تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

ذلك ، إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم (١) ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون. انتهىٰ.

قال سعيد بن سويد : كان عبد الرحمٰن بن شريك إذا حدّث بذلك يقول : هذا والله هو التهتّك (٢) ..

وقال أبو إسحاق السبيعي : إنّ معاوية قال في خطبته في النخيلة : ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدمي هاتين لا أفي به. قال أبو إسحاق : وكان والله غدّاراً (٣).

وفِعل معاوية هذا ، يدلّ علىٰ شدّة تهاونه بالأوامر الإلهية الّتي تلزم المسلم باحترام العهود والوفاء بها ، كقوله تعالىٰ : ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ) (٤) ، وقوله تعالىٰ : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) (٥).

قال الإمام عليّ عليه‌السلام في عهده لمالك الأشتر : « وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة ، أو ألبسته منك ذمّة ، فحِطْ عهدك بالوفاء ، وأرعَ ذمّتك بالأمانة ، واجعل نفسك جُنّة دون ما أعطيت ؛ فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم من تعظيم

__________________

(١) واعتراف معاوية هنا بالسبب الذي من أجله قاتل عليّاً عليه‌السلام يقطع عذر المعتذرين عنه بأنّه إنّما كان يقاتل للطلب بدم عثمان !

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ٤٦.

(٣) المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ / ٢٥١ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ٤٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٥٩ / ١٥٠ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ١٤٧ ، البداية والنهاية ٨ / ١٤٠.

(٤) سورة الإسراء : الآية ٣٤.

(٥) سورة آل عمران : الآية ٧٧.

٢٤١

الوفاء بالعهود ، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين (١) ؛ لِما استوبلوا من عواقب الغدر ، فلا تغدرنّ بذمّتك ، ولا تخيسنّ بعهدك ، فلا تختلف عدوّك ؛ فإنّه لا يجترئ علىٰ الله إلاّ جاهل شقي » (٢).

أمّا كون الإمام الحسن عليه‌السلام قد صالح معاوية ، مسلّماً بخلافته ، وكونه أميراً للمؤمنين ، كما يريد الدليمي أن يوحي للقارئ بذلك ، فهذا ممّا لا يقول به عاقل فضلاً عن فاضل ; فأمر معاوية في البغي والعدوان أشهر من نار علىٰ علم ، أليس هو ـ بنصّ أحاديث الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قائد الفئة الباغية وأمير القاسطين وزعيم الدعاة إلىٰ النار ؟!

وهو الملعون علىٰ لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أكثر من موضع وموضع (٣) ؛ فكيف يكون الباغي والقاسط والملعون خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ المسلمين ، وأميراً للمؤمنين ؟!

اللّهمّ إلاّ إذا اختلّت عقول الناس فباتت ترىٰ الحقّ باطلاً والباطل حقّاً ، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً !! نسأل الله العافية.

وقد ثبت أيضاً أنّ معاوية كان يتطاول علىٰ مقام النبوّة ، بل يسعىٰ جاهداً وهو في سدّة الحكم علىٰ القضاء علىٰ الإسلام نكاية بالنبيّ الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

ففي حديث مطرف بن المغيرة : إنّ معاوية قال للمغيرة بعد أن ذكر ملك أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأنّهم هلكوا فهلك ذكرهم : ... وإنّ أخا

__________________

(١) أي رغم كونهم دون المسلمين في الأخلاق والعقائد ، لكنّهم التزموا بوفاء العهود فيما بينهم ، فالمسلمون أوْلىٰ بالالتزام بذلك.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٠٦.

(٣) ستأتي تخريجاته في الصفحات اللاحقة.

٢٤٢

هاشم يصرخ في كلّ يوم خمس مرّات : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » ، فأيّ عمل يبقىٰ مع هذا لا أُمّ لك ؟! ... والله « دفناً دفناً » (١).

وروى أحمد بن أبي طاهر في كتابه أخبار الملوك : إنّ معاوية سمع المؤذّن يقول : « أشهد أنّ محمّداً رسول الله » فقال : لله أبوك يا بن عبد الله ! لقد كنت عالي الهمّة ، ما رضيت لنفسك إلاّ أن يقرن اسمك باسم ربّ العالمين (٢).

