تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

قلنا :

طريقة بيانه واستفاداته من النهج تنافي ذلك ; إذ اعتبر ما نقله « جمل مختارة » و « جواهر » و « كلمات مباركات » و « نصوص هادية » ... إلىٰ آخر كلماته ، وهذا لا يُفهم منه الإلزام بشيء ، وإنّما يدلّ علىٰ القناعة والاعتقاد.

ولو سلّمنا بذلك ، نقول : علىٰ المُلزِم أن يأتي بما يُلزِم به تامّاً غير مقطوع ، أو مجمل ، أو مبتور القرائن ; فإنّ ذلك في الواقع من تعمّد الإيهام دون الإلزام.

ولو سلّمنا ، نقول : لا يوجد في النهج كلّه ممّا يمكن أن يُلزمنا به الكاتب في عقائد الإمامية ويعدّ مخالفاً لما ورد عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ..

وسيلاحظ القارئ الكريم من خلال متابعته معنا أنّ إيرادات الكاتب غير واردة.

وأيضاً هناك ملاحظة أُخرىٰ ترد علىٰ الكاتب وهي : إنّ أغلب « النصوص الهادية » التي قدّمها لقارئه كانت ـ في الواقع ـ مبتورة ، ومجرّدة عن القرائن اللفظية والحالية الّتي تعطي صورة واضحة ، أو قريبة من الوضوح ، لقارئ كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولبيان المراد منه ، وستقف علىٰ هذا الأمر في موارد عديدة من كتيبه هذا !

وستلاحظ أيضاً مدىٰ فهمه لكلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام وتقارنه بفهم شارحي النهج : ابن أبي الحديد الشافعي ، علاّمة المعتزلة ، والشيخ محمّد عبده ، شيخ الجامع الأزهر في زمانه ، وذلك عندما نعرض أقوالهما مع قوله في بيان بعض النصوص الّتي جاء بها الكاتب من النهج.

٢١

وفي الختام ..

آمل أن يعيد الكاتب قراءة نهج البلاغة مرّة ثانية ، ويقدّم بحثاً متكاملاً نافعاً ، ينفع به نفسه والآخرين ، ليهش ويسعد به الناس حقيقةً ، كما يهش ويسعد به هو !

ولا يغرّن الكاتب انفراج أسارير بعض أحبابه وإخوانه لقراءته المبتسرة هذه ; فإنّهم لا يغنون عنه من الحقّ شيئاً ، ولا هم بنافعيه يوم القيامة ، يوم يأتي كلّ إنسان طائره في عنقه ، ( وَكُلَّ إِنْسِن أَلْزَمْنَهُ طَبِرَهُ فِى عُنُقِهِى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ كِتَبًا يَلْقَلهُ مَنشُورًا ) (١) ، ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَحِبَتِهِى وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (٢) ..

فإنّ أغلب الظنّ أنّ هؤلاء الأحباب والإخوان إن لم تكن أساريرهم قد انفرجت مجاملة له ، فإنّ الظاهر منهم أنّه لم يكن لهم حظّ من العلم ليتمكّنوا من ملاحظة الهفوات والفجوات في الدعاوىٰ المعروضة عليهم. والّتي سيطّلع القارئ عليها بالتفصيل عند متابعته معنا لقراءة في نهج البلاغة وتصحيحها.

أسأل الله تعالىٰ أن يمنّ علىٰ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بجمع الكلمة ، وأن يوحّد صفوفهم بوحدة حقيقية في الأُصول والفروع يغيظون بها عدوّ الله وعدوّهم من اليهود والنصارىٰ المستكبرين ، وأن يجنّبهم شرّ العصبيات والأهواء. فقد وصلت الأخبار إلينا ، ونحن علىٰ

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٣.

(٢) سورة عبس : الآيات ٣٤ ـ ٣٧.

