تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة



قال الدليمي :

« من كتاب له عليه‌السلام إلىٰ معاوية جواباً : ( أمّا بعد ، فإنّا كنّا نحن وأنتم علىٰ ما ذكرت من الأُلفة والجماعة ففرّق بيننا أمس أنّا آمنا وكفرتم ، واليوم استقمنا وفُتنتم ). ج ٣ ص ١٢٢ ..

ـ قال : ـ ففرّق رضي‌الله‌عنه بين الكفر الّذي كانوا عليه قبل الإسلام ، وبين الفتنة ـ وليس الكفر ـ الّتي وقعوا فيها بعد مقتل سيّدنا عثمان رضي‌الله‌عنه » (١).

أقول :

قد أشرنا سابقاً إلىٰ أنّ الفتنة الّتي ترد علىٰ المسلمين إنّما هي لغرض اختبارهم وامتحانهم وتمحيص نواياهم من الصدق مع الله أو الكذب عليه ، كما بيّنّا أنّ نتيجة أهل الجمل الّذين فُتنوا وصار دينهم نفاقاً ـ كما وصفهم الإمام عليه‌السلام ـ هي نفس نتيجة الكفّار من حيث الخلود في النار والاستحقاق لمقت الله ولعنته ; فما هو حال أهل الشام وقائدهم معاوية بن أبي سفيان ، الّذين حاربوا إمام زمانهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وخرجوا عليه ؟!

من المعلوم والثابت عند المسلمين جميعاً أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أطلق علىٰ أهل الشام الّذين حاربوا الإمام عليّ عليه‌السلام اسم : « القاسطين » ..

__________________

(١) ص ١٨.

٢٠١

والقاسطون هم : المائلون عن الحقّ إلىٰ الباطل ; قال تعالىٰ : ( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) (١) ، وهم إحدىٰ الفئات الثلاث الّذين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليه‌السلام بقتالهم بعده (٢).

وسمّاهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « الفئة الباغية » ، وسمّاهم : « الدعاة إلىٰ النار » ؛ كما جاء في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الصحابي الجليل عمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنه : « ويح عمّار ! تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلىٰ الجنّة ويدعونه إلىٰ النار » (٣).

ومن المعلوم أنَّ عمّار رضي‌الله‌عنه قد قتل في يوم صِفّين علىٰ يد جيش معاوية (٤).

وقد جاء في نهج البلاغة بحقّ معاوية وحزبه أقوال كثيرة ، نقتصر هنا علىٰ ذكر شيء يسير منها :

١ ـ من خطبة له عليه‌السلام ينبّه فيها علىٰ فضله وشرف وقته ويبيّن فتنة بني أُمية : « إنّ الفتن إذا أقبلت شبَّهت (٥) ، وإذا أدبرت نبَّهت (٦) ، يُنكرن

__________________

(١) سورة الجنّ : الآية ١٥.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٥٦ ; قال عليه‌السلام : « ألا وقد أمرني الله بقتال أهل البغي والنكث » ، الاستيعاب ٣ / ١١١٧ ; روى من حديث عليّ وابن مسعود وأبي أيّوب أنّه عليه‌السلام أُمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين : وعن عليّ بن ربيعة الوالبي ، قال : سمعت عليّاً يقول : « عهد إليَّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أُقاتل بعده القاسطين والناكثين والمارقين ». قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨ : رواه البزّار والطبراني في الأوسط وأحد إسنادي البزّار رجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعيد ; ووثّقه ابن حبّان.

(٣) راجع : صحيح البخاري ١ / ١١٥ كتاب الصلاة ؛ ورواه في ٣ / ٢٠٧ كتاب الجهاد والسير بلفظ : « يدعوهم إلىٰ الله ويدعونه إلىٰ النار ».

(٤) راجع : كلّ مَن ذكر سيرة الصحابي الجليل عمّار بن ياسر رضي‌الله‌عنه وقصّة مقتله.

(٥) اشتبه فيها الحقّ بالباطل.

(٦) لأنّها تُعرف بعد انقضائها وتنكشف حقيقتها فتكون عبرة.

٢٠٢

مقبلات ، ويُعرفن مدبِرات ، يحمن حوم الرياح ، يُصبن بلداً ويخطئن بلداً ، ألا وإنّ أخوفَ الفتن عندي عليكم : فتنة بني أُمية ; فإنّها فتنة عمياء مظلمة ـ إلىٰ قوله ـ : ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيَّة (١) وقطعاً جاهلية ، ليس فيها منار هدىً ، ولا عَلمٌ (٢) يرىٰ » (٣).

٢ ـ وقال عليه‌السلام من كلام له يشير فيه إلىٰ ظلم بني أُمية : « والله ! لا يزالون حتّىٰ لا يدعوا لله محرماً إلاّ استحلّوه ، ولا عقداً إلاّ حلّوه ، وحتّىٰ لا يبقىٰ بيت مدر ولا وبر إلاّ دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم ، وحتّىٰ يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكي لدينه ، وباك يبكي لدنياه » (٤).

٣ ـ وقال عليه‌السلام في كتاب بعثه إلىٰ معاوية : « فسبحان الله ! ما أشدّ لزومك للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتعبة ، مع تضييع الحقائق ، وإطراح الوثائق ، الّتي هي لله طلبة ، وعلىٰ عباده حجّة ..

