تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

وعن العلاّمة النبهاني في كتاب الشرف المؤبّد عند تناوله لهذه الآية في أوّل الكتاب ، وكذلك العلاّمة المقريزي في فضل آل البيت ، في ما نقلاه عن ابن عطيّة الأندلسي ـ المتوفّىٰ سنة ٤٥٦ هـ ـ قوله في المحرّر الوجيز : والرجس اسم يقع علىٰ الإثم والعذاب ، وعلىٰ النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت (١). انتهىٰ.

وعن النووي في شرحه لصحيح مسلم : قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، قيل : هو الشكّ ، وقيل : العذاب ، وقيل : الإثم ; قال الأزهري : الرجس اسم لكلّ مستقذر من عمل (٢). انتهىٰ.

وفسّر الشيخ محي الدين بن عربي لفظ الرجس بـ : كلّ ما يشين ؛ وإليك عبارته ، قال : وقد ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد طهّره الله وأهل بيته تطهيراً وأذهب عنهم الرجس ، وهو : كلّ ما يشينهم ؛ فإنّ الرجس هو القذر عند العرب ـ هكذا حكى الفرّاء ـ (٣). انتهىٰ.

فالمقصود من العصمة ـ محلّ البحث ـ كما هو الوارد في كتب عقائد الإمامية : قوّة العقل من حيث لا يُغلب ، مع كونه قادراً علىٰ المعاصي كلّها ، كجائز الخطأ.

وليس معنىٰ العصمة أنّ الله يجبره علىٰ ترك المعصية ، بل يفعل به ألطافاً يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها ، كـ : قوّة العقل ، وكمال الفطنة والذكاء ، الّتي يبلغ بها إلىٰ نهاية صفاء النفس ، وكمال الاعتناء بطاعة الله عزّ وجلّ.

__________________

(١) فضل آل البيت : ٣٣.

(٢) صحيح مسلم بشرح النووي ١٥ / ١٩٤.

(٣) في الباب ٢٩ من فتوحاته.

٣٠١

ولو لم يكن قادراً علىٰ المعاصي بل كان مجبوراً علىٰ الطاعات ، لكان ذلك منافياً للتكليف وعدم الإكراه في الدين ، والنبيّ أوّل مَن كُلّف ؛ فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) (١) ، ( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) (٢) ، وقال تعالىٰ : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حتّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (٣).

ولأنّه لو لم يكن قادراً علىٰ المعصية ، لكان أدنىٰ مرتبة من صلحاء المؤمنين القادرين علىٰ المعاصي التاركين لها (٤).

فحال المعصوم مع الذنب كحال مَن يرىٰ حيواناً ميتاً ـ مثلاً ـ في الطرق فتأبى نفسه أن تقترب أو تأكل منه ; لاستبشاعها ذلك ونفورها عنه ، مع أنّه لو أراد الأكل وأجبر نفسه عليه لأكل منه ; لقدرته عليه (٥).

قياس منطقي لآيات القرآن الكريم ينتج عصمة أهل البيت عليهم‌السلام :

قال الفخر الرازي في التفسير الكبير عند قوله تعالىٰ : ( أَطِيعُواْ اللهَ وأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ ) (٦) : إنّه يجب القول بعصمة ولاة الأمر ; وذلك لمحلّ الجزم بطاعتهم ، كما هو مفاد الآية الكريمة ..

فإن قلنا بـ : عصمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وجبت طاعتهم مطلقاً دون غيرهم ، وإن قلنا بـ : عدم عصمتهم ، لزم التكليف بالمحال ; إذ أوجب الله

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية ٨١.

(٢) سورة الأنعام : الآية ١٦٣.

(٣) سورة الحجر : الآية ٩٩.

(٤) انظر : حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين ١ / ١٩١.

(٥) جئنا بهذا المثال هنا لتقريب المعنىٰ فقط لا للمناقشة في حرمة أكل الميتة أو جوازه اضطراراً.

(٦) سورة النساء : الآية ٥٩.

٣٠٢

علينا طاعة المعصوم والمعصوم معدوم حسب الفرض ؛ لتحقّق إجماع المسلمين كافّة أنّ غيرهم ليس بمعصوم ، والتكليف بالمحال محال علىٰ الله تعالىٰ (١).

واستناداً إلىٰ التفسير السابق للفخر الرازي بأنّ مَن وجبت طاعته مطلقاً وجبت عصمته ، سنثبت عصمة أهل البيت عليهم‌السلام بآية أُخرىٰ من القرآن الكريم ، وهي : آية المودّة ، وهي قوله تعالىٰ : ( قُل لاَّ أَسلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى القربىٰ ) (٢) ..