٢٢

وشك الانتهاء من هذا الكتاب بأنّ أهل السُنّة في أفغانستان وخصوصاً الوهّابيّين يعملون علىٰ قتل الشيعة قتلاً جماعياً لا لشيء سوىٰ كونهم شيعة لآل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !! وأنّهم لا يستثنون من القتل من الذكور ممّن بلغ سبع سنين فما فوق !! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وأقول :

لو أنّ الوهّابيّين في أفغانستان أقبلوا علىٰ عرض آراء حركتهم (١) ، وفق المنهج الّذي يريده الله عزّ وجلّ في الدعوة إلىٰ الحقّ ، كما جاء في قوله تعالىٰ : ( ادْعُ إلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين ) (٢) ..

وأنّهم ابتعدوا عن الدعوة إلىٰ ما يبغون إليه بالسلاح والحراب ، لكان ذلك أقوىٰ مؤيّد لهم علىٰ مشروعية دعوتهم ونورانيّتها إن كان لها نور ، فقد استدلّ العلماء سابقاً علىٰ كون أعجاز القرآن هو البلاغة وذلك حينما علموا بأنّ المشركين من العرب قد خرجوا علىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنان والحراب

__________________

(١) الوهّابية ليست مذهباً دينياً ، وإنّما هي حركة سياسية كان الهدف من إنشائها في القرن الثامن عشر الميلادي ، أيام الاحتلال البريطاني للجزيرة العربية بالتعاون بين آل سعود وبريطانيا ، هو ضرب الإسلام من الداخل وفق طريقة جديدة اكتشفها الاستعمار الغربي الكافر ، ألا وهي ضرب الدين بالدين ; فقد اكتشف هذا الاستعمار الكافر بأنّ الوسائل القديمة في السيطرة علىٰ خيرات المسلمين وإضعاف قوّتهم قد باءت بالفشل ، فابتكر هذه الطريقة الجديدة المدعومة بالسلطة والمال والسلاح ..

راجع كتابنا : حقيقة الوهّابية الجزء الأوّل منه ، وبالذات الفصل الأوّل الخاصّ بتاريخ الحركة الوهّابية ; لتقف علىٰ بيان هذا المعنىٰ بالتفصيل.

(٢) سورة النحل : الآية ١٢٥.

٢٣

ولم يردّوا علىٰ تحدّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم علىٰ لسان القرآن نفسه في إبطال دعوىٰ النبوّة ، بالإتيان بمثل القرآن ، أو الإتيان بعشر سور من مثله ، أو حتّىٰ بسورة واحدة من مثله ، مع أنّ هذا الأمر كان أيسر لهم وأقلّ كلفة من تجشّم عناء الحروب وويلاتها ; فقد كانوا هم أهل الفصاحة والبلاغة لا يشقّ لهم في هذا الجانب غبار !!

فالقوّة واستخدام السلاح ـ في الواقع ـ هما وسيلتا الضعيف العاجز عن إقناع الآخرين بصدق ما يدّعيه ، وخاصّة في ما يتعلّق بالأُمور العقائدية ، فتراه يلجأ إليهما هرباً من الاعتراف بالضعف والعجز الفكريّين.

والأنبياء والرسل لم يلجأوا إلىٰ استخدام السلاح في وجه خصومهم إلاّ بعد أن استنفذوا كلّ الوسائل الممكنة لإقناع الخصوم ، بل لم يلجأوا إلىٰ استخدام السلاح ـ كما هو الثابت في أغلب الوقائع ـ إلاّ بعد الظلم والعذاب والاعتداء عليهم ، مع ملاحظة الخُلق الرفيع والحلم الكبير الّذي كان يجابه به الأنبياء مخالفيهم ، لا الغلظة والفظاظة والعمل علىٰ تكفير المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بلا دليل معتبر أو حجّة دامغة كما هو شأن الوهّابيّين مع خصومهم اليوم !!

اللّهمّ نسألك السلامة في ديننا ، ونسألك أن تعيننا علىٰ أنفسنا بما تعين به الصالحين علىٰ أنفسهم ، إنّك سميع قريب مجيب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.

