تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



قال الدليمي في مقدّمته ، في معرض كلامه عن الدعوة إلىٰ التئام المسلمين ولمّ الشمل :

« فلنعصتم بحبل الله ، ولنعد إلىٰ كتاب الله ، فنأخذ بكلّ ما وافقه ونطرح ما سواه ; فإنّك واجد أقوالاً أُخرىٰ منسوبة إلىٰ عليّ رضي‌الله‌عنه إلاّ أنّك إذا وزنتها بميزان الحقّ طاشت كفّتها وبان زخرفها .. فعن أبي عبد الله رضي‌الله‌عنه ، قال : ( كلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف ). وعنه يرفعه : ( كلّ ما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه ). وأمّا سيّدنا عليّ فيقول عن القرآن : ( فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو حبل الله المتين ، وهو الصراط المستقيم ، مَن تركه من جبّار قصمه الله ، ومَن ابتغىٰ الهدىٰ في غيره أضلّه الله ). وصدق سيّدنا عليّ رضي‌الله‌عنه ; فلو رجع المسلمون إلىٰ كتاب الله وتحرّوا عن كلّ قول أو عمل فأخذوا بما وجدوا له شاهداً فيه وإلاّ ردّوه علىٰ ما جاء به لَما بقي بينهم خلاف ، ولا حصل بينهم شقاق » (١).

أقول :

لم يبيّن لنا الكاتب ـ في ما كتبه هنا وما بعده ـ الأقوال المنسوبة إلىٰ

__________________

(١) ص ٤.

٤١

أمير المؤمنين عليه‌السلام الّتي تطيش كفّتها ويبان زخرفها لو وزنت بميزان القرآن !! وإنّما اكتفى بذكر بعض أقوال الإمام عليه‌السلام الواردة في نهج البلاغة ، والّتي جاء بها لتصوّره بأنّها تسند مدّعاه في ردّ بعض ما هو معلوم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والّذي عليه شيعته وأتباعه ، وسنأتي ـ إن شاء الله تعالىٰ ـ علىٰ ذكرها وبيانها بالتفصيل عند متابعتنا لقراءة الكاتب في نهج البلاغة.

وأمّا عن دعوته بالعودة إلىٰ كتاب الله والأخذ بكلّ ما وافقه وطرح ما سواه ، فهو المأثور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ، ولكن لهم في ذلك بيان وتفصيل لم يذكره الكاتب ولم يشر إليه ، وترك دعوته هذه مجملة ممّا يشكل علىٰ قارئ كتيّبه فهمه أو الاستفادة منه !!

وعلىٰ سبيل المثال : ماذا يقول الكاتب لو سأله سائل ـ مثلاً ـ عن كيفية العودة إلىٰ كتاب الله عزّ وجلّ وكلّ فرق المسلمين ، الّتي يشملها حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ستفترق أُمّتي إلىٰ ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ واحدة » (١) ، تعتمد علىٰ كتاب الله ، وتتّخذه مرجعاً لها في بيان أدلّتها وحججها ، ومع هذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها : « كلّها في النار إلاّ واحدة » !!

الأمر الّذي يدلّ علىٰ أن ليس كلّ عائد إلىٰ كتاب الله وآخذ منه مصيب بعودته وأخذه ، فرُبّ عائد إلىٰ كتاب الله يفسّره برأيه ويقول فيه

__________________

(١) راجع الحديث في سُنن الترمذي ٤ / ١٣٤ ـ ١٣٥ ، سُنن أبي داود ٢ / ٣٩٠ ، سُنن ابن ماجة ٢ / ١٣٢١ و ١٣٢٢ ، سُنن الدارمي ٢ / ٢٤١ ، مسند أحمد بن حنبل ٢ / ٣٢ و ٤ / ١٠٢ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ١ / ٤٧ و ٢١٧ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ـ للألباني ـ ٣ / ٤٨٠ ح ١٤٩٢ ..

