تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كلمةٍ تفتح ألف ألف كلمة (١).

وصحّ عن أُمّ سلمة أنّها قالت : والّذي أحلف به ! إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ عدناه غداة وهو يقول : جاء عليّ ؟ جاء عليّ ؟ مراراً ، فقالت فاطمة : كأنّك بعثته في حاجة ؟

قالت : فجاء بعد ، فظنّنت أنّ له إليه حاجة ، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب.

قالت أُمّ سلمة : كنت من أدناهم إلىٰ الباب ، فأكبَّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل يسارّه ويناجيه ، ثمّ قُبض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يومه ذلك ، فكان عليّ أقرب الناس به عهداً (٢).

ومن المعلوم أنّ عليّاً هو وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحامل سرّه ; قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لكلّ نبيّ وصيّ ووارث ، وإنّ عليّاً وصيّي ووارثي » (٣).

قال الدليمي :

« ومن كتاب له عليه‌السلام إلىٰ أهل الكوفة : ( أمّا بعد ، فإنّي خرجت من حيّي هذا إمّا ظالماً وإمّا مظلوماً ، وإمّا باغياً وإمّا مبغيّاً عليه ، وإنّي أُذّكر الله مَن بلغه كتابي هذا لَما نفر إليَّ ؛ فإن كنت مسيئاً استعتبني ـ أي طلب منّي أن

__________________

(١) كنز العمّال ١٣ / ١٦٥ ؛ يرويه عن الإسماعيلي في معجمه ، قال : وفيه : الأجلح ، صدوق شيعي جلد.

(٢) مسند أحمد ٦ / ٣٠٠ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٤٩ ; قال الحاكم : هذا حديث صحيح الاسناد ، ووافقه الذهبي كما في تلخيص المستدرك ، ذخائر العقبىٰ : ٧٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١١ ؛ قال الهيثمي : رواه أحمد وأبو يعلىٰ ... والطبراني باختصار ، ورجالهم رجال الصحيح غير أُمّ موسىٰ ; وهي ثقة. انتهىٰ.

(٣) انظر : ٢٥٣.

٣٢١

أُرضيه ـ بالخروج عن إساءتي. ج ٣ ص ١١٤.

ـ قال : ـ هذا كلام موجّه إلىٰ أتباعه وأنصاره ، وهو يخاطبهم بصيغة مَن لا يعتقد في نفسه ولا يعتقد فيه أصحابه العصمة ، ولو كانت عصمته أمراً معلوماً لكان أعرف الناس بها أصحابه وأتباعه وأنصاره ، ولكان الخطاب موجّهاً إليهم بصيغة الجزم والقطع بأنّه مظلوم مبغي عليه » (١).

أقول :

إنّ كلام سيد البلغاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا يجري مجرىٰ الطريقة المعروفة في علم البلاغة بـ : الطريقة التشكيكية للسامع ، وإن كان المتكلّم غير شاك (٢) ، كما في قوله تعالىٰ : ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ) (٣).

والمتكلّم البليغ يستعمل هذه الطريقة غالباً في الخطاب إذا كانت الأُمور قد اشتبهت علىٰ السامعين ، فيدعوهم ـ وهو غير شاك بحقّه ـ بهذه الطريقة إلىٰ التفكّر والتدبّر الجادَّين بأن يجهدوا أنفسهم في نصيحته وإرشاده إلىٰ الحقّ ، كي يجرّهم ، عند الانصياع إلىٰ صوت العقل ، من موقفهم الحيادي أو المعادي للحقّ إلىٰ نصرة الحقّ وأهله ، لأنّ الحقّ واحد لا يتعدّد.

وكلامه عليه‌السلام الوارد هنا ، الّذي كتبه إلىٰ أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلىٰ البصرة ، إنّما كتبه إلىٰ قوم لم يروه بعد ، ولم يسمعوه ، ولم

__________________

(١) ص ٢٩.

(٢) راجع : كتب البلاغة ـ مبحث العطف.

