تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أن يغفره إلاّ الرجل يموت كافراً أو الرجل يَقتل مؤمناً متعمّداً » (١).

وبعد كلّ الّذي ذكرناه عن معاوية ، أقول :

حتّى هذه التسمية ، أي تسمية إخواننا العامّة بـ : « أهل السُنّة والجماعة » ، هي في الواقع من مخلّفات الأُمويّين وآثارهم ، كما هو الظاهر من التاريخ ، وهو الأمر الّذي سنأتي علىٰ بيانه في الملاحظة القادمة عند متابعتنا لقراءة الكاتب في نهج البلاغة وتصحيحها.

ثمّ بعد هذا ، لم أفهم ماذا يريد الكاتب بإخراج هذه القضية من الدين وإدخالها في السياسة ؟!

هل تراه يعني بالدين : ما يتعلّق بشؤون العبادات فقط ، كالصلاة والصوم والحجّ والزكاة وما شابه ، وما يتعلّق بشؤون الحكم والحكّام فهو خارج عنه وينطوي تحت زاوية أُخرىٰ يسمّيها : السياسة ؟!

فإن كان المعنىٰ عنده بهذه الصورة ، فعليه أن يراجع عقيدته في هذا الموضوع مرّة ثانية ; لأنّ الإسلام ـ في الواقع ـ لا يوجد فيه فصل بين الدين والسياسة ، وإنّما السياسة جزء من الدين ، بل هي من أهمّ شؤونه وأركانه.

ولنا في آيات القرآن الكريم الواردة في هذا المورد ، وسيرة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دلالة وأُسوة حسنة ..

قال تبارك وتعالىٰ : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ... فَأُولَٰئِكَ هُمُ لظَّٰلِمُونَ ... فَأُولَِٰكَ هُمُ لْفَٰسِقُونَ ) (٢).

__________________

(١) مسند أحمد ٤ / ٩٩ ، سُنن أبي داود ٢ / ٣٠٧ عن أبي الدرداء ، سُنن النسائي ٧ / ٨١.

وانظر : الغدير ١١ / ٤٧ وما بعدها ; لتطّلع علىٰ قصّة حِجر بن عدي وكيفية قتله هو وأصحابه من قبل معاوية.

(٢) سورة المائدة : الآيات ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

٢٢١

وقال تعالىٰ : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِ ) (١).

وقال تعالىٰ : ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) (٢).

وقال تعالىٰ : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٣).

وقال تعالىٰ : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) (٤).

إلىٰ غير ذلك من الآيات الواردة حول شؤون الحكم وإدارة البلاد (٥).

ودعوىٰ الفصل بين الدين والسياسة ، والّتي تُدعىٰ في المصطلح الحديث بـ : « العلمانية » ، هي في الواقع دعوىٰ غربية ، ظهرت فى أوربا بعد الثورة الفرنسية ، ثمّ انتقلت إلىٰ العرب في ما انتقل إليهم من أفكار ودعاوىٰ غربية بعيدة عن روح الشريعة الإسلامية.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٤٨.

(٢) سورة المائدة : الآية ٤٩.

(٣) سورة المائدة : الآية ٥٠.

(٤) سورة النساء : الآية ٦٠.

(٥) راجع : كتاب علم أُصول الفقه ـ للشيخ عبد الوهاب خلاف ـ ص ٧٠ وما بعدها ، تجد أنّه ذكر نحواً من (١٠) آيات في الأحكام المتعلّقة بنظام الحكم وواجبات كلّ من الحاكم والمحكوم ، ونحو (٢٥) آية في علاقة الدولة مع الدول الأُخرىٰ ومع رعاياها ، ونحو (١٠) آيات تتعلّق بموارد الدولة ونفقاتها.

٢٢٢

أمّا قول الدليمي :

« وعلينا أن نرجع جميعاً إلىٰ الدين الواحد ، الّذي كان عليه عليّ ومعاوية ، وهو دين الإسلام ، فالدين واحد ، والربّ واحد ، والنبيّ واحد ، والدعوة واحدة ; فعلامَ الخلاف ؟! » ..

ففيه مغالطة واضحة ؛ لأنّ الدين الواحد والربّ الواحد والنبيّ الواحد لم يمنعوا معاوية من الخروج علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام ومقاتلته وتأليب الناس عليه ، ممّا يدلّ علىٰ أنّ الدعوة ليست واحدة ، وإنّما كانت هناك دعوتان أو معسكران في الإسلام : معسكر يدعو إلىٰ الجنّة ، يمثّله أمير المؤمنين عليه‌السلام وأتباعه ، ومعسكر يدعو إلىٰ النار ، يمثّله معاوية وأتباعه.

وقد بيّن ذلك النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقاله عن عمّار بن ياسر الّذي كان يقاتل مع جيش أمير المؤمنين عليه‌السلام في صِفّين ضدّ جيش معاوية ، في ما رواه البخاري : « ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلىٰ الجنّة ويدعونه إلىٰ النار » (١).

