تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أو يستكثر ذلك علىٰ الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام وهي سيّدة نساء العالمين ، وسيّدة نساء أهل الجنّة (١) ..

وبضعة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي يؤذيه ما يؤذيها (٢) ..

والّتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها (٣)؟!

*                  *                 *

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ٤ / ١٨٣ كتاب المناقب ، باب : علامات النبوّة في الإسلام ، كتاب الاستئذان ، باب : مَن ناجىٰ بين يدي الناس ، وصحيح مسلم ٧ / ١٤٣ ـ ١٤٤ كتاب فضائل الصحابة ، باب : فضائل فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وسُنن الترمذي ٥ / ٣٥٩ ، وسُنن ابن ماجة ١ / ٦٤٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٧٢ وصحّحه ..

وقال البغوي في شرح السُنّة ١٤ / ١٥٨ ـ ١٥٩ : هذا حديث متّفق علىٰ صحّته.

(٢) راجع : صحيح البخاري ٤ / ٢٢٠ باب : مناقب فاطمة عليها‌السلام ، و ٦ / ١٥٨ باب : ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف ، صحيح مسلم ٤ / ١٤١ باب : فضائل فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، سُنن أبي داود ١ / ٦٠ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣٥٩ وصحّحه ، سُنن ابن ماجة ١ / ٦٤٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٧٣ وصحّحه.

وقال البغوي في شرح السُنّة ١٤ / ١٥٨ ـ ١٥٩ : هذا حديث متّفق علىٰ صحّته.

(٣) ذخائر العقبىٰ : ٣٩ ، كنز العمّال ١٢ / ١١٠ عن الديلمي ، عن عليّ ، و ١٢ / ١١١ عن أبي يعلىٰ ، والطبراني في الكبير ، وأبي نعيم في فضائل الصحابة ، وابن عساكر ، عن عليّ ، سبل الهدىٰ والرشاد ١١ / ٤٤.

٢٨١

٢٨٢



الفصل التاسع



وجود الحجج

بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٢٨٣

٢٨٤



قال الدليمي :

« قال تعالىٰ ( رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (١) ..

ويقول سيدنا عليّ رضي‌الله‌عنه : ( بعث الله رسله بما خصّهم من وحيه ، وجعلهم حجّة له علىٰ خلقه ، لئلاّ تجب الحجّة لهم بترك الأعذار إليهم ). ج ٢ ص ٢٧.

فالوحي مخصوص بالرسل الّذين هم حجّة الله علىٰ خلقه بما عندهم من اختصاص بهذا الوحي ، ولو كان غيرهم حجّة لَما تمّت حجّة الله علىٰ خلقه بهم ، ولبطلت هذه الآية وما في معناها.

ويقول رضي‌الله‌عنه في موضع آخر : ( فلمّا مهد أرضه وأنفذ أمره اختار آدم عليه‌السلام خيرة من خلقه ... وليقيم الحجّة به علىٰ عباده ، ولم يخلهم ، بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج علىٰ ألسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحمّلي ودائع رسالاته ، قرناً فقرناً ، حتّىٰ تمّت بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حجّته ، وبلغ المقطع عذره ونذره ). ج ١ ص ٧٧.

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٦٥.

٢٨٥

ـ قال : ـ فإذا تمّت الحجّة بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا حجّة بعده ، وإلاّ فالحجّة لم تتمّ ، بينما سيّدنا عليّ يقول : إنّ الحجّة تمّت بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وربّنا يقول : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ علىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) ، فلا حجّة بعدهم ؛ فلماذا يوصف غير الأنبياء عليهم‌السلام بأنّهم : حجج الله ؟ » (١).

أقول :

المراد من الحجّة هو : البرهان والدليل الّذي يقيمه الله لعباده ، ويجعله الأساس في خصمهم ومحاسبتهم يوم القيامة إن جاؤوا بخلافه ، وحجج الله تعالىٰ كثيرة لا عـدّ ولا حصـر لها ، وهي مختلفة حسب الموارد والاتّجاهات ; فمن حيث تبليغ الشرائع والرسالات والدعوة إلىٰ التوحيد وترك عبادة ما سواه جلّ وعلا ، فحججه في ذلك : أنبياؤه ورسله عليهم‌السلام ، وإلى ذلك أشار تعالىٰ بقوله : ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ علىٰ اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) (٢).