خالد البغدادي

٢٥ جمادىٰ الأُولىٰ ـ ١٤١٩ هـ

٢٤



قبل البدء بالردّ

التعريف

بـ : « نهج البلاغة »

٢٥

٢٦



لقد هيّأ لي الردّ علىٰ كتيّب ( قراءة في نهج البلاغة ) مناسبة عزيزة علىٰ نفسي كنت أطلبها منذ زمن ، ألا وهي الكتابة عن هذا الأثر العظيم والسفر الخالد ، واستزادة التأمّل في نصوصه وبياناته الّتي لم تزِدني كثرة المطالعة فيها إلاّ الشوق بالعودة إليها مرّات ومرّات ; لِما لهذه النصوص من أهمّية كبيرة في بيان الكثير من جوانب المعرفة في الدين ، والتاريخ ، والسياسة ، والفلسفة ، والنفس ، والاجتماع ... إلىٰ غير ذلك من العلوم الّتي كان الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام باب مدينة علم المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفيض بها علىٰ المسلمين في أيّامه.

وعلىٰ الرغم من أنّنا لم نقلّب أو نتصفّح هنا إلاّ الشيء اليسير من هذه النصوص ، وذلك حسب البحوث الواردة في الكتيّب المردود عليه ، ولكن نأمل أن يتهيّأ لنا في المستقبل ـ بفضل الله ومنّه ـ ما يحقق كمال الرغبة من البحث في نهج البلاغة علىٰ نطاق أوسع.

وقد ارتأيت في هذه المناسبة أن أُقدّم لقارئي العزيز مقدّمة بسيطة للتعريف بـ : نهج البلاغة وبيان ما له من المنزلة والشأن عند علماء المسلمين وأُدبائهم ، وكذلك ردّ بعض الشُبه الّتي أُثيرت بشأن الكتاب المذكور ..

٢٧

فأقول :

إنّ أكثر ما استأثر باهتمام الكتّاب والمحقّقين في العصور الإسلامية السالفة والحاضرة الوقوف علىٰ كتب أعطت للتاريخ حقيقة واقعية أصلها القرآن الكريم والسُنّة النبوية الشريفة ... ومن تلك الكتب والآثار التاريخية : كتاب نهج البلاغة ..

فقد نال هذا الكتاب من الأهميّة والشأن بما لم يحظَ به كتاب غيره علىٰ مرّ العصور ، وأصبح له من الشروح ما بلغ (٧٥) شرحاً في حساب بعض المؤلّفين (١) ، و (١٠١) من الشروح في حساب مؤلّف آخر (٢).

وليس غريباً أن يكون للـ « نهج » كلّ هذه الأهمّية وهذا الشأن ؛ فقد كان الإمام عليّ « إمام الفصحاء وسيّد البلغاء ، وفي كلامه قيل : دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة » ، كما يروي عزّ الدين ابن أبي الحديد (٣).

__________________

(١) الغدير ٤ / ١٦٤ ـ ١٦٩.

(٢) مصادر « نهج البلاغة » وأسانيده ١ / ٢٤٨ ـ ٣١٣.

ومن الطريف أن تجد مثل الدكتور شفيع السيّد ـ من كتّاب مصر ـ الّذي يذكر في مجلّة « الهلال » العدد ١٢ ، السنة ٨٣ ، ص ٩٦ : إنّ معظم شرّاح نهج البلاغة من الشيعة ... ثمّ يسمّي عدداً من هؤلاء الشرّاح وكان أغلبهم من غير الشيعة !! راجع : « نهج البلاغة .. لمَن ؟ » : ١٥.

(٣) عزّ الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمّد بن الحسين : من أعيان المعتزلة ، ولد في المدائن سنة ٥٨٦ هـ ، وانتقل إلىٰ بغداد.

أديب كاتب شاعر ، شارك في بعض العلوم ، عمل في الدواوين السلطانية وبرع في الإنشاء ، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي ، توفّي في بغداد سنة ٦٥٥ هـ.

له آثار قيّمة ، منها : شرح نهج البلاغة ، الّذي جمعه الشريف الرضي ، ديوان

٢٨

ويقول عبد الحميد الكاتب : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثمّ فاضت.

ويقول ابن نباتة : حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب.

ولمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ! ـ يعني عليّاً ـ قال له : ويحك ! كيف يكون أعيا الناس ؟! فو الله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.

