تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

لخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالنصّ عليه أكثر من مائة ألف مسلم ومسلمة ، كما ذكر ذلك بالتواتر المعتبر أرباب السير والتواريخ في كتبهم.

وكلامه عليه‌السلام الأخير واضح لا يحتاج إلىٰ بيان ، لكنّنا آثرنا توضيح ذلك لمَن كان ضعيف الفهم ، أو لمَن كان يقرأ كلمات الإمام عليه‌السلام في موضوع الخلافة ويفسّرها علىٰ هواه !

ثمّ أورد الدليمي نصّاً آخر من كلام الإمام عليه‌السلام في الخلافة ، وهو :

« والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية أربة ، ولكنّكم دعوتموني إليها ، وحملتموني عليها. ج ٢ ص ١٨٤ ..

ـ قال الدليمي : ـ قال ـ أي الإمام عليه‌السلام ـ : ولكنّكم دعوتموني إليها ... ولم يقل : الله خصّني بها ، أو نصّ علَيَّ فيها » (١).

أقول :

قد أوردنا سابقاً شذرات من كلامه عليه‌السلام الوارد في نهج البلاغة بشأن اختصاصه وأهل بيته عليهم‌السلام بالخلافة ..

منها : قوله عليه‌السلام : « إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ».

ومنها : قوله عليه‌السلام : « لا يقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأُمّة أحد... ولهم خصائص حقّ الولاية وفيهم الوصية والوراثة ».

أمّا كلام الإمام عليه‌السلام السابق ، والّذي أورده الدليمي هنا ، فقد كان من

__________________

(١) ص ١٤.

١٨١

كلام له عليه‌السلام كلّم به طلحة والزبير ، اللّذين بايعاه بعد مقتل عثمان ، وجاءا يعاتبانه علىٰ ترك مشورتهما والاستعانة في الأُمور بهما (١).

ومن المعلوم أنّ الإمام عليه‌السلام قد ردّ الناس عن مبايعته بعد مقتل عثمان في أوّل الأمر ; لشدّة الفتنة الّتي وقع المسلمون فيها بعد مقتله (٢) ، فقد كان عليه‌السلام يقول للناس لمّا أرادوه علىٰ البيعة :

« دعوني والتمسوا غيري ; فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان ، لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول (٣) ، وإنّ الآفاق قد أغامت (٤) ، والمحجّة قد تنكّرت (٥) ، واعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغِ إلىٰ قول القائل ، وعتب العاتب ، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمَن وليّتموه أُموركم ، وأنا لكم وزيراً ، خير لكم منّي أميراً ... ».

قال الشيخ محمّد عبده في تعليقته : تنكرت : أي : تغيّرت علائمها فصارت مجهولة ، وذلك أنّ الأطماع كانت قد تنبّهت في كثير من الناس ، علىٰ عهد عثمان رضي‌الله‌عنه ، بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء ، فلا يسهل عليهم

__________________

(١) انظر : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ١٨٣.

(٢) قال الإمام عليّ عليه‌السلام لعثمان : « إنّي أُنشدك الله ! أن لا تكون إمام هذه الأُمّة المقتول ، فإنّه كان يقال : يقتل في هذه الأُمّة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلىٰ يوم القيامة ويلبس أُمورها عليها ، ويبثّ الفتن فيها ، فلا يبصرون الحقّ من الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً ». انتهىٰ. نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٦٩.

(٣) لا تصبر عليه ولا تطيق احتماله.

(٤) أغامت : غُطّيت بالغيم.

(٥) المحجّة : الطريق المستقيمة.

١٨٢

ـ في ما بعد ـ أن يكونوا في مساواة مع غيرهم ، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه ، وطلبوا طائشة الفتنة ؛ طمعاً في نيل رغباتهم ، وأُولئك هم أغلب الرؤساء في القوم ، فإن أقرّهم الإمام علىٰ ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتىٰ ظلماً ، وخالف شرعاً ، والناقمون علىٰ عثمان قائمون علىٰ المطالبة بالنصفة إن لم ينالوها تحرّشوا للفتنة ، فأين المحجّة للوصول إلىٰ الحقّ علىٰ أمن من الفتن ؟ وقد كان بعد بيعته ما تفرّس به قبلها (١).