(٣) سورة سبأ : الآية ٢٤.

٣٢٢

يعاشروه ؛ كي يعرفوا مزاياه وخصائصه الّتي حباه الله بها (١) ، وإنّما كانت تصلهم أخباره عن طريق المسافرين أو الرواة ، وهي ـ أي الأخبار ـ متفاوتة بين الصدق والكذب ، كأيّ خبر يُنقل ، حسب وثاقة الرواة وعدمها ، وحسب نقل المحبّين له والمبغضين ، وهم موجودون في زمانه ، كما أنّهم موجودون في كلّ زمان.

بل إنّ نسبة المبغضين له في العرب آنذاك أكبر من نسبة المحبّين له ؛ لموقع سيفه في القبائل العربية الّتي حاربت الإسلام في بدء الدعوة ، فما من قبيلة من قبائل العرب إلاّ كان قد وترها بواحد من أفرادها ، أو بعدّة أفراد (٢).

كما أنّ خروج عائشة ( أُمّ المؤمنين ) مع طلحة والزبير لحربه عليه‌السلام كان له الأثر الكبير في اشتداد الفتنة علىٰ الناس ، واشتباه معالم الحقّ عليهم ، فلم يعرفوا أي المعسكرين علىٰ حقّ ، هل هو معكسر أمير المؤمنين وابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم معسكر أُمّ المؤمنين وحواريّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يسمّونهم ؟

الأمر الّذي دعا الإمام عليه‌السلام أن يكلّم الناس بهذه الطريقة التشكيكية ،

__________________

(١) انظر : كتابه الآخر الّذي كتبه عليه‌السلام إلىٰ أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلىٰ البصرة ، والّذي جاء فيه : « فإنّي أُخبركم عن أمر عثمان ؛ حتّىٰ يكون سمعه كعيانه ... الخ » ؛ نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمد عبده ـ ج ٣ ص ٢ ..

وهو يدلّ علىٰ أنّ غاية ما عند أهل الكوفة من أخباره عليه‌السلام وأخبار الحوادث الّتي جرت حينذاك إنّما مصدرها السمع فقط ، وهو مختلف صدقاً وكذباً ، كما سنشير إليه.

(٢) انظر : قول عمر بن الخطّاب لابن عبّاس عند محاججة الأخير له بأحقيّة عليّ عليه‌السلام بالخلافة ؛ قال عمر : لا وربّ هذه البنية ـ يعني الكعبة ـ لا تجتمع عليه قريش أبداً ، ولو وليها لانقضت عليه العرب من أقطارها ; شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٢ / ٢١.

٣٢٣

الهادفة إلىٰ فتح الحوار والتفكير الجادَّين من أجل الوصول إلىٰ الحقيقة الّتي اشتبهت معالمها عليهم ؛ وذلك لخطر منزلة المتخاصِمَين في القضية !

قال ابن أبي الحديد في شرحه لكلام أمير المؤمنين عليه‌السلام المتقدّم : ما أحسن هذا التقسيم وأبلغه في عطف القلوب عليه واستمالة النفوس إليه ؛ قال : لا يخلو حالي في خروجي من أحد أمرين : إمّا أن أكون ظالماً ، أو مظلوماً ، وبدأ بالظلم هضماً لنفسه ، ولئلاّ يقول عدوّه بدأ بدعوىٰ كونه مظلوماً ، فأعطىٰ عدوّه من نفسه ما أراد ..

قال : فلينفر المسلمون إليَّ ؛ فإن وجدوني مظلوماً أعانوني ، وإن وجدوني ظالماً ينهوني عن ظلمي لأعتب وأنيب إلىٰ الحقّ. وهذا كلام حسن ، ومراده عليه‌السلام يحصل علىٰ كلا الوجهين ؛ لأنّه إنّما أراد أن يستنفرهم ، وهذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه علىٰ كلّ حال (١).