ثمّ قال ابن أبي الحديد : ويكفي هذا الكتاب الّذي نحن شارحوه دلالة علىٰ أنّه لا يُجارىٰ في الفصاحة ، ولا يُبارىٰ في البلاغة ، وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشر ، ولا نصف العُشر ممّا دُوّن له ، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان والتبيين وفي غيره من كتبه (١).

ويقول الشيخ محمّد عبده (٢) : وليس في أهل هذه اللغة إلاّ قائل

__________________

شعر ، نظم فصيح ثعلب ، الفلك الدائر علىٰ المثل السائر ، تعليقة علىٰ المحصول لفخر الدين الرازي ... وغيرها.

راجع : الأعلام ـ لخير الدين الزركلي ـ ٣ / ٢٨٩ ، معجم المؤلّفين ـ لعمر رضا كحالة ـ ٥ / ١٠٦ ، فوات الوفيات ـ لابن شاكر الكتبي ـ ١ / ٢٤٨ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ١٣ / ٢٣٣.

(١) يراجع لما سبق : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) الشيخ محمّد عبده بن حسن خير الله من آل التركماني : مفتي الديار المصرية ، ومن كبار رجال الإصلاح والتجديد ، ولد سنة ١٢٦٦ هـ ـ ١٨٤٩ م في « شنرا » في مصر ، وتوفّي سنة ١٣٢٣ هـ ـ ١٩٠٢ م.

تقلّد عدّة مناصب بالدولة ، في التدريس ، ثمّ القضاء ، ثمّ مستشاراً في محكمة الاستئناف ومفتياً للديار المصرية.

٢٩

بأنّ كلام الإمام عليّ بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالىٰ وكلام نبيّه ، وأغزره مادّة ، وأرفعه أُسلوباً ، وأجمعه لجلائل المعاني (١).

ويقول الدكتور زكي نجيب محمود : ونجول في أنظارنا في هذه المختارات من أقوال الإمام عليّ ، الّتي اختارها الشريف الرضي (٢) ( ٩٧٠ م ـ ١٠١٦ ) وأطلق عليها : نهج البلاغة ، لنقف ذاهلين أمام روعة العبارة وعمق المعنى ..

فإذا حاولنا أن نصنّف هذه الأقوال تحت رؤوس عامّة تجمعها ، وجدناها تدور ـ علىٰ الأغلب ـ حول موضوعات رئيسية ثلاثة ، هي نفسها الموضوعات الرئيسية الّتي ترتد إليها محاولات الفلاسفة ، قديمهم وحديثهم علىٰ السواء ، ألا وهي : الله والعالم والإنسان.

__________________

شارك في مناصرة الثورة العرابية ، وسجن علىٰ أثرها ثلاثة أشهر ، ونفي إلىٰ بلاد الشام ، أصدر جريدة « العروة الوثقى » مع صديقه وأُستاذه جمال الدين الأفغاني.

له عدّة مؤلّفات ، منها : تفسير القرآن الكريم ، تعليقة علىٰ نهج البلاغة ، رسالة الواردات في الفلسفة والتصوّف ، شرح مقامات البديع الهمداني ... وغيرها.

راجع : الأعلام ٧ / ١٣١ ، معجم المؤلّفين ١ / ٢٧٢ ، في الأدب الحديث ـ لعمر دسوقي ـ : ٢٢٧ ـ ٢٥٦.

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٥.

(٢) محمّد بن الحسين بن موسىٰ العلوي الحسيني الموسوي : ولد سنة ٣٥٩ هـ في بغداد ، كان يلقّب بـ : « ذي الحسبين » ، انتهت إليه نقابة الأشراف في حياة والده ، توفّي ببغداد سنة ٤٠٦ هـ.

عالم أديب شاعر ، من مؤلّفاته : ديوان شعر كبير ، طيف الخيال ، خصائص الأئمّة ، تلخيص البيان في مجازات القرآن ...

راجع : الأعلام ٦ / ٩٩ ، معجم المؤلّفين ٩ / ٢٦١ ، وفيات الأعيان ـ لابن خلكان ـ ٢ / ٢ ـ ٥ ، تاريخ بغداد ٢ / ٢٤٣.