وإليك البرهان بتطبيق الشكل الأوّل من الأشكال الأربعة المعروفة في علم المنطق ، فنقول :

من وجبت مودّته مطلقاً ............... وجبت طاعته مطلقاً

وكلّ من وجبت طاعته مطلقاً ............... وجبت عصمته

فالنتيجة :

من وجبت مودّته مطلقاً ................... وجبت عصمته

أمّا دليل الصغرىٰ : فقوله تعالىٰ : ( قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى ... ) (٣) ، الّذي شرَط الحبّ بلزوم الاتّباع ، الّذي يعني : الطاعة.

وهذا القياس منتج ; لأنّ شروط الشكل الأوّل متوفّرة فيه ، وهي : إيجاب الصغرىٰ ، وكلّيّة الكبرىٰ.

وعلىٰ هذا ، نكون قد أثبتنا عصمة أهل البيت عليهم‌السلام الّذين أوجب الله مودّتهم في كتابه من خلال آيات القرآن الكريم نفسها ، بقياس منطقي

__________________

(١) راجع كلامه في التفسير الكبير ١٠ / ١٤٤.

(٢) سورة الشورىٰ : الآية ٢٣.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٣١.

٣٠٣

صحيح لا غبار عليه ، والحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله (١).

أمّا السُنّة النبوية الشريفة :

فما دلّ من الأحاديث علىٰ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام أكثر من أن يذكر في هذه العجالة من البحث ، أو هذا الردّ المبني علىٰ الاختصار ، ولكنّنا سنجتزئ هنا بشيء يسير منها يفي بالمطلوب إن شاء الله تعالىٰ ..

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّي تركت فيكم ما أن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلىٰ الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلّفونني فيهما » (٢).

والدالّ علىٰ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام حسب الحديث المذكور أُمور :

١ ـ اقترانهم بالكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وتصريحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم افتراقهم عنه ، ومن البديهي أنّ صدور أية مخالفة

__________________

(١) انظر : مَن ذكر أنّ المراد بـ : « أهل البيت » في آية التطهير ـ الآية ٣٣ من سورة الأحزاب ـ وآية المودّة ـ الآية ٢٣ من سورة الشورىٰ ـ هم : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، من علماء أهل السُنّة ، الّذين يبلغون بالعشرات ، إن لم نقل بالمئات ، في ملحق المراجعات ـ لحسين الراضي ـ : ٢٤ ـ ٣١.

وانظر : الكلمة الغرّاء ـ للسيد شرف الدين رحمه‌الله ـ : ٢٠٣ ـ ٢٣٠ ، تجد ما ينفعك من التحقيق المتين بشأن الآيتين الكريمتين.

(٢) مسند أحمد ٣ / ١٤ و ١٧ و ٢٦ و ٥٩ و ٥ / ١٨٢ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣٢٩ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٢ ; قال الهيثمي : رواه أحمد ، وإسناده جيّد ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ / ١٧٦ ، الدرّ المنثور ٢ / ٦٠ و ٦ / ٧ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ / ١٩٤ ، تفسير ابن كثير ٤ / ١٢٢ ..

وهناك عشرات المصادر التي يمكن الوقوف عليها في ملحق المراجعات ، لحسين الراضي.

٣٠٤

للشريعة ، سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة ، تعدّ افتراقاً عن القرآن في هذه الحال ، وإن لم يتحقّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً ، كما في الغافل والساهي ، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتّىٰ يردا الحوض.

٢ ـ عدّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التمسّك بهم عاصماً من الضلالة دائماً وأبداً ، كما هو مقتضىٰ ما تفيده كلمة : « لن » التأبيدية ؛ وفاقد الشيء لا يعطيه.

٣ ـ علىٰ أنّ تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّذي أخبر عن الله عزّ وجلّ بعدم وقوع افتراقهما ، وتجويز الكذب عليه متعمّداً في مقام التبليغ والإخبار عن الله تعالىٰ في الأحكام وما يرجع إليه من موضوعاتها وعللها ، منافٍ لافتراض العصمة في التبليغ ، وهي ممّا أجمعت عليه كلمة المسلمين علىٰ الإطلاق ، حتّىٰ نفاة العصمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقول مطلق ..

يقول الشوكاني بعد استعراضه لمختلف مبانيهم في عصمة الأنبياء : وهكذا وقع الإجماع علىٰ عصمتهم بعد النبوّة من تعمّد الكذب في الأحكام الشرعية ؛ لدلالة المعجزة علىٰ صدقهم (١).

وأود هنا أن أنقل للقارئ الكريم ـ إتماماً للفائدة ـ كلام السيّد محسن الأمين رحمه‌الله في كتابه أعيان الشيعة ، فبعد أن أورد حديث الثقلين المارّ ذكره ، بلفظ مسلم وأحمد وغيرهما من الحفّاظ ، قال : دلّت هذه الأحاديث علىٰ عصمة أهل البيت من الذنوب والخطأ ؛ لمساواتهم فيها بالقرآن الثابت عصمته :

__________________

(١) إرشاد الفحول : ٣٤.