فهذه الأخبار شاهدة علىٰ أنّ معاوية لم يؤمن بالنبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ينظر إليه نظرة أهل الجاهلية في التزاحم علىٰ العناوين والمناصب ، بل إنّ بني أُمية شنّوا حربهم الشعواء علىٰ الإسلام ، قاصدين إيّاه بشخص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الأطهار عليهم‌السلام ; لأنّهم رأوه السبب في هدم بيوتهم ، والتقليل من شأنهم.

ذكر المدائني : عن أبي زكريا العجلاني ، عن أبي حازم العجلاني ، عن أبي هريرة ، قال : حجّ أبو بكر رضي‌الله‌عنه ومعه أبو سفيان بن حرب ، فكلّم أبو بكر أبا سفيان فرفع صوته ، فقال أبو قحافة : خفّض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب !

فقال أبو بكر : يا أبا قحافة ! إنّ الله بنىٰ بالإسلام بيوتاً كانت غير مبنية ، وهدم به بيوتاً كانت في الجاهلية مبنية ، وبيت أبي سفيان ممّا هدم (٣). انتهىٰ.

__________________

(١) النصائح الكافية : ١٢٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٥ / ١٢٩ ، مروج الذهب ٣ / ٤٥٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٠ / ١٠١.

(٣) النزاع والتخاصم : ٥٩.

٢٤٣

وممّا جاء في لعن معاوية علىٰ لسان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أخرج الطبري في تاريخه : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد رأى أبا سفيان مقبلاً علىٰ حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد أبنه يسوق به ، قال : « لعن الله القائد والراكب والسائق » (١).

وعن البرّاء بن عازب : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « اللّهمّ العن التابع والمتبوع ، اللّهمّ عليك بالأقيعس » ، فقال ابن البرّاء لأبيه : مَن الأقيعس ؟ قال : معاوية (٢).

وإلى هذا المعنىٰ أشار محمّد بن أبي بكر في رسالته إلىٰ معاوية بقوله : وأنت اللعين ابن اللعين (٣).

وفي تاريخ الطبري : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يطلع من هذا الفجّ رجلٌ من أُمّتي يُحشر علىٰ غير ملّتي » ، فطلع معاوية (٤).

وفي لفظ ابن مزاحم : « يطلع عليكم من هذا الفجّ رجلٌ يموت حين يموت علىٰ غير سُنّتي » (٥).

وأخرج نصر بن مزاحم في كتاب صِفّين ، والطبري في تاريخه ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ، من طريق أبي سعيد الخدري ، وعبد الله بن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٨ / ١٨٥ ، النصائح الكافية لمَن يتولّىٰ معاوية : ٢٦١.

(٢) وقعة صِفّين : ٢١٧.

(٣) جمهرة رسائل العرب ١ / ٤٧٥ ، مروج الذهب ٢ / ٥٩ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ١٨٩ ، أنساب الأشراف : ٣٩٥ ، النصائح الكافية : ٤٣.

(٤) تاريخ الطبري ٨ / ١٨٦ ، النصائح الكافية : ٢٦١ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٥ / ١٧٦.

(٥) وقعة صفين : ٢٢٠.

٢٤٤

مسعود أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إذا رأيتم معاوية علىٰ منبري فاقتلوه » (١).

ثمّ بعد ذلك انظر إلىٰ خطبة الإمام الحسن عليه‌السلام أمام معاوية في الكوفة ، حين طلب منه الأخير أن يقوم خطيباً ، فقام الإمام عليه‌السلام وقال : « أمّا الخليفة مَن سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه ، وليس الخليفة مَن سار بالجور ، ذلك رجل ملك ملكاً تمتّع به قليلا ثمّ تنخّمه ، تنقطع لذّته وتبقىٰ تبعته ، ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) (٢) » (٣).

قال ابن أبي الحديد : وانصرف الحسن إلىٰ المدينة فأقام بها ، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن عليه شيء أثقل من أمر الحسن بن عليّ ، وسعد بن أبي وقّاص ، فدّس إليهما سُمّاً فماتا منه (٤).