أقول :

بعد هذا الّذي بيّناه وذكرناه من أدلّة حول عصمته عليه‌السلام من الكتاب والسُنّة ، ومن نهج البلاغة ، وبيان حال خطاباته عليه‌السلام واتّجاهاتها ; لا يترتّب الأثر الّذي رتّبه الدليمي علىٰ تلك الخطابات بقوله : فكونه غير معصوم أمر مفروغ منه !! بل العكس هو الصحيح ، أي : كونه عليه‌السلام معصوماً هو الأمر المفروغ منه ..

وهذه الأدلّة الّتي تلوناها عليك ، بين يديك ، تنبئك بعصمته عليه‌السلام بما لا لبس فيه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٧ / ١٤٠.

٣٢٤

وإن لم يكتفِ الدليمي بذلك ، أقول :

إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان قد عاش ثلاثةً وستّين عاماً ، قضىٰ نصفها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنصف الآخر قضاه مع المسلمين وبين ظهرانيهم ; فليأتنا بكذبة له في قول أو معصية في فعل ، من سندٍ صحيح يُعتمد عليه !!

ولا أظنّه يجد ، ولن يجد إلىٰ ذلك سبيلاً ..

قال أحمد بن حنبل عندما سئل عن عليّ ومعاوية : أعلم أنّ عليّاً كان كثير الأعداء ، ففتّش أعداؤه عن شيء يعيبونه فلم يجدوه ، فجاؤوا إلىٰ رجل قد حاربه وقاتله فاطروه كيداً منهم لله (١).

قال تعالىٰ : ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) (٢).

وقال عزّ من قائل : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (٣).

صدق الله العليّ العظيم.

*                  *                *

__________________

(١) فتح الباري ٧ / ٨١ ، الصواعق المحرقة : ١٢٥ ، النصائح الكافية : ٢٢ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ٢٣٠ ، تاريخ الخلفاء : ٢٢٦.

(٢) سورة الطارق : الآيات ١٥ ـ ١٧.

(٣) سورة التوبة : الآية ٣٢.

٣٢٥

٣٢٦



الفصل الحادي عشر



الوسائط المشروعة

بين الخالق والمخلوق

٣٢٧

٣٢٨



قال الدليمي :

« يقول سيّدنا عليّ رضي‌الله‌عنه : ( اعلم إنّ الّذي بيده خزائن السمٰوات والأرض قد أذن لك في الدعاء ، وتكلّف لك بالإجابة وأمرك أن تسأله ليعطيك وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه مَن يحجبه عنك ، ولم يلجئك إلىٰ مَن يشفع لك إليه ). ج ٣ ص ٤٧.

ـ قال : ـ وأمّا الوسائط والشفعاء الّذين جعلهم الإنسان ـ بجهله ـ بينه وبين ربّه فقد نفاها الله تعالىٰ في مواضع لا تحصىٰ من القرآن ، كما في قوله : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ـ إلىٰ قوله : ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (١).

وقوله : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (٢).

وقوله : ( أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ ـ إلىٰ قوله : ـ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (٣).

__________________

(١) سورة يونس : الآية ١٨.

(٢) سورة فاطر : الآيتان ١٣ و ١٤.

(٣) سورة الزمر : الآية ٣.

٣٢٩

وقال تعالىٰ : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (١).

فلم يلجئك إلىٰ مَن يشفع لك إليه ، فادعوه فإنّه قريب مجيب لا يحتاج إلىٰ وسيط » (٢).

أقول :

قد لا توجد حاجة للتعليق علىٰ كلام الكاتب هنا ; لأنّ الشفاعة الاقتراحية من الناس مرفوضة كتاباً وسُنّةً ، وقد ذكرتُ في كتاب حقيقة الوهابية في الجزء الأوّل منه ، في الفصل الخاصّ بالشفاعة ، جميع ما يتعلّق بهذا الموضوع ..

