تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: F:Book-LibraryENDQUEUETashih-Qeraahimagesimage001.gif

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة المركز :

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام علىٰ خير الخلق أجمعين ، أبي القاسم محمّد صلّىٰٰ الله عليه وآله ، وعلىٰ أهل بيته الطيّبين الطاهرين الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، واللعنة الدائمة علىٰ أعدائهم أجمعين من الآن إلىٰ قيام يوم الدين.

وبعد ..

يمثّل نهج البلاغة أكثر النصوص ثباتاً وديمومة وانتشاراً في فكرنا الإسلامي بعد القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ، ولعلّ سرّ خلود هذا « النهج » هو : مضمونه الذي يعدّ « دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق » ..

هذا المضمون الذي يعالج مواقف الإنسان المختلفة : كفاحه من أجل الحصول علىٰ لقمة العيش ، تعاونه مع أفراد جنسه من أجل البقاء علىٰ قيد الحياة ، صراعه مع الآخرين للتغلّب والترأس عليهم.

تعرّض نهج البلاغة لمختلف طبقات المجتمع : العسكر ، القضاة ، الولاة ، الكتّاب ، الزرّاع ، التجّار ، أصحاب الصناعات والعمّال ، والعاطلين عن العمل وغيرهم.

وتعرّض أيضاً لطبيعة الحكم وضرورته لكلّ مجتمع ، وشروط

٣

الحاكم ، وطبيعة الحكم عند الإمام ، وعلاقة الحاكم بالرعية ، وحقوق كلّ منهما علىٰ الآخر.

وأشار أيضاً إلىٰ بعض المغيّبات ، كـ : غرق البصرة ، وتسلّط الظالمين علىٰ الكوفة وتغلّب معاوية علىٰ الخلافة ، ومصير الخوارج ونهاية أمرهم ، وقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء المقدّسة ، وخلافة مروان وبنيه ، وحرب الزنج ، وولاية الحَجّاج ، والأتراك ، وخروج المهدي عليه السلام.

وفي هذا « النهج » أيضاً كلام للإمام عليّ عليه السلام عن علمه بالمغيّبات في مناسبات كثيرة ..

منها : قوله عليه السلام : « فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فوالذي نفسي بيده ! لا تسألوني عن شيء في ما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها ، وقائدها ، وسائقها ، ومُناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومَن يقتل من أهلها قتلا ، ومَن يموت منهم موتاً ، ولو قد فقدتموني ، ونزلت بكم كرائه الأُمور وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسؤولين » (١).

ومنها : قال مخاطباً أصحابه : « والله ! لو شئت أن أُخبر كلّ رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ، ولكن أخاف أن تكفروا فيَّ برسول الله صلّىٰٰٰ الله عليه وآله وسلّم ، ألا وإنّي مفضيه إلىٰ الخاصّة ممّن يؤمن ذلك منه. والذي بعثه بالحقّ واصطفاه علىٰ الخلق ! ما أنطق إلاّ صادقاً ، وقد عهد إليّ بذلك كلّه ، وبمهلك مَن يهلك ومنجىٰ مَن ينجو ، ومآل هذا الأمر ، وما أبقىٰ شيئاً يمرّ علىٰ رأسي إلاّ أفرغه في أُذني وأفضىٰ

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٦٥ خطبة رقم ٩٢.

٤

به إليّ » (١).

وذكر عليه السلام أنّه استقىٰ علمه هذا من رسول الله صلّىٰٰٰ الله عليه وآله ; إذ قال له بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب.

فقال عليه السلام : « ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب : علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (٢) ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوىٰ ذلك فعلم علّمه الله لنبيّه فعلّمنيه ، ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي » (٣).

وهذا « النهج » في الواقع هو جزء يسير من كلام أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام ، الذي ملأ السهل والجبل ، وانتقل في البدو والحضر ، رواه علىٰ كثرته الرواة ، وحفظه العلماء والدارسون ..

قال المسعودي : « والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيّف وثمانون خطبة يوردها علىٰ البديهة ، تداول عنه الناس ذلك قولاً وعملاً » (٤).

وظلّ كلامه عليه السلام طيلة قرون عديدة محفوظاً في الصدور ، مرويّاًً علىٰ الألسنة ، وحاول كثير من العلماء والأُدباء علىٰ مرّ العصور أن يُفردوا لكلامه كتباً خاصّة ودواوين مستقلّة ..