وممّا مرّ ، تجد أنّ الإمام الحسن عليه‌السلام قد عرّف الخليفة في خطبته بأنّه : « مَن سار بكتاب الله وسُنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » ، لا مَن سار بالجَور ، فذلك لا يعدُّ خليفة بل مَلِكاً وطالب إمارة ، كما هو حال معاوية تماماً ، الّذي اعترف بذلك عن نفسه في ما ذكرناه من كلامه سابقاً ، ويعترف بذلك أهل

__________________

(١) وقعة صفين : ٢١٦ ، تاريخ الطبري ٨ / ١٨٦ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ١٤٩ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٥ / ١٧٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٥٩ / ١٥٥ و ١٥٦ ، النصائح الكافية : ٥٨ ، الأنساب ٣ / ٩٥ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٣٦٩.

وهذا الحديث صحيح السند ؛ راجع بيان صحّته من كتب أهل السُنّة في موسوعة الغدير ٨ / ١٤٢ ـ ١٤٨.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ١١١.

(٣) مقاتل الطالبيين : ٤٧ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ٤٩.

وفي رواية محبّ الدين الطبري في ذخائر العقبىٰ : ١٤٠ قال الحسن عليه‌السلام : « يا معاوية ! إنّ الخليفة مَن سار بسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمل بطاعته ، وليس الخليفة مَن دان بالجَور ، وعطّل السُنن واتّخذ الدنيا أُمّاً وأباً ».

(٤) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ٤٩ ; وانظر : كيفية قتل معاوية للحسن السبط عليه‌السلام بالسُمّ في موسوعة الغدير ١١ / ٨ ـ ١٢.

٢٤٥

السُنّة بالإجماع ..

وقد قال الإمام عليّ عليه‌السلام في ما ذُكر له من كلماته القصار في النهج : « السلطان وزعة الله في أرضه » ، أي : إنّ الحاكم الحقّ هو مَن يمنع من مخالفة الشريعة ، والألف واللام هنا في السلطان للجنس (١).

وظلم بني أُمية في حكمهم ، ومعاوية بالذات ، أشهر من أن يخفىٰ أو يُبرّر ، وإن شئت فارجع إلىٰ كلمات الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في نهج البلاغة الّتي يشير فيها إلىٰ جوْر بني أُمية وظلمهم ، كقوله عليه‌السلام : « والله لا يزالون حتّىٰ لا يدعوا لله محرّماً إلاّ استحلُّوه ، ولا عقداً إلاّ حلُّوه ، وحتّىٰ لا يبقىٰ بيت مدر ولا وَبر إلاّ دخله ظلمُهم » (٢).

كما روي عن الحسن عليه‌السلام قوله في بني أُمية : « إنّ بني أُمية هم الشجرة الملعونة في القرآن. قال عليه‌السلام : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع له ملك بني أُمية فنظر إليهم يعلون منبره واحداً واحداً فشقّ ذلك عليه فأنزل الله تعالىٰ في ذلك قرآناً ، قال : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٣) » (٤).

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٤ / ٧٨.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٩٠ ..

وانظر : الغدير ١٠ / ١٧٨ وما بعدها ؛ لتقف علىٰ مخالفات معاوية للكتاب والسُنّة واستهزائه بهما.

وقد أخرج الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة حديثاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : أوّل من يغيّر سُنّتي رجلٌ من بني أُمية. انتهىٰ.

(٣) سورة الإسراء : الآية ٦٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٥ / ١٧٥ و ١٦ / ١٦ ، شواهد التنزيل

٢٤٦

أقول :

فكيف يكون معاوية ، بعد كلّ الّذي ذكرناه عنه ، خليفةً للمسلمين وأميراً للمؤمنين ؟!

إنّما الرجل قاتل من أجل المُلك والإمارة ، كما اعترف لأهل العراق بنفسه ، وكما أقرّ الكاتب بذلك في أوّل ادّعائه بأنّ الخلاف كان سياسياً لا دينياً ، أي لأجل الكرسي والمنصب ، وليس له علاقة من قريب أو بعيد بالشريعة أو المحافظة علىٰ تطبيقها ..

بل لو اطّلعت علىٰ سيرة معاوية الّتي كتبها المسلمون لا تجد عنده شيئاً من خصال المؤمنين ; ودونك ما كتبناه عنه في هذا العرض الموجز ، أو ما أرشدناك إليه من المصادر ..