وقد كان عمّار بن ياسر يقول يوم صِفّين : « يا أهل الإسلام ! أتريدون أن تنظروا إلىٰ مَن عادىٰ الله ورسوله وجاهدهما ، وبغىٰ علىٰ المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلمّا أراد أن يظهر دينه وينصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو والله في ما يرىٰ راهب غير راغب ، وقبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّا والله لنعرفه بعداوة المسلم ومودّة المجرم ؟!

ألا وإنّه : معاوية ، فالعنوه ; لعنه الله ، وقاتلوه ; فإنّه ممّن يطفئ

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ـ كتاب الصلاة ، وكتاب الجهاد والسير.

٢٢٣

نور الله ، ويظاهر أعداء الله » (١).

قال الدليمي :

« ومن كلام له عليه‌السلام وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصِفّين : ( إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان سبّكم إيّاهم : اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم ، واصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّىٰ يعرف الحقّ مَن جهله ، ويرعوي من الغي والعدوان من لهج به ). ج ٢ ص ١٨٥ ـ ١٨٦ ..

ـ قال : ـ فتأمّل كيف يدعو لهم وينهى عن سبّهم » (٢).

أقول :

قال ابن أبي الحديد في شرحه لهذه الكلمات الواردة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : السبّ الشتم ، والتساب التشاتم ... والّذي كرهه عليه‌السلام منهم : أنّهم كانوا يشتمون أهل الشام ، ولم يكن يكره منهم لعنهم إيّاهم والبراءة منهم.

لا كما يتوهّمه قوم من الحشوية فيقولون : لا يجوز لعن أحد ممّن عليه اسم الإسلام ، وينكرون علىٰ مَن يلعن ، ومنهم مَن يغالي في ذلك فيقول : لا ألعن الكافر ولا ألعن إبليس ، وإنّ الله تعالىٰ لا يقول لأحد يوم القيامة : لِمَ لم تلعن ؟ وإنّما يقول : لِمَ لعنت ؟

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبري ٤ / ٨ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١٣٦ ، وقعة صِفّين : ٢١٤.

(٢) ص ٢٠.

٢٢٤

واعلم أنّ هذا خلاف نصّ الكتاب ; لأنّه تعالىٰ قال : ( إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) (١).

وقال : ( أُولَٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) (٢).

وقال في إبليس : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ ) (٣).

وقال : ( مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ) (٤).

وفي كتاب الله العزيز من ذلك الكثير الواسع ..

وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرّي ممّن يجب التبرّي منه ؟

ألم يسمع هؤلاء قول الله تعالىٰ : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَ‌ٰهِيمَ وَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَ‌ٰؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ للهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ لْعَدَ‌ٰوَةُ وَلْبَغْضَآءُ أَبَدًا ) (٥)؟!

وإنّما يجب النظر في مَن اشتبهت حاله ; فإن كان قد قارف كبيرة من الذنوب يستحقّ به اللعن والبراءة ، فلا ضير علىٰ مَن يلعنه ويبرأ منه ، وإن لم يكن قد قارف كبيرة لم يجز لعنه ولا البراءة منه ، وممّا يدلّ علىٰ أنّ مَن عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه بل يجب في وقت ، قول الله تعالىٰ : ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَلْخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ للهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ لْكَٰذِبِينَ ) (٦).

وقال تعالىٰ في القذف : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٦٤.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٥٩.

(٣) سورة ص : الآية ٧٨.

(٤) سورة الأحزاب : الآية ٦١.

(٥) سورة الممتحنة : الآية ٤.

(٦) سورة النور : الآيتان ٦ و ٧.

٢٢٥

الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (١).

فهاتان الآيتان في المكلّفين من أهل القبلة ، والآيات التي قبلها في الكافرين والمنافقين ...

ـ ثمّ قال : ـ والّذي نهى عنه أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّهم كانوا يشتمونهم بالآباء والأُمّهات ، ومنهم مَن يطعن في نسب قوم منهم ، ومنهم مَن يذكرهم باللؤم ، ومنهم مَن يعيّرهم بالجُبن والبخل وبأنواع الأهاجي الّتي يتهاجىٰ بها الشعراء وأساليبهم معلومة ؛ فنهاهم عليه‌السلام عن ذلك وقال : « إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكن الأصوب أن تصفوا أعمالهم وتذكروا حالهم » ، أي : أن تقولوا : إنّهم فسّاق ، وإنّهم أهل ضلال وباطل ، ثمّ قال : اجعلوا عوض سبّهم أن تقولوا : اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم ... (٢).

ودعوته عليه‌السلام هنا وتأديبه لشيعته وأتباعه بدعاء الله عزّ وجلّ لهداية أعدائه هما في الواقع من خُلُق القرآن ، وخلق الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّذي كان يدعو الله لقومه ـ رغم شدّة محاربتهم له ـ بالهداية ، ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو الله سبحانه للانتقام منهم ، أو لاجتثاثهم من جديد الأرض.

والإمام عليّ عليه‌السلام ربيب ذلك الخُلق العظيم ; فقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه : « عليّ منّي وأنا من عليّ » (٣) ..

__________________

(١) سورة النور : الآية ٢٣.