وقد صحّحه الترمذي والحاكم في ما تقدّم من كتبهم ، وادّعىٰ السيوطي تواتره كما في فيض القدير ٢ / ٢٧ ، وكذلك الكتاني في نظم المتناثر : ٤٧.

٤٢

بغير علم فيتبوّأ بذلك مقعده من النار ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديثه المعروف ، الّذي رواه أحمد في مسنده ١ / ٢٣٣ : « مَن قال بالقرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ».

ورُبّ عائد لم يحط بعلوم القرآن كلّها ، ولم يعرف متشابه القرآن من محكمه ، أو خاصّه من عامّه ، أو مطلقه من مقيّده ، أو ناسخه من منسوخه ، ومع ذلك تصدّىٰ لبيان الأحكام منه ، ويحسب أنّه علىٰ هدىً من أمره ، وربّما تبعه علىٰ ذلك قوم فتنوا بقوله فعملوا به ، فكانت عودة مثل هذا عودة ناقصة قاصرة لا تُبرئ ذمّته ولا ذمّة أتباعه بمثل هذا الأخذ الناقص المقتصر عن كتاب الله ! قال تعالىٰ : ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) (١).

وقال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة : « ترد علىٰ أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضية بعينها علىٰ غيره فيحكم فيها بخلافه ، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعاً ، وإلٰههم واحد ، وكتابهم واحد ، ونبيّهم واحد ..

أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ؟!

أم أنزل الله سبحانه ديناً ناقصاً فاستعان بهم علىٰ إتمامه ؟!

أم كانوا شركاء له ; فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضىٰ ؟!

أم أنزل الله سبحانه ديناً تامّاً فقصّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه وأدائه ؟!

__________________

(١) سورة الكهف : الآيتان ١٠٣ و ١٠٤.

٤٣

والله سبحانه يقول : ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) ، وقال : ( تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، وذكر أنّ الكتاب يصدّق بعضه بعضاً وأنّه لا اختلاف فيه ; فقال سبحانه : ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) ، وإنّ القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنىٰ عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، ولا تُكشف الظلمات إلاّ به » (١) ..

فكيف تكون إذاً العودة الصحيحة إلىٰ كتاب الله الّتي نضمن بها النجاة من النار ، مع علمنا باختلافات العائدين هذه كلّها ؟!

وهل من ضابط معين نحلّ به الإشكال السابق في كيفية العودة إلىٰ كتاب الله العزيز ، الّذي لا تُكشف الظلمات إلاّ به ، كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ؟!

فمن أجل حلّ هذا الإشكال الّذي أوقع الدليمي قارئه فيه ، أقول : إنّ الله عزّ وجلّ قد بيّن في كتابه الكريم أنّ للقرآن أهلاً سمّاهم في آيتين منه بـ : « أهل الذكر » ، وأمر المسلمين بالرجوع إليهم وسؤالهم عند عدم العلم ; قال تعالىٰ : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢).

وسمّاهم في آية أُخرىٰ منه بـ : « الراسخين في العلم » ، وهم الّذين يعلمون تأويل القرآن وتفسيره ; قال الله تعالىٰ : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٨٨.

(٢) سورة النحل : الآية ٤٣ ، سورة الأنبياء : الآية ٧.

٤٤

كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (١).

والمستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ العودة إلىٰ القرآن بشكلها التامّ والصحيح تكون بالعودة إلىٰ أهله العارفين به ، الّذين أمر الله سبحانه المسلمين بسؤالهم وأخذ علوم القرآن عنهم ، وإلاّ فالقرآن « إنّما هو خطّ مستور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بُدّ له من ترجمان » ، كما يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

وقد نهىٰ عليه‌السلام عن جعله مرجعاً وحيداً عند التنازع ؛ قال لابن عبّاس عندما بعثه إلىٰ الخوارج لمحاججتهم : « لا تخاصمهم بالقرآن ; فإنّ القرآن حمّال ذو وجوه (٣) ، تقول ويقولون ، ولكن حاججهم بالسُنّة ; فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً (٤) » (٥).