وقد قسّمت هناك ـ استناداً إلىٰ القرآن الكريم ـ الشفاعة إلىٰ قسمين : قسم عادل وصحيح ، وآخر ظالم وغير صحيح ، وقلت ـ بعد ذكر الآيات القرآنية المتعلّقة بموضوع الشفاعة ـ : المستفاد من مجموعها أنّ الشفاعة ثابتة لله تعالىٰ أصالة وهو المالك لها ، وتكون لغيره بإذنه ورضاه ، وهي لا تكون يوم القيامة إلاّ لمَن ارتضاه الله تعالىٰ وأذن له بالشفاعة.

وهذا هو الّذي تقتضيه القواعد العقلية ; لانحصار مالكية كلّ شيء فيه تعالىٰ ، وجميع تلك الآيات المباركة تدلّ علىٰ عدم ثبوتها لغيره عزّ وجلّ اقتراحاً من الناس ومن دون مشيئة الله وارتضائه ؛ فتحمل الآيات النافية للشفاعة علىٰ الشفاعة الاقتراحية للناس.

فإنّ للشفاعة أقساماً ، منها : ظالم وغير صحيح ، ولا وجود لهذا القسم

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٨٦.

(٢) ص ٢٩.

٣٣٠

في المجال الإلٰهي ، ومنها : عادل وسليم ، له وجود في ذلك المجال.

فالشفاعة المنحرفة وغير الصحيحة هي الّتي تكسر القانون وتتناقض معه ، أمّا الشفاعة الصحيحة فهي الّتي تحفظ القانون وتؤيّده ، فالشفاعة المنحرفة تحاول تعويق القانون عن طريق الوساطة ، وهي تحفظ المجرم من تطبيق القانون عليه بالتوسّل بالوساطة علىٰ الرغم من القانون ومن واضعه ؛ لهذا فإنّ هدف القانون إذا طُبِّقت فيه هذه الشفاعة يمسي لغواً.

وهذه الشفاعة في الدنيا ظلمٌ ، وفي الآخرة مستحيلة.

والاعتراضات أو الإشكالات الّتي يوردها الوهّابيّون وأتباعهم تتّجه إلىٰ هذا اللون من الشفاعة ، وهي شفاعة مرفوضة من القرآن الكريم.

أمّا الشفاعة المقبولة والصحيحة فهي شيء آخر ، ليس فيها ترجيح ولا استثناء ، ولا نقض للقوانين ، ولا تستلزم قهر إرادة واضع القانون ، وهذا اللون من الشفاعة أيّده القرآن الكريم ونصّ عليه (١).

وقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله ـ كما في صحيح البخاري وغيره ـ : « أُعطيت خمساً لم يعطَهنّ أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلَت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيّما رجل في أُمّتي أدركته الصلاة فليصلّ ، وأُحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأُعطيت الشفاعة ، وكان النبيّ يُبعث إلىٰ قومه خاصّة وبعثت إلىٰ الناس عامّة » (٢).

روىٰ الديلمي في فردوسه ، والسيوطي في الجامع الصغير : عن أبي هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الشفعاء خمسة : القرآن ، والرحم ،

__________________

(١) راجع كتابنا : حقيقة الوهّابية ١ / ٢٣٠ ـ ٢٣١.

(٢) صحيح البخاري ١ / ٨٦ كتاب التيمّم ، صحيح مسلم ٢ / ٦٣ ، سُنن النسائي ١ / ٢٠٩.

٣٣١

والأمانة ، ونبيّكم ، وأهل بيته عليهم‌السلام » (١).

وقد ورد في نهج البلاغة أكثر من مورد فيه : أنّ القرآن شافع ومشفع.

قال الشيخ عبد الله الهرري الشافعي ، مفتي الصومال ، في كتابه المقالات السنية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية ، في المقالة الخامسة : منكرو التوسل أتباع ابن تيمية يقولون : لماذا تجعلون واسطة بقولكم : اللّهمّ إنّي أسألك بعبدك فلان ؟ الله لا يحتاج إلىٰ واسطة.