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣٠٧ خطبة رقم ١٧٥.

(٢) سورة لقمان ٣١ : ٣٤.

(٣) نهج البلاغة : ٢٢٨ خطبة رقم ١٢٨.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٤٣١.

٥

منهم : نصر بن مزاحم ، وأبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي ، وأبو مخنف لوط بن يحيىٰ الأزدي ، ومحمّد بن عمر الواقدي ، وأبو الحسن علي بن محمّد المدائني ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي ، وأبو عبد الله محمّد بن سلاّمة القضاعي ، وعبد الواحد بن محمّد بن عبد الواحد التميمي ، ورشيد الدين محمّد بن محمّد المعروف بـ : الوطواط ، وعزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي ، وغيرهم.

إلاّ أنّ أفضل هذه المحاولات وأجودها وأدقّها وأحسنها أبواباً ما قام به الشريف الرضي أبو الحسن محمّد بن الحسين الموسوي في كتابه نهج البلاغة.

وقد بيّن الشريف الرضي في طيّات هذا « النهج » المصادر التي رجع إليها ، والمشايخ الّذين نقل عنهم ، فذكر كتاب البيان والتبيين للجاحظ ، والمقتضب للمبرّد ، وكتاب المغازي لسعيد بن يحيىٰ الأُموي ، وكتاب الجَمل للواقدي ، والمقامات في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الإسكافي ، وتاريخ ابن جرير الطبري ، وحكاية الإمام الباقر أبي جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام ، ورواية اليماني عن أحمد بن قتيبة ، وما وجده بخطّ هشام بن الكلبي ، وخبر ضرار بن حمزة الصدائي ، ورواية أبي جحيفة ، وحكاية ثعلب عن أبي الأعرابي.

ومع ذلك وعلىٰ مرّ العصور والأزمان ، فقد شكّك بعض المتعصّبين ـ الّذين أعمت العصبية بصيرتهم ـ في نسبة ما ورد في نهج البلاغة لأمير المؤمنين عليه السلام ، وناقشوا بعض الخطب والمواعظ والحكم الواردة فيه ..

٦

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في ردّهم : « كثير من أرباب الهوىٰ يقولون : إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلامٌ مُحدَث صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربّما عزوا بعضه إلىٰ الرضيّ أبي الحسن أو غيره ، وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح ، وركبوا بُنيّات الطريق ، ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام.

وأنا أُوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولا ، أو بعضه ..

والأوّل باطل بالضرورة ; لأنّا نعلم بالتواتر صحّة أسناد بعضه إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد نقل المحدّثون ـ كلّهم أو جلّهم ـ والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة ليُنسبوا إلىٰ غرض في ذلك.

والثاني يدلّ علىٰ ما قلناه ; لأنّ مَن قد أنِس بالكلام والخطابة ، وشَدَا طرفاً من علم البيان ، وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح ، وبين الفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف علىٰ كرّاس واحدٍ يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط ، فلا بُد أن يفرّق بين الكلامين ، ويميّز بين الطريقتين ..

ألا ترىٰ أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام نفسه ، وطريقته ومذهبه في القريض !

ألا ترىٰ أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه ; لمباينتها لمذهبه في الشعر ، وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيراً لمّا ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره ، وكذلك غيرهما من الشعراء ، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ علىٰ الذوق خاصّة !

٧

وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونَفَساً واحداً ، وأُسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة ، وكالقرآن العزيز ؛ أوّله كوسطه ، وأوسطه كآخره ، وكلّ سورة منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسِور.

ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا وبعضه صحيحاً ، لم يكن ذلك كذلك ، فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال مَن زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلىٰ أمير المؤمنين عليه السلام.

واعلم أنّ قائل هذا القول يطرُق علىٰ نفسه ما لا قِبَل له به ; لأنّا متىٰ فتحنا هذا الباب ، وسلّطنا الشكوك علىٰ أنفسنا في هذا النحو ، لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول الله صلّىٰٰ الله عليه وآله أبداً ، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول : هذا الخبر منحول ، وهذا الكلام مصنوع ، وكذا ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والآداب وغير ذلك ، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له في ما يرويه عن النبيّ صلّىٰٰٰ الله عليه وسلّم وآله والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسّلين والخطباء ، فلناصري أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يستندوا إلىٰ مثله في ما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره ، وهذا واضح » (١).