(٢) راجع تمام كلامه عليه‌السلام في : ١١ / ٨ من شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١١٩ وصحّحه ، ولم يتعقّبه الذهبي بشيء ، خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٩٠ و ٩٨ ، تحفة الأحوذي في شرح سُنن الترمذي ١٠ / ١٥٢ ؛ قال المباركفوري : قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح ، ثمّ قال : وأخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة.

٢٢٦

بل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدّه كنفسه المقدّسة عنده ; ففي حديث صحيح رواه الحاكم : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : « أيّها الناس ! إنّي لكم فرط ، وإنّي أُوصيكم بعترتي خيراً ، موعدكم الحوض ، والّذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ولتُؤتُنَّ الزكاة أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّي أو كنفسي ، فليضربنّ أعناق مقاتليهم ، وليسبينّ ذراريهم » ، قال : فرأىٰ الناس أنّه يعني أبا بكر أو عمر ، فأخذ بيد عليّ فقال : « هذا » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّىٰ يردا علَيَّ الحوض » (٢).

وأقول :

هذا الخُلق الرفيع لعليّ عليه‌السلام مع أعدائه لا يعني صوابية موقف أعدائه ، بل للمسلم أن يتساءل : ماذا كان مقابل خُلق عليّ عليه‌السلام وتأديبه شيعته وأتباعه من خُلق معاوية وتأديبه شيعته وأتباعه (٣) ؟

اتّفق المؤرخّون ورواة السير أنّ معاوية كان يصعد المنبر ويلعن

__________________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين ٢ / ١٣١ وصحّحه ، مسند أبي يعلى ٢ / ١٦٦ ، الرياض النضرة ٣ / ١١٩ و ١٢٠ ، المعجم الأوسط ٤ / ١٣٣ ، مجمع الزوائد ٧ / ١١٠ و ٩ / ١٦٣ ، خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٨٩.

(٢) سبق ذكر مصادره في ص ١٥٩.

(٣) الّذين يصرّ الدليمي علىٰ الاعتذار لهم دائماً باسم الإسلام ، ولا ينكر عليهم بشيء ، بعكس ما يفعله مع شيعة عليّ عليه‌السلام ; فإنّه ينكر عليهم كلّ شيء !!

إنّ هذا ليعدّ من التطفيف ، وخلاف العدالة ، وقد حذّر الله من التطفيف ، وتوعّد المطفّفين بقوله سبحانه : ( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ). سورة المطففين : الآية ١.

فليحذر الإنسان من الكيل بمكيالين في أُموره كلّها ، المادية منها والمعنوية ؛ فإنّ الله تعالىٰ بالمرصاد !

٢٢٧

عليّاً عليه‌السلام ، وأنّه فعل ذلك لتقتدي به الأُمّة وتلعن الإمام كما لعنه (١).

ولم يكتفِ هذا الصحابي ـ العادل عند أهل السُنّة ـ بما فعل ، إنّما أصدر أوامره لرعيته بأن يسبّوا عليّاً بن أبي طالب عليه‌السلام (٢). وابتغاءً لمرضاة معاوية كان عمّاله يسبّون عليّاً عليه‌السلام (٣).

وهكذا صار سبّ أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير ; قال المسعودي في مروج الذهب عند ذكره لأتباع معاوية واشتدادهم في طاعته : ثمّ ارتقىٰ بهم الأمر في طاعته إلىٰ أن جعلوا لعن عليّ سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير (٤).

وقال ابن حجر في فتح الباري : ثمّ اشتدّ الخطب فتنقّصوه واتّخذوا لعنه علىٰ المنابر سُنّة ، ووافقتهم الخوارج علىٰ بغضه (٥). انتهىٰ.

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار : إنّه كان في أيّام بني أُمية أكثر من سبعين ألف منبر يُلعن عليها عليّ بن أبي طالب بما سنّه لهم معاوية من ذلك (٦).

وقال الحموي في معجم البلدان : لُعن عليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه علىٰ

__________________

(١) راجع : العقد الفريد ـ لابن عبد ربّه الأندلسي ـ ٤ / ٣٦٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٣٥٦ و ٣ / ٢٥٨.

(٢) صحيح مسلم ٧ / ١٢٠ كتاب الفضائل ، باب : من فضائل عليّ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣٠١ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٠٩ وصحّحه.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ١ / ٥٤١ ، مسند أحمد ٤ / ٣٦٩ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٢٤ ، تاريخ الخلفاء : ٢٣٢.

(٤) مروج الذهب ٣ / ٤٢.

(٥) فتح الباري ٧ / ٥٧.

(٦) الغدير ٢ / ١٢٠ ، نقلا عن الزمخشري والسيوطي.

٢٢٨

منابر الشرق والغرب (١).

وروىٰ الجاحظ ـ في ما حكاه عنه ابن أبي الحديد في شرح النهج ـ : أنّ قوماً من بني أُمية قالوا لمعاوية : يا أمير المؤمنين ! إنّك قد بلغت ما أمّلت فلو كففت عن لعن هذا الرجل.

فقال : لا والله حتّىٰ يربَو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً (٢).