فأمّا إكثارك الحِجاج (٥) علىٰ عثمان وقتله ; فإنّك إنّما نصرت عثمان حيث كان النصر لك ، وخذلته حيث كان النصر له (٦) » (٧).

٤ ـ وفي كلام للإمام عليه‌السلام مع أصحابه المتثاقلين عن الجهاد يصف معاوية بأنّه إمام الباطل : « وإنّي والله لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم

__________________

(١) شوهاء : قبيحة المنظر. ومخشية : مخوّفة ومرعبة.

(٢) علم : دليل يُهتدىٰ به.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٣.

(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٩٠.

(٥) الحِجاج ـ بالكسر ـ : الجدال.

(٦) حيث كان في الانتصار لعثمان فائدة لك الآن ؛ إذ اتّخذته ذريعة لجمع الناس إلىٰ غرضك ، لكن عندما كان حيّاً وكان النصر يفيده خذلته وأبطأت عنه !!

(٧) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٦٢.

٢٠٣

باجتماعهم علىٰ باطلهم ، وتفرّقكم عن حقّكم ، وبمعصيتكم إمامكم في الحقّ ، وطاعتهم إمامهم في الباطل » (١).

٥ ـ وقال عليه‌السلام في كتاب بعثه إلىٰ معاوية : « فاتّقِ الله في ما لديك ، وانظر في حقّه عليك ، وارجع إلىٰ معرفة ما لا تعذر بجهالته ; فإنّ للطاعة أعلاماً واضحة ، وسُبلاً نيّرة ، ومحجّة نهجة (٢) ، وغاية مطلبة ، يردُها الأكياس ، ويخالفها الأنكاس (٣) ، مَن نكب عنها جار عن الحقّ ، وخبط في التيه (٤) ، وغيّر الله نعمته ، وأحلّ به نقمته.

فنفسك نفسك ! فقد بيّن الله لك سبيلك ، وحيث تناهت بك أُمورك ، فقد أجريت إلىٰ غاية خسر ، ومحلّة كفر (٥) ، وإنّ نفسك قد أولجتك شراً ، وأقحمتك غيّاً ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك » (٦).

٦ ـ وقال عليه‌السلام في كتاب بعثه إلىٰ عمرو بن العاص ، شريك معاوية في حربه لأمير المؤمنين عليه‌السلام : « فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهر غيّه ، مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسْفَه الحليم بخلطته ، فاتّبعت أثره ، وطلبت فضله ، اتّباع الكلب للضرغام ، يلوذ بمخالبه ، وينتظر ما يلقي إليه من فضل فريسته ، فأذهبت دنياك وآخرتك ! ولو بالحقّ أخذت أدركت ما طلبت ، فإن يمكنني الله منك ومن ابن أبي سفيان أجزكما بما

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٦٥.

(٢) المحجّة : الطريق الواضح. والنهجة : الواضحة كذلك.

(٣) الأكياس : العقلاء. والأنكاس : جمع نِكس ـ بكسر النون ـ وهو : الدنيء الخسيس.

(٤) نكب : عول. وجار : مال. وخبط : مشىٰ علىٰ غير هداية. والتيه : الضلال.

(٥) أجريت مطيتك مسرعاً إلىٰ غاية خسران.

(٦) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٣٦.

٢٠٤

قدّمتما ، وإن تعجزا وتبقيا فما أمامكما شرّ لكما » (١) ..

قال ابن أبي الحديد في شرحه : أمّا قوله : « يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته » : فالأمر كذلك ؛ فإنّه لم يكن في مجلسه إلاّ شتم بني هاشم وقذفهم ، والتعرّض بذكر الإسلام والطعن عليه ، وإن أظهر الانتماء إليه (٢).

٧ ـ ومن كلام له عليه‌السلام في معاوية : « والله ! ما معاوية بأدهىٰ منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت أدهىٰ الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، وكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة » (٣).

٨ ـ وفي كتاب له عليه‌السلام إلىٰ زياد بن أبيه ، وقد بلغه أنّ معاوية كتب إلىٰ زياد يريد خديعته باستلحاقه ، يصف الإمام عليه‌السلام معاوية بالشيطان : « وقد عرفت أنّ معاوية كتب إليك يستزلّ لبّك ، ويستفلّ غربك (٤) ، فاحذره ؛ فإنّما هو الشيطان : يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ليقتحم غفلته ، ويستلب غرّته (٥) » (٦).

قال الدليمي ، بعد أن أورد نصوصاً أُخرىٰ من نهج البلاغة تنحىٰ

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٦٤.

(٢) راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ١٦٠.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٨٠.

(٤) يستزلّ : أي : يطلب به الزلل. واللبّ : القلب. ويستفل ـ بالفاء ـ : أي : فلّ غربك ، أي : ثلم حدّتك. والغرب ـ بفتح فسكون ـ : الحدّة والنشاط.

(٥) الغرّة ـ بالكسر ـ : خلوّ العقل من ضروب الحيل ، والمراد منها : العقل الغرّ ، أي : يسلب العقل الساذج.

(٦) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٦٩.