فيقال لهم : الواسطة قد تأتي بمعنىٰ : المعين والمساعد ، وهو محال بالنسبة إلىٰ الله تعالىٰ ، أمّا الواسطة بمعنىٰ : السبب ، فالشرع والعقل لا ينفيانه ; فالله تعالىٰ هو خالق الأسباب ومسبّباتها ، وجعل الأدوية أسباباً للشفاء ، وهو خالق الأدوية وخالق الشفاء بها ، كذلك جعل الله تعالىٰ التوسّل بالأنبياء والأولياء سبباً لنفع المتوسّلين.

ولولا أنّ التوسّل سبب من أسباب الانتفاع ما علّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعمىٰ التوسّل به (٢).

__________________

(١) كنز العمّال ١٤ / ٣٩٠ ، الجامع الصغير ٢ / ٨٥.

(٢) روىٰ أحمد في مسنده ٤ / ١٣٨ ، وابن ماجة في سننه ١ / ٤٤١ ، والنسائي في السُنن الكبرىٰ ٦ / ١٦٩ ، والترمذي في أبواب الدعاء من جامعه بسنده عن عثمان ابن حنيف : أنّ رجلاً ضرير البصر أتىٰ النبيّ فقال : ادعُ الله أن يعافيني.

قال : « إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت ، فهو خير لك ».

قال : فادعه.

قال : فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ، ويدعو بهذا الدعاء :

« اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك ، نبيّ الرحمة ، يا محمّد ! إنّي أتوجّه بك إلىٰ ربّي في حاجتي هذه لتقضىٰ لي ، اللّهمّ فشفّعه فيَّ » ..

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٣٣٢

ثمّ إنّ الله تعالىٰ هو خالق التوسّل ، وخالق النفع الّذي يحصل به بإذن الله ، فالتوسّل بالأنبياء والأولياء من باب الأخذ بالأسباب.

ولأنّ الأسباب إمّا ضرورية ، كالأكل والشرب ، وإمّا غير ضرورية ، كالتوسّل ، والمؤمن الّذي يتوسّل بالأنبياء والأولياء لا يعتقد أنّ كونهم وسطاء بينه وبين الله ، بمعنىٰ أنّ الله يستعين بهم في إيصال النفع للمتوسّل ، بل يراهم أسباباً جعلها لحصول النفع بإذنه ...

فقول هؤلاء المنكرون : لِمَ تجعلون وسائط بينكم وبين الله ؟ لِمَ لا تطلبون حاجتكم من الله ؟ كلام لا معنىٰ له ; لأنّ الشرع رخّص للمؤمن أن يطلب من الله حاجته من دون توسّل ، وبين أن يطلب حاجته مع التوسّل.

فالّذي يقول : اللّهمّ إنّي أسألك بنبيّك ، أو بجاه نبيّك ، أو نحو ذلك ، فقد سأل الله ، كما أنّ الّذي يقول : اللّهمّ إنّي أسألك كذا وكذا ، قد سأل الله ، فكلا الأمرين سؤال من العبد إلىٰ ربّه ، وكلاهما داخل في حديث : « إذا

__________________

قال الطبراني بعد ذكر طرق الحديث : إنّ الحديث صحيح ، هذا كلام الحافظ المنذري.

وكذا نقل تصحيح الطبراني ووافقه : الحافظ الهيثمي في باب صلاة الحاجة من مجمع الزوائد.

ووافق علىٰ تصحيح الحديث أيضاً : النووي في باب أذكار صلاة الحاجة من كتب الأذكار ، والحافظ في أمالي الأذكار ، والحافظ السيوطي في الخصائص الكبرىٰ ، وابن تيمية في غير موضع من كتبه ; ونقل تصحيحه عن الترمذي والحاكم والحافظ أبي عبد الله المقدّسي ـ صاحب المختارة ـ وغيرهم.

وبالجملة ؛ فالحديث صحيح بإجماع الحفّاظ ، لا مطعن فيه ولا مغمز.