ولا يعني قوله عليه‌السلام : « دعوني والتمسوا غيري ... » علىٰ عدم وجود النصّ عليه ، وإنّما كان بقوله هذا ، وغيره من الأقوال الواردة بعد مقتل عثمان ، يتحرّىٰ السكينة في شؤون المسلمين الّذين عصفت بهم ريح الفتن الشديدة ، والّتي جعلتهم في طخية عمياء ـ كما وصفها الإمام عليه‌السلام في خطبته الشقشقية ـ من يوم السقيفة حتّىٰ يوم مقتل عثمان.

أمّا التعبير الوارد عنه عليه‌السلام بالزهد في الخلافة ، فقد كان عليه‌السلام يعبّر عن ذلك ، بل عن زهده في الدنيا كلّها ، وأنّها أزهد عنده من عفطة عنز ـ كما يقول ـ في مواقف عديدة من خطبه ، ويؤكّد أنّه لا يطلب أمر الخلافة لولا الرغبة في إقامة الحقّ ..

فمن ذلك : قوله عليه‌السلام : « أما والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجّة بوجود الناصر ، وما أخذ الله علىٰ العلماء أن يقاروا علىٰ كظة ظالم ، ولا سغب مظلوم ، لألقيت حبلها علىٰ غاربها (٢) ، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها ، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٨٢.

(٢) الغارب : الكاهل ، والكلام تمثيل للترك وإرسال الأمر.

١٨٣

عنز » (١).

كما كان عليه‌السلام يقول : « اللّهمّ إنّك تعلم أنّه لم يكن الّذي كان منّا منافسةً في سلطان ، ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ، ونظهر الإصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك ، وتقام المعطّلة من حدودك » (٢) ، إلىٰ غير ذلك من كلماته عليه‌السلام.

أمّا قول الكاتب ـ الّذي ذكره تعقيباً علىٰ كلام الإمام عليه‌السلام ـ : ولم يقل ـ أي الإمام عليه‌السلام ـ ولكن الله خصّني بها أو نصَّ عليَّ فيها ... مردود عليه ; لأنّ عدم القول لا يعني القول بالعدم ، فهذا محض تكلّف للأدلّة لا يخفىٰ ضعف الاعتماد عليه عند أهل النظر والبيان.

وأمّا النصّان الآخران اللّذان جاء بهما الكاتب من نهج البلاغة وهما : قوله عليه‌السلام : « وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها ، ثمّ تداككتم علَيَّ تداكّ الإبل الهيم علىٰ حياضها يوم وردوها » (٣).

وقوله عليه‌السلام : « دعوني والتمسوا غيري ... ـ إلىٰ قوله ـ وإن تركتموني فأنا كأحدكم ، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمَن ولّيتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً » (٤).

أقول :

قد مرّت الاجابة علىٰ أمثال هذه النصوص الواردة عن الإمام عليه‌السلام بعد

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٣٦.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٣.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٢٢٢.

(٤) ص ١٤.

١٨٤

مقتل عثمان ، وسرّ تمنّعه عليه‌السلام عن موافقة الناس علىٰ بيعته أوّل الأمر ، وقد نقلنا للقارئ الكريم أيضاً تعليق الشيخ محمّد عبده علىٰ كلامه عليه‌السلام أعلاه ، فارجع إليه (١).

وبالإضافة إلىٰ ما ذُكر يمكن القول : إنّ الإمام عليه‌السلام أراد بتمنّعه عن موافقة الناس علىٰ بيعته أوّل الأمر ، بعد مقتل عثمان ، أن يختبر الناس ويمحَص نواياهم نحوه ; كي لا تكون بيعته فلتة ، كبيعة الّذين سبقوه ، من غير تدبّر ولا روية ، ولهذا كان يقول للناس الّذين أرادوه للبيعة ، كما جاء في النهج : « اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، ولم أصغِ إلىٰ قول القائل وعتب العاتب ».