٢٠٥

منحىٰ النصّ الّذي أورده أوّل مرّة ، وغاية ما يريد إثباته من ذلك أنّ الإمام عليه‌السلام يعدّ الّذين قاتلهم في صِفّين من المسلمين لا غير :

« فينبغي علىٰ كلّ عاقل ، محبّ لدينه وأُمّته ، أن يخرج الخلاف الّذي حصل بين الفريقين من الدين ، فالدين واحد بشهادة سيّدنا وإمامنا عليّ رضي‌الله‌عنه ، وبما أنّ القضية خرجت من الدين ودخلت في السياسة فقد انتهىٰ وقتها ، وأصبحت مسألة تاريخية لا فائدة من تجديد البحث فيها من دون الانتباه إلىٰ هذا القيد. وعلينا أن نرجع جميعاً إلىٰ الدين الواحد ، الّذي كان عليه عليّ ومعاوية ، وهو دين الإسلام ، فالدين واحد ، والربّ واحد ، والنبيّ واحد ، والدعوة واحدة ; فعلامَ الخلاف ؟! » (١).

أقول :

نعم ، إنّ الّذين قاتلهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في « صِفّين » كان ظاهرهم الإسلام ، ولكنّهم فُتنوا وغرّتهم الحياة الدنيا ، فجاروا عن الحقّ وصاروا ـ بسبب عنادهم وتعنتهم ـ بغاة ودعاة إلىٰ النار ، بشهادة النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ..

ومع علم الإمام عليه‌السلام بذلك كلّه ؛ لِما أخبره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم ، لم يبخل عليه‌السلام عليهم بنصائحه ومواعظه حين جابهوه بالمعصية وخذلان الطاعة ، وهي النصائح الّتي لم يسمع المسلمون بمثلها من أحد قبله ، إلاّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلاّ أنّ أهل الشام وقائدهم معاوية لم يعتبروا بتلك النصائح الثمينة ، ولم تزجرهم تلك المواعظ الشديدة ، الّتي كان يبعثها الإمام عليه‌السلام إليهم ، والّتي يعجز عن الإتيان بها أبلغ البلغاء عندهم ، وما أفاؤوا ـ بعد

__________________

(١) ص ٢٠.

٢٠٦

بغيهم ـ إلىٰ أمر الله بوجوب طاعته عليه‌السلام وهو إمام زمانهم ، بل ازدادوا بغياً وعدواناً ..

وقد استعملوا في حربهم لأمير المؤمنين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ شتّىٰ أساليب المكر والخديعة (١) ، ومنها : حيلتهم ـ بعد أن ادركوا أنّهم سيخسرون الحرب ـ برفع المصاحف علىٰ رؤوس الرماح والدعوة إلىٰ تحكيم القرآن ، وفي ذلك يقول الإمام عليه‌السلام للخوارج الّذين فُتنوا بعد رفع المصاحف وانشقّوا عليه :

« ألم تقولوا عند رفع المصاحف حيلةً وغيلةً ، ومكراً وخديعةً : إخواننا وأهل دعوتنا ، استقالوا واستراحوا إلىٰ كتاب الله سبحانه ، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم.

فقلت لكم : هذا أمرٌ ظاهره إيمان وباطنه عدوان ، وأوّله رحمة وآخره ندامة ؛ فأقيموا علىٰ شأنكم والزموا طريقتكم ، وعضُّوا علىٰ الجهاد بنواجذكم ، ولا تلتفتوا إلىٰ ناعق نعق ؛ إن أُجيب أضلَّ ، وإن تُرك ذلَّ ؟!

وقد كانت هذه الفعلة ، وقد رأيتكم أعطيتموها (٢) ، والله لئن أبيتها ما وجبت علَيَّ فريضتها ، ولا حمَّلني الله ذنبها ، ووالله إن جئتها إنّي للمحِقُّ الّذي يُتَّبع ، وإنّ الكتاب لمعي ما فارقته مذ صحبته ، فلقد كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنَّ القتل ليدور علىٰ الآباء والأبناء والإخوان والقرابات ، فما نزداد علىٰ كلّ مصيبةٍ وشدّةٍ إلاّ إيماناً ومضيّاً علىٰ الحقّ ، وتسليماً

__________________

(١) وقد كان الإمام عليّ عليه‌السلام يقول لأصحابه عند الحرب : « فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ! ما أسلموا ، ولكن استسلموا ، وأسرُّوا الكفر ، فلمّا وجدوا أعواناً عليه أظهروه » ؛ راجع : نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٦ ..

وهذه شهادة أُخرىٰ من عليّ عليه‌السلام بنفاق مقاتليه من أهل صِفّين.

(٢) أنتم الّذين أعطيتم لها صورتها هذه الّتي صارت عليها برأيكم.

٢٠٧

للأمر ، وصبراً علىٰ مضض الجراح ... ».

ثمّ بيّن عليه‌السلام سبب مقاتلته لأهل الشام ، فقال : « ولكنّنا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام علىٰ ما دخل فيه من الزَيْغ والاعوجاج والشبْهة والتأويل ، فإذا طمعنا في خصلة يلمُّ اللهُ بها شَعَثنا ، ونتدانىٰ بها إلىٰ البقيّة في ما بيننا ، رغبنا فيها وأمسكنا عمّا سواها » (١).

فهنا ، في هذه الخطبة بيّن الإمام عليه‌السلام بكلّ وضوح علّة مقاتلته لأهل الشام ، وقال أنّه لم يقاتلهم إلاّ لما أدخلوه في الإسلام من الزَيْغ ، والاعوجاج ، والشبهة ، والتأويل ، فاقرأ تمام كلامه عليه‌السلام في النهج لتقف علىٰ هذه الحقيقة بوضوح أكثر.