٣٠

وإذاً فالرجل ـ وإن لم يتعمّدها ـ فيلسوف بمادّته وإن خالف الفلاسفة في أنَّ هؤلاء قد غلب عليهم أن يقيموا لفكرتهم نسقاً علىٰ صورة مبدأ ونتائجه ، وأمّا هو فقد نثر القول نثراً في دواعيه وظروفه (١).

أمّا صبحي الصالح فيقول في مقدّمته : منذ أن تصدّىٰ الشريف الرضي لجمع ما تفرّق من كلام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ووسمه : « نهج البلاغة » أقبل العلماء والأُدباء علىٰ ذلك الكتاب بين ناسخ له يحفظ نصّه في لوح صدره ، وشارح له ينسم الناس عن تفسيراته وتعليقاته (٢).

ويقول الكاتب لبيب بيضون ـ الكاتب السوري المعروف ـ في تصنيفه للـ « نهج » : لا يشكّ أديب أو مؤرّخ أو عالم ديني أو اجتماعي في ما لـ « نهج البلاغة » من قيمة جلّىٰ ، وإنّه في مصافِ الكتب المعدودة ، والّتي تعتبر من أُمّهات الكتب ...

كيف لا ؟! و « نهج البلاغة » هو كلام أمير المؤمنين ، ذلك الإمام الّذي كان قدوة مثالية للمسلمين ، ونبراساً رائداً للمؤمنين ، حتّىٰ إنّ الخليل بن أحمد حين سئل عنه : ما تقول في الإمام عليّ ؟ قال قوله المأثور : احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل علىٰ أنّه إمام الكلّ في الكلّ ...

ثمّ قال : إنّ « نهج البلاغة » هو أعظم كتاب أدبي وديني وأخلاقي واجتماعي بعد القرآن والحديث النبوي الشريف ، وهو أحد المصادر الأربعة الّتي لا غنىً للأديب العربي عنها ، وهي : القرآن الكريم ، ونهج البلاغة ، والبيان والتبيين للجاحظ ، والكامل للمبرّد (٣).

__________________

(١) المعقول واللامعقول في التراث العربي : ٣٠.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق صبحي الصالح ـ : ١٨.

(٣) تصنيف نهج البلاغة : ٧.

٣١

فرية وضع الكتاب :

ولقد عزّ علىٰ بعض « الناس » ! من المتقدّمين أن يكون نهج البلاغة أُنموذجاً من كلام عليّ ، وصورة مصغّرة من منهجه العام في الدين والسياسة والإدارة العامّة للدولة ، ممّا أراد تطبيقه عندما آلت الخلافة إليه ، فتوجّهوا بسهام الشكّ نحوه زاعمين : « إنّه ليس كلام عليّ ، وإنّما الّذي جمعه ونسبه إليه هو الّذي وضعه » (١).

وقد تصدّىٰ عدد من الكتّاب والأُدباء والباحثين إلىٰ ردّ مزاعم هذه الفرية وإقامة البرهان علىٰ زيف هذه المزاعم وكذب هذه الادّعاءات.

وكان في طليعة من تصدّىٰ لتفنيد هذه الشبهة أديب عصره عزّ الدين ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في شرحه للـ « نهج » ، ونروي في ما يلي فقرات ممّا كتبه هذا الأديب :

« إنّ كثيراً من أرباب الهوىٰ يقولون : إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام محدَث ، صنعه قوم من فصحاء الشيعة ، وربّما عزوا بعضه إلىٰ الرضي أبي الحسن وغيره ، وهؤلاء قوم أعمت العصبية أعينهم ، فضلّوا عن النهج الواضح ...

وأنا أُوضّح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط ، فأقول : لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً ، أو بعضه.

والأوّل باطل بالضرورة ; لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلىٰ أمير

__________________

(١) وفيات الأعيان ـ لابن خلكان ـ ٣ / ٣ ; وقد تابعه علىٰ زعمه هذا كلّ من : الصفدي في الوافي بالوفيات ٢ / ٣٧٥ ، واليافعي في مرآة الجنان ٣ / ٥٥ ، وابن حجر في : لسان الميزان ٤ / ٢٢٣.