وانظر : بقيّة الاستدلال بالحديث علىٰ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام في الأُصول العامّة للفقه المقارن ـ للسيد محمّد تقي الحكيم ـ : ١٦٦ ـ ١٦٧.

٣٠٥

في : أنّه أحد الثقلين المخلّفين في الناس.

وفي : الأمر بالتمسّك بهم ، كالتمسّك بالقرآن ; ولو كان الخطأ يقع منهم لَما صحّ الأمر بالتمسّك بهم ، الّذي هو عبارة عن جعل أقوالهم وأفعالهم حجّة.

وفي : أنّ المتمسّك بهم لا يضلّ ، كما لا يضلّ المتمسّك بالقرآن ; ولو وقع منهم الذنوب أو الخطأ لكان المتمسّك بهم يضلّ.

و : أنّ في اتّباعهم الهدىٰ والنور ، كما في القرآن ; ولو لم يكونوا معصومين لكان في اتّباعهم الضلال.

و : أنّهم حبل الله الممدود من السماء إلىٰ الأرض ، كالقرآن ; وهو كناية علىٰ أنّهم واسطة بين الله وخلقه.

و : أنّ أقوالهم عن الله تعالىٰ ; ولو لم يكونوا معصومين لم يكونوا كذلك.

وفي : أنّهم لم يفارقوا القرآن ولن يفارقهم مدّة عمر الدنيا ; ولو أخطأوا أو أذنبوا لفارقوا القرآن وفارقهم.

وفي : عدم جواز مفارقتهم ; بتقدّم عليهم ، بجعل نفسه إماماً لهم ، أو تقصيراً عنهم وائتماماً بغيرهم ، كما لا يجوز التقدّم علىٰ القرآن بالافتاء بغير ما فيه أو التقصير عنه باتّباع أقوال مخالفيه.

وفي : عدم جواز تعليمهم وردّ أقوالهم ; ولو كانوا يجهلون شيئاً لوجب تعليمهم ولم ينه عن ردّ قولهم (١).

__________________

(١) ما يذكره السيد الأمين رحمه‌الله هنا هو حسب ألفاظ حديث الثقلين الواردة في كتب المسلمين وصحاحهم ، ومراده من هذه الفقرة بالذات قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فلا تقدّموهما

٣٠٦

ثمّ قال : ودلّت هذه الأحاديث أيضاً علىٰ أنّ منهم مَن هذه صفته في كلّ عصر وزمان ؛ بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » ، وأنَّ اللطيف الخبير أخبره بذلك (١) ، وورود الحوض كناية عن انقضاء عمر الدنيا ؛ فلو خلا زمان من أحدهما لم يصدق أنّهما لم يفترقا حتّىٰ يردا عليه الحوض.

وقال : إذا عُلم ذلك ظهر أنّه : لا يمكن أن يراد بأهل البيت جميع بني هاشم ، بل هو من العامّ المخصوص بمَن ثبت اختصاصهم بالفضل والعلم والزهد والعفّة والنزاهة من أئمّة أهل البيت الأطهار ، وهم : الأئمّة الاثنا عشر وأُمّهم الزهراء البتول ; للإجماع علىٰ عدم عصمة مَن عداهم ..

والوجدان أيضاً علىٰ خلاف ذلك ; لأنّ مَن عداهم من بني هاشم تصدر منهم الذنوب ويجهلون كثيراً من الأحكام ، ولا يمتازون عن غيرهم من الخلق ، فلا يمكن أن يكونوا هم المجعولين شركاء القرآن في الأُمور المذكورة ، بل يتعيّن أن يكون بعضهم ، لا كلّهم ، ليس إلاّ مَن ذكرنا.

أمّا تفسير زيد بن أرقم لهم بمطلق بني هاشم (٢) ـ إن صحّ ذلك عنه ـ فلا تجب متابعته عليه بعد قيام الدليل علىٰ بطلانه (٣). انتهىٰ.

والمعنىٰ الّذي أشار إليه السيد الأمين رحمه‌الله هنا في آخر كلامه قد اعترف به جماعة من أعلام الجمهور ..

جاء في الصواعق المحرقة ، لابن حجر : قال بعضهم : يُحتمل أنّ

__________________

فتهلكوا ، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » ، وقد سبقت الإشارة إلىٰ مصادره في ما تقدّم في ص ٢٥٥.

(١) في ما أخرجه أحمد في مسنده ٣ / ١٧.

(٢) في ما أخرجه مسلم من صحيحه ٧ / ١٢٣.

(٣) أعيان الشيعة ٣ / ٥٦.

٣٠٧

المراد بأهل البيت الّذين هم أمان : علماؤهم ؛ لأنّهم هم الّذين يُهتدىٰ بهم كالنجوم ، والّذين إذا فُقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون (١).