بل إنّ الناظر بتمعّن وتدقيق يجد أنّ صلح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية ، من حيث الأهداف والنتائج ، يشبه الصلح الّذي أقامه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مشركي قريش وقائدهم أبو سفيان ـ والد معاوية ـ في الحديبية ، وإن شئت الزيادة في البحث والاطّلاع بشأن صلح الإمام الحسن عليه‌السلام بشكل أكثر تفصيلاً فارجع إلىٰ كتابي العلمين : الشيخ مرتضىٰ آل ياسين ، والشيخ باقر شريف القرشي ; فإنّك ستجد ما ينفعك في المقام إن شاء الله تعالىٰ.

*                  *                 *

__________________

٢ / ٤٥٧ ، تفسير القرطبي ١٠ / ٢٨٢ و ٢٨٦ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٥٢ ، الدرّ المنثور ٤ / ١٩١ ، تاريخ الطبري ٨ / ١٨٥ ; قال الطبري : ولا اختلاف بين أحد أنّه أراد بها بني أُمية.

٢٤٧

٢٤٨



الفصل السابع



علوم الإمام عليه‌السلام

وأهل بيته عليهم‌السلام

٢٤٩

٢٥٠



قال الدليمي :

« علم الغيب من العلوم الّتي اختصّ الله بها فلا يعلم أحد الغيب إلاّ الله ، وهذا المعلوم من الدين بالضرورة ، وقد جاءت الآيات القرآنية قاطعة في الدلالة علىٰ ذلك ، وكذلك الأحاديث النبوية ، قال تعالىٰ : ( قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (١) ، ومن أسماء الله الحسنىٰ الخاصة به تعالىٰ : « عالم الغيب » و « علاّم الغيوب ».

والنبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئاً ممّا غاب عنه إلاّ ما علّمه الله إيّاه عن طريق الوحي ، الّذي انقطع بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالىٰ : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) (٢) ؛ فالاستثناء في بعض أُمور الغيب خاصّ بالأنبياء.

جاء في ( نهج البلاغة ) ما يلي : قال له بعض أصحابه : لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب ؟ فضحك عليه‌السلام وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ : ( يا أخا كلب ! ليس هو بعلم غيب ، وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب هو علم الساعة وما عدّد الله سبحانه بقوله : ( إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٦٥.

(٢) سورة الجنّ : الآيتان ٢٦ و ٢٧.

٢٥١

السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (١) ، فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أُنثىٰ ، وقبيح أو جميل ، وسخي أو بخيل ، وشقي أو سعيد ، ومَن يكون في النار حطباً أو في الجنان للنبيّين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الّذي لا يعلمه أحد إلاّ الله ، وما سوىٰ ذلك فعلّمه الله نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطمّ عليه جوانحي ). ج ٢ ص ١٠ ـ ١١.

ـ قال : ـ ومع هذا كلّه نجد مَن ينسب إلىٰ عليّ والأئمّة أنّهم يعلمون متىٰ يموتون ، وأنّهم لا يموتون إلاّ باختيارهم ، ويعلمون علم ما كان وما سيكون إلىٰ قيام الساعة ، وما يحدث في أقطار السماوات والأرض ما دون العرش إلىٰ تحت الثرى ، وما في الأنفس وما تخفي الصدور ، وعندهم أسماء أهل الجنّة وأهل النار ، بل يعلمون جميع العلوم الدينية والدنيوية ، وجميع لغات أهل الأرض من الجنّ والإنس والطير والهوام ، ومن دون تعلّم علىٰ ذي علم » (٢).

أقول :

لم يذكر لنا الكاتب هنا اسم الشخص الّذي ينسب هذه العلوم إلىٰ عليّ والأئمّة عليهم‌السلام بأنّها عندهم من دون تعلّم علىٰ ذي علم ، ولم يشر إلىٰ كتاب ذكر ذلك ، وترك كلماته هنا مجملة تخاطب الأوهام الّتي ربّما يطمع منها بالحصول علىٰ تعريض بأحد ما ولو علىٰ سبيل الوهم !!

__________________

(١) سورة لقمان : الآية ٣٤.

(٢) ص ٢٣ ، ٢٤.