وقال العلاّمة العلوي الهدار الحدّاد في كتابه القول الفصل ما لفظه : وكـ : نداء أهل الشام وصياحهم لعمر بن عبد العزيز لمّا ترك لعن عليّ عليه‌السلام في الخطبة : السُنّة السُنّة ! تركت السُنّة يا أمير المؤمنين ...

وقال بعد ذلك : وتلك قاعدة الجوزجاني الشافعي في مَن لا يلعن عليّاً عليه‌السلام ; أي : يعتبره تاركاً للسُنّة (٣) ... انتهى (٤).

__________________

(١) معجم البلدان ٣ / ١٩١.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٥٧.

(٣) القول الفصل ٢ / ٣٨٤ ، نقلاً عن شرح إحقاق الحقّ ـ للمرعشي ـ ٣ / ٤٠٨ ؛ وانظر : النصائح الكافية : ١١٦.

(٤) وكان عمر بن عبد العزيز الوحيد من حكّام بني أُمية الّذي امتنع عن لعن عليّ عليه‌السلام وقام برفع اللعن من علىٰ المنابر ، وكان يقول عن ذلك : كنت أحضر تحت منبر المدينة وأبي يخطب يوم الجمعة ، وهو حينئذ أمير المدينة ، فكنت أسمع أبي يمرّ في خطبته تهدر شقاشقه حتّىٰ يأتي إلىٰ لعن عليّ عليه‌السلام فيجمجم ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله أعلم به ، فكنت أعجب من ذلك ، فقلت له يوماً : يا أبت ! أنت أفصح الناس وأخطبهم ، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك حتّىٰ إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عيياً ؟!

فقال : يا بني ! إنّ مَن ترىٰ مَن تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد.

٢٢٩

وهذه الفتنة أشار إليها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ قال ابن مسعود : كيف بكم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير ، ويُتّخذ سُنّة ، فإن غيّرت يوماً قيل : تركت السُنّة ؟

قالوا : يا أبا عبد الرحمن ! ومتىٰ ذلك ؟!

قال : إذا كثرت جهّالكم وقلّت علماؤكم ، وكثرت خطباؤكم وقلّت فقهاؤكم ، وكثرت أُمراؤكم وقلّت أُمناؤكم ، وتفقّه لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة (١).

هذا كلّه مع أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهىٰ عن سُباب المسلم وقتاله وقال ـ كما جاء في صحيح البخاري ـ : « سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر » (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخصوص عليّ عليه‌السلام بالذات : « مَن سبّ عليّاً فقد سبّني ، ومَن سبّني فقد سبّ الله ، ومَن سبّ الله أكبّه الله علىٰ منخريه في نار جهنّم » (٣).

__________________

فوقرت كلمته في صدري مع ما كان قاله لي معلمي أيّام صغري ، فأعطيت الله عهداً لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأُغيّرنّه ، فلمّا مَنَّ الله علَيَّ بالخلافة أسقطت ذلك ، وجعلت مكانه : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ). سورة النحل : الآية ٩٠.

شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٥٩.

(١) كنز العمّال ١١ / ٢٥٤ يرويه عن : ابن أبي شيبة ، وابن حمّاد في الفتن.

(٢) صحيح البخاري ١ / ١٧ كتاب الإيمان ، باب : اتّباع الجنائز من الإيمان.

(٣) الرياض النضرة ٣ / ١٢٢ ، مسند أحمد ٦ / ٣٢٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٠ وصحّحه ، وافقه الذهبي كما في تلخيص المستدرك ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٠ ; قال الهيثمي : رواه أحمد ، ورجاله رجال الصحيح ، غير أبي عبد الله الجدلي ؛ وهو ثقة ، الجامع الصغير ٢ / ٦٠٨ ، كنز العمّال ١١ / ٥٧٣ و ٦٠٢ ؛ يرويه عن ابن عساكر وابن النجار.

٢٣٠

وفي ختام ملاحظتنا :

أود أن ألفت نظر القارئ الكريم إلىٰ أنّه بمعرفتنا أنّ العام الّذي انتصرت فيه القوّة الأُموية الغاشمة ، المتمثّلة بمعاوية ، علىٰ حكومة أهل البيت عليهم‌السلام ، المتمثّلة بالإمام الحسن عليه‌السلام ، سُمّي بـ : « عام الجماعة ».

ومن ملاحظتنا السابقة بأنّ الأُمويين جعلوا سبّ عليّ عليه‌السلام سُنّة يشبُّ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ، حتّىٰ إنّهم كانوا يتصايحون بوجه أميرهم الّذي ينزل من المنبر ولم يسبّ عليّاً عليه‌السلام ويقولون له : السُنّة السُنّة ! تركت السُنّة ..

من ذلك كلّه نعلم أنّ الأُمويّين هم المقصودون بتسمية : « أهل السُنّة والجماعة » ، أي أنّهم أهل سُنّة سبّ عليّ عليه‌السلام ، والاجتماع علىٰ بغضه ومعاداته ، ومعاداة أوليائه وشيعته.