ومن حيث الأدلّة علىٰ وجوده سبحانه ، فحججه علىٰ عباده : آثاره من مخلوقاته ، الّتي تبين لنا بدائع صنعته وأعلام حكمته ، قال تعالىٰ : ( سَنُرِيهِمْ ءَايَتِنَا فِى الاَْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حتّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ علىٰ كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ ) (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته المسمّاة بـ : « خطبة الأشباح » : « وأرانا من ملكوت قدرته ، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته ، واعتراف

__________________

(١) ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) سورة النساء : الآية ١٦٥.

(٣) سورة فصّلت : الآية ٥٣.

٢٨٦

الحاجة من الخلق إلىٰ أن يُقيمها بمساك قوّته ، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له علىٰ معرفته ، فظهرت البدائع الّتي أحدثها آثارُ صنعته ، وأعلامُ حكمته ؛ فصار كلّ ما خلقَ حجّةً له ودليلاً عليه ، وإن كان خلقاً صامتاً ، فحجّته بالتدبير ناطقة ، ودلالتُهُ علىٰ المبدع قائمة » (١).

وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام : « الصورة الإنسانية هي أكبر حجّة لله علىٰ خلقه ، وهي الكتاب الّذي كتبه الله بيده » (٢).

وقد ورد أنّ العقل حجّة الله علىٰ خلقه (٣) ، كما أنّ القرآن حجّة الله علىٰ خلقه ؛ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من خطبة له : « فالقرآن آمرٌ زاجر ، وصامتٌ ناطق ، حُجّة الله علىٰ خلقه » (٤).

وأهل البيت عليهم‌السلام حجج الله علىٰ خلقه ; لِما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حقّهم : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ; ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً ، وإنّهما لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما » (٥) ..

فقد قرن الحديث أهل البيت بالكتاب الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجعل التمسّك بهما معاً عاصماً من الضلالة ، وأخبر بتلازم أهل البيت والكتاب وعدم افتراقهما إلىٰ يوم القيامة.

فإذا كان التمسّك بالقرآن ـ الّذي هو حجّة الله علىٰ خلقه ـ هو الأخذ بتعاليمه وأحكامه ، فكذلك يكون التمسّك بمَن جُعلوا عدلا له وقرناء ،

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٦٤.

(٢) التفسير الصافي ١ / ٩٢.

(٣) انظر : شرح أُصول الكافي ١ / ٣٠٦ ، الفصول في الأُصول ١ / ٣٧٧.

(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١١١ ، شرح أُصول الكافي ١١ / ٦.

(٥) سبق ذكر مصادر الحديث في ص ٤٩.

٢٨٧

وهذا معنىٰ كونهم : « حجج الله ».

ولو رجعت ـ عزيزي القارئ ـ إلىٰ بداية الكتاب (١) وقرأت ما ذكرناه عن كيفيّة العودة إلىٰ كتاب الله والأخذ منه ، لتبيّن لك هذا الموضوع تماماً.

وأضف إليه : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبر أنّ لأهل البيت عليهم‌السلام دوراً كبيراً في رعاية الرسالة وصيانتها من التحريف والانحراف ، وإقامة الحجّة علىٰ أهل الأهواء والآراء أن يقولوا في دين الله ما يشتهون ..

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالّين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا إنّ أئمّتكم وفدكم إلىٰ الله ، فانظروا مَن تفِدون » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس » (٣).

قال ابن حجر في الصواعق : وفي أحاديث الحثّ علىٰ التمسّك بأهل البيت إشارة إلىٰ عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلىٰ يوم القيامة ، كما إنّ الكتاب العزيز كذلك ؛ ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض ، ويشهد لذلك الخبر السابق : « في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي » (٤).

وقد جاء في بعض الأحاديث ما يفيد حجّية عليّ عليه‌السلام علىٰ الأُمّة ..

__________________

(١) انظر : ص ٣٧ ـ ٣٩.

(٢) الصواعق المحرقة : ٩٠ ، ذخائر العقبىٰ : ١٧.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٦٢ وصحّحه ، الصواعق المحرقة : ٩١ و ١٤٠ وصحّحه ، كنز العمّال ١٢ / ١٠٢ ، المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ؛ وفيه : « النجوم جعلت أماناً لأهل الأرض وإنّ أهل بيتي أمان لأُمّتي » ، الجامع الصغير ٢ / ٦٨٠ مثله.