والكتاب الذي بين أيدينا « تصحيح القراءة في نهج البلاغة » هو ردّ علىٰ ما جاء في كتيّب صغير كتبه طه حامد الدليمي أسماه : « قراءة في نهج البلاغة » ، تعرّض فيه لبعض ما ورد في نهج البلاغة ؛ إذ قرأ « النهج » قراءة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٠ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

٨

ناقصة ، وناقش بعض ما ورد فيه ، وحاول تطبيقه علىٰ أفكاره ومعتقداته الغامضة التي تدلّ علىٰ سطحيته ، وانخفاض مستواه العلمي إلىٰ حدّ جهله بأشهر الأحداث التاريخية ، وأحوال الرواة وقواعد علم الرجال ، إضافة إلىٰ تعمّده في بتر النصوص التي ينقلها من « النهج » محاولة منه لإقناع القارئ بأفكارة البالية.

فقد تطرّق الكاتب إلىٰ مواضيع طالما أثارها قبله كثير من المشكّكين ، وأجاب عليها علماؤنا الأبرار بأجوبة مفحمة لا تدع للمخالف أيّ مجال للشكّ فيها ، مثل : عدالة الصحابة ، وحديث العشرة المبشّرة بالجنّة ، وشدّة المحبّة بين الإمام عليّ عليه السلام وعمر بن الخطّاب التي وصلت إلىٰ أن يقوم الإمام عليه السلام بتزويج ابنته أُمّ كلثوم من عمر ، ويسمّي أولاده بأسماء : عمر وعثمان ، ويكنّي أحدهم بـ : أبي بكر ، وأنّ الإمام عليّ عليه السلام كان يعتقد بأنّ الخلافة بالشورىٰٰ لا بالنصّ ، كما تذهب إليه الإمامية ، إلىٰ غير ذلك من الأفكار التي باتت ـ والحمد لله ـ واضحة للجميع.

ومركز الأبحاث العقائدية ، الذي أخذ علىٰ عاتقه الوقوف أمام الشبهات التي تثار ضدّ التشيّع وأئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وذلك بإصدار مجموعة من الكتب التخصّصية في هذا المجال عبر « سلسلة ردّ الشبهات » ، يقوم بإصدار هذا الكتاب الذي ألّفه الأخ العزيز سماحة الشيخ خالد البغدادي ، الذي استفاد من المعلومات التي جمعها المركز في هذا الموضوع ، ومن الخبرات العلميّة والفنّية المتوفّرة فيه.

وفي الختام يدعو المركز الكتّاب المفكّرين والباحثين إلىٰ المساهمة في رفد هذه السلسلة ، ويُعلمهم بأنّه قام بعدّة خطوات كمقدّمة لهذا المشروع ، يجعلها في متناول أيديهم ، وهي :

٩

أوّلاً : استقصاء وجمع الشبهات المثارة من داخل الدائرة الإسلامية أو المطروحة من خارجها ، وإجراء دراسة دقيقة بشأنها ، من أجل التوصّل إلىٰ منشأ كلّ شبهة وسيرها التاريخي وتطوّرها ، وقد تمّ هذا الأمر بعد أن أجرىٰ المركز مسحاً ميدانياً لمئات من الكتب القديمة والحديثة ، ونظّمت الشبهات حسب المواضيع وحسب الحروف الهجائية.

ثانياً : تجميع الأدلّة وردّ الشبهات من مصادر المسلمين في مختلف المواضيع العقائدية والمسائل الخلافية ، وترتيبها حسب المواضيع وحسب الحروف الهجائية أيضاً ، مع مراعاة الأقدم فالأقدم في هذه الأقوال ، ليتعرّف الباحث علىٰ منشأ الأدلّة وسيرها التاريخي وتطوّرها بمرور الزمان.

ثالثاً : أعدّ المركز قبل ذلك كلّه فهرسة موضوعية للكتب المختصّة بالعقائد والمعارف العامّة والمسائل الخلافية في بطاقات موزّعة حسب الحروف الهجائية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّىٰٰ الله علىٰ نبيّنا وحبيب قلوبنا محمّد بن عبد الله ، وعلىٰ أهل بيته الطيّبين الطاهرين.