ولم نجد إلىٰ الآن أصلاً صحيحاً قامت عليه هذه التسمية ، سوىٰ أنّها خرجت من بين أحضان الأُمويّين واشتهرت بين أتباعهم ، حتّىٰ جعلها الجوزجاني الشامي قاعدة عنده في بيان الملتزم بالسُنّة من التارك لها ، كما مرّ ذكره قبل قليل ، وإن كان الكثير من إخواننا العامّة يجهل أصل هذه التسمية والمراد منها.

بل إنّك لتجد رجال الجرح والتعديل في علم الحديث عند القوم لم

__________________

وقد ورد في رواية الحاكم ما هذا لفظه : دخلت علىٰ أُمّ سلمة ـ رضي‌الله‌عنها ـ فقالت لي أيسبُّ رسول الله فيكم ؟ فقال : معاذ الله ! ـ أو سبحان الله ـ. فقالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « مَن سبّ عليّاً فقد سبّني » ؛ قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد.

٢٣١

يطلقوا صفة الصلابة في السُنّة إلاّ علىٰ مَن ثبت عندهم أنّه كان عثمانياً ، أي ممّن عُرف ببُغض عليّ عليه‌السلام ولعنه ، والبراءة منه ، واتّهامه بقتل عثمان بن عفّان ..

فهذا ابن حجر يذكر في كتابه تهذيب التهذيب : أنّ عبد الله بن إدريس الأزدي كان صاحب « سُنّة وجماعة » ، وكان صلباً في السُنّة مرضياً ، وكان عثمانياً (١).

وينقل في توثيقه لعبد الله بن عوف البصري : إنّه موثّق ، وله عبادة وصلابة في السُنّة وشدّة علىٰ البدع ؛ قال ابن سعد : كان عثمانياً (٢).

أمّا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ـ المارّ ذكره ـ فقد قال عنه : إنّه كان حريزي المذهب ـ أي : علىٰ مذهب حريز بن عثمان الدمشقي (٣) ،

__________________

(١) راجع : تهذيب التهذيب ٥ / ١٢٧ ؛ والمعروف أنّ العثمانيّين يلعنون عليّاً ويتّهمونه بقتل عثمان بن عفّان.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٥.

(٣) عدّه الذهبي في تذكرة الحفّاظ ١ / ١٧٦ ، وسير أعلام النبلاء ٧ / ٧٦ ، والسيوطي في طبقات الحفّاظ : ٧٨ ، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ١ / ٢٥٧ من حفّاظ الحديث ، وهو ناصبي معروف ، روى له البخاري والأربعة ، سئل عنه أحمد ابن حنبل ؟ فقال : ثقة ثقة. وقال : ليس بالشام أثبت من حريز. وثّقه ابن معين ودحيم وأحمد بن يحيىٰ المفضّل بن غسّان والعجلي وأبو حاتم وابن عدي والقطّان ..

قال ابن المديني : لم يزل مَن أدركناه من أصحابنا يوثّقونه ، كان يلعن أمير المؤمنين عليه‌السلام وينتقصه وينال منه ، قال ابن حبّان : كان يلعن عليّاً بالغداة سبعين مرّة وبالعشية سبعين مرّة.

راجع : تهذيب التهذيب ٢ / ٢٠٧ ، ميزان الاعتدال ١ / ٤٧٥ ، تهذيب الكمال ـ ليوسف المزي ـ ٥ / ٥٦٨ ، وسير أعلام النبلاء ٧ / ٧٩ ، وتاريخ بغداد ٨ / ٢٦٥ ... وفي شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٧٠ : عن محمّد بن عاصم ، صاحب

٢٣٢

المعروف بالنصب والعداء لأهل البيت عليهم‌السلام ـ وقال ابن حبّان : إنّه كان صلباً في السُنّة (١).

وأيضاً جاء في التهذيب في شأن حمّاد بن زيد ، قال ابن مهدي فيه : لم أرَ أحداً قط أعلم بالسُنّة ولا بالحديث الّذي يدخل فيه السُنّة من حمّاد ابن زيد... وحمّاد هذا قال ابن سعد فيه : كان عثمانياً ، وكان ثقة ثبتاً حجّة (٢).

ولا نريد الخوض في هذا الباب ، أي باب توثيق حفّاظ أهل السُنّة للرواة المُبغضين والمعادين لأمير المؤمنين عليه‌السلام ; إذ له مواضعه الخاصّة ، بل الإشارة إلىٰ أنّ هذه الوثاقة لا تستقيم مع شهادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمبغضي عليّ عليه‌السلام بالنفاق ; إذ أنّ في كلمات بعضهم عبارات أكثر تصريحاً في توثيق هؤلاء الرواة مع التصريح بتحاملهم وبغضهم لعليّ عليه‌السلام في آن واحد ..

فهذا عبد الله بن شقيق ـ مثلاً ـ يقول أحمد بن حنبل عنه : ثقة ، وكان يحمل علىٰ عليّ. ويقول ابن خرّاش فيه : كان ثقة ، وكان يبغض عليّاً. أمّا ابن معين فقد قال في حقّه : ثقة من خيار المسلمين (٣).

مع أنّ أهل السُنّة قد ذكروا في أوثق كتبهم ـ صحيح مسلم ـ أنّ عليّاً عليه‌السلام قال : « إنّه لعهد النبيّ الأُمّي إليَّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق » (٤).