(٤) الصواعق المحرقة : ١٤٩.

٢٨٨

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد أخذ بيد عليّ عليه‌السلام ـ : « إنّ هذا أوّل مَن آمن بي ، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأُمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين » (١).

وأيضاً قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب إطاعته وعدم مخالفته : « مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصى عليّاً فقد عصاني » (٢).

وفي لزوم متابعته وعدم مفارقته ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك فقد فارقني ».

وفي أنّ بيانه عليه‌السلام هو فصل الاختلاف من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأُمّة ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عليّ ! أنت تبيّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي » (٣).

وفي هذا المعنىٰ أيضاً ، عندما نزل قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد ) (٤) وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده علىٰ صدره فقال : « أنا المنذر » ، وأومأ بيده إلىٰ عليّ فقال : « أنت الهادي يا عليّ ! بك يهتدي المهتدون من بعدي » (٥).

__________________

(١) انظر : مصادر الحديث في ص ١٦٨.

(٢) سبق ذكر مصادر هذا الحديث والذي بعده في ص ١٦٩.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٢ ; قال الحاكم : هذا حديث صحيح علىٰ شرط الشيخين ولم يخرّجاه.

(٤) سورة الرعد : الآية ٧.

(٥) تفسير الطبري ١٣ / ١٤٢ ، فتح الباري ٨ / ٢٨٤ ; قال : أخرجه الطبري بإسناد حسن من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، كنز العمّال ١١ / ٦٢٠ ؛ عن الديلمي ، عن ابن عبّاس ، تفسير ابن كثير ٢ / ٥٢٠ ، فتح القدير ٣ / ٧٠ ، الدرّ المنثور ٤ / ٤٥ ؛

٢٨٩

وقد مرّت بنا الأحاديث الواردة في أنّ حرب عليّ أو حرب فاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام حربه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلمهم سلمه (١) ، وأنّهم سفينة النجاة ، مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق (٢) ، الّتي تكشف بوضوح عن وجوب اتّباعهم وعدم مفارقتهم أو مخالفتهم ، وهذا هو معنىٰ كونهم : « حجج الله » علىٰ الخلق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد ذكر أهل البيت عليهم‌السلام كونهم حجج الله في أحاديث صريحة روتها كتب القوم ، نذكر منها :

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا وهذا ـ يعني عليّاً ـ حجّة علىٰ أُمّتي يوم القيامة » (٣).

ومنها ، قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا وعليّ حجّة الله علىٰ عباده » (٤).

وأخرج الطبري الشافعي في كتابيه ذخائر العقبىٰ والرياض النضرة : عن أنس بن مالك ، أنّه قال : كنت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأىٰ عليّاً مقبلاً ، فقال : « يا أنس ! ». قلت : لبيك. قال : « هذا المقبل حجّتي علىٰ أُمّتي يوم القيامة » (٥).

__________________

يخرّجه عن : الطبري وابن مردويه بعدّة طرق ، وأبي نعيم في المعرفة ، والديلمي وابن عساكر بطريقين ، وابن النجّار ، والضياء في المختارة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم في المستدرك وصحّحه ، شواهد التنزيل ١ / ٣٨٣.

(١) انظر : ص ١٩٣ وص ٢١٠ وص ٢١١.

(٢) انظر : ص ١٦٥.

(٣) كنز العمّال ١١ / ٦٢٠ عن الخطيب ، عن أنس ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٩ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٢٩٢.

(٤) تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٠٩ ، ذيل تاريخ بغداد ٤ / ٦٦ ؛ وفيه : « أنا وأنت حجّة الله تعالىٰ علىٰ خلقه يوم القيامة ».

(٥) الرياض النضرة ٣ / ١٥٩ ، ذخائر العقبىٰ : ٧٧ ، جواهر المطالب : ١٩٣.

٢٩٠

وغير ذلك من الأحاديث النبوية الكثيرة الدالّة علىٰ وجوب معرفة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والالتزام بمنهجه ، وعدم مفارقته ، ووجوب الإنصات لبيانه في ما اختلف المسلمون فيه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه عَلَم الهداية بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسفينة النجاة الّتي مَن ركبها نجا ومَن تخلّف عنها غرق ...