وكان الهدف من ذلك واضحاً ، فالإمام عليه‌السلام يريد أن يلزمهم ببيعته ، فلا يقبل بعد ذلك عذر عاذر عن التخلّف عن طاعته واتّباع أوامره (٢) ، لأنّ البيعة كانت عن إصرار من الناس وإلحاح عليه ، ولم تكن فلتة ، لذا تراه يقول للناس بعد ذلك ـ أي بعد البيعة وأخذهم بالعدل في الحكم والسوية في العطاء ـ : « لم تكن بيعتكم إيّاي فلتةً ، وليس أمري وأمركم واحداً ، إنّي أُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم ... أيّها الناس ! أعينوني علىٰ أنفسكم ، وأيم الله ! لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ، ولأقودنّ الظالم بخزامته (٣) ، حتّى

__________________

(١) وتجدر الإشارة هنا إلىٰ أنّ البيعة للنبيّ أو الإمام لا تثبت نبوته أو إمامته ، بالمعنىٰ الّذي يفهم منه أنّ عدم مبايعة النبيّ أو الإمام من قبل الناس يلغي نبوته أو إمامته ، وإنّما البيعة هي تأكيد شرعي وعرفي للالتزام بخطّ النبوّة والإمامة ليس إلاّ ، وإلاّ فالنبوّة والإمامة ثابتتان بالنصّ الإلهي وإن انكرتهما الناس أو جحدوا بهما !

(٢) انظر إلىٰ خطاباته وأقواله عليه‌السلام في نهج البلاغة للخارجين عليه بعد البيعة ، كـ : طلحة والزبير والخوارج ومعاوية.

(٣) الخزامة ـ بالكسر ـ : حلقةً من شعر تجعل في وترة أنف البعير ليشد فيها الزمام

١٨٥

أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً » (١).

وفي ختام هذا الفصل أقول :

لو أنّ الدليمي عند استشهاده بالنصوص كان يذكر كلام الإمام عليه‌السلام بتمامه ، لأدرك القارئ لكتابه مراد الإمام منه ، ولكنّه كان يقتطع النصوص اقتطاعاً ، ويقدّمها لقارئه مبتورة مشوّشة بشكل يساعد علىٰ تضييع الحقيقة منها ، ويحقّق غرضه الّذي يصبو إليه في نفسه ..

الأمر الّذي يجعل مثل هذه الطريقة ناقصة ، لا تنم عن قدرة متكاملة في البحث والتدقيق ؛ فإنّ للكلام قرائن مقالية ، وقرائن حالية ، ودلائل خارجية ، وأساليب بلاغية ، يتعرّض لها المتكلّم في كلامه ، ينبغي للباحث في كلام المتكلّم أن يكون ملّماً بها ، ومطّلعاً عليها ليكون بحثه تامّاً وافياً ، نافعاً لنفسه ولغيره (٢).

وهذه الطريقة في الكتابة عند الدليمي تذكّرني بطريقة كاتب آخر لعلّ الدليمي كان يقتفي أثره ويسير علىٰ خطاه ، وهو الكاتب الباكستاني إحسان إلهي ظهير ، الّذي كان يقتطع النصوص اقتطاعاً ويقدّمها لقارئه مبتورة مشوّشة علىٰ طريقة : ( وَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ) ، لم تكتمل جُملها ، ولم يتبيّن

__________________

ويسهل قياده.

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ١٩.

(٢) ولا أظنّ أنّ الدليمي أكثر علماً أو أكبر شأناً من ابن أبي الحديد ، علاّمة المعتزلة ، أو الشيخ محمّد عبده ، شيخ الجامع الأزهر في زمانه ، اللّذين شرحا النهج وبيّناه للناس ، فارجع إلىٰ شرحيهما تجد مقدار عنايتهما بالقرائن المقالية والحالية ، واهتمامهما بملاحظة الأساليب البلاغية من أجل سبر كلام الإمام عليه‌السلام وفهم المراد منه.

١٨٦

للقارئ تمام مراد المتكلّم منها ، الأمر الّذي جعل علماء الفريقين ، بل عوامّهم ، يزدرون بكتبه ولا يلتفتون إليها ; لضعف تحقيقها ، وقلّة الإنصاف فيها.

*                  *                 *

١٨٧

١٨٨



الفصل الخامس



موقف الإمام عليه‌السلام

من أهل الجَمل

١٨٩

١٩٠



قال الدليمي :

« من خطبة له عليه‌السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة ( في وقعة الجمل ) : ( ما لي ولقريش ! والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولأُقاتلنّهم مفتونين ). ج ١ ص ٨١ ..