وبعد هذا ، لم أفهم مراد الدليمي من : إخراج الخلاف الّذي حصل بين الفريقين من الدين ; فهل يريد بذلك أنّ الخلاف الّذي حصل بين الفريقين ليس له مساس بأُصول الدين وفروعه ؟!

لكنّ الثابت أنّ النزاع الّذي كان بين الفريقين نزاع بشأن الإمامة والزعامة ، وما كانت المطالبة بدم عثمان إلاّ ذريعة تذرّع بها معاوية لكسب قلوب العامّة في الشام ضدّ أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٢٣٦.

(٢) روى محدّث الشام الحافظ ابن عساكر في تاريخه ٣٩ / ٤٥٢ : عن عبد الله بن أبي سفيان ، أنّ عليّاً قال : إنّ بني أُمية يقاتلوني يزعمون أنّي قتلت عثمان ، وكذبوا إنّما يلتمس الملك ؛ فلو أعلم أنّ ما يذهِب ما في قلوبهم أن أحلف لهم عند المقام والله والله ! ما قتلت عثمان ، ولا أمرت بقتله ، لفعلت ، ولكن إنّما يريدون الملك ..

وإنّي لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممّن قال الله عزّ وجلّ : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ). انتهىٰ.

٢٠٨

وقد عصىٰ معاوية ربّه بخروجه علىٰ إمام زمانه ووليّ أمره ، الّذي جعل الله طاعته كطاعة الله ورسوله ، كما جاء في قوله تعالىٰ : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) ..

وكما جاء في الحديث الشريف : « مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » (٢).

بل جاء في صحيح البخاري : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « مَن رأىٰ من

__________________

وفي النهج توجد أقوال كثيرة للإمام عليه‌السلام تؤكّد هذه الحقيقة ، فمن كلام له عليه‌السلام بعثه إلىٰ معاوية : « ولعمري يا معاوية! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنَّ أنّي كنت في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّىٰ ; فتجنَّ ما بدا لك ». نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٧.

وقال عليه‌السلام في كتاب آخر بعثه إليه : « وزعمت إنّك جئت ثائراً بعثمان ، ولقد علمت حيث وقع دم عثمان ، فاطلبه من هناك إن كنت طالباً ». نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٢.

وقال عليه‌السلام في كتاب آخر بعثه إليه جواباً : « فأمّا طلبك إليَّ الشام فإنّي لم أكن لأُعطيك اليوم ما منعتك أمس ». نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١٦.

وهذا الكتاب يؤكّد بوضوح أنّ مطالب معاوية منحصرة في حدود طلب الملك لا غير ، وسيأتي إن شاء الله تعالىٰ بيان تلك الحقيقة علىٰ لسان معاوية نفسه عند الحديث عن صلح الإمام الحسن عليه‌السلام مع معاوية.

وجاء عن ابن سيرين : لقد قُتل عثمان وما أعلم أحداً يتّهم عليّاً في قتله ؛ راجع : ترجمة عثمان بن عفّان من تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ ٣٩ / ٣٩٠.

(١) سورة النساء : الآية ٥٩.

(٢) ذكره التفتازاني في شرح المقاصد ٢ / ٢٧٥ ، وجعله لدّة قوله تعالىٰ : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) في المفاد.

وحكاه الشيخ علي القاري ـ صاحب المرقاة ـ في خاتمة الجواهر المضيّة ٢ / ٥٠٩ ; وقد قال في ص ٤٥٧ : وقوله عليه‌السلام في صحيح مسلم : « مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » ، معناه : مَن لم يعرف مَن يجب عليه الاقتداء والاهتداء به في أوانه. انتهىٰ.

٢٠٩

أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ; فإنّه مَن فارق الجماعة شبراً فمات إلاّ مات ميتة جاهلية » (١).

وجاء في صحيح مسلم : عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « مَن خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية ، ومَن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلىٰ عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلته جاهلية ، ومَن خرج علىٰ أُمّتي يضرب برّها وفاجرها ولا يتحاشىٰ من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس منّي ولست منه » (٢).

والقوم الّذين حاربوا أمير المؤمنين عليه‌السلام في صفين سواء عرفوا إمام زمانهم ـ وهو أمير المؤمنين عليه‌السلام اتّفاقاً قولاً واحداً ـ أم جهلوه فإنّهم قد خرجوا عليه جميعاً ، وقاتلوه وقلّبوا عليه الأُمور ، وذهب ضحية حربهم تلك سبعون ألفاً من المسلمين ، خمسة وأربعون ألفاً من أهل الشام وخمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق (٣).

هذا إذا لم نلتفت إلىٰ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلىٰ عليّ عليه‌السلام خاصّة بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ـ كما مرّ ذكره سابقاً (٤) ـ وأنّه سيقاتل علىٰ تأويل القرآن كما قاتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ تنزيله (٥).

وأقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواردة بأنّ حرب عليّ عليه‌السلام حرب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسِلمه سلمه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : « حربك حربي ، وسِلمك

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ / ٨٧ و ١٠٥ كتاب الفتن وكتاب الأحكام.

(٢) صحيح مسلم ٦ / ٢١ باب : الأمر بلزوم الجماعة عند ظهور الفتن.

(٣) البداية والنهاية ٧ / ٣٠٤.

(٤) انظر ص ٢٠٢.

(٥) مسند أحمد ٣ / ٣١ ، ٣٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٢٢ وصحّحه ، مجمع الزوائد ٥ / ١٨٦ ؛ قال الهيثمي : رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح.