ومن الأحاديث النبوية الشريفة الدالّة علىٰ عصمة أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً :

قول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح في قومه ، مَن ركبها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق ـ أو هلك ـ » (٢) ..

ففي كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هنا بيان واضح بأنّ مَن اتّبع أهل البيت أصاب الحقّ ونجا من سخط الله وعذابه ; وذلك دليل عصمتهم ، وإلاّ لَما كان كلّ متّبع لهم ناجياً وكلّ مخالف لهم هالكاً.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن أحبّ أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة الّتي وعدني ربّي ، وهي جنّة الخلد ، فليتولّ عليّاً وذرّيّته من بعده ; فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (٣).

وأمّا ما جاء من الأحاديث بخصوص عصمة الإمام عليّ عليه‌السلام بالذات فنذكر منها :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصىٰ عليّاً فقد عصاني » (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك يا عليّ فارقني » (٥).

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٩١.

(٢) سبق ذكر مصادره في ص ١٦٥.

(٣) سبق ذكر مصادره في ص ١٧٣.

(٤) سبق ذكر مصادره في ص ١٦٩.

(٥) سبق ذكر مصادره في ص ١٦٩.

٣٠٨

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن أراد أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويسكن جنّة الخلد الّتي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه لن يخرجكم من هدىٰ ولن يدخلكم في ضلالة » (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار بن ياسر : « يا عمّار ! إذا رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ، فاسْلك مع عليّ ودع الناس ؛ فإنّه لن يدلّك علىٰ ردىً ، ولن يخرجك من هدىً » (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض يوم القيامة » (٣).

وهذا الحديث دالّ علىٰ العصمة بكلّ وضوح ممّا لا يحتاج معه إلىٰ بيان.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » (٤).

وهذا الحديث كسابقه في الدلالة والوضوح ممّا لا يحتاج معه إلىٰ بيان أيضاً.

أقول :

وبعد هذا الّذي أوردناه من الاستدلال علىٰ عصمة الإمام عليه‌السلام ، لعلّ قائل يقول : فما معنىٰ الأقوال الّتي جاءت في نهج البلاغة والّتي استدلّ بها

__________________

(١) سبق ذكر مصادره في ص ١٧٣.

(٢) سبق ذكر مصادره في ص ١٦٩.

(٣) سبق ذكر مصادره في ص ١٥٨.

(٤) سبق ذكر مصادره في ص ١٥٩.

٣٠٩

الدليمي علىٰ نفي العصمة عن الإمام عليه‌السلام ؟!

الجواب :

أمّا قوله عليه‌السلام : « لا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ؛ فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي » ..

فإنّ الكاتب قد عرض كلام الإمام عليه‌السلام هنا مبتوراً ; لأنّ في كلام الإمام عليه‌السلام استثناءً دالاًّ علىٰ العصمة لم يذكره الكاتب ، وإنّما اكتفىٰ بذكر المستثنىٰ منه وترك المستثنىٰ ! ولعلّ هذا من حرصه وأمانته في البحث ، كما هو دأب الدعاة والهداة الأُمناء علىٰ شاكلته !!

وإليك ـ عزيزي القارئ ـ كلام الإمام عليه‌السلام بتمامه من النهج مع بيان القرائن المحيطة به :

قال عليه‌السلام في خطبة خطبها بصِفّين ، ذكر فيها حقّ الوالي وحقّ الرعية ، ثمّ علّم مخاطبيه كيفيّة مخاطبته ومخالطته ، فقال :

« فلا تكلّموني بما تُكلَّم به الجبابرة ، ولا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، ولا تخالطوني بالمصانعة ، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي ، ولا التماس إعظام لنفسي ؛ فإنّه مَن استثقل الحقّ أن يقال له ، أو العدل أن يُعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ..

فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ; فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي ، فإنّما أنا وأنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره » ..

قال الشيخ محمّد عبده : يقول : لا آمن من الخطأ في أفعالي ، إلاّ إذا

٣١٠

كان يسّر الله لنفسي فعلا هو أشدّ ملكاً منّي ، فقد كفاني الله ذلك الفعل ، فأكون علىٰ أمن من الخطأ فيه (١). انتهىٰ.

أقول :

فهل كفىٰ الله عزّ وجلّ أمير المؤمنين عليه‌السلام من نفسه ما هو أملك به منه ، ويسّر له فعلاً هو أشدّ ملكاً منه ينتصر به علىٰ نفسه ويأمن الخطأ في فعله ، كما هو مراد الاستثناء من كلامه عليه‌السلام ، الّذي غضّ الدليمي الطرف عنه عمداً وتعميةً ؟!

ارجع إلىٰ ما ذكره الطبري بسنده إلىٰ سعيد بن قتادة ، الّذي قال عند تفسيره لآية التطهير : فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء ، وخصّهم برحمة منه.