ففرّق بين حالهم في الجاهلية حين قاتلهم كافرين وبين حالهم يومذاك إذ سمّاهم : مفتونين. أي : أصابتهم الفتنة فاشتبهت عليهم الأُمور » (١).

أقول :

جاء في نهج البلاغة : أنّ رجلاً قام إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام وسأله : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن الفتنة ، وهل سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها ؟

فقال عليه‌السلام : « إنّه لمّا أنزل الله سبحانه قوله : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ) (٢) علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول الله ! ما هذه الفتنة الّتي أخبرك الله تعالىٰ بها ؟

فقال : يا عليّ ! إنّ أُمّتي سيفتنون من بعدي.

__________________

(١) ص ١٨.

(٢) سورة العنكبوت : الآيتان ١ و ٢.

١٩١

فقلت : يا رسول الله ! أو ليس قد قلت لي يوم أُحد حيث استشهد مَن أُستشهد من المسلمين وحيزت عنّي الشهادة فشقّ ذلك علَيَّ ، فقلت لي : أبشر ! فإنّ الشهادة من ورائك ؟

فقال لي : إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذاً ؟

فقلت : يا رسول الله ! ليس هذا من مواطن الصبر ، ولكن من مواطن البشرىٰ والشكر.

وقال : يا عليّ ! إنّ القوم سيُفتنون بأموالهم ، ويمنّون بدينهم علىٰ ربّهم ، ويتمنّون رحمته ، ويأمنون سطوته ، ويستحلّون حرامه بالشبهات الكاذبة ، والأهواء الساهية ، فيستحلّون الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع.

قلت : يا رسول الله ! فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك ، أبمنزلة ردة ، أم بمنزلة فتنة ؟

فقال : بمنزلة فتنة » (١).

ولا خلاف في أنّ الّذين قاتلوا عليّاً عليه‌السلام أيّام خلافته ، سواء في البصرة أو صِفّين أو النهراون ، هم من البغاة ، علىٰ هذا اتّفق الفقهاء والجمهور الأعظم ومتكلّمو المسلمين ..

قال المناوي الشافعي في فيض القدير : قال عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة : أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي ، منهم : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والجمهور الأعظم من المتكلّمين والمسلمين أنّ عليّاً مصيب في قتاله لأهل صِفّين ، كما هو

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٤٩.

١٩٢

مصيب في أهل الجمل ، وأنّ الّذين قاتلوه بغاة ظالمون له ، ولكن لا يُكفَّرون ببغيهم ..

وقال الإمام أبو منصور في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السُنّة : أجمعوا أنّ عليّاً مصيب في قتاله أهل الجمل : طلحة والزبير وعائشة بالبصرة ، وأهل صِفّين : معاوية وعسكره (١). انتهىٰ.

وهذا النصّ المتقدّم في بيان عقيدة أهل السُنّة في قتال أمير المؤمنين عليه‌السلام لأهل الجمل وصِفّين والنهروان لا يختلف فيه الإمامية عن أهل السُنّة إلاّ في مسألة واحدة ، وهي تكفير مَن حارب الإمام عليه‌السلام ..

وقد استندوا في قولهم هذا ، لِما ورد في الحديث الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « حرب عليّ حربي ، وسلمه سلمي » (٢) ..

وحرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفر بلا خلاف ، فينبغي أن يكون حرب عليّ مثله ; لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد التشبيه بينهما في الأحكام ، أي : حكم حربك حربي ، وإلاّ فمحال أن يريد نفس حربك حربي ; لأنّ المعلوم خلافه ..

__________________

(١) فيض القدير ٦ / ٤٧٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٢٩٧ ; وعدّه ممّا ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأخبار الصحيحة ..

وانظر في معنىٰ الحديث : مسند أحمد ٢ / ٤٤٢ ، سُنن الترمذي ٥ / ٣٦٠ ح ٣٩٦٢ ; يرويه بسند صحيح إلىٰ زيد بن أرقم ، سنن ابن ماجة ١ / ٥٢ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٦١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ / ٥١٢ ، صحيح ابن حبان ١٥ / ٤٣٣ ، المعجم الصغير ٢ / ٣ ، المعجم الأوسط ٣ / ١٧٩ ، المعجم الكبير ٣ / ٤٠ ، ذخائر العقبىٰ : ٢٥ ، تاريخ بغداد ٧ / ١٤٤ ، تاريخ مدينة دمشق ١٤ / ١٥٧ ، أُسد الغابة ٣ / ١١ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٥٨ ، ترجمة الإمام الحسن ـ لابن عساكر ـ : ٩٩ ، ١٤٣ .. والحديث المذكور مروي بطرق كثيرة وألفاظ متقاربة ربّما تجاوزت حدّ التواتر من طريق الفريقين.