__________________

الخانات : قال لنا حريز بن عثمان : أنتم يا أهل العراق ! تحبّون عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ونحن نبغضه. قالوا : لِمَ ؟! قال : لأنّه قتل أجدادي. انتهىٰ.

(١) تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩.

(٢) تهذيب التهذيب ٣ / ١٠.

(٣) تهذيب التهذيب ٥ / ٢٥٤.

(٤) صحيح مسلم ١ / ٦١.

٢٣٣

وأيضاً ثبت عن غير واحد من الصحابة قوله : ما كنّا نعرف المنافقين إلاّ ببُغض عليّ بن أبي طالب (١).

وهذا في الواقع إشكال نطرحه علىٰ المسلمين الّذين يأتمنون هؤلاء الحفّاظ والأئمّة علىٰ دينهم ويأخذونه عنهم ، وهو : كيف استقام الأمر لأُولئك النواصب عند أئمّة الحديث هؤلاء ، واطمئنّوا لأخذ الرواية عنهم مع شهادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بالنفاق ، خاصّة إذا عُلم أنّ إحدىٰ صفات المنافقين أنّهم : إذا حدّثوا كذبوا ؟!!

وهذا الفعل من هؤلاء الأئمّة يؤكّد تماماً ما نذهب إليه بشأن حقيقة التسمّي بهذه التسمية السابقة والمراد الحقيقي منها ، وهو يعد مصداقاً لقوله تعالىٰ : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ) (٢) ، ولله مصائر العباد !!

وقد سار العبّاسيون علىٰ الخطّ الّذي اختطّه الأُمويون من قبل ، وهو خطّ العداء لآل محمّد عليهم‌السلام ، مع أنّ العبّاسيين جاؤوا علىٰ أشلاء الأُمويّين وللقضاء علىٰ دولتهم ، بدعوىٰ الرضا من آل البيت عليهم‌السلام ، ولكن الّذي حصل أنّه ما إن استتبّت لهم الأُمور حتّىٰ عاد خطّ النصب والعداء لأهل بيت النبوّة عليهم‌السلام كما كان من قبل ، بل ازداد حدّة وشدّة... وهذا هو شأن المنتفعين في كلّ زمان ومكان !

ذكر ابن حجر : عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : لمّا حدّث نصر بن عليّ بن صهبان بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد الحسن والحسين

__________________

(١) الرياض النضرة ٣ / ١٩٠ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٩ وصحّحه ، المعجم الأوسط ٢ / ٣٢٨ ، كنز العمّال ١٣ / ١٠٦ عن الخطيب في المتّفق ، تفسير القرطبي ١ / ٢٦٧ ، الدرّ المنثور ٦ / ٦٦.

(٢) سورة الإسراء ( بني إسرائيل ) : الآية ٨٤.

٢٣٤

وقال : « مَن أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأُمّهما كان في درجتي يوم القيامة » ، أمر المتوكّل بضربه ألف سوط ، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له : يا أمير المؤمنين ! هذا من أهل السُنّة ، فلم يزل به حتّىٰ تركه (١).

قال الدليمي :

« ومن وصيّة له عليه‌السلام لمعسكره قبل لقاء العدوّ بصِفّين : ( لا تقاتلوهم حتّىٰ يبدأوكم ؛ فإنّكم بحمد الله علىٰ حجّة ، وترككم إيّاهم حتّىٰ يبدأوكم حجّة أُخرىٰ لكم عليهم ، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ـ العاجز عن حماية نفسه ـ ولا تجهزوا علىٰ جريح ولا تهيجوا النساء بأذىً وإن شتمْن أعراضكم وسببْن أُمراءكم ; فإنّهنّ ضعيفات القوىٰ والأنفس والعقول ، إن كنّا لنؤمَر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات ). ج ٣ ص ١٤ ـ ١٥.

ـ قال : ـ وهكذا يعاملهم بوصفهم مسلمين ، ويطبّق عليهم أحكام الطائفتين المؤمنتين ، فينهىٰ عن اتّباع مُدبِرهم ، وقتل عاجزهم ، والإجهاز علىٰ جريحهم ، وإلاّ فإنّ الكفّار يتبع مدبرهم ويقتل جريحهم. وقوله رضي‌الله‌عنه عن النساء : ( إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات ) ، أي : فكيف لا نكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمسلمات ؟! » (٢).

أقول :

قد ذكرنا سابقاً أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : إنّ القوم سيُفتنون

__________________

(١) انظر : ترجمة نصر بن علي بن صهبان في تهذيب التهذيب ١٠ / ٣٨٤.

(٢) ص ٢٠ ـ ٢١.

٢٣٥

بأموالهم ، ويمنّون بدينهم علىٰ ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية... ـ إلىٰ قول عليّ عليه‌السلام : قلت : يا رسول الله ! فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردّة ، أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : بمنزلة فتنة (١).

والمراد بالفتنة بالنسبة للمسلمين هو : الاختبار والامتحان ، ليعلمنّ الله الّذين صدقوا في دينهم وليعلمنّ الكاذبين ، كما جاء في قوله تعالىٰ :

( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (٢).