وإلىٰ قول ابن عطية ـ في ما أورده النبهاني عنه في الشرف المؤبّد ، والمقريزي في فضل آل البيت ـ : والرجس اسم يقع علىٰ الإثم والعذاب ، وعلىٰ النجاسات والنقائص ، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت ... إلىٰ آخر الأقوال.

واعطف بنا ـ ثمّة ـ علىٰ نهج البلاغة نفسه ، لنرىٰ : هل كفىٰ الله تعالىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام أمر نفسه بما حباه من كمال العقل ، وعلوّ الهمّة ، وتمام الفطنة ، ممّا جعل نفسه صافية لا يشتبه عليها أمر الحقّ من الباطل ، وهو الأمر الّذي عنيناه في تعريفنا للعصمة سابقاً ؟!

قال عليه‌السلام : « وإنّي لعلى بيّنة من ربّي ، ومنهاج من نبيّ ، وإنّي لعلىٰ الطريق الواضح ألقطه لقطاً » ..

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٢٠١.

٣١١

قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : اللقط : أخذ الشيء من الأرض ، وإنّما سمّىٰ اتّباعه لمنهج الحقّ : لقطاً ; لأنّ الحقّ واحد والباطل ألوان مختلفة ، فهو يلتقط الحقّ من بين ضروب الباطل (١).

وقال عليه‌السلام في كلام له وقد جمع الناس وحضّهم علىٰ الجهاد فسكتوا ملياً : « ... لقد حملتكم علىٰ الطريق الواضح ، الّتي لا يهلك عليها إلاّ هالك (٢) ، مَن استقام فإلىٰ الجنّة ، ومَن زلّ فإلى النار » (٣).

أي : مَن استقام في الطريق الّذي حملهم عليه‌السلام عليه فإلىٰ الجنّة ، ومَن زلّ عن الطريق الّذي حملهم عليه فإلىٰ النار ، وهذا المعنىٰ دالّ علىٰ العصمة ، كدلالة الأحاديث النبوية السابقة الّتي تلوناها عليك.

وقال عليه‌السلام في كلام له لبعض أصحابه : « فإن ترتفع عنّا وعنهم محن البلوى ، أحملهم من الحقّ علىٰ محضه » (٤).

وقال عليه‌السلام : « ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي لم أردّ علىٰ الله ولا علىٰ رسوله ساعة قط » (٥).

وقال عليه‌السلام في خطبته المسمّاة بـ : « القاصعة » ، الّتي ذكر فيها قربه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وملازمته إيّاه منذ الصغر : « ... وكان ـ أي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يمضغ

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٩.

(٢) الّذي حَتَم هلاكه ; لتمكّن الفساد من طبعه وجبلّته.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٢٣٣.

(٤) محض الحقّ : خالصه ; نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٦٤.

(٥) المستحفَظون ـ بفتح الفاء ـ : اسم مفعول ، أي الّذين أودعهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمانة سرّه وطالبهم بحفظها.

ولم يردّ علىٰ الله ورسوله : لم يعارضهما في أحكامهما.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٧١.

٣١٢

الشيء ثمّ يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل » (١).

وقال عليه‌السلام من كلام له ينبّه فيه علىٰ فضيلته ؛ لقبول قوله وأمره ونهيه : « فو الّذي لا إله إلاّ هو ! إنّي لعلىٰ جادّة الحقّ ، وإنّهم لعلىٰ مزلّة الباطل » (٢).

وقال عليه‌السلام عندما بلغه خروج طلحة والزبير عليه مع السيّدة عائشة وإثارتهم الفتنة ضدّه : « إنّ معي لبصيرتي ، ما لَبستُ ولا لُبس علَيَّ » (٣).

فهذه الكلمات الواردة عنه عليه‌السلام دالّة بكلّ وضوح علىٰ أنّه مع الحقّ والحقّ معه ، كما أشار إلىٰ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلماته السابقة الّتي تلوناها عليك ، وهذا هو معنىٰ العصمة الّتي عنيناها.

وقال عليه‌السلام : « عزب رأي امرئ تخلّف عنّي (٤) ؛ ما شككت في الحقّ مذ أُريتُه ».

وقال عليه‌السلام في كتاب بعثه إلىٰ أهل مصر مع مالك الأشتر : « إنّي والله لو لقيتهم واحداً وهم طلاّع الأرض كلّها ما باليت ، ولا استوحشت ، وإنّي من ضلالهم الّذي هم فيه ، والهدىٰ الّذي أنا عليه ، لعلىٰ بصيرة من نفسي ، ويقين من ربّي » (٥).

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٥٧.

(٢) المزلة : مكان الزلل الموجب للسقوط في الهلكة ; نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٧٢.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٣٠.

(٤) أي : لا رأي لمَن تخلّف عنّي ، ولم يطعني ، وهو كلام في معرض التوبيخ ، وقد بيّن أمير المؤمنين عليه‌السلام بما يليه من الكلام أسباب وجوب اتّباعه ; راجع : نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٣٩.