أمير المؤمنين عليه‌السلام يبيّن أهل الذكر والراسخين في العلم :

وبالعودة إلىٰ الكتاب نفسه الّذي كان يقرأه الكاتب ، وهو كتاب نهج البلاغة ، ومن خلال كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام باب مدينة علم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سنتمكّن ـ إن شاء الله تعالىٰ ـ من الوصول إلىٰ معرفة « أهل الذكر » ، ومعرفة « الراسخين في العلم » ، الّذين عناهم الله عزّ وجلّ بكتابه الكريم ، والّذين أمر المسلمين بالرجوع إليهم وأخذ علوم القرآن عنهم ..

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٧.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٥.

(٣) أي يحمل معاني كثيرة إن أخذت بأحدها احتج الخصم بالآخر.

(٤) محيصاً : مهرباً.

(٥) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٣٦.

٤٥

قال الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من خطبة له : « واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّىٰ تعرفوا الّذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّىٰ تعرفوا الّذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتّىٰ تعرفوا الّذي نبذه ، فالتمسوا ذلك من عند أهله ; فإنّهم عيش العلم ، وموت الجهل ، هم الّذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه » (١).

ثمّ يقول عليه‌السلام في خطبة أُخرىٰ له يذكر فيها آل محمّد عليهم‌السلام ، ويبيّن حقيقة منزلتهم للمسلمين : « هم عيش العلم ، وموت الجهل ، يخبركم حلمهم عن علمهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام ، بهم عاد الحقّ في نصابه ، وانزاح الباطل عن مقامه ، وانقطع لسانه عن منبته ، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل سماع ورواية ؛ فإنّ رواة العلم كثير ، ورعاته قليل » (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٣٢.

(٢) ولائج : جمع وليجة ; وهي : ما يدخل فيه الساتر اعتصاماً من مطر أو برد أو توقّياً من مفترس.

نصابه : أصله ; والأصل في معنىٰ النصاب : مقبض السكين ، فكأنّ الحقّ نصل ينفصل عن مقبضه ويعود إليه.

وانزاح : زال.

وانقطاع لسان الباطل عن منبته ـ بكسر الباء ـ : أي عن أصله ; مجاز عن بطلان حجّته وانخذاله عند هجوم جيش الحقّ عليه.

عقل الوعاية : حفظ في فهم ، والرعاية : ملاحظة أحكام الدين وتطبيق الأعمال عليها ، وهذا هو العلم بالدين حقيقة ، أمّا السماع والرواية مجرّدين عن الفهم والرعاية فمنزلتهما لا تخالف منزلة الجهل إلاّ في الاسم.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٢٣٢.

٤٦

وفي موضع آخر من النهج نفسه ، يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من خطبة له يذكر فيها فضل أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام : « أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يُستعطىٰ الهدىٰ ويُستجلىٰ العمىٰ ، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (١).

ويقول عليه‌السلام في موضع آخر : « انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم (٢) ، واتّبِعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ; فإن لبدوا فالبدوا (٣) ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » (٤).

وفي أهل البيت أيضاً يقول عليه‌السلام : « فيهم كرائم القرآن ، وكنوز الرحمن ، إن نطقوا صدقوا ، وإن صمتوا لم يسبقوا » (٥).

أقول :

هذا غيض من فيض نهج البلاغة في بيان أهل الذكر والراسخين في العلم ، الّذين أمر الله المسلمين بسؤالهم وأخذ علوم القرآن عنهم ، فلو أنّ الدليمي كان قد ذكر هذه النصوص عند قراءته للـ « نهج » وعند دعوته بالعودة

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٢٧.

(٢) السمت ـ بالفتح ـ : طريقهم أو حالهم أو قصدهم.