راجع كتابنا : حقيقة الوهّابية ٢ / ١١ ـ ١٧ ، لتجد دلالة حديث الأعمىٰ علىٰ جواز التوسّل في جميع الحالات من اثني عشر وجهاً.

٣٣٣

سألت فاسأل الله » (١).

وللإحاطة بموضوعي الشفاعة والتوسّل ، بل وبما يورده الوهّابيّون وأتباعهم من إشكالات في قضايا التوحيد ، ومعنى العبادة (٢) ، وزيارة القبور وبنائها ، وغيرها ، أنصح الدليمي ـ وغيره ـ بالعودة إلىٰ كتابنا حقيقة الوهّابية بجزأيه الأوّل والثاني ؛ فإنّ فيه التفصيل لكلّ دليل إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله عليه‌السلام الوارد في وصيّته لابنه الحسن عليه‌السلام : « ولم يلجئك إلىٰ من يشفع لك إليه » (٣) ، فهو لا يدلّ علىٰ نفي الشفاعة أو حرمتها ، كيف ؟! وقد ثبتت بالأدلّة القاطعة من الكتاب والسُنّة !!

وإنّما كان عليه‌السلام بصدد بيان أنّ الله عزّ وجلّ لم يجبر الإنسان علىٰ فعل المعاصي الّتي تضطرّه إلىٰ طلب شفاعة الشافعين ؛ لأنّ اللجوء إلىٰ طلب الشفاعة لا يكون إلاّ بعد اجتراء المعاصي الّتي تحصل بفعل الإنسان واختياره ، لِما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي » (٤).

__________________

(١) المقالات السنية : ٢٣٩.

(٢) من الأُمور الّتي اشتبهت علىٰ الوهّابيّين وأتباعهم أنّهم يحسبون كلّ نداء عبادة ؛ فلو قال القائل مثلاً : يا عليّ ! اسأل الله أن يغفر لي ، قالوا : ذلك عبادة لعليّ عليه‌السلام.

والحال أنّ العبادة معنىٰ مركّب من جزءين يتحقّق بتحقّقهما وينتفي بانتفائهما ، أو بانتفاء أحدهما ، وهما : الاعتقاد بالإلوهية + الخضوع القلبي ; فمَن كان معتقداً بالإلوهية دون الخضوع القلبي ـ كإبليس مثلاً ـ لا يُسمّىٰ عابداً ، ومَن كان خاضعاً بقلبه لأحد ما ، كخضوعه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو الإمام ، أو الأب ، دون الاعتقاد بإلوهيّته لا يسمّىٰ عابداً أيضاً.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٤٧.

(٤) كتاب السُنّة : ٣٨٥ ؛ قال الألباني ـ محقّق الكتاب ـ : الحديث صحيح ، ورجاله ثقات رجال البخاري غير الفضل بن عبد الوهّاب ؛ فلم أعرفه ، لكن الحديث صحيح بما بعده من الطرق. انتهىٰ.

٣٣٤

وببيان آخر لأحد شارحي النهج : إنّه لم يلجئه إلىٰ مَن يشفع إليه ; لأنّ الشفيع إنّما يضطرّ إليه عند تعذّر المطلوب من جهة المرغوب إليه ، إمّا لبخله أو جهله باستحقاق الطالب ، والباري تعالىٰ لا بخل عنده ولا منع من جهته ، وإنّما يتوقّف فيضه علىٰ استعداد الطالب له (١).

وعلىٰ أية حال ، فقد بيّنّا سابقاً أنّ طلب دعاء الشفيع المأذون بالشفاعة من قبل الله عزّ وجلّ ، كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ، أو التوسّل به أو بهم إلىٰ الله تعالىٰ ، هو في الحقيقة لجوء إلىٰ الله تعالىٰ لا لجوء إلىٰ الشفيع ؛ لأنّ الشفاعة المأذون بها هي من جملة الأسباب الّتي شرّعها الله لعباده من أجل نيل رحمته سبحانه.