٣٢

المؤمنين عليه‌السلام ، وقد نقل المحدِّثون كلّهم أو جُلّهم والمؤرّخون كثيراً منه ، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلىٰ غرض في ذلك.

والثاني يدلّ عليه ما قلناه ؛ لأنّ مَن قد أنس بالكلام والخطابة ، وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب ، لا بُدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح والأفصح ، وبين الأصيل والمولّد ، وإذا وقف علىٰ كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء ، أو لاثنين منهم فقط ، فلا بُدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين.

ألا ترىٰ أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده ، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام ، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفَسه وطريقته ومذهبه في القريض ...

وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ، ونفَساً واحداً ، وأُسلوباً واحداً ، كالجسم البسيط الّذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية ، وكالقرآن العزيز ، أوّله كأوسطه ، وأوسطه كآخره ... فقد ظهر لك بهذا البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام » (١).

كما يروي ابن أبي الحديد عن شيخه أبي الخير الواسطي ، فيقول : « أمّا أبو الخير سأل يوماً أُستاذه ابن الخشّاب بعد انتهائهما من قراءة خطبة عليّ المعروفة بالشقشقية : أتقول أنّها منحولة ؟!

فقال له : لا والله ! وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٠ / ١٢٧ ـ ١٢٩.

٣٣

قال : فقلت له : إنّ كثيراً من الناس يقولون إنّها من كلام الرضي رحمه الله تعالى.

فقال : أنّىٰ للرضي ولغير الرضي هذا النفَس وهذا الأُسلوب ؟! وقد وقفنا علىٰ رسائل الرضي وعرفنا طريقته في الكلام المنثور ...

ثمّ قال : والله ! لقد وقفت علىٰ هذه الخطبة في كتب صُنّفت قبل أن يُخلق الرضي بمائتي سنة ، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها وأعرف خطوط مَن هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي » (١).

ثمّ يعلق ابن أبي الحديد علىٰ هذه الخطبة نفسها فيقول : « وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي ، إمام البغداديّين من المعتزلة ، وكان في دولة المقتدر قبل أن يُخلق الرضي بمدّة طويلة.

ووجدت أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة ... وكان من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالىٰ ، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالىٰ موجوداً » (٢).

وعندما ترجم الإمام الزيدي يحيىٰ بن حمزة العلوي ، المتوفّىٰ سنة ٧٤٥ هـ ، لعليّ عليه‌السلام قال : « وأعظم كلامه : ما حواه كتاب نهج البلاغة ، وقد تواتر نقله عنه ، واتّفق الكلّ علىٰ صحّته » (٣).

قال الكاتب المصري محمّد عبد الغني حسن : « ولن نعيد هنا القول

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٠٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

(٣) مشكاة الأنوار : ١٧٥.

٣٤

في ما لوىٰ به بعض المتعنّتين أشداقهم من أنّ نهج البلاغة هو من كلام الشريف الرضي نفسه وأنّه ليس للإمام عليّ كرّم الله وجهه ; فتلك قضية أحسن الدفاع فيها : ابن أبي الحديد في القديم ، كما أحسن الدفاع عنها في زماننا هذا : الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد » (١).

أمّا الشيخ محمّد عبده فقد قال في بداية تعليقته مؤكّداً بأنّ : « ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره الشريف الرضي رحمه‌الله من كلام سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه .. جمع متفرّقه وسمّاه بهذا الاسم : ( نهج البلاغة ).

ولا أعلم اسماً أليَق بالدلالة علىٰ معناه منه ، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسمه ... » (٢).

وقد حقّق ودقّق الدكتور صبري إبراهيم ، من جامعة عين شمس ( جامعة قطر ) صحّة ونسبة هذا الكتاب لجامعه الشريف الرضي ، كما حقّق ودقّق سند الخُطب والأقوال للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (٣).