محمّد الحسّون

مركز الأبحاث العقائدية

٢٧ محرّم الحرام ١٤٢٧ هـ

Muhammad@aqaed.com

١٠



الإهداء



إلىٰ سيّد المظلومين ، وإمام المتّقين ، ووصي الصادق الأمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، ويعسوب الدين ، وحجّة ربّ العالمين ، أبي السبطين الحسن والحسين : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وعلىٰ آله أجمعين.

سيّدي ومولاي ! هذا دفاع عن حياض « نهجك » ، وتأكيد آخر أُقدّمه لصريح حقّك ، فامنُن علَيَّ وتقبّله منّي بكرمك ، وكن شفيعي في يوم لا يجوز أحد الصراط إلاّ بكتاب ولايتك.



الراجي شفاعتك

خالد البغدادي

١١
١٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تمهيد

تخرج علينا بين الفينة والأُخرىٰ كتابات لإخواننا أهل السُنّة تحاول النيل من مذهب العترة النبوية الطاهرة ، مذهب أئمّة الهدىٰ أهل البيت عليهم‌السلام ..

والموالي لآل البيت عليهم‌السلام لا ينزعج ـ في واقع الأمر ـ من كثرة الكتب التي ترد عليه في هذا الجانب ، لأنّه يعلم أنّها ضعيفة ركيكة واهية ، وأنّ مذهبه من القوّة التي تغنيه بأن يكتب عنها ردّاً واحداً فقط ; إذ أنّ أغلب كتابات الإخوة في هذا المورد تدور في حلقة مفرغة ، لا تنتهي إلاّ من حيث تبدأ ، ذلك لأنّهم يعتمدون في إثبات صحّة مذاهبهم ، وفي نقض مذاهب الآخرين ، علىٰ كتب أهل السُنّة نفسها ، وهو ما يستلزم الدور ، كما لا يخفىٰ (١).

والشيء الأكثر غرابة في الموضوع هو أنّ أرباب تلك الكتابات يحملون شهادات عالية ، كما يثبتون ذلك في كتبهم ، بحيث لا يخفىٰ عليهم ـ كما هو المتصوَّر عمّن يحمل مثل تلك الشهادات ـ الاطّلاع علىٰ هذا الجانب الضعيف من بحوثهم واحتجاجاتهم ؛ إذ المعروف في صناعة الجدل

__________________

(١) الدور في الاصطلاح ـ عند المناطقة ـ : توقّف الشيء علىٰ نفسه ، ومثاله أن تقول : فلان صادق لأنّه قال : إنّه لا يكذب.

١٣

عند المناطقة أن تكون الأدلّة التي يواجه بها الخصم لغرض الاحتجاج عليه من المصادر التي يثق بها الخصم ويعتبرها ، لأنّ ذلك أقرب إلىٰ إلزامه وإفحامه ، وأبلغ في الاحتجاج عليه لغرض إرغامه علىٰ الإقرار بخطإه وسوء طريقته.

أمّا أن تكون أدلّة الاحتجاج من مصادر لا يثق بها الخصم ولا يعتبرها ، بل يثبت من جانبه وضعها واختلاقها بأدلّة المخالف نفسه ، فأنّىٰ للمخالف والحال هذه أن يقنع خصمه بصواب ما يدّعيه ؟!

بينما تجد في الجانب الآخر علماء مذهب أهل البيت عليهم‌السلام علىٰ العكس من ذلك تماماً ؛ فهم يثبتون دائماً صحّة مذهبهم ، وقوّة عقائدهم من كتب أهل السُنّة أنفسهم ، بل ومن المصادر المعتبرة عندهم ، ولم نجد إلىٰ الآن مؤلَّفاً واحداً في مورد الاحتجاج مع المخالف يثبت صحّة مذهب التشيّع لأهل البيت عليهم‌السلام من كتب الشيعة أنفسهم ، وهي بين يديك ، تعدّ بالآلاف ، لا تجد فيها كتاباً واحداً ترد عليه مسألة الدور في الاحتجاج.