١٩٣

قال الشيخ المفيد في الجمل : واجتمعت الشيعة علىٰ الحكم بكفر محاربي أمير المؤمنين ، ولكنّهم لم يخرجوهم بذلك عن حكم ملّة الإسلام ; إذ كان كفرهم من طريق التأويل : كفر ملّة ، ولم يُكفَّروا كفر ردّة عن الشرع مع إقامتهم علىٰ الجملة منه وإظهار الشهادتين والاعتصام بذلك عن كفر الردّة المخرج عن الإسلام ، وإن كانوا بكفرهم خارجين عن الإيمان (١).

ولعلّ قائل يقول :

لو كان ذلك كفر لأجرىٰ عليهم أحكام الكفر ، من منع الوراثة والمدافنة والصلاة عليهم ، وأخذ الغنيمة واتّباع المُدبر ، والإجازة علىٰ المجروح ، والمعلوم أنّه عليه‌السلام لم يجرِ ذلك عليهم ، فكيف يكون كفراً ؟!

قلنا :

أحكام الكفر مختلفة ، كـ : حكم الحربي ، والمعاهد ، والذمّي ، والوثني ، فمنهم مَن تُقبل منهم الجزية ويُقرَّون علىٰ دينهم ، ومنهم مَن لا تُقبل ، ومنهم مَن يُناكح وتُؤكل ذبيحته ، ومنهم مَن لا تُؤكل ذبيحته عند المخالف.

ولا يمتنع أن يكون مَن كان متظاهراً بالشهادتين ، وإن حُكم بكفره ، أن يكون حكمه مخالف لأحكام الكفّار ، كما قالت المعتزلة في المجبِّرة والمشبِّهة ، وغيرهم من الفرق الّذين يحكمون بكفرهم وإن لم تجرِ هذه الأحكام عليهم ..

__________________

(١) الجمل : ٣٠.

١٩٤

ولكن هذا لا يمنع من أن يعود الباغي إلىٰ رشده ويتوب إلىٰ الله ، ويختم حياته بالتوبة عمّا حصل منه بالتفريط في حقّ طاعة لله وإطاعة أوليائه (١).

ولنعد إلىٰ نهج البلاغة ونطالع أقوال الإمام عليه‌السلام في واقع الّذين حاربوه في البصرة من أهل الجمل :

قال عليه‌السلام عن رأسي الفتنة في الواقعة ، وهما طلحة والزبير : « والله ! ما أنكروا علَيَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصفاً (٢) ، وإنّهم يطلبون حقّاً هم تركوه ، ودماً هم سفكوه ، فإن كنت شريكهم فيه ، فإنّ لهم نصيبهم منه ، وإن كانوا ولّوه دوني فما الطلبة إلاّ قبلهم ، وإنّ أوّل عدلهم للحكم علىٰ أنفسهم ..

إنّ معي لبصيرتي ، ما لبست ولا لبّس علَيَّ ، وإنّها للفئة الباغية فيها الحمأ والحمة (٣) ، والشبهة المغدفة (٤) ، وإنّ الأمر لواضح ، وقد زاح الباطلُ عن نصابهِ ، وانقطع لسانه عن شَغَبهِ » (٥).

__________________

(١) يراجع كتاب الاقتصاد ـ للشيخ الطوسي ـ : ٢٢٦ ; للوقوف بالتفصيل علىٰ أحكام البُغاة علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام عند الإمامية.

(٢) النَصف : الإنصاف.

(٣) قال الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج ٢ / ٢٠ ـ : المراد بالحمأ : مطلق القريب والنسيب ، وهنا كناية عن الزبير ، فإنّه من قرابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابن عمّته.

قالوا : وكان النبيّ أخبر عليّاً إنّه ستبغي عليه فئة فيها بعض أحمائه وإحدىٰ زوجاته ، والحمة كناية عنها ; وأصلها : الحيّة ، أو أُبرة اللاسعة من الهوام.