أمّا عن اعتراض الدليمي علىٰ التوسّط بطلب الدعاء من الآخرين ، وقوله : « فادعوه ؛ فإنّه قريب مجيب لا يحتاج إلىٰ وسيط ».

فأقول :

ثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للمسلمين : « اسألوا الله لي الوسيلة » ، وهي أعلىٰ درجة في الجنّة ، فهل تراه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعلم أنّ الله عزّ وجلّ قريب مجيب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ولا يحتاج إلىٰ وسيط فطلب سؤال المسلمين له ، وعلِم بذلك الدليمي دونه ؟!!

نعوذ بالله من زلل الأقلام وأيف الأفهام ، ونسأله العافية ، وتمام العافية ، والشكر علىٰ العافية ، بحقّ محمّد وآله الكرام.

*                  *                 *

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن ميثم البحراني ـ ٢ / ٣٧٧.

٣٣٥

٣٣٦



الفصل الثاني عشر



مهمّة ولاة الأمر

في الإسلام

٣٣٧

٣٣٨



قال الدليمي :

« يقول تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (١).

ـ قال : ـ فأفرد تعالىٰ لنفسه طاعة ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طاعة ولم يفرد لأُولي الأمر طاعة مستقلّة بهم ، إنّما طاعتهم داخلة تحت طاعة الله وطاعة رسوله ، وأرشد عند النزاع أن نردّ الأمر إلىٰ الله والرسول ولم يقل : ( أُولي الأمر ) ، فلم يجعل لأُولي الأمر شيء عند النزاع ، فليس هناك أحد يُردّ إليه الأمر عند النزاع غير الله والرسول.

وإليك ما ورد عن سيدنا عليّ رضي‌الله‌عنه في نهج البلاغة من تفسير هذه الآية طبّقه علىٰ نفسه لمّا نازعه القوم فردّهم إلىٰ كتاب الله ولم يردّهم إلىٰ نفسه : ( ولمّا دعانا القوم إلىٰ أن يحكم بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله ، وقد قال الله سبحانه : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) ؛ فردّه إلىٰ الله أن نحكم بكتابه ، وردّه إلىٰ الرسول أن نأخذ بسُنّته ). ج ٢ ص ٥.

__________________

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

٣٣٩

وهكذا فعل سيّدنا عليّ عند النزاع ، ولو كان معصوماً لَما قبل التحكيم وجوّز لهم أن ينازعوه وإنّما يقيم لهم الدلائل علىٰ عصمته وبعدها ينتهي كلّ شيء.

ويقول في موضع آخر : ( واردد إلىٰ الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ، ويشتبه عليك من الأُمور ؛ فقد قال الله تعالىٰ لقوم أحبّ إرشادهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) ؛ فالردّ إلىٰ الله الأخذ بمحكم كتابه ، والردّ إلىٰ الرسول الأخذ بسُنّته الجامعة غير المفرّقة ). ج ٣ ص ٩٣ ـ ٩٤ » (١).

أقول :

اشتبه علىٰ الكاتب هنا معرفـة مهمّة ولاة الأمر ، وحسب أنّ ولاة الأمر لا دور لهم عند حدوث التنازع بين المؤمنين ، وأنّ الرجوع يكون للكتاب والسُنّة فقط ، حسب ما فهمه من الآية « ٥٩ » من سورة النساء ، وغاب عنه أنّ حذف كلمة « أُولي الأمر » في عجز الآية كان اعتماداً علىٰ قرينة سابقة.

والحذف جائز ، بل يجب ـ كما هو معلوم في علم البلاغة ـ إذا دلَّ علىٰ المعنىٰ المراد دليل من قرينة لفظية أو حالية ، سابقة أو مقارنة.

وقد سبق في صدر الآية أن ساوىٰ بينهم وبين الله والرسول في لزوم الطاعة ، فعُلم أنّ الردّ يكون إليهم كما يكون لله والرسول ، ويؤيّد هذا المعنىٰ ما ورد في الآية الثانية : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ

__________________

(١) ص ٣١ ـ ٣٢.

٣٤٠