وإن دلّ ذلك علىٰ شيء فهو يدلّ علىٰ قوّة وأصالة مذهب شيعة أهل البيت عليهم‌السلام ، بخلاف مذاهب وفرق المسلمين الأُخرىٰ الّتي ظهرت نتيجة الأحداث المؤلمة التي أعقبت وفاة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والصراع الدموي الّذي جرى علىٰ الموقع الأوّل عند المسلمين منذ وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ نهاية خلافة العبّاسيّين !!

والسبب في ذلك : أنّ التشيّع لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن ثمّ للأئمّة من ولده عليهم‌السلام ، إنّما بُذرت بذوره الأُولىٰ ونمت مع بداية الدعوة تماماً ، بل بأوّل إنذار قام به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتوجيه من الله عزّ وجلّ ، وهو إنذار عشيرته الأقربين ..

١٤

فقد روىٰ الطبري في تأريخه ، وابن الأثير في كامله ، والحلبي الشافعي في سيرته ، وآخرون غيرهم :

إنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أنزل الله تعالىٰ : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) (١) عليه ، وذلك قبل ظهور الإسلام بمكّة ، دعاهم إلىٰ دار عمّه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، يزيدون رجلاً أو ينقصون ، وفيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ...

وفي آخره : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني عبد المطّلب ! إنّي والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني علىٰ هذا الأمر ، علىٰ أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟

فأحجم القوم عنها غير عليّ ـ وكان يومئذ أصغرهم ـ إذ قام فقال : أنا يا نبيّ الله ! أكون وزيرك عليه.

فأخذ رسول الله برقبته وقال : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ...

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (٢). انتهىٰ.

__________________

(١) سورة الشعراء : الآية ٢١٤.

(٢) انظر : تاريخ الأُمم والملوك ٢ / ٦٤ بطرق مختلفة ، الكامل في التاريخ ١ / ٥٨٥ ـ ٥٨٦ ; وقد أرسله إرسال المسلّمات عند ذكره أمر الله فيه بإظهار دعوته ، السيرة الحلبية ١ / ٤٦١.

أخرج هذا الحديث بهذه الألفاظ كثير من حفظة الآثار النبوية ، كـ : ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي في سُننه ودلائله ، والثعلبي في تفسيره ..

١٥

فمَن تأمّل هذا الحديث يجد أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من عشيرته الأقربين ، بأمر الله تعالىٰ ، الاعتراف بالتوحيد لله تعالىٰ ، ثمّ الاعتراف برسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ أمرهم بالسمع والطاعة لأخيه ووصيّه وخليفته عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهذا هو معنىٰ التشيّع لعليّ عليه‌السلام الّذي نصّ عليه أرباب اللغة (١).

فالمستفاد من هذا الحديث أنّ بذرة التشيّع لعليّ عليه‌السلام وضعت مع بذرة الإسلام في يوم واحد وساعة واحدة ، فالصحابة الّذين كانوا ممتثلين لجميع ما أمر به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا شيعة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيعة لعليّ عليه‌السلام في آن واحد ، سواء سُمّوا بذلك أو لم يُسمّوا ، وقد سُمّي بذلك جماعة من الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ وذلك لِما كانوا يجهرون به من متابعة عليّ عليه‌السلام ومطاوعته ، منهم : سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار وغيرهم.

وقد ذكر ذلك : أبو حاتم سهل بن محمّد السجستاني ـ المتوفّىٰ سنة ٢٠٥ هـ ـ في كتابه : الزينة / ج ٣ باب : الألفاظ المتداولة بين أهل العلم ; فقال : أوّل اسم ظهر في الإسلام علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو : الشيعة ،

__________________

وأخرجه بهذا المعنىٰ مع تقارب الألفاظ غير واحد من جهابذة الحديث عند أهل السُنّة.

وسيأتي عند الحديث عن سنده وشواهده ـ في ص ١٣٠ ـ أنّ رجال السند والشواهد من رجال الصحاح ومن الثقات المعتبرين عند أئمّة الحديث.

(١) قال الفيروزآبادي في القاموس المحيط ٣ / ٤٩ : شيعة الرجل ـ بالكسر ـ : أتباعه وأنصاره ، ويقع علىٰ الواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنّث ، وقد غلب هذا الاسم علىٰ من يتولّىٰ عليّاً وأهل بيته حتّىٰ صار اسماً خاصّاً لهم. انتهىٰ.

