حينئذ لتوثيق الأفراد فرداً فرداً عند التواتر ، فلا تثبت عدالة جميع الصحابة ; لأنّها لا تشترط في ثبوت القرآن وإثباته !!

وهنا أودّ أن أسأل الكاتب سؤالين يتعلّقان بكلامه السابق :

السؤال الأوّل :

ماذا تقول لو أوقفتك الأدلّة علىٰ نفاق أو فسق أو بغي أحد من الأصحاب ؟ فهل تطمئن بعد ذلك إلىٰ روايته للكتاب والسُنّة وتأخذهما عنه ، مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرنا بأنّ المنافق إذا حدّث كذّبَ ، وأنّ الفاسق يبيع دينه بأكلة ، وأنّ الباغي مائل عن الحقّ ؟!

فإن قلت : نعم ؛ فاقرأ علىٰ دينك السلام.

وإن قلت : لا ؛ فعليك أن تتخلّىٰ إذاً عن قولك بخيرية الصحابة جميعاً ، وتبدأ بالبحث عن المؤمنين الصادقين منهم لتأخذ دينك عنهم.

وهذا ما فعله الشيعة الأبرار ; إذ ميّزوا بين الغث والسمين في

__________________

(١) سورة الحاقة : الآية ١٢.

(٢) راجع تفسير الآية في تفاسير : الطبري ، والسيوطي ، والرازي ، وابن كثير ، والقرطبي ، والشوكاني ، وغيرهم.

٧٩

الموضوع ، بعد أن تظافرت لديهم الأدلّة ـ كتاباً وسُنّةً ـ علىٰ وجود المنافقين ، تفصيلاً وإجمالاً ، بين أصحاب النبيّ المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

السؤال الثاني :

ما الّذي يلزمك علىٰ أخذ دينك عن كلّ مَن هبّ ودبّ من الصحابة ، الّذين علمت بوجود المنافقين والفاسقين والبغاة بينهم ، إجمالاً وتفصيلاً ، دون أن تمحَصَ ذلك (١) ، أو ترجع إلىٰ الّذين ثبتت عدالتهم فقط ، والله تعالىٰ يقول : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢) ؟!

ثمّ أين أنت من الّذين أمر الله المسلمين بمودّتهم ، وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسّك بهم ، وجعلَهم عِدلاً للقرآن ، وأماناً للأُمّة من الاختلاف (٣) ، كي تأخذ دينك عنهم آمناً مطمئناً ، وذلك طبقاً للحكمة النبوية الّتي تقول : « دع ما يُريبك إلىٰ ما لا يُريبك » (٤) ؟!

أمّا عن رواية السُنّة النبوية فأُحبّ أن ألفت نظر الكاتب إلىٰ :

إنّ الأصحاب قد مُنعوا من رواية السُنّة النبوية طيلة مدّة الخليفتين أبي بكر وعمر (٥).

__________________

(١) مَحصَ : استخرج الخالص منه ، يقال : محص الذهب بالنار ، أي : أخلصه ممّا يشوبه.

(٢) سورة الحجّ : الآية ٧٨.

(٣) سيأتي في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالىٰ بيان الأشخاص المعنيّين بالمفردات المذكورة أعلاه ، من الكتاب الكريم والسُنّة النبوية الشريفة المتّفق عليها.

(٤) مسند أحمد ١ / ٣٠٠ و ٣ / ١١٣ ، سُنن الترمذي ٤ / ٧٧ ، سُنن الدارمي ٢ / ٢٤٥.

(٥) انظر : تذكرة الحفّاظ ١ / ٣ و ٤ / ٧ ، مجمع الزوائد ١ / ١٤٩.

وجاء في كنز العمّال ١٠ / ٢٩٢ : عن محمّد بن إسحاق ، قال : أخبرني صالح

٨٠