٢١٠

سِلمي » (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام: « أنا حرب لمَن حاربكم ، وسِلم لمَن سالمكم » (٢).

ومن المعلوم أنّ مَن حاربه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كافر بالإجماع ؛ فلذلك يكون ، وبدلالة الأحاديث السابقة ، المحارب لعليّ عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام كافراً أيضاً.

والأُمّة بعد أن اجتمعت علىٰ بيعة عليّ عليه‌السلام لا يحقّ لأحد تفريق كلمتها ، بل تجب محاربته ؛ وفي هذا روى أحمد بن حنبل في مسنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّها ستكون بعدي هنات وهنات ، فمَن رأيتموه يفرّق بين أُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم جميع فاقتلوه كائناً مَن كان من الناس » (٣). انتهىٰ.

ثمّ بعد هذا ، ينبغي ملاحظة أنّ الأمر الوارد في قوله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ) (٤) ، يفيد الوجوب ، والواجبات هي إحدىٰ الأحكام الفرعية

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٢٩٨ و ١٢ / ١٩٣ و ٢٠ / ٢٢٠ ، شواهد التنزيل ١ / ٤١٦.

(٢) مسند أحمد بن حنبل ٢ / ٤٤٢ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣٦٠ ح ٣٩٦٢ ؛ يرويه بسند صحيح إلىٰ زيد بن أرقم ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٦١ ؛ قال الحاكم : هذا حديث حسن من حديث أبي عبد الله أحمد بن حنبل عن تليد بن سليمان. ثمّ ذكر له شاهداً بلفظ : « أنا حرب لمَن حاربتم ، وسِلم لمَن سالمتم » ، وكلا الحديثين أقرّ الذهبي بصحّتهما ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩ ؛ قال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني ، وفيه : تليد بن سليمان ، وفيه خلاف ، وبقيّة رجاله رجال الصحيح. انتهىٰ.

قلنا : تليد بن سليمان وثّقه العجلي ، ولم ير أحمد به بأساً ; انظر : معرفة الثقات ١ / ٢٥٧ ، تهذيب الكمال ٤ / ١٥٢١ ..

ويمكن ملاحظة بقية المصادر في ما تقدّم ذكره في الفصل السابق.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٣٤١ ، سنن النسائي ٧ / ٩٣ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٢ / ١٦٩ وصحّحه.

(٤) سورة الحجرات : الآية ٩.

٢١١

الخمسة الّتي عليها مدار عمل المسلمين في الفروع ، والامتثال لها هو من الدين حتماً.

كما أنّ فقهاء وعلماء المسلمين قد استندوا في تنقيحهم لأحكام مجاهدة البغاة علىٰ حربه عليه‌السلام لمعاوية وأهل الجمل والنهروان ; قال الشافعي : أخذنا أحكام البغاة من سير عليّ (١).

الأمر الّذي يدلّ علىٰ أنّ هذه القضية هي من صميم الدين بل لها علاقة بأُصوله وفروعه !!

قال ابن العربي في أحكام القرآن : إنّ عليّاً عليه‌السلام كان إماماً ؛ لأنّهم اجتمعوا عليه ، ولم يمكنه ترك الناس ؛ لأنّه كان أحقّ الناس بالبيعة ، فقبلها حوطة علىٰ الأُمّة ، وأن لا تسفك دماءها بالتهارج ، ويتخرّق الأمر ، وربّما تغيّر الدين ، وانقضّ عمود الإسلام.

وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان فقال لهم عليه‌السلام : ادخلوا في البيعة واطلبوا الحقّ تصلوا إليه ..

وكان عليّ عليه‌السلام أسدّهم رأياً وأصوب قولاً ؛ لأنّه لو تعاطىٰ القود لتعصّبت لهم قبائلهم ، فتكون حرباً ثالثة ، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامّة ثمّ ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء ، ولا خلاف بين الأُمّة أنّه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّىٰ ذلك إلىٰ إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.

وحينئذٍ ؛ فكلّ مَن خرج علىٰ عليّ عليه‌السلام باغٍ ، وقتال الباغي واجب حتّىٰ يفيء إلىٰ الحقّ ، وينقاد إلىٰ الصلح.

__________________

(١) راجع : المقالات السنّية ـ للشيخ عبد الله الهرري الشافعي ـ ص ٢٠٤.

٢١٢

وأنّ قتاله أهل الشام الّذين أبوا الدخول في البيعة ، وأهل الجمل والنهروان الّذين خلعوا بيعته حقّ ، وكان حقّ الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا ، فلمّا تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بغاة ، فتناولهم قوله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ).

ولقد عتب معاوية علىٰ سعد بن أبي وقّاص لعدم مشاركته له فقال سعد رادّاً عليه : لقد ندمت علىٰ تأخّري عن قتال الفئة الباغية. يعني بها : معاوية ومَن تابعه (١).

وهذا المعنىٰ لم يخالف فيه أحد ؛ قال الجصّاص في أحكام القرآن : قاتل عليّ وكان محقّاً في قتاله لهم ، لم يخالف فيه أحد إلاّ الفئة الباغية الّتي قابلته وأتباعها (٢).