وقال الزبيدي في تاج العروس ٥ / ٤٠٥ : كلّ قوم اجتمعوا علىٰ أمر فهم شيعة ، وكلّ مَن عاون إنساناً وتحزّب له فهو شيعة ؛ فإذا قيل : فلان من الشيعة ، عُرف أنّه منهم ... وأصل ذلك من المشايعة ، وهي : المطاوعة والمتابعة. انتهىٰ.

١٦

وكان هذا لقب أربعة من الصحابة ، وهم : أبو ذرّ الغفاري ، وسلمان الفارسي ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمّار بن ياسر ، إلىٰ أوان صِفّين ، فانتشرت بين موالي عليّ عليه‌السلام (١). انتهىٰ.

وقال محمّد كرد عليّ (٢) : عُرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة عليّ في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مثل : سلمان الفارسي ، القائل : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ النصح للمسلمين والائتمام بعليّ بن أبي طالب والموالاة له.

ومثل : أبي سعيد الخدري ، الّذي يقول : أُمر الناس بخمس ، فعملوا بأربع وتركوا واحدة. ولمّا سئل عن الأربع ، قال : الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحجّ. قيل : فما الواحدة الّتي تركوها ؟ قال : ولاية عليّ ابن أبي طالب. قيل له : وإنّها لمفروضة معهنّ ؟ قال : نعم هي مفروضة معهنّ.

__________________

(١) أقول : إنّ ثلاثة من هؤلاء الّذين عُرفوا بتشيّعهم وموالاتهم لعليّ عليه‌السلام علىٰ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم من الأصحاب الأربعة الّذين يحبّهم الله جلّ وعلا ، والّذين أمر الله تعالىٰ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحبّهم بالإضافة إلىٰ عليّ عليه‌السلام ..

فقد روىٰ الترمذي في سُننه ، باب : مناقب عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله أمرني بحبّ أربعة ، وأخبرني أنّه يحبّهم ». قال الترمذي : حديث حسن. وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ١٠ / ١٥١ : وأخرجه ابن ماجة والحاكم. انتهىٰ.

أقول : وقد صحّحه الحاكم.

كما أخرج هذا الحديث : أحمد في مسنده ٥ / ٣٥٦.

(٢) محمّد كرد عليّ : مؤسّس ورئيس المجمع العلمي العربي بدمشق ، وصاحب مجلّة « المقتبس » والمؤلّفات الكثيرة ، وأحد كبار الكتّاب ، أصله من أكراد السليمانية ( من أعمال الموصل ) ومولده ووفاته في دمشق.

انظر : الأعلام ـ لخير الدين الزركلي ـ ٦ / ٢٠٢.

١٧

ومثل : أبي ذرّ الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وخالد بن سعيد ابن العاص ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وكثير أمثالهم (١). انتهىٰ.

ولا أُريد هنا الاستطراد في بيان باقي الأدلّة ; فإنّ القارئ الكريم سيطّلع علىٰ شيء منها في ثنايا هذا الكتاب الّذي بين يديه ، وذلك في ما يختصّ بالبحوث المطروحة فيه ..

وهذا الكتاب ـ في الواقع ـ ردّ علىٰ كتيّب طرح منذ فترة ، اسمه : ( قراءة في نهج البلاغة ) ، لكاتبه : طٰه حامد الدليمي ، حاول صاحبه فيه أن ينقض عقائد الشيعة وما هم عليه في الأُصول والفروع ، وبخاصّة في ما يتعلّق بمسألة الإمامة وتفرّعاتها ، ولكن هذه المرّة من كتب الشيعة نفسها ، لا من كتب أهل السُنّة ؛ إذ أنّ نهج البلاغة الجامع لخطب وكلمات وكتب أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام هو من الكتب الموثّقة والمعتبرة عندهم ..

ولكن مع ذلك فإنّ الكاتب لم يخرج تماماً من شرنقة الدور الّتي أشرنا إليها سابقاً ؛ لأنّه حاول أن يثبت مدّعاه في مواضع عديدة من كتيبه هذا ، وخصوصاً في ما يتعلّق بخيرية الصحابة جميعاً ، بأحاديث جاء بها من كتب أهل السُنّة نفسها ، ومع اعتراضنا علىٰ هذه الطريقة ـ غير العلمية وغير العملية في آن واحد ـ في الاحتجاج ، وهو حقّ مشروع في مقام طلب اعتبار الأدلّة ، فإنّنا سايرنا الكاتب في دعاويه وناقشناه بها من كتبه نفسها ، ولم نبخل عليه بالإرشاد إلىٰ المصادر الّتي تعينه علىٰ البحث والتحقيق الجادّيْن.