(٣) لَبَدَ ـ كـ : نَصَرَ ـ : أقام ؛ أي : إن أقاموا فأقيموا.

(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٩.

(٥) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٤٤.

٤٧

إلىٰ كتاب الله الكريم ، لوفّر علىٰ قارئ كتيّبه مشقّة الإجمال الّذي أوقعه فيه ، ولانقلَب منه القارئ علىٰ علم هدىً ومصباح دجىً في كيفية العودة إلىٰ كتاب الله العزيز والأخذ منه (١).

وسيأتي عند بيان النقطة الثانية عشرة أنّ الله سبحانه قد أمر المسلمين بالردّ إلىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى أُولي الأمر ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (٢).

ومع هذا كلّه فنحن نلزم الكاتب بما ألزم به نفسه من العودة إلىٰ كتاب الله الكريم والأخذ بما وافقه وطرح ما سواه ، وندعوه ـ حسب دعوته ـ إلىٰ ترك كلّ الاجتهادات الّتي صدرت عن الخلفاء الثلاثة الأوائل مقابل النصوص القرآنية وعدم الالتزام بها (٣) ، وترك ما أفتىٰ به أئمّة أهل السُنّة مقابل النصوص القرآنية من قياسات واستحسانات ما أنزل الله بها من سلطان.

وعلىٰ سبيل المثال : هل يستطيع الكاتب أن يمتثل لأمر الله تعالىٰ في القرآن ويمسح رجله في الوضوء بدل الغسل ؛ لأنّ القرآن جاء بالمسح

__________________

(١) راجع مَن ذكر نزول قوله تعالىٰ : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) في أهل البيت عليهم‌السلام : الطبري في تفسيره ، وابن كثير في تفسيره ، والآلوسي في تفسيره ، والقرطبي في تفسيره ..

وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير : عن جابر ، في معنىٰ هذه الآية ، قال : لمّا نزلت هذه الآية قال عليّ : « نحن أهل الذكر ».

(٢) سورة النساء : الآية ٨٣.

(٣) راجع كتاب : النصّ والاجتهاد ، للسيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي ; لتقف علىٰ عشرات الموارد الّتي اجتهد فيها بعض الصحابة مقابل النصوص القرآنية ، والّتي ما زال الكثير من المسلمين يأخذون بهذه الاجتهادات ويعملون بها رغم مخالفتها لصريح القرآن.

٤٨

لا الغسل (١) ، ويترك زخرف القول الّذي يخالفه ويخالف بذلك قومه وأهل مذهبه ؟!

فإن لم يفعل ـ ولا أظنّه سيفعل ـ فإنّه سيكون عندئذٍ ممّن يصدق عليه قوله تعالىٰ : ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (٢).

والخلاصة :

١ ـ لا خلاف بيننا في لزوم الاعتصام بالقرآن ، ولكنّ القرآن فيه محكم ومتشابه ، واختلف العلماء في تفسيره ، فكيف يُتمسّك به وحده ؟!

٢ ـ لزوم الاعتصام بالعترة النبوية كما هو مفاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث الثقلين المشهور المتواتر : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ; ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً » (٣) ، الّذي يفهم منه أنّ

__________________

(١) راجع : التفسير الكبير ـ للفخر الرازي ـ ٣ / ٣٧٠ عند تفسيره لآية الوضوء من سورة المائدة ، وانظر قوله : فثبت أنّ قراءة وأرجلَكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً. وقوله : ثمّ قالوا : ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار ؛ لأ نّها بأسرها من باب الآحاد ، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. انتهىٰ.

(٢) سورة الصف : الآيتان ٢ و ٣.

(٣) راجع حديث الثقلين بمختلف ألفاظه في صحيح مسلم ٧ / ١٢٣ كتاب الفضائل باب : فضائل عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، صحيح الترمذي ٥ / ٣٢٨ ، مصابيح السُنّة ـ للبغوي ـ : ٢٠٦ ، المعجم الكبير ٣ / ٦٥ و ٦٦ ، كنز العمّال ١ / ١٧٢ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١١٨ وصحّحه ، وأقرّه الذهبي ; كما في تلخيص المستدرك بذيل المستدرك ، خصائص أمير المؤمنين ـ للنسائي ـ : ٩٣ ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ـ للألباني ـ ٤ / ٣٥٥ ..