والبغاة من المسلمين ـ كأهل صفّين وغيرهم من الّذين قاتلوا عليّاً عليه‌السلام ـ هم من الّذين فُتنوا ، وجاروا أثر ذلك من الحقّ إلىٰ الباطل ، وقد جاء الأمر الإلهي بقتالهم كما في قوله تعالىٰ ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (٣) ، وكذلك جاء الأمر النبوي للمسلمين بقتالهم ونصرة عليّ عليه‌السلام كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عليّ ! ستقاتلك الفئة الباغية وأنت علىٰ الحقّ فمَن لم ينصرك يومئذ فليس منّي » (٤).

وقد فرّق الإمام عليّ عليه‌السلام في حروبه ـ كما هو الثابت تاريخياً ـ في الإجهاز علىٰ الجريح واتّباع المُدبِر وقتل الأسير بين مَن كان له فئة يرجع إليها ، ومَن لم يكن كذلك..

فأمّا الّذين كانت لهم فئة يرجعون إليها فقد قاتلهم مُقبلين ومُدبرين ،

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٥٠.

(٢) سورة العنكبوت : الآيتان ٢ و ٣.

(٣) سورة الحجرات : الآية ٩.

(٤) تاريخ دمشق ١٢ / ٤٧٣ ، كنز العمّال ١١ / ٣٥١ و ٦١٣ ، سبل الهدىٰ والرشاد ١١ / ٢٩٦.

٢٣٦

كأهل صِفّين ، وأمّا مَن لم يكن لهم فئة يرجعون إليها فقد قاتلهم مقبلين وتركهم مُدبرين ، ولم يجهز علىٰ جريحهم ، كأهل الجمل.

قال الشيخ عبد الله الهرري الشافعي ، مفتي الصومال ، في كتابه المقالات السنية : وقد اتّفق العلماء علىٰ أنّ عليّاً عليه‌السلام هو أوّل مَن قاتل البغاة فشغل بهم عن قتال الكفّار المعلنين ، كاليهود والنصارىٰ وغيرهم ، حتّىٰ قال الإمام الشافعي رضي‌الله‌عنه : أخذنا أحكام البغاة من سير عليّ (١).

وقد جاء عن الإمام موسىٰ بن جعفر عليه‌السلام في جواب مسائل يحيىٰ بن أكثم :

« وأمّا قولك : إنّ عليّاً عليه‌السلام قتل أهل صِفّين مقبلين ومدبرين ، وأجهز علىٰ جريحهم ، وأنّه يوم الجمل لم يتبع موليّاً ، ولم يجهز علىٰ جريح ، ومَن ألقىٰ سلاحه أمنه ، ومَن دخل داره أمنه ; فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم ولم يكن لهم فئة يرجعون إليها ، وإنّما رجع القوم إلىٰ منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، ورضوا بالكفّ عنهم ، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم ، والكفّ عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً.

وأهل صِفّين كانوا يرجعون إلىٰ فئة مستعدّة ، وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف ، ويسني لهم العطاء ، ويهيّئ لهم الانزال ، ويعود مريضهم ، ويجبر كسيرهم ، ويداوي جريحهم ، ويحمل راجلهم ، ويكسو حاسرهم ، ويردّهم فيرجعون إلىٰ محاربتهم وقتالهم.

فلم يساوِ بين الفريقين في الحكم ، لِما عرف من الحكم من قاتل أهل التوحيد ، لكنّه شرح ذلك لهم ، فمَن رغب عرض علىٰ السيف أو

__________________

(١) المقالات السنية : ٢٠٤.

٢٣٧

يتوب عن ذلك » (١).

والأوامر في الخطبة الّتي ذكرها الكاتب عن الإمام عليه‌السلام لجيشه ، إنّما كانت قبل لقاء العدوّ بصفين ، وكان تنفيذها يتمّ في حال هزيمة العدوّ وانكساره ، كما هو الظاهر من الخطبة نفسها ، فيكون التصرّف حينئذٍ كالّذي كان من سيرته عليه‌السلام مع أهل الجمل ، وقد مرّ بيانه.

ثمّ قال الدليمي عند ذكره لكراهة الإمام عليه‌السلام القتال ، ودعاؤه بصلاح أمر الأُمّة وجمع شملها :

« من كلام له عليه‌السلام في التحكيم : ( ولعلّ الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأُمّة ). ج ١ ص ٥.

وقوله عليه‌السلام : ( اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم واصلح ذات بيننا وبينهم ). ج ٢ ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

ـ قال : ـ ولقد استجاب الله دعاؤه بولده الحسن عليه‌السلام الّذي صدقت فيه نبوءة جدّه صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إنّ ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين ). رواه البخاري ومسلم (٢). ولو لم يكن معاوية مسلماً لما جاز للحسن رضي‌الله‌عنه أن يبايعه ويسلّم له أُمرة المؤمنين وخلافة

__________________

(١) وسائل الشيعة إلىٰ تحصيل مسائل الشريعة ١٥ / ٧٥.