٢٥٢

ومع ذلك نقول في بيان هذا الموضوع بشكل علمي :

ثبت أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورث علوم الأنبياء جميعها ، وكان يعلم علم ما كان وما هو كائن إلىٰ يوم القيامة (١).

وثبت أنّ الإمام عليّ عليه‌السلام هو وارث علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم عليّاً عليه‌السلام ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب (٣) ..

قال الفخر الرازي في تفسيره الكبير في ذيل تفسير قوله تعالىٰ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٤) : قال عليّ : علّمني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألف باب من الله ، واستنبطت من كلّ

__________________

(١) صحيح مسلم ٨ / ١٧٢ كتاب الفتن ، سُنن أبي داود ٢ / ٢٩٩ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٤ / ٥٣٣ وصحّحه ، صحيح ابن حبّان ١٥ / ٥.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٦ وصحّحه ، ووافقه الذهبي كما في تلخيص المستدرك ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٤ ؛ قال الهيثمي : رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح ، فتح الملك العليّ : ٥٢ ، المعجم الكبير ١٩ / ٤٠ ، كنز العمّال ١٣ / ١٤٣ ، خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام : ١٠٨ ؛ وفيه يقول السائل لقثم بن العبّاس : من أين ورث عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال : إنّه كان أوّلنا به لحوقاً ، وأشدّنا به لزوقاً. انتهىٰ ..

أقول : ولا يخفىٰ أنّ المراد هنا : وراثة العلم ، دون وراثة المال ; لأنّ الثاني يُستحق بالنسب ( وهذا مفصّل في كتب الفقه ) دون أولوية اللحوق أو شدّة اللزوق.

(٣) تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٨٥ ، كنز العمّال ١٣ / ١١٥ ، ميزان الاعتدال ٢ / ٤٨٣ ; يرويه بسند فيه كامل بن طلحة عن ابن لهيعة. قال الذهبي : كامل صدوق. وقال ابن عدي : لعلّ البلاء فيه من ابن لهيعة ; فإنّه مفرط في التشيّع. انتهىٰ.

قلنا : الأصل في الموضوع الصدق والإتقان ؛ فانظر توثيق ابن لهيعة وإطراء العلماء عليه في تهذيب الكمال ١٥ / ٤٩٤ ، وتاريخ دمشق ٣٢ / ١٤٣ و ١٤٤.

(٤) سورة آل عمران : الآية ٣٣.

٢٥٣

باب ألف باب (١). انتهىٰ.

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمَن أراد المدينة فليأت الباب » (٢).

وثبت أيضاً أنّ الأئمّة من ولد عليّ عليهم‌السلام رُزقوا علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفهمه ، وأنّ النبيّ أمر المسلمين بموالاتهم والاقتداء بهم من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

أخرج الطبراني في المعجم الكبير ، والرافعي في مسنده بالإسناد إلىٰ ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليوالِ عليّاً من بعدي ، وليوالِ وليّه ، وليقتدِ بأهل بيتي من بعدي ; فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، ورُزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذّبين فيهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي » (٣).

وهم عليهم‌السلام المقصودون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في بعض ما ورد من ألفاظ حديث الثقلين : القرآن والعترة ـ : « فلا تقدّموهما فتهلكوا ، ولا تقصّروا

__________________

(١) التفسير الكبير ٨ / ٢٠٠.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٢٦ و ١٢٧ وصحّحه ، المعجم الكبير ١١ / ٥٥ ، الجامع الصغير ١ / ٤١٥ ، كنز العمّال ١١ / ٦٠٠ عن العقيلي ، والطبراني والحاكم عن ابن عبّاس ، وعن ابن عدي في الكامل والحاكم عن جابر : ١١ / ٦١٤ عن أبي نعيم في المعرفة عن عليّ ، فتح الملك العليّ بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ عليه‌السلام : ١٠ ، دفع الارتياب عن حديث الباب : ٥٨ ، فيض القدير ٣ / ٦٠ ; وينقل تصحيح الحاكم وأبو الشيخ للحديث ، وتحسين العلائي والزركشي ، واعتراف ابن حجر بأنّ للحديث أصلاً.

(٣) هذا الحديث بعين لفظه هو الحديث ٣٤١٩٨ من أحاديث كنز العمّال ١٢ / ١٠٣ ; وانظر : ص ١٧٣ هـ ١ من هذا الكتاب.