قال ابن حجر في الصواعق المحرقة : ٩٠ ـ بعد بيان سرّ انتشار الحديث

٤٩

النجاة والعصـمة من الضلال أبد الآبدين ، هو في التمسّك بهما ـ أي القرآن والعترة ـ معاً ، وإلىٰ هذا المعنىٰ كانت تشير الكلمات السابقة لأمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة ، والمتحصّل من ذلك أنّ مَن لم يتمسّك بالعترة مع الكتاب لا نجاة له !

*                  *                 *

__________________

واشتهاره ـ : ثمّ اعلم إنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً.

٥٠



الفصل الثاني



عدالة الصحابة

٥١

٥٢



قال الدليمي :

« قرأت في القرآن الكريم قوله تعالىٰ : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران ـ ١١٠ ، فعلمت أنّ صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم * هم المعنيّون بها ; إذ أنّ هذه الآية عليهم نزلت ، وعليهم قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي صلواتهم تليت ، والخطاب فيها موجّه إليهم ، والأُمّة زمن نزولها لم تكن إلاّ مجـموع الصحابـة ، فهم ( خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ، وهم خير هذه الأُمّـة ، وذلك مصـداق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الصـحيح : ( خير القرون قرني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ).

__________________

* من المؤاخذات علىٰ الكاتب في كتيبه هذا : أنّه لم يصلّ علىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلاة الّتي أمر الله بها ورسوله المؤمنين ، بل كان يأتي بالصلاة المنهي عنها ، وهي الصلاة البتراء ; فقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : لا تصلّوا علَيَّ الصلاة البتراء.

فقيل : يا رسول الله ! ما الصلاة البتراء ؟

قال : تقولون : اللّهمّ صلّ علىٰ محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللّهمّ صلّ علىٰ محمّد وعلىٰ آل محمّد.

راجع : الصواعق المحرقة ـ لابن حجر الشافعي الهيتمي ـ : ٧٨ ، كشف الغمّة ـ للشعراني ـ ١ / ٢١٩ فصل في الأمر بالصلاة علىٰ النبيّ.

وانظر كذلك : التعليم النبوي لهذه الصلاة عند نزول الأمر بها من قبل الله عزّ وجلّ في صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب : قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ) ..

٥٣

وقرأت في القرآن آيات يصعب عدّها ، في مدحهمّ والترضّي عنهم والشهادة لهم بالجنّة ، منها : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) التوبة ـ ١٠٠.

ومنها : قوله : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح ـ ١٨ ، وكانوا ألفاً وأربعمائة ، منهم الخلفاء الراشدون وبقيّة العشـرة المبشَّـرة بالجنّة ، قال عنهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ( كلّهم مغفور له ) ... » (١).

أقول :

نحن نسلّم أنّ أُمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زمانه وبعده خير أُمّة ، كما نصّ الكتاب العزيز ، كيف لا ؟! وفيها أهل البيت عليهم‌السلام ، والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان ... فهؤلاء هم المخاطبون في الآية ، وأمّا الكفّار والمنافقون والفاسقون فهم شرّ أُمّة ولا يمكن وصفهم بالخيرية أبداً ..

فقوله تعالىٰ : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) لا يدلّ بالضرورة علىٰ خيرية جميع الصحابة ; لأنّ من الأصحاب مَن كان ظاهر النفاق ومنهم مَن كان مبطنه ، وقد أخبر الله تعالىٰ عنهم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (٢) ، فلا يمكن أن يكون هؤلاء المنافقون من الأخيار وإنّما المراد

__________________

(١) ص ٥.