__________________

(١) خطط الشام ٥ / ٢٥٦.

١٨

وممّا يؤاخذ أيضاً علىٰ الكاتب ، في كتيبه هذا ، والّذي يقول عنه في بداية مقدّمته :

« هذه جمل مختارة من جواهر كلام سيّدنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، انتقيتها من كتاب نهج البلاغة ، دعاني إلىٰ اختيارها وأغراني بانتقائها أنّ هذه الكلمات المباركات تصحّح كثيراً من الأوهام الفاسدة والمفاهيم الباطلة الّتي تنسب إلىٰ سيّدنا عليّ نفسه بوصفها مسلّمات لا تخطر مناقشتها علىٰ بال ، ولا يدور شكّ في صحّتها علىٰ خيال ; لكثرة ما تردّدت علىٰ الأسماع ولُقّنَت في الأذهان.

وكنت أقرأ القرآن الكريم ، وأقف عند آياته المحكمات ودلائله البيّنات ، فأجد مصادمة واضحة بين تعاليمه وما يدعو إليه وبين تلك المفاهيم فتأخذني الدهشة ، ويعتريني الريب لهذا الّذي أقرأ وذلك الّذي لُقّنْت.

ثمّ شاءت الأقدار أن أطّلع علىٰ كتاب نهج البلاغة * وإذا بي أجد فيه كثيراً من النصوص الهادية والكلمات المبصرة توافق القرآن ، وتصحّح ما علق بالأذهان ، فهششت لها وسعدت بها برهة من الزمن كنت فيها أعرض هذه النصوص والكلمات علىٰ بعض أحبابي وإخواني ممّن عانوا ما عانيت وارتابوا ممّا ارتبت فيأخذهم العجب ، وكان بعضهم لا يطمئن حتّىٰ يمسك بالكتاب نفسه ليتأكّد ممّا سمع ، ثمّ بعد لحظات أراه يهزّ رأسه ثمّ تنفرج أساريره لتظهر علىٰ قسمات وجهه ابتسامة الرضا وعلامة اليقين وقد هدأت نفسه وقرّت عينه ، فأحمد الله علىٰ ذلك.

__________________

* ينبغي علىٰ كلّ طالب لعلوم العربية ومباحث التوحيد والعدل الإلٰهي ومباحث الإمامة ومختلف العلوم الدينية الأُخرىٰ ، بل وغير الدينية ، أن لا يفوته الاطّلاع علىٰ هذا السِفر الخالد ، ومع ذلك يقول الدليمي هنا : شاءت الأقدار أن أطّلع !!

١٩

ثمّ رأيت أن أُسجّل بعضها في رسالة أُوجّهها إلىٰ إخواني في الله ... ». إلىٰ آخر كلامه (١).

أقول :

ممّا يؤاخذ علىٰ الكاتب ، أنّ قراءته هذه في نهج البلاغة كانت ناقصة ، بدليل أنّك ستجد أنّ أغلب الردود الّتي أوردناها عليه هي من نهج البلاغة نفسه ، الأمر الّذي يدلّ علىٰ أنّ الكاتب لم يقرأ الكتاب قراءة كاملة.

أو أنّه قرأه قراءة كاملة ولكنّه لم يدرك معانيه !

أو أنّه أدرك معانيه لكنّه أخفاها علىٰ قارئ كتيبه هذا !!

أو أنّه قرأه وفهم معانيه لكنّه اختار منه ما يناسب مذهبه فقط ، وطرح ما يخالف رغبته أو ما فطم عليه وتعصّب له من عقائد !!

ولو ثبت الفرض الأخير سيصدق عليه قوله تعالىٰ : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض ) (٢) ; أي : مع كون مصدر القول واحد ...

فهذه فروض أربعة لا يخلو موقف الكاتب هنا من واحدة منها ، فليختر لنفسه منها أيّها شاء.

فإن قال قائل :

إنّما أورد الكاتب ما نقله عن نهج البلاغة من باب الإلزام.

__________________

(١) قراءة في نهج البلاغة : ٣.

(٢) سورة البقرة : الآية ٨٥.

٢٠