٢٥٤

عنهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم » (١).

فالعلوم الّتي أشار إليها الدليمي عند أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام إنّما ورثوها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; بدلالة الأحاديث السابقة ..

وقد كان من علوم الأنبياء السابقين الّتي أشار إليها القرآن الكريم وورثها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معرفتهم بلغة الطير والجنّ والنمل ، كما هو المعلوم عن داود وسليمان عليهما‌السلام (٢).

وإنّهم كانوا يُخبرون الناس بما يدّخرون في بيوتهم ، كما هو المعلوم عن عيسىٰ عليه‌السلام (٣).

وغير ذلك من العلوم ; فهي تعلّم من ذي علم ، كما مرّ في كلام الإمام عليه‌السلام للكلبي ، الّذي نقله الدليمي سابقاً.

وأمّا مَن قال بغير ذلك ، أي : إنّ علوم الأئمّة من دون تعلّم علىٰ ذي علم ، فهو جاهل لا يعي ما يقول ، ولا يستند في قوله إلىٰ دليل.

وسنذكر هنا علىٰ سبيل الإيجاز لا التفصيل بعض ممّا جاء في نهج البلاغة فقط ، ممّا يمكن أن نستدلّ به علىٰ علم الإمام عليه‌السلام بالمغيبات إضافة لِما ذكر سابقاً (٤) ..

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ٨٩ و ١٣٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٤ ، المعجم الكبير ٣ / ٦٦ ، ٥ / ١٦٧ ، كنز العمّال ١ / ١٨٦ و ١٨٨ ، فضل آل البيت : ١٣٢ ، سبل الهدىٰ والرشاد ١ / ٢٢٣ ، قال الصالحي الشامي : رواه البيهقي في المدخل ، وحسّن العراقي إسناده.

(٢) المصرّح به في الآيات ١٥ ـ ١٩ من سورة النحل.

(٣) المصرّح به في الآية ٤٩ من سورة آل عمران.

(٤) يجب ملاحظة أنّ ما نفاه الإمام عليه‌السلام عن نفسه من علم الغيب ، في حديث الكلبي ، إنّما هو العلم الذاتي لا العلم الحصولي الّذي يكون تعلّم من ذي علم ، كما عبّر الإمام عليه‌السلام عن ذلك.

٢٥٥

قال عليه‌السلام : « فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي مائة ، وتضلّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها (١) ، وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحطّ رحالها ، ومَن يُقتل من أهلها قتلاً ، ويموت منهم موتاً » (٢).

فهذا النصّ كاف لوحده في إثبات نسبة العلوم الّتي أشار إليها الكاتب سابقاً ، بأنّ أهل البيت عليهم‌السلام يعلمون متىٰ يموتون ، وأنّهم يعلمون علم ما كان وما سيكون إلىٰ قيام الساعة ، وعندهم أسماء أهل الجنّة وأهل النار ... إلىٰ غير ذلك.

فالنصّ المذكور صريح بعلم الإمام عليه‌السلام بما هو كائن إلىٰ يوم القيامة ، ومعرفة العلوم المستقبلية أصعب من معرفة علوم الماضي ، الّتي يمكن الحصول عليها من كتب التاريخ أو أحاديث الرواة مثلاً ، ذلك لو قلنا : إنّ الإمام عليه‌السلام يعلم العلوم المستقبلية فقط حسب هذا النصّ ; كيف وقد ثبت أنّه وارث علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّذي يعلم ما كان وما هو كائن إلىٰ يوم القيامة ؟!

كما أنّ معرفة أهل الجنّة وأهل النار نستطيع أن نستدلّ عليها من قوله عليه‌السلام : « ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة ... » المستفاد منه أنّ المهتدين سيكونون من أهل الجنّة والضالّين من أهل النار ، وكلّ هؤلاء يعرفهم الإمام عليه‌السلام ؛ كما هو ظاهر النصّ.

أمّا معرفته عليه‌السلام بموته فنستفيدها من قوله : « ومَن يُقتل من أهلها

__________________

(١) ناعقها : الداعي إليها ; مَن نعق بغنمه : صاح بها لتجتمع.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٢ ..

وأيضاً انظر : المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٨ / ٦٩٨.