(٥) « وهم طلاّع ... إلخ » حال من مفعول « لقيتهم » ، والطلاع ـ ككُتّاب ـ : ملء

٣١٣

وقال عليه‌السلام من خطبة له يذكر فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته : « فأدّىٰ أميناً ، ومضىٰ رشيداً ، وخلّف فينا راية الحقّ ، مَن تقدّمها مرق ، ومَن تخلّف عنها زهق ، ومضن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام ، بطيء القيام ، سريع إذا قام » (١).

وقال عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم ، واتّبعوا أثرهم ، فلن يخرجوكم من هدىً ، ولن يعيدوكم في ردىً ، فإن لبدوا فالْبُدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، لا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تتأخّروا عنهم فتهلكوا » (٢) ...

إلىٰ غيرها من الأقوال الواردة في نهج البلاغة ، والمنتشرة هنا وهناك ، الدالّة علىٰ عصمته عليه‌السلام وعصمة أهل بيته الكرام عليهم‌السلام.

وأمّا قوله عليه‌السلام الّذي أورده الدليمي : « ما أهمّني ذنب أُمهلت بعده حتّىٰ أُصلّي ركعتين » (٣).

__________________

الشيء ، أي : لو كنت واحداً وهم يملؤن الأرض للقيتهم غير مبالٍ لهم.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٢٠.

(١) مرق : خرج عن الدين ، والّذي يتقدّم راية الحقّ هو مَن يزيد علىٰ ما شرع الله أعمالاً وعقائد يظنّها مزينة للدين ومتمّمة له ويُسمّيها : بدعة حسنة.

زهق : اضمحلّ وهلك.

مكيث : رزين في قوله ، لا يبادر به من غير روية.

بطيء القيام : لا ينبعث للعمل بالطيش ، وإنّما يأخذ له عدّة إتمامه ، فإذا أبصر وجه الفوز قام فمضى إليه مسرعاً ؛ وكأنّه يصف بذلك حال نفسه كرّم الله وجهه.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٩٣.

(٢) سمتهم : السَمت ـ بالفتح ـ : طريقهم أو حالهم أو قصدهم.

لبد : أقام ؛ أي : إن قاموا فأقيموا.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٩.

(٣) في نسخة ابن أبي الحديد : « ما أهمّني أمر ... ». ١٩ / ٣٠٥.

٣١٤

فأقول :

إنّ وجوب التوبة عامّ في الأشخاص والأحوال ، فلا ينفك منه أحد البتة ، كما قال تعالىٰ : ( وَتُوبُواْ إلىٰ اللهِ جَمِيعًا ) ، فعمّم الخطاب ، وكلّ إنسان لا يخلو من معصية ، إلاّ أنّ الأنبياء والأوصياء ذنوبهم ليست كذنوبنا (١) ، وإنّما هي ترك دوام الذكر والاشتغال بالمباحات ، ولذا ورد أنّ : حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ..

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتوب إلىٰ الله ويستغفره في كلّ يوم وليلة مائة مرّة ـ وفي حديث : سبعين مرّة ـ من غير ذنب » (٢) ، أي : كذنوبنا.

فإنّ ذنب كلّ واحد إنّما هو بحسب قدره ومنزلته عند الله ، وهذا باب شريف ينفتح منه معنىٰ اعتراف الأنبياء والأئمّة بذنوبهم وبكائهم وتضرّعهم ، فإنّ قلوبهم لنهاية صفائها ونورانيتها يؤثّر فيها الاشتغال بالمباحات ، والغفلة عن الذكر ، والفكر بالتوجّه إلىٰ هذا العالم ، فيعدّون ذلك معصية بالنسبة إليهم ، يستغفرون الله منها (٣).

قال ابن أبي الحديد في شرحه للكلمات السابقة الواردة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : هذا فتح لباب التوبة ، وتطريق إلىٰ طريقها ، وتعليم للنهضة

__________________

(١) عليّ عليه‌السلام هو وصيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; انظر : مسند أبي يعلىٰ ٤ / ٣٤٥ ، المعجم الكبير ٦ / ٢٢١ ، الرياض النضرة ٣ / ١٣٨ ، كنز العمّال ١١ / ٦١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٩٢ ، سبل الهدىٰ والرشاد ١١ / ٢٩١.

(٢) الكافي ٢ / ٢٥٠ ، وسائل الشيعة ١٦ / ٨٥.

(٣) حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين ٢ / ٢٩٠.

٣١٥

إليها والاهتمام بها (١).

قال الدليمي :

« ومن خطبة له عليه‌السلام : « اسألوني قبل أن تفقدوني ». ج ١ ص ١٨٢.

ـ قال : ـ فلو كان يعتقد أنّ ثمّة معصوماً بعده لَما خاف أن يفقدوه قبل أن يسألوه ، فإنّهم إن فقدوه سألوا « الإمام المعصوم » الّذي بعده ، فلا حاجة إلىٰ هذا الخوف » (٢).