وفي روح المعاني للآلوسي : عن الحاكم والبيهقي ، عن عبد الله بن عمر ، قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية ، وهي قوله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ... ) .. الآية ؛ حيث إنّي لم أُقاتل الفئة الباغية ـ يعني : معاوية ومَن معه من الباغين ـ علىٰ عليّ عليه‌السلام (٣). انتهىٰ.

وعليه ، فأقول للدليمي : لِمَ لا تُذكر هذه السيرة لأجل الاقتداء بها في مجاهدة البغاة والدعاة إلىٰ النار ، الّذين يبغونها عوجاً ؟!

وفي هذا قال أبو بكر الجصّاص في كتابه المتقدّم : ولم يدفع أحد من علماء الأُمّة وفقهائها ، سلفهم وخلفهم ، وجوب ذلك ، إلاّ قوم من الحشو

__________________

(١) أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ ٢ / ٢٢٤.

(٢) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٣ / ٥٣٢.

(٣) روح المعاني ٢٦ / ١٥١.

٢١٣

وجهّال أصحاب الحديث ; فإنّهم أنكروا قتال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح.

وسمّوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : فتنة ، إذا احتيج فيه إلىٰ حمل السلاح وقتال الفئة الباغية ، مع ما قد سمعوا من قول الله تعالىٰ : ( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ) ، وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره.

وزعموا مع ذلك أنّ السلطان لا يُنكر عليه الظلم والجور وقتل النفس الّتي حرّم الله ، وإنّما ينكر علىٰ غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح ، فصاروا شرّاً علىٰ الأُمّة من أعدائها المخالفين لها ; لأنّهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار علىٰ السلطان الظلم والجور ، حتّىٰ أدّىٰ إلىٰ تغلّب الفجّار ، بل المجوس وأعداء الإسلام ، حتّىٰ ذهبت الثغور ، وشاع الظلم ، وخرّبت البلاد ، وذهب الدين والدنيا ، وظهرت الزندقة والغلوّ ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية.

والّذي جلب ذلك كلّه عليهم : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والإنكار علىٰ السلطان الجائر. والله المستعان (١).

أقول :

ولعلّ الدليمي حين أراد إخراج هذه القضية من الدين ، قد أراد ذلك بلحاظ المخاطبين فقط ! وهم مسلمو اليوم ، باعتبار أنّ هذه القضية ليست لها الآن ـ كما يُتصوّر ـ مساس بعقائد المسلمين وفقههم ، وأنّها مسألة تاريخية لا فائدة من تجديد البحث فيها ، كما عبّر عن ذلك ..

__________________

(١) أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٢ / ٤٣.

٢١٤

لكنّ الأمر ليس كذلك ؛ فما زالت آثار الخلافات بين الصحابة ، وخاصّة بين عليّ عليه‌السلام وخصومه ، سارية المفعول في جسد المسلمين إلىٰ الآن ، والمسلمون منقسمون بشأنها بين مؤيد ومعارض (١) ، وليس من سبب لذلك إلاّ لقرب تلك الخلافات من مصادر التشريع الإسلامي ، وهما : الكتاب والسُنّة ، وخاصّة السُنّة النبوية المبيّنة للقرآن الكريم ، والّتي كان للأُمويين دور كبير في تشويهها وتحريفها بإدخال الكذب عليها ، وتسخير الأقلام المأجورة لوضع الأحاديث فيها ، والطعن في أهل بيت النبوّة الّذين أمر الله المسلمين بمودّتهم ، وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّته بالتمسّك بهم من بعده مع القرآن الكريم ، وجعلهم أماناً للأُمّة من الاختلاف ، وهو ـ أي هذا الانقسام ـ مؤسف حقّاً ، خاصّة بعد معرفتنا بأحقيّة عليّ عليه‌السلام في مطالبه وحروبه ، كما تقدّم.

قال ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في شرح النهج عن شيخه أبي جعفر الإسكافي : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة ، وقوماً من التابعين علىٰ رواية أخبار قبيحة في عليّ عليه‌السلام تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل لهم علىٰ ذلك جعلاً يرغب في مثله ، فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : عروة بن الزبير (٢).

__________________

(١) انظر : منهاج السُنّة ـ لابن تيمية ـ في عدّة مواضع منه لتجد تحامله علىٰ الإمام عليه‌السلام لحروبه مع أعدائه ..

وإن شئت فانظر : المقالات السنّية في كشف ضلالات أحمد بن تيمية ـ للشيخ عبد الله الهرري الشافعي ـ : ٢٠٢ ـ ٢٠٦ ; لتقف علىٰ تلك المواضع وردود الشيخ الهرري عليها.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٦٣.

٢١٥

كما استطاع معاوية أن يخلق خطّاً معارضاً لخطّ أهل البيت عليهم‌السلام ، الّذين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمّته بالتمسّك بهم مع القرآن ، وجعلهما ـ أي القرآن والعترة معاً ـ أماناً للأُمّة من الضلال أبد الآبدين.

وهذا الخطّ الّذي ما زالت آثاره سارية المفعول إلىٰ الآن هو خطّ القول بعدالة الصحابة جميعاً ، ولعلّ الدليمي هو أحد ضحايا هذا الخطّ ، ومن أتباعه كما يدلّ عليه كتابه ..

فقد اختلق معاوية وحزبه قضية القول بعدالتهم جميعاً ، ووضع الأحاديث في فضائلهم ووجوب اتّباعهم ، قبال الآيات والأحاديث الدالّة علىٰ عصمة وطهارة أهل البيت عليهم‌السلام ووجوب اتّباعهم والاقتداء بهم.