وهذا معنىٰ كونه : « حجّة الله » علىٰ المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الأحاديث النبوية الصريحة في بيان الحجج بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وهناك جملة من الأحاديث النبوية الشريفة الّتي خرجت من عهود الظلام الأُموي والعبّاسي ، والّتي استطاعت أن تخترق حاجز النصب والبغض الّذي تبنّاه بعضهم ضدّ أهل البيت عليهم‌السلام فجاءت ـ أي هذه الأحاديث ـ وكأنّها شاهد ومفصّل لِما اكتفىٰ بعضهم بالرمز إليه بالرقم والإشارة دون ذكر الأسماء من أحاديث الأئمّة أو الخلفاء الاثني عشر الواردة في كتب السُنن والصحاح ..

فمنها : ما رواه الخوارزمي الحنفي من كتابه مقتل الحسين : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للحسين عليه‌السلام : « أنت حجّة ابن حجّة أخو حجّة أبو حجج تسعة ، تاسعهم قائمهم » (١).

ومنها : ما جاء في كتاب فرائد السمطين لشيخ الإسلام الحمويني الشافعي ، في السمط الثاني في آخر الكتاب ، بسنده عن ابن عبّاس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ خلفائي وأوصيائي حجج الله علىٰ الخلق بعدي : الاثنا عشر ، أوّلهم : أخي ، وآخرهم : ولدي ».

__________________

(١) مقتل الحسين : ١٤٥ و ١٤٦.

٢٩١

قيل : يا رسول الله ! ومَن أخوك ؟

قال : « عليّ بن أبي طالب ».

قيل : فمَن ولدك ؟

قال : « الّذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ؛ والّذي بعثني بالحقّ بشيراً ! لو لم يبقَ من الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّىٰ يخرج فيه ولدي المهدي ، فينزل روح الله عيسىٰ بن مريم فيصلّي خلفه ، وتشرق الأرض بنور ربّها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب » (١). انتهىٰ.

ومنها : ما رواه الحافظ الحنفي في كتابه ينابيع المودّة ، نقلاً عن المناقب لابن المغازلي الشافعي ، بالإسناد إلىٰ ابن الزبير المكّي ، عن جابر ابن عبد الله الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله تبارك وتعالىٰ اصطفاني واختارني وجعلني رسولاً ، وأنزل علَيَّ سيّد الكتب ، فقلت : إلهي وسيدي ! إنّك أرسلت موسىٰ إلىٰ فرعون فسألك أن تجعل معه أخاه هارون وزيراً يشدّ به عضده ويصدّق به قوله ..

وإنّي أسألك يا سيدي وإلهي ! أن تجعل لي من أهلي وزيراً تشدّ به عضدي ، فاجعل لي عليّاً وزيراً وأخاً ، واجعل الشجاعة في قلبه ، وألبسه الهيبة علىٰ عدوّه ، وهو أوّل مَن آمن بي وصدّقني ، وأوّل مَن وحّد الله معي ..

وإنّي سألت ذلك ربّي عزّ وجلّ فأعطانيه ، فهو سيد الأوصياء ، اللحوق به سعادة ، والموت في طاعته شهادة ، اسمه في التوراة مقرون إلى

__________________

(١) فرائد السمطين ٢ / ٣١٢ ح ٥٦٢.

٢٩٢

اسمي ، وزوجته الصدّيقة الكبرىٰ ابنتي ، وابناه سيّدا شباب أهل الجنّة ابناي ، وهو وهما والأئمّة من بعدهم حجج الله علىٰ خلقه بعد النبيّين ، وهم أبواب العلم في أُمّتي ، مَن تبعهم نجا من النار ، ومَن اقتدىٰ بهم هدي إلىٰ صراط مستقيم ، لم يهب الله محبّتهم لعبد إلاّ أدخله الله الجنّة » (١). انتهىٰ.

وفي هذا المعنىٰ ينقل ابن كثير في البداية والنهاية عن يحيىٰ بن سلامة الشافعي الحصكفي ـ من أئمّة الفقه والأدب ـ قوله :

وسائلي عن حبّ أهل البيت

هل أُقرّ إعلاناً به أم أجحدُ ؟!