أقول :

قال الإمام عليه‌السلام ذلك لأنّه كان يعلم ـ كما هو الظاهر من إخباره بالحوادث والملاحم الّتي ستحدث بعده ـ أنّه لن يُفسح المجال للأئمّة المعصومين عليهم‌السلام بعده كما فسح له أيّام خلافته وحكمه ، وقد دلّ علىٰ ذلك كلامه عليه‌السلام نفسه عند ذكره لهذه العبارة بالذات ، إلاّ أنّ الدليمي اقتطع النصّ كعادته !

قال عليه‌السلام : « أيّها الناس ! سلوني قبل أن تفقدوني ; فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض ، قبل أن تشغَر برجلها فتنةٌ تطأ في خطامها ، وتذهبُ بأحلام قومها » (٣).

وقال عليه‌السلام في خطبة أُخرىٰ : « أيّها الناس ! فإنّي فقأتُ عين الفتنةِ ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها ، واشتدّ كَلَبُها.

فاسألوني قبل أن تفقدوني ؛ فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء

__________________

(١) راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٩ / ٢٠٥.

(٢) ص ٢٨.

(٣) راجع : ص ٢٥٧.

٣١٦

فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلُّ مائةً إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومَن يُقتَل من أهلها قَتلا ، ومَن يموت منهم مَوتاً.

ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأُمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثيرٌ من السائلين ، وفشل كثيرٌ من المسؤولين (١) ، وذلك إذا قلصت حربكم وشمّرت عن ساق ، وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً ، تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم ، حتّىٰ يفتح الله لبقيّة الأبرار منكم » (٢).

__________________

(١) وقد صدق أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله هذا ; فقد تصدّىٰ لهذه المقالة غيره وفُضح بين الناس ..

قال إبراهيم : قعد مقاتل بن سليمان فقال : سلوني عمّا دون العرش إلىٰ لويانا ؟

فقال له رجل : آدم حين حجّ مَن حلق رأسه ؟

قال : فقال له : ليس هذا من عملكم ، ولكن الله أراد أن يبتليني بما أعجبتني نفسي.

وقال سفيان بن عينية : قال مقاتل بن سليمان يوماً : سلوني عمّا دون العرش ؟

فقال له إنسان : يا أبا الحسن ! أرأيت الذرّة أو النملة أمعاؤها في مقدّمها أو مؤخّرها ؟

قال : فبقي الشيخ لا يدري ما يقول له.

قال سفيان : فظننت انّها عقوبة له.

راجع : تاريخ بغداد ـ للخطيب البغدادي ـ ١٣ / ١٦٧ ؛ وانظر : بقيّة مَن قال مقولة أمير المؤمنين عليه‌السلام : سلوني ، وفُضح في الغدير ٦ / ١٩٥.

أقول : أمّا الأئمّة المعصومين الأحد عشر من ذرّيّته عليهم‌السلام الّذين رزقوا فهم وعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتاريخهم أشهر من أن يُذكر أو يُخبر عنه في ما لاقوه من الضغوط والتضييق من الحكّام زمن الدولتين الأموية والعبّاسية ، حتّىٰ مضوا إلىٰ ربّهم كلّهم شهداء مظلومين بين مسموم وقتيل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ عدا الإمام المهدي عليه‌السلام الغائب بأمر الله ، والمرتَقب لإقامة العدل في الأرض كلّها « عجّل الله تعالىٰ ظهوره الشريف ».

(٢) فقأتها : قلعتها ؛ تمثيل لتغلّبه عليها ، وذلك كان بعد انقضاء أمر النهروان وتغلّبه

٣١٧

قال الدليمي :

« ومن وصيّة لابنه الحسن رضي‌الله‌عنه كلام لا يمكن أن يوجه إلىٰ معصوم ، مثل قوله : ( ودع القول في ما لا تعرف ، والخطاب في ما لم تُكلّف ، وأمسك عن الطريق إذا خفت ضلالته ؛ فإنّ الكفّ عند حيرة الضلال خيرٌ من ركوب الأهوال ).

ـ قال : ـ وهذا يتناقض مع الاعتقاد بأنّ « الإمام » يعلم ما كان وما هو كائن ، وأنّ علمه إلهام ووحي منذ الولادة لا بتعلّم واكتساب.

وإذا قيل : إنّ هذا موجّه إلىٰ الآخرين.

قلنا : هذا لا يصحّ ؛ لأنّ هذا الكلام وصيّة بينه وبين ولده ، وقد قال فيها : ( ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الّذي التبس عليهم ، فكان إحكام ذلك علىٰ ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليَّ من إسلامك إلىٰ أمر لا آمن عليك به الهلكة ... ) ( فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله علىٰ جهالتك به ؛ فإنّك أوّل ما خُلقت جاهلا ثمّ

__________________

علىٰ الخوارج.