كالحديث الموضوع : أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم (١) ، وغيره من الأحاديث الواردة في كتب القوم في هذا المورد ، الّتي لم تفرّق بين صحابي وصحابي ، وقد مرّ البحث في الموضوع أوّل الكتاب فلا نعيد.

وقد اعترف ابن عرفة ، المعروف بـ : « نفطويه » في تاريخه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أُمية ; تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أُنوف بني هاشم (٢).

وسبب خلق هذا الخطّ المعارض لخطّ أهل البيت عليهم‌السلام قد أدركه

__________________

(١) اعترف بذلك ابن تيمية ; انظر كتابه : المنتقىٰ : ٥٥١ ..

وانظر : الإحكام في أُصول الأحكام ٥ / ٦٤٢ و ٦ / ٨١٠ ، ميزان الاعتدال ١ / ٤١٣ ; وعدّه الذهبي من بلايا جعفر بن عبد الواحد ، سلسلة الأحاديث الضعيفة ١ / ٧٩.

(٢) انظر : النصائح الكافية : ٩٩ ، نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١١ / ٤٦ ؛ واقرأ في الصفحة الّتي قبلها قول معاوية في كتابه الّذي بعثه إلىٰ عمّاله : ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وائتوني بمناقض له في الصحابة ؛ فإنّ هذا أحبُّ إليَّ وأقرُّ لعيني ، وأدحض لحجّة أبي تراب وشيعته.

٢١٦

الكثير من مفكّري أهل السُنّة وعلمائهم ، سواء المتقدّمين منهم ـ كما مرّ عن ابن عرفة ـ أو المتأخّرين ، ومن ذلك يقول الكاتب والمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب في كتابه نظرية عدالة الصحابة :

نظرية عدالة كلّ الصحابة تؤمِّن فوز معاوية في أية مقارعة بينه وبين هؤلاء الخصوم ؛ فلو قال آل محمّد إنّهم هم الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، لانبرىٰ معاوية وشيعته إلىٰ الردّ الفوري عليهم : نحن أصحاب محمّد العدول لا يجوز علينا الكذب ولا يجوز علينا الخطأ ؛ لأنّنا في الجنّة ولا يدخل أحد منّا النار.

ولو قال آل محمّد : مَن عادانا فقد عادىٰ الله. لردّ معاوية وشيعته : نحن الصحابة أيضاً قال النبيّ فينا : « مَن آذىٰ صحابياً فقد آذاني » ... إلىٰ آخره. ويختلط الحقّ بالباطل ، والعاصي بالمطيع ، والمحسن بالمسيء (١).

وهكذا كان لمعاوية وحزبه دور كبير في حرمان الأُمّة من سعادتها ونجاتها ، والحيلولة دون اتّباعها لأهل بيت النبوّة عليهم‌السلام ؛ بمحاربته لهم ، ومطاردته شيعتهم ومحبّيهم تحت كلّ حجر ومدر (٢) ، وبتضييع الحقيقة

__________________

(١) نظرية عدالة الصحابة : ١٠٩.

(٢) قال الإمام الباقر عليه‌السلام : لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام ونقضي ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ، ولا نأمن علىٰ دمائنا ودماء أوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون بكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلىٰ أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كلّ بلدة ، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنّا ما لم نقله ولم نفعله ; ليبغّضونا إلىٰ الناس ..

وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن عليه‌السلام ، فقتلت شيعتنا في كلّ بلدة وقطّعت الأيادي والأرجل علىٰ الضنّة ، وكلّ مَن يُذكَر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نهب ماله أو هدمت داره ، ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ إلىٰ زمان عبيد الله بن زياد قاتل

٢١٧

علىٰ المسلمين باختلاقه لهم كلّ تلك الطرق الملتوية والخطوط المتشعّبة ، حتّىٰ يصعب عليهم الوصول منها إلىٰ الحقّ ، إلاّ بعد البحث والتنقيب الشاقّين.

هذا كلّه مع أنّه لم يصحّ في فضائل معاوية شيء ، ولم تثبت في حقّه منقبة ; قال الشوكاني في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : وقال الحاكم : سمعت أبا العبّاس محمّد بن يعقوب بن يوسف يقول : سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : لا يصحّ في فضائل معاوية حديث (١).

أمّا ابن الجوزي فبعد أن أورد الأحاديث الواردة في معاوية في باب الموضوعات ، ساق عن إسحاق بن راهويه ـ شيخ البخاري ـ قوله : لم يصحّ

__________________

الحسين عليه‌السلام ، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كلّ قتلة ، وأخذهم بكلّ ضنّة وتهمة ، حتّىٰ أنّ الرجل ليقال له : زنديق ، أو : كافر ، أحبّ إليه من أن يقال : شيعة عليّ. انتهىٰ.

وروى أبو الحسن عليّ بن محمّد بن أبي سيف المدائني في كتاب الأحداث ، قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلىٰ عمّاله بعد عام الجماعة أن : برئت الذمّة ممّن روىٰ شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته ..

فقامت الخطباء في كلّ كورة وعلىٰ كلّ منبر يلعنون عليّاً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشدّ الناس بلاءً حينئذ : أهل الكوفة ; لكثرة مَن بها من شيعة عليّ عليه‌السلام ..