وأقول :

كثيرة هي المصادر التراثية المعتمدة الّتي روَت كلام الإمام عليّ عليه‌السلام وخطبه ، وقد سبق تأليفها علىٰ عهد الشريف الرضي جامع نهج البلاغة (٤).

وكان السيّد عبد الزهراء الخطيب الحسيني قد أحصىٰ « ١٠٩ » مصادر

__________________

(١) تلخيص البيان : ٩٦.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٤ المقدّمة.

(٣) انظر : نهج البلاغة ، بتحقيق د. صبري إبراهيم السيّد.

(٤) وقد روىٰ الشريف الرضي عن بعضها مصرّحاً باسمه ، كـ : البيان والتبيين للجاحظ ، والمغازي لسعيد بن يحيىٰ ، والمقتضب للمبّرد ، وتاريخ الطبري.

٣٥

مؤلَّفة قبل سنة ٤٠٠ هـ ـ وهي سنة جمع الشريف للـ « نهج » ـ قد استشهدت بكلام الإمام وخطبه ورسائله (١) ، وحملت هذه المصادر إلىٰ الأجيال التالية تلك النصوص العلوية دون أن تبدي أي شكّ في ذلك أو ريب أو توقّف.

ويكفينا أن نعلم أنّ من جملة أُولئك الرواة القدماء :

المفضل الضبي ، المتوفّىٰ سنة ١٦٨ هـ.

نصر بن مزاحم ، المتوفّىٰ سنة ٢٠٢ هـ.

القاسم بن سلام ، المتوفّىٰ سنة ٢٢٣ هـ.

ابن سعد ، المتوفّىٰ سنة ٢٣٠ هـ.

محمّد بن حبيب ، المتوفّىٰ سنة ٢٤٥ هـ.

الجاحظ ، المتوفّىٰ سنة ٢٥٥ هـ.

السجستاني ، المتوفّىٰ سنة ٢٥٥ هـ.

المبّرد ، المتوفّىٰ سنة ٢٥٨ هـ.

ابن قتيبة ، المتوفّىٰ سنة ٢٧٦ هـ.

البلاذري ، المتوفّىٰ سنة ٢٧٩ هـ.

البرقي ، المتوفّىٰ سنة ٢٧٤ أو ٢٨٠ هـ.

اليعقوبي ، المتوفّىٰ سنة ٢٨٤ هـ.

أبا حنيفة الدينوري ، المتوفّىٰ نحو سنة ٢٩٠ هـ.

أبا جعفر الصفّار ، المتوفّىٰ سنة ٢٩٠ هـ.

أبا العبّاس ثعلب ، المتوفّىٰ سنة ٢٩١ هـ.

ابن المعتز ، المتوفّىٰ سنة ٢٩٦ هـ.

__________________

(١) مصادر « نهج البلاغة » وأسانيده ١ / ٢٧ ـ ٣٧.

٣٦

الطبري ، المتوفّىٰ سنة ٣١٠ هـ.

ابن دريد ، المتوفّىٰ سنة ٣٢١ هـ.

ابن عبد ربّه ، المتوفّىٰ سنة ٣٢٨ هـ.

الزجّاجي ، المتوفّىٰ سنة ٣٢٩ هـ.

الجهشياري ، المتوفّىٰ سنة ٣٣١ هـ.

الكندي ، المتوفّىٰ سنة ٣٥٠ هـ.

أبا الفرج الأصبهاني ، المتوفّىٰ سنة ٣٥٦ هـ.

القالي ، المتوفّىٰ سنة ٣٥٦ هـ (١).

قال تعالىٰ : ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاَْرْضِ ) (٢).

صدق الله العليّ العظيم

*                  *                 *

__________________

(١) انظر : مصادر « نهج البلاغة » وأسانيده ، وكذلك : كتاب نهج البلاغة .. لمَن ؟ للشيخ محمّد حسن آل ياسين ; فقد استعنّا به في بيان بعض مطالب هذه المقدّمة.

(٢) سورة الرعد : الآية ١٧.

٣٧

٣٨



الفصل الأوّل

مع الدليمي

في مقدّمته

٣٩

٤٠