(٢) سورة التوبة : الآية ١٠١.

٥٤

من هذه الآية : أنّ مجموع هذه الأُمّة بمَن فيها من أبرارهم وأئمّتهم من حيث المجموع ـ لا من حيث الأفراد فرداً فرداً ـ خير من مجموع سائر الأُمـم ; وأين هذا من الدليل علىٰ خيرية الصحابة جميعاً ؟!

بل إنّ دخول الصحابة ـ فرداً فرداً ـ في مضمون الآية موقوف علىٰ إحراز كونهم صلحاء أبرار ; لعدم جواز دخول المنافقين منهم ـ الّذين علمنا بوجودهم الإجمالي سابقاً ـ ..

فلو أثبتنا خيرية الجميع علىٰ نحو الأفراد بهذه الآية للزم الدور المحال ; لأنّ الأصحاب لا يدخلون في مضمون هذه الآية إلاّ أن يكونوا من الأبرار ، ولا يكون الدليل علىٰ أنّ الأصحاب أبرار إلاّ بهذه الآية ، وهذا هو الدور الّذي عنيناه ، فتأمّل يرحمك الله !!

ويجدر الالتفات أيضاً إلىٰ أنّ ذيل الآية ، وهو قوله تعالىٰ : ( تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) يصف الأُمّة الخيّرة بهذه الصفات ، ومن الواضح أنّ هناك من الصحابة مَن يأمر بالمنكر.

روىٰ مسلم في صحيحه : عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص ، عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب ؟

فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلن أسبّه ، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليَّ من حمر النعم ... (١).

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « سُباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (٢) !!

أمّا الحديث الّذي جاء به الكاتب وسمّاه ـ علىٰ مبناه ـ : صحيحاً ، وهو : خير القرون قرني ... الخ ، فبغضّ النظر عن مناقشة سند الحديث

__________________

(١) راجع تمام الرواية في صحيح مسلم ٧ / ١٢٠.

(٢) صحيح البخاري ٧ / ٨٤ كتاب الأدب.

٥٥

وطرقه ، فإنّ في نصّ الحديث من التهافت والتداعي ممّا لا يصحّ صدوره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطعاً !

فالقرن الّذي جاء بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمسين سنة كان شرّ قرون الدنيا ، وهو أحد القرون المذكورة في النصّ ، وهو القرن الّذي قُتل فيه سيّد شباب أهل الجنّة ، الإمام الحسين عليه‌السلام ، ذبحاً من القفا ، وأُوقع بالمدينة (١) ، وحوصرت مكّة ، ونُقضـت الكعبة (٢) ، وشربت خلفاؤه والقائمون مقامه عند القوم والمنتصبون في منصب النبوة الخمور ، وارتكبوا الفجور ، كما جرىٰ ليزيد بن معاوية وليزيد بن عاتكه وللوليد بن يزيد ، وأُريقت الدماء الحرام وقتل المسلمون وسبي الحريم ، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار ونقشت علىٰ أيديهم كما يُنقش علىٰ أيدي الروم ، وذلك في خلافة عبد الملك وإمرة الحجّاج.

وإذا تأمّلت كتب التاريخ وجدت الخمسين الثانية أكثرها شرّاًً لا خير في رؤسائها وأُمرائها ، والناس برؤسائهم وأُمرائهم ! فكيف يصحّ هذا الخبر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!!

ثمّ إنّ النـبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لو سلّمنا بصـدور الحديث عنه ـ مدح القرن ولم يقل بإيمان كلّ مَن عاش فيه ، كيف ؟! وفي أهل ذلك الزمان الكفّار والمنافقون والفسّاق والمبتدعون ، كـ : النواصب والخوارج والمرجئة والمعطّلة والجهمية والقدرية وغيرهم.

__________________

(١) راجع نتائج معركة الحَرّة سنة ٦٣ هـ في كتب التاريخ.