هيهات ! ممزوج بلحمي ودمي

حبّهم وهو الهدى والرشدُ

حيدرة والحسنان بعده

ثمّ عليّ وابنه محمّد

وجعفر الصادق وابن جعفر

موسى ويتلوه عليّ السيّدُ

أعني الرضا ثمّ ابنه محمّد

ثمّ عليّ وابنه المسدّدُ

والحسن الثاني ويتلو تلوه

محمّد بن الحسن المفتقدُ

أئمّة أكرم بهم أئمّة

أسماؤهم مسرودة تطردُ

هم حجج الله علىٰ عباده

وهم إليه منهج ومقصدُ (٢)

أقول :

وقد جاء في نهج البلاغة ما يشير إلىٰ ذلك ـ أي : إلىٰ وجود الحجج بعد النبيّين ـ في عدّة مواضع ، إلاّ أنّه ممّا غاب عن الدليمي الاطّلاع عليه ، أو الوقوف عنده كالعادة ، نذكر من ذلك :

__________________

(١) ينابيع المودّة لذوي القربىٰ ١ / ١٩٨.

(٢) البداية والنهاية ١٢ / ٢٩٨.

٢٩٣

قوله عليه‌السلام : « ولم يخل سبحانه خلقه من نبيّ مرسل ، أو كتاب منزل ، أو حجّة لازمة » (١).

وقوله عليه‌السلام : « اللّهمّ بلىٰ ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة : إمّا ظاهراً مشهوراً ، أو خائفاً مغموراً (٢) ؛ لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته ، وكم ذا وأين أُولئك (٣) ؟!

أُولئك ـ والله ـ الأقلّون عدداً ، والأعظمون عند الله قدراً ، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّىٰ يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم علىٰ حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون (٤) ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلىٰ ، أُولئك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلىٰ دينه » (٥) ..

وفي كلامه عليه‌السلام هذا بيان وافٍ لعلّة وجود الحجج بعد الأنبياء والرسل والكتب المنزلة ؛ فانظر إلىٰ قوله عليه‌السلام : « لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته » ، وقوله عليه‌السلام : « يحفظ الله بهم حججه وبيّناته ، حتّىٰ يودعوها نظراءهم ... ».

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٢٤ الخطبة الأُولىٰ.

(٢) غمره الظلم حتّىٰ غطّاه فهو لا يظهر.

(٣) قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : استفهام عن عدد القائمين لله بحجّته ، واستقلال له ، وقوله : « وأين أُولئك ؟! » استفهام عن أمكنتهم ، وتنبيه علىٰ خفائها.

(٤) عدّوا ما استخشنه المنعّمون ليّناً ; وهو : الزهد.

(٥) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٤ / ٣٧ ..

وانظر كلامه عليه‌السلام هذا في تذكرة الحفّاظ ١ / ١٢ ، المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٣٦٦ ، كنز العمّال ١ / ٢٦٣ ; يرويه عن : ابن عساكر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والمرهبي في العلم ، وأبي نعيم في الحلية.

٢٩٤

وإن قمت ـ أيّها القارئ النبيه ـ بالجمع بين كلامه عليه‌السلام هذا وبين ما تقدّم من أحاديث نبوية في هذه الفقرة ، سيتّضح لك الأمر جلياً في الموضوع لا غطش فيه (١).

ولا أدري لِمَ يستكثر الدليمي علىٰ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أن يكونوا حجج الله تعالىٰ علىٰ خلقه ، وهم عِدل القرآن الكريم ، كما نصّ علىٰ ذلك حديث الثقلين المتواتر المشهور ، بعد أن استساغ لقومه وعلماء مذهبه أن يطلقوا هذا اللفظ « حجّة الله » علىٰ مَن هو دونهم في العلم والفضل ولا نصّ فيهم ، كـ : مالك بن أنس الأصبحي ، وأبي عليّ الثقفي ، وأبي إسحاق الشيرازي ، وغيرهم ..

قال ابن حجر في التهذيب : قال حرملة : عن الشافعي ، قال : مالك حجّة الله تعالىٰ علىٰ خلقه بعد التابعين (٢).

ويروي الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي العبّاس الزاهد قوله : كان أبو عليّ ( الثقفي ) في عصره حجّة الله علىٰ خلقه (٣) ..