٢٥٦

قتلاً ، ويموت منهم موتاً ... » ، فإنّ الّذي يعرف كيفية موت الناس ما بينه وبين القيامة ، يعرف كيفية موته وموعده ؛ لأنّه واحد من هؤلاء الناس قطعاً .. ( ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ـ من عباده ـ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) (١).

وجاء في نهج البلاغة أيضاً قوله عليه‌السلام : « أيّها الناس ! سلوني قبل أن تفقدوني ; فلأنا بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض ، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها (٢) ، وتذهب بأحلام قومها ».

قال الشيخ محمّد عبده في شرحه : أمّا قوله عليه‌السلام : « فلأنا بطرق السماء أعلم منّي ... الخ » ، فالقصد به : أنّه في العلوم الملكوتية والمعارف الإلهية أوسع إحاطة منه بالعلوم الصناعية ، وفي تلك مزية العقول العالية ، والنفوس الرفيعة ، وبها ينال الرشد ويستضيء الفكر (٣).

قال ابن حجر في فتح الباري : عن أبي الطفيل ، قال : شهدت عليّاً وهو يخطب ، وهو يقول : « سلوني ! فو الله لا تسألوني عن شيء يكون إلىٰ يوم القيامة إلاّ حدّثتكم به ، وسلوني عن كتاب الله ! فو الله ما من آية إلاّ وأنا أعلم أبليل أُنزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل ».

فقال ابن الكوّاء ، وأنا بينه وبين عليّ وهو خلفي ، فقال : ما الذاريات ذرواً ؟ فذكر مثله وقال فيه : « ويلك ! سلْ تفقّهاً ولا تسأل تعنّتاً » (٤).

__________________

(١) سورة الجمعة : الآية ٤.

(٢) شغر برجله : رفعها ; والجملة كناية عن كثرة مداخل الفساد فيها.

وتطأ في خطامها : أي تتعثّر فيه ؛ كناية عن إرسالها وطيشها وعدم وجود قائد لها.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٣٠.

(٤) فتح الباري ٨ / ٤٥٩ ؛ وانظر : تفسير القرآن ـ للصنعاني ـ ٣/٢٤١ ، تفسير الطبري

٢٥٧

وفي كنز العمّال للمتّقي الهندي ، قال : عن أبي المعتمر مسلم بن أوس وجارية بن قدّامة السعدي ، أنّهما حضرا عليّ بن أبي طالب يخطب وهو يقول : « سلوني قبل أن تفقدوني ! فإنّي لا أُسأل عن شيء دون العرش إلاّ أخبرت عنه » (١).

تعليق من الكاتب وتعقيب عليه :

ذكر الكاتب في هذا الجانب رواية جاء بها من كتاب الكافي علّق عليها تعليقاً كشف به عن جهله بعلم البلاغة !

قال : « باب : إنّ الأئمّة عليهم‌السلام يعلمون علم ما كان وما يكون وأنّه لا يخفىٰ عليهم الشيء صلوات الله عليهم : عن سيف التمّار ، قال : كنّا مع أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة من الشيعة في الحجر ، فقال : ( علينا عين ؟ ) فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحداً ، فقلنا : ليس علينا عين. فقال : ( وربّ الكعبة وربّ البنية ـ ثلاث مرّات ـ لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما ؛ لأنّ موسى والخضر عليهما‌السلام أُعطيا علم ما كان ، ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتّىٰ تقوم الساعة ، وقد ورثناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وراثةً ) (٢).

ـ قال : ـ انظر إلىٰ التناقض بين أوّل الحديث ; حيث يسأل أبو عبد الله ـ كما ينسب إليه ـ هل علينا عين ؟ وبين دعواهم فيه أنّه يعلم ما كان وهو

__________________

١٣ / ٢٨٩ ، تفسير القرطبي ١ / ٣٥ ، تفسير الثعالبي ١ / ٥٢ ، تهذيب الكمال ٢٠ / ٤٨٦ ، تهذيب التهذيب ٧ / ٢٩٧ ، الإصابة ٤ / ٤٦٧.

(١) كنز العمّال ١٣ / ١٦٦ ; يرويه عن ابن النجّار ، شواهد التنزيل ١ / ٤٢.