(٢) راجع هجوم جيش يزيد علىٰ مكّة ، وهدم جانب من البيت بفعل المنجنيق الّذي كان يضرب به قائد جيش يزيد الكعبة في الإمامة والسياسة ٢ / ١٧ ، سير أعلام النبلاء ٤ / ٢٢٨.

٥٦

فالإطلاق في الحديث ـ بفرض التسليم بصحّته ـ في حقّ الأصحاب مقيّد بما إذا لم يرتـدّوا ، أو يحدِثوا في الدين ; فقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث صحيحة أخرجها أصحاب الصحاح : « ليردنّ علَيَّ الحوض غداً رجال من أصحابي ثمّ ليختلجنّ عن الحوض ، فأقول : يا ربّ ! أصحابي ، فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً ... » (١) ، فيكون المعنىٰ : خير القرون قرني ما لم يرتدّ أهله من بعدي ويحدِثوا في الدين.

وما ذكرناه هنا قد استفاده أيضاً الشارحون لهذا الحديث الشريف ; قال القرطبي في تفسيره : الجامع لأحكام القرآن نقلا عن ابن عبد البرّ : « خير الناس قرني » ليس علىٰ عمومه ؛ بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضـول ، وقد جـمع قرنه جماعة من المنافقين والمظهرين للإيمان وأهل الكبائر الّذين أُقيمت عليهم وعلىٰ بعضـهم الحدود (٢).

وأقول :

بل جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ينافي استفادة الخيرية للقرون الثلاثة المدّعاة ..

ففي حديث يرويه أصحاب السُنن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصير ملكاً عضوضاً » (٣) ؛ قال ابن الأثير في النهاية في

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٦ و ٢٠٨ و ٨ / ٧٨ ، صحيح مسلم ١ / ١٥٠ و ٧ / ٦٦ ، السنن الكبرىٰ ـ للبيهقي ـ ٤ / ٧٨ ، مسند أحمد ٢ / ٣٠٠ و ٤٠٨ و ٣ / ٢٨ ، و ٥ / ٣٣٣ و ٣٣٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ٤ / ١٧١.

(٣) فتح الباري ٨ / ٦١٨ ; قال ابن حجر العسقلاني : أخرجه أحمد وأصحاب السُنن وصحّـحه ابن حبّان وغيره. انتهىٰ.

٥٧

غريب الحديث : أي يصيب الرعية فيه عنف وظلم كأنّهم يُعضّـون فيه عضّاً (١). انتهىٰ.

وفي حديث صحّـحه الحاكم في مستدركه ، وحسنّه ابن حجر في فتح الباري : يا رسول الله ! هل أحد خيرٌ منّا ، أسلمنا معك وجاهدنا معك ؟! قال : « قوم يكونون من بعدكم ، يؤمنون بي ولم يروني » (٢).

وأيضاً أخرج أحمد في مسنده : عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أتىٰ مقبرة فسلّم علىٰ أهل المقبرة فقال : « سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ». ثمّ قال : « وددت أنّا قد رأينا إخواننا ».

قال : فقالوا يا رسول الله ! ألسنا بإخوانك ؟!

قال : « بل أنتم أصحابي ، وإخواني الّذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطهم علىٰ الحوض ».

فقالوا : يا رسول الله ! كيف تعرف مَن لم يأتِ من أُمّتك بعد ؟!

قال : « أرأيت لو أنّ رجلاً كان له خيل غرّ محجّلة بين ظهراني خيل بهم دهم ، ألم يكن يعرفها ؟! ».

قالوا : بلى.

قال : « فإنّهم يأتون يوم القيامة غرّاً محجّلين من أثر الوضوء وأنا فرطهم علىٰ الحوض » ، ثمّ قال : « ألا ليذادنّ رجال منكم عن حوضي كما يُذاد البعير الضالّ ، أُناديـهم : ألا هلمّ ، فيقال : إنّهم بدّلوا بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً » (٣). انتهىٰ.