ويروي كذلك عن أبي بكر الشاشي قوله : أبو إسحاق ( الشيرازي ) حجّة الله علىٰ أئمّة العصر (٤).

ومع هذا ، فإنّك لو سألت الدليمي هنا ـ وهو الّذي كان قد تساءل متعجّباً ، وربّما متهكّماً : فلماذا يوصف غير الأنبياء عليهم‌السلام بأنّهم : حجج الله ؟ ـ وقلت له : بماذا سيحتجّ الله عزّ وجلّ علىٰ الفرق المختلفة من المسلمين

__________________

(١) الغطش : الظلمة ; الصحاح ـ للجوهري ـ ٢ / ١٠١٣ ، لسان العرب ٦ / ٣٢٤.

(٢) تهذيب التهذيب ١٠ / ٨.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٥ / ٢٨٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٥٥.

٢٩٥

يوم القيامة ، وهم حسب الظاهر كلّهم مؤمنون بالله ورسوله وكتابه ؟ لتلجلج وبهت ، ولم يحر جواباً !!

لكنّه لو رجع إلىٰ كلمات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّتي أوردناها ، وكلمات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة لوجد لهذا السؤال جواباً.

والله الموفّق للصواب.

*                  *                 *

٢٩٦



الفصل العاشر



الاستدلال

علىٰ عصمة الإمام عليه‌السلام

٢٩٧

٢٩٨



قال الدليمي :

« من خطبة له عليه‌السلام بصفين : ( لا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أُخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ). ج ٢ ص ٢١٠.

ـ قال : ـ فهذا كلامه رضي‌الله‌عنه وخطابه علىٰ رؤوس الملأ وعامّة الناس أنّه ليس بفوق أن يخطئ في قول أو فعل.

ثمّ قال عليه‌السلام : ( ما أهمّني ذنب أُمهلت بعده حتّىٰ أُصلّي ركعتين ). ج ٤ ص ٧٧.

في هذا الكلام ينفي سيّدنا عليّ رضي‌الله‌عنه العصمة عن نفسه من الذنب ، وأنّه إذا أذنب صلّىٰٰ ركعتين ، فإذا صلّىٰٰ لا يحمل همّ ذلك الذنب الّذي أُمهل بعده فصلّىٰٰ تلك الركعتين » (١).

أقول :

الأدلّة الّتي دلّت علىٰ عصمته عليه‌السلام وعصمة أهل بيته الكرام عليهم‌السلام كثيرة ، إلاّ أنّنا سنكتفي هنا بذكر الأدلّة النقلية فقط وعمدتنا في ذلك كما في كلّ دليل نقلي : الكتاب والسُنّة.

__________________

(١) ص ٢٧ ـ ٢٨.

٢٩٩

أمّا الكتاب الكريم :

فيشهد لذلك قوله تعالىٰ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) ..

فالرجس في هذه الآية عبارة عن : الذنوب ، كما في الكشّاف للزمخشري وغيره ، وقد تصدّرت الآية بأداة الحصر : « إنّما » ، فأفادت أنّ إرادة الله تعالىٰ في أمرهم مقصورة علىٰ اذهاب الذنوب عنهم وتطهيرهم منها ، وهذا هو كنه العصمة وحقيقتها ، والّذي ذكرناه هنا عن الآية الكريمة ، ذكره جماعة من علماء أهل السُنّة أيضاً.

فقد جاء في تفسير الطبري « جامع البيان عن تأويل آي القرآن » عن هذه الآية ما يدلّ علىٰ أنّه فهم منها عصمة أهلها ، وكذلك نقل عن جماعة من الأعلام أنّهم فهموا منها ذلك ..

قال الطبري : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) ، يقول : إنّما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت محمّد ، ويطهّركم من الدنس الّذي يكون في أهل معاصي الله تطهيراً.

ثمّ قال : وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ...

حدّثنا بشر ، قال : ثنا زيد ، قال : ثنا سعيد بن قتادة ، قوله : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، فهم أهل بيت طهّرهم الله من السوء ، وخصّهم برحمة منه ...

وروىٰ أيضاً عن ابن زيد قوله : الرجس ها هنا : الشيطان (٢).

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٣.

(٢) تفسير الطبري ٢٢ / ٩.

٣٠٠