(٢) أُصول الكافي ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١.

٢٥٨

كائن ، فلماذا يسأل إذا كان كذلك ؟ » (١).

أقول :

إنّ المعنىٰ الوارد في الرواية يطابق تماماً ما نقلناه سابقاً عن الطبراني في المعجم الكبير ، والرافعي في المسند ، وما ذكره المتّقي الهندي في كنز العمّال ، إلاّ أنّ الّذي غاب عن الدليمي إدراكه هنا بأن ليس كلّ استفهام يرد في الكلام يكون المراد منه طلب العلم بمجهول ، فالاستفهام قد يرد لمطالب وغايات كثيرة غير طلب العلم والمعرفة ; كما هو مفصّل في علم البلاغة.

قال الهاشمي في جواهر البلاغة : وقد تخرج ألفاظ الاستفهام عن معناها الأصلي ( وهو طلب العلم بمجهول ) فيستفهم بها عن شيء مع ( العلم به ) ؛ لأغراض أُخرىٰ تُفهم من سياق الكلام ودلالته. ومن أهمّ ذلك :

١ ـ الأمر ؛ كقوله تعالىٰ : ( فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) ، أي : انتهوا.

٢ ـ النهي ؛ كقوله تعالىٰ : ( أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ ) ، أي : لا تخشوهم ! فالله أحقّ أن تخشوه ...

إلىٰ آخر الأغراض ، الّتي عدّ منها الهاشمي في كتابه ما يقرب من عشرين غرضاً ، كـ : التسوية ، والنفي ، والإنكار ، والتشويق ، والاستئناس ، والتقرير ، والتهويل ، وغيرها (٢) ...

فهل يستطيع أحد أن يقول : إنّ المراد من الاستفهام الوارد في الآية

__________________

(١) ص ٢٥.

(٢) راجع : كتاب الهاشمي جواهر البلاغة : ٩٣ ـ ٩٥ ؛ لتقف علىٰ بقيّة الأغراض وأمثلتها.

٢٥٩

الكريمة : ( وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ ) هو : طلب العلم بمجهول ؛ فينسب بذلك الجهل لله سبحانه ؟! تعالىٰ الله عن ذلك.

فللاستفهام أغراض متعدّدة يطلبها المتكلّم في كلامه ، ويبقىٰ تعيين الغرض يستند إلىٰ القرينة ودلائل المقام.

والاستفهام في حديث الإمام الصادق عليه‌السلام المذكور يرد مورد تنبيه وتعليم الإمام عليه‌السلام الحذر لأصحابه ، بأن لا يتكلّم أحدهم كلاماً ككلامه عليه‌السلام في مثل هذه الأُمور وهناك مَن يتجسّس عليه ممّن لا يأمن شرّه وفتنته من أهل الخلاف ، أو من ضعيفي الإيمان ، ممّن تنقدح الشبهات في ذهنه لأدنىٰ عارض.

وفي الرواية نفسها قرينة دالّة علىٰ علم الإمام عليه‌السلام بما سأل عنه ؛ لأنّ الرواي صرّح بقوله : التفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحداً. فممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليه‌السلام كان يرىٰ ما علىٰ يمين مخاطبيه ويسارهم ، وإنّما سألهم ذلك ليعلّمهم الحذر من الدخلاء عندما يتكلّمون بالعلوم الخاصة.

وهذا الحذر من اطّلاع الناس غير المؤهّلين علىٰ بعض العلوم تؤكّده سيرة الأئمّة عليهم‌السلام ؛ فها هو عليّ عليه‌السلام يقول : « اندمجت علىٰ مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوىٰ البعيدة » (١).

وقال عليه‌السلام لكميل بن زياد : « إنّ ها هنا لعلماً جمّاً ـ وأشار بيده إلىٰ صدره ـ لو أصبت له حملة ! بلىٰ أصبت لقناً غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدين للدنيا ، ومستظهراً بنِعم الله علىٰ عباده ، وبحججه علىٰ أوليائه ، أو منقاداً لحملة الحقّ ، لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشكّ في قلبه لأوّل

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٤١ ; والأرشية : جمع رشاء ، بمعنىٰ : الحبل. والطوىٰ : جمع طوية ، بمعنىٰ : البئر.

٢٦٠