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث ٢ / ٢٥٣.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٤ / ٨٥ ، فتح الباري ٧ / ٥.

(٣) مسند أحمد ٢ / ٣٠٠ ; وانظر : صحيح مسلم ١ / ١٥٠ ، صحيح ابن خزيمة ١ / ٧.

٥٨

وروىٰ ابن حبّان في صحيحه : عن عمّار بن ياسر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : « مثل أُمّتي مثل المطر لا يُدرىٰ أوّله خير أم آخره » (١).

وفي سياق ما تقدّم قال ابن حجر : وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه : « يأتي أيام للعامل فيهنّ أجر خمسين » ، قيل : منهم أو منّا يا رسول الله ؟! قال : « بل منكم » ... قال ابن حجر : وهو شاهد لحديث : مثل أُمّتي مثل المطر (٢).

وروى أحمد بسنديه : عن أنس بن مالك ، وعن أبي حامد ، مرفوعاً : « طوبى لمَن رآني وآمن بي ، وطوبى لمَن آمن بي ولم يرني » سبع مرّات (٣).

وجاء في فتح القدير ـ للشوكاني ـ : أخرج البزّار ، وأبو يعلىٰ ، والحاكم وصحّحه : عن عمر بن الخطّاب ، قال : كنت جالساً مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً ».

فقالوا : يا رسول الله ! الملائكة ؟

قال : « هم كذلك ، ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة الّتي أنزلهم بها ».

قالوا : يا رسول الله ! الأنبياء الّذين أكرمهم الله برسالته والنبوة ؟

قال : « هم كذلك ، ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة الّتي أنزلهم بها ».

__________________

(١) صحيح ابن حبّان ١٦ / ٢٠٩ ; قال ابن حجر في فتح الباري ٧ / ٥ : وهو حديث حسن ، له طرق قد يرتقي بها إلىٰ الصحّـة.

(٢) فتح الباري ٧ / ٥.

(٣) مسند أحمد ٣ / ١٥٥ و ٥ / ٢٤٨ ; وانظر : مجمع الزوائد ١٠ / ٦٧ ; قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح غير أيمن بن مالك الأشعري ، وهو ثقة.

٥٩

قالوا : يا رسول الله! الشهداء الّذين استشهدوا مع الأنبياء ؟

قال : « هم كذلك ، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة ».

قالوا : فمَن يا رسول الله ؟!

قال : « أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي ، يؤمنون بي ولم يروني ، ويصدّقوني ولم يروني ، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً » (١).

وأخرج مثله : القرطبي في تفسيره ، والبيهقي في الدلائل ، والأصبهاني في الترغيب ، والطبراني ، وابن أبي شيبة ، وابن عساكر ، وأحمد ، والدارمي ، والبخاري في تاريخـه بأسانيدهم ; فراجع ثمّة !

أما قولـه تعالىٰ : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ ـ إلىٰ قوله ـ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، فهو يدلّ علىٰ أنّ الله سبحانه راضٍ عن السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ، وقد أخبرنا سبحانه ـ في آيات أُخرىٰ من كتابه الكريم ـ أنّه لا يرضىٰ عن القوم الفاسقين ، كما لا يرضىٰ عن المرتدّين عن دينهم ; قال تعالىٰ : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٢) ..

ومقتضىٰ الجمع بين الآيات المباركة يستلزم القول : إنّ الإقرار بعدالة المذكورين بالآية المباركة ـ الآية ١٠٠ من سورة التوبة ـ ثابت إلاّ مَن ثبت كفره أو ارتداده أو فسقه ، فنخرجه منهم جمعاً بين الأدلّة ، وليس في ذلك تنقيصٌ لأحـد ، أو بخسٌ لفضله ؛ إذ لا يمكن لأحـد أن يقول : إنّ الصحابي

__________________

(١) فتح القدير ١ / ٣٤.

(٢) سورة البقرة : الآية ٢١٧.

٦٠