الغيهب : الظلمة. وموجها : شمولها وامتدادها.

الكلَب : داء معروف يصيب الكلاب ، فكلّ من عضّته أُصيب به فجنّ ومات إن لم يبادر بالدواء ؛ وشبّه به اشتداد الفتنة حتّىٰ لا تصيب أحداً إلاّ أهلكته.

ناعقها : الداعي إليها.

المناخ : محلّ البروك.

الحوازب : جمع حازب ، وهو : الأمر الشديد ; حزبه الأمر إذا أصابه واشتدّ عليه.

قلصت ـ بتشديد اللام ـ : تمادت واستمرّت ، وبتخفيفها : وثبت.

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٣.

٣١٨

علمت ، وما أكثر ما تجهل من الأمر ويتحيّر فيه رأيك ، ويضلُّ فيه بصرك ، ثمّ تبصره بعد ذلك ... ) ( ولا تظلم كما لا تحبّ أن تُظلم ... ). انظر تمام الوصيّة في الجزء ٣ ص ٣٧ ـ ٥٧ » (١).

أقول :

إنّ كلامه عليه‌السلام هنا في وصيّته لابنه الحسن عليه‌السلام يجري مجرىٰ قوله تعالىٰ للنبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَبِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٢) ، وأمثالها من الآيات الكريمة ، مع علم الله تعالىٰ بأنّ نبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لن يشرك ، وأنّه لن يحبط عمله ، وإلاّ لمْ يُبعث نبيّاً (٣).

وقد أجمع المسلمون علىٰ عصمته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد البعثة اتّفاقاً قولاً واحداً ، بل علىٰ عصمة الأنبياء جميعاً بعد نبوّتهم (٤).

وإنّما أراد سبحانه بذلك ـ أي في الآية المتقدّمة ـ بيان شدّة قبح الشرك وسوء عاقبته ، ولا يوجد شيء يمنع أن يذكر مثل هذا المعنىٰ أيضاً

__________________

(١) ص ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) سورة الزمر : الآية ٦٥.

(٣) قال تعالىٰ : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَا هِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَت فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِى الظَّلِمِينَ ). سورة البقرة : الآية ١٢٤ ..

و : ( يَٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ). سورة لقمان : الآية ١٣ ..

و : ( وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا سُبْحَٰنَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ). سورة الأنبياء : الآيات ٢٦ إلىٰ ٢٨. إلىٰ غيرها من الآيات الدالّة في المقام.

(٤) انظر : إرشاد الفحول : ٣٤.

٣١٩

في وصيّة بين معصومَين ، خاصّة إذا كانت الوصيّة معلنة ; فإنّ من وصايا الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام ما يكون معلناً ، كهذه الوصيّة ، الّتي يكون الهدف منها هو إيصال النصح والحكم إلىٰ أتباعهم وأشياعهم ، فتكون أشبه بالعهد الّذي يكتبه المعصوم إلىٰ أُمّته عن طريق معصوم آخر علىٰ الطريقة المعروفة في الخطاب : إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة.

كما إنّنا نعلم ـ حسب الروايات الواردة ـ أنّ هناك عهوداً ووصايا خاصّة بين المعصومين عليهم‌السلام تتعلّق بشؤون الإمامة ومستلزمات قيادة الأُمّة ، لم يطّلع عليها أحد سواهم ، وإليك ثلاث روايات منها فقط ممّا جاء في كتب أهل السُنّة دون الشيعة :

أخرج الطبراني وابن أبي عاصم وابن عساكر والهيثمي وغيرهم : عن ابن عبّاس ، قال : كنّا نتحدّث أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلىٰ عليّ سبعين عهداً لم يعهدها إلىٰ غيره (١).

وعن ابن عبّاس ، قال : إنّ عليّاً خطب الناس فقال : يا أيّها الناس ! ما هذه المقالة السيّئة الّتي تبلغني عنكم ؟

والله لتقتلنّ طلحة والزبير ، ولتفتحنّ البصرة ، ولتأتينّكم مادّة من الكوفة ، ستّة آلاف وخمسمائة وستين أو خمسة آلاف وستمائة وخمسين.

قال ابن عبّاس : فقلت : الحرب خدعة !

قال : فخرجت فأقبلت أسأل الناس : كم أنتم ؟ فقالوا كما قال ، فقلت : هذه ممّا أسرّه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أنّه علّمه ألف ألف كلمةٍ ، كلّ

__________________

(١) المعجم الصغير ٢ / ٦٩ ، كتاب السُنّة : ٥٥٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٩١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١٣ ، فيض القدير ٣ / ٦٠ ؛ وينقل فيه تحسين الحافظ ابن حجر للحديث في فتاواه ، طبقات المحدّثين بأصفهان ٢ / ٢٦٢.

٣٢٠