فاستعمل عليهم زياد بن سمية ، وضمّ إليه البصرة ، وكان يتتبّع الشيعة وهو عارف بهم ; لأنّه كان منهم أيّام عليّ عليه‌السلام ، فقتلهم تحت كلّ حجر ومدر وأخافهم ، وقطّع الأيدي والأرجل ، وسمّل العيون ، وصلبهم علىٰ جذوع النخل ، وطردهم وشرّدهم عن العراق ، فلم يبقَ بها معروف منهم.

وكتب معاوية إلىٰ عمّاله في جميع الآفاق أن لا يجيزوا لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ... إلىٰ آخره.

راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١١ / ٤٣.

(١) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : ٤٢٣.

٢١٨

في فضائل معاوية شيء (١).

وللنسائي ـ صاحب السُنن ـ قصة مشهورة في أمر فضائل معاوية ؛ قال الدارقطني : خرج النسائي حاجّاً فامتُحن بدمشق وأدرك الشهادة ، فقال : احملوني إلىٰ مكّة ، وتوفّي بالرملة ، وكان أصحابه في دمشق قد سألوه عن فضائل معاوية ؟ فقال : ألا يرضىٰ رأس برأس حتّىٰ يفضل ؟! فما زالوا يدفعونه حتّىٰ أُخرج من المسجد (٢).

وروى أبو الفدا : عن الشافعي ، أنّه أسرّ إلىٰ الربيع أن لا تقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم : معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد (٣).

وروى الطبري : أنّ الحسن البصري كان يقول : أربع خصال كُنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه منهنّ إلاّ واحدة لكانت موبقة :

١ ـ انتزاؤه علىٰ هذه الأُمّة بالسفهاء ، حتّىٰ ابتزّوها أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة.

٢ ـ استخلافه ابنه يزيد بعده سكّيراً خمّيراً ، يلبس الحرير ، ويضرب الطنابير (٤).

__________________

(١) فتح الباري شرح صحيح البخاري ٧ / ٨١.

(٢) البداية والنهاية ١١ / ١٤٠ ، فتح الباري ٧ / ٨١ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ٢٣٠ ، كشف الخفاء ٢ / ٤١٩.

(٣) المختصر في أخبار البشر ٢ / ١٠٠ ، شيخ المضيرة : ١٨٣.

(٤) يزيد ! وما أدراك ما يزيد !! لعنة من لعنات معاوية علىٰ المسلمين ، ملك ثلاث سنوات فقط ..

في السنة الأُولىٰ أمر بقتل الحسين سيد شباب أهل الجنّة عليه‌السلام ، فكانت تلك الفاجعة الدامية في كربلاء ، الّتي اجتُثّت فيها ذرّية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّىٰ الأطفال الرضّع منهم ، ثمّ أمره بعد ذلك بحمل بنات الرسالة زينب الكبرىٰ عليها‌السلام وأخواتها

٢١٩

٣ ـ ادّعاؤه زياد ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش وللعاهر الحجر ».

٤ ـ وقتله حِجر وأصحابه ، ويلٌ له من حِجر وأصحابه ، ويلٌ له من حِجر وأصحابه (١). انتهى كلام الحسن البصري.

وقد روى بريدة مرفوعاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « قتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا » (٢).

بل روى معاوية نفسه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « كلّ ذنب عسىٰ الله

__________________

سبايا من الكوفة إلىٰ الشام ، في موقف يندىٰ له جبين التاريخ خجلاً ويعتصر له المؤمنون والشرفاء ألماً.

وفي السنة الثانية عطف علىٰ مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفعل فيها الأفاعيل بوصية من أبيه معاوية ، الّذي قال له : إذا ثار أهل المدينة فأرسِل إليهم مسلم بن عقبة. وكان مع مسلم قائمة بأسماء الصالحين من الصحابة ليقتلهم واحداً واحداً ، ويدخل مسلم وجيشه عاصمة النبيّ ويفعل الأفاعيل الّتي تضجّ منها السماء ؛ مروان دليل الجيش يؤشّر ومسلم وجيشه ينفّذ ويعدم بغير رحمة ، وتمّ تنفيذ أبشع مجزرة ، وكان من نتيجة هذه الوصية أن :

١ ـ أُبيد مَن حضر من البدريين بالكامل.

٢ ـ أُبيد من قريش ومن الأنصار سبعمائة رجل.

٣ ـ أُبيد من الموالي والعرب عشرة آلاف رجل.

راجع : كلّ مَن ذكر نتائج معركة الحرّة سنة ٦٣ هـ في كتب التاريخ ، لتتأكّد من صحّة هذه النتائج ؛ وعلىٰ سبيل المثال راجع : تاريخ الطبري ٤ / ٣٧٢ ، البداية والنهاية ٦ / ٢٦٢.

أمّا في السنة الثالثة فقد قام جيش يزيد بالهجوم علىٰ مكّة وضربوا الكعبة الشريفة بالمنجنيق في حربهم لابن الزبير ، وهدموا جانباً من بيت الله الحرام ; انظر : سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٤٣ ، تاريخ دمشق ١٤ / ٣٨٤ ، تهذيب التهذيب ٢ / ٣٣٨.

(١) راجع : تاريخ الطبري ٤ / ٢٠٨ ، ترجمة الإمام الحسن عليه‌السلام : ١٨٤ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٢٦٢.

(٢) المجموع في شرح المهذّب ١٨ / ٣٤٥ و ٣٤٦.

٢٢٠