(٢) ورد الحديث في صحيح البخاري ٤ / ٧٤ ـ كما في باب فضائل الحسن والحسين عليهما‌السلام وفي مواضع أُخرىٰ ـ هكذا : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ابني هذا سيّد ، ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين » ..

وهذا الحديث لم يثبت عند الشيعة الإمامية ; بل عدّوه موضوعاً لتضليل الأُمّة عن الأحاديث المتواترة الواردة في قتال الفئة الباغية ، مع ملاحظة أنّ معاوية قد جنّد لهذا الغرض أُناساً ، وجعل لهم جعلاً يرغب فيه أمثال أبي هريرة ، وسمرة بن جندب ؛ انظر : الشيعة والحاكمون ـ للشيخ مغنية ـ : ٦٣ الطبعة الثانية.

٢٣٨

المسلمين » (١).

أقول :

من الثابت تاريخياً أنّ الإمام الحسن عليه‌السلام بعد أن رأىٰ تقاعس أصحابه عن القتال ، وتثاقلهم عن الجهاد ، صالح معاوية بن أبي سفيان حقناً لدماء المسلمين ، واحتفاظاً بالبقية الباقية من المؤمنين ، وإخماداً لشدّة الفتنة الّتي أوقعهم بها معاوية « الطليق » (٢) ، الّذي كان من المؤلّفة قلوبهم (٣)..

فقد افتتن به أهل الشام افتتاناً كبيراً إلىٰ درجة أنّه كان يقول لهم أنّه من أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً وكانوا يصدّقونه ، وقد بلغ من افتتانهم به أن صلّىٰٰ بهم صلاة الجمعة يوم الأربعاء ولم يعترضوا عليه.

قال المسعودي في مروج الذهب : إنّ رجلاً من أهل الكوفة دخل علىٰ بعير له إلىٰ دمشق في حال منصرفهم عن صِفّين فتعلّق به رجلٌ من دمشق فقال : هذه ناقتي ، أُخذت منّي بصفين.

__________________

(١) ص ٢٢.

(٢) معاوية بن أبي سفيان من الّذين ظفر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد فتح مكّة وأطلقهم ، وقال لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء ». والطلقاء لم يُسلموا إلاّ كارهين ، أي بعد أن أُحيط بهم من كلّ جانب ، فهم ممّن يصحّ أن يقال بحقّهم : إنّهم لم يُسلموا ولكن استسلموا..

وهذا المعنىٰ قد أشار إليه الإمام عليّ عليه‌السلام في إحدىٰ كلماته الّتي ذكرناها سابقاً فقد كان عليه‌السلام يقول لأصحابه عند الحرب : « فو الّذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا ، وأسرُّوا الكفر ، فلمّا وجدوا أعواناً عليه أظهروه ».

نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٦ ؛ وانظر : تاريخ الطبري ٦ / ٤ في كيفيّة دخول معاوية وأبيه في الإسلام كارهَين.

(٣) تاريخ الخلفاء : ٢٢١.

٢٣٩

فارتفع أمرهما إلىٰ معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بيّنة يشهدون أنّها ناقته ، فقضىٰ معاوية علىٰ الكوفي وأمر بتسليم البعير إليه.

فقال الكوفي : أصلحك الله ! إنّه جمل وليس بناقة.

فقال معاوية : هذا حكم قد مضىٰ.

ودسّ إلىٰ الكوفي بعد تفرّقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره ، فدفع إليه ضِعفه ، وبرّه وأحسن إليه ، وقال له : أبلغ عليّاً أنّي أُقابله بمائة ألف ما فيهم مَن يُفرّق بين الناقة والجمل.

ثمّ قال المسعودي : ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّىٰٰ بهم عند مسيرهم إلىٰ صِفّين الجمعة يوم الأربعاء ، وأعاروه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها ، وركنوا إلىٰ قول عمرو بن العاص : أنّ عليّاً هو الّذي قتل عمّار ابن ياسر حين أخرجه لنصرته ، ثمّ ارتقىٰ بهم الأمر في طاعته إلىٰ أن جعلوا لعن عليّ سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير (١).

والصلح الّذي تمّ بين الإمام الحسن عليه‌السلام ومعاوية ، إنّما كان علىٰ شروط اشترطها الإمام الحسن عليه‌السلام وقبلها معاوية ، منها : أن ترجع الخلافة بعد وفاة معاوية إلىٰ الحسن أو إلىٰ أخيه الحسين عليه‌السلام في حال وفاة الحسن عليه‌السلام قبل معاوية (٢) ، ولكن معاوية الطليق لم يفِ بما تعاهد عليه مع الإمام الحسن عليه‌السلام ، ولم يتورّع عن إعلان ذلك أمام الملأ أجمعين.

قال معاوية لمّا دخل النخيلة قبل أن يصل إلىٰ الكوفة : والله إنّي ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكّوا ، إنّكم لتفعلون

__________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٤١.

(٢) انظر : فتح الباري ١٣ / ٥٦ ، تاريخ مدينة دمشق ١٣ / ٢٦١ ، البداية والنهاية ٨ / ١٩ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٨٥.

٢٤٠