(٤) أغدفت المرأة قناعها : أرسلته علىٰ وجهها. وأغدف الليل : أرخىٰ سدوله ; يعني أنّ شبهة الطلب بدم عثمان ساترة للحقّ.

(٥) أُسد الغابة ٣ / ٦١ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٩ / ٣٥.

١٩٥

وقال عليه‌السلام عنهما أيضاً : « اللّهمّ ! إنّهما قطعاني وظلماني ، ونكثا بيعتي (١) ، وألّبا الناس علَيَّ ، فاحْلُل ما عقدا ، ولا تحكم لهما ما أبرما ، وأرهما المساءَة في ما أمّلا وعَمِلا ، ولقد استثبتهما قبل القتال ، واستأنيتُ بهما أمام الوقاع ، فغمطا النعمة وردّا العافية » (٢).

وقال عليه‌السلام في كتاب بعثه إليهما : « وقد زعمتما أنّي قتلتُ عثمان ! فبيني وبينكما مَن تخلَّف عنّي وعنكما من أهل المدينة ، ثمّ يلزم كلّ امرئٍ بقدر ما احتمل (٣) ، فارجعا أيّها الشيخان عن رأيكما ، فإنّ الآن أعظم أمركما العار ، من قبل أن يجتمع العار والنار » (٤).

أمّا زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عائشة ، الّتي خرجت عليه مع طلحة والزبير ، فقد قال عليه‌السلام عنها : « وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء ، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين ، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلَيَّ لم تفعل (٥) ،

__________________

(١) وقد ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه أمَر عليّاً عليه‌السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وهم : أهل الجَمل ، وأهل صفين ، والخوارج ; راجع ذلك في : المستدرك علىٰ الصحيحين ـ للحاكم ـ ٣ / ١٥٠ ، مسند أبي يعلى ١ / ٣٩٧ ، ٣ / ١٩٤ ، المعجم الأوسط ٨ / ٢١٢ ، ٩ / ١٦٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٦٨ ، البداية والنهاية ٧ / ٣٣٨.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٢١.

(٣) أي : نرجع في الحكم لمَن تقاعد عن نصري ونصركما من أهل المدينة ، فإن حكموا قبلنا حكمهم ، ثمّ ألزمت الشريعة كلّ واحد منّا بقدر مداخلته في قتل عثمان.

(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١١٢.

(٥) قال الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج : ٢ / ٤٨ ـ : المرجل : القدر ، والقين ـ بالفتح ـ : الحدّاد ، أي أنّ ضغينتها وحقدها كان دائمي الغليان كقدر الحدّاد فإنّه يغلي ما دام يصنع.

لتنال من غيري ... الخ : أي لتصيب من غيري غرضاً من الإساءة والعدوان مثل ما أتت إليَّ : أي فعلت بي ، لم تفعل ، لأنّ حقدها كان عليَّ خاصّة.

١٩٦

ولها بعد حرمتها الأُولىٰ ، والحساب علىٰ الله تعالىٰ » (١).

وفي ذمّ الناكثين ببيعته قال عليه‌السلام : « ألا وإنّ الشيطان قد ذمر (٢) حزبه ، واستجلب جلبه ، ليعود الجور إلىٰ أوطانه ، ويرجع الباطل إلىٰ نصابه ، والله ! ما أنكروا علَيَّ منكراً ، ولا جعلوا بيني وبينهم نَصفاً » (٣).

كما قال عليه‌السلام عنهم : « وإنّ أعظم حجّتهم لعلىٰ أنفسهم ، يرتضعون أُمّاً قد فُطمت (٤) ، ويحيون بدعة قد أُميتت ، يا خيبة الداعي ! مَن دعا ! وإلامَ أُجيب (٥) ؟! وإنّي لراض بحجّة الله عليهم وعلمه فيهم ».

أمّا أهل البصرة ، الّذين شاركوا طلحة والزبير والسيدة عائشة في الخروج عليه ، فقد قال عليه‌السلام لهم بعد الواقعة : « كنتم جند المرأة ، وأتباع البهيمة (٦) ، رغا فأجبتم ، وعُقِر فهربتم ، أخلاقكم دقاق (٧) ، وعهدكم شقاق ، ودينكم نفاق ، وماؤكم زعاق (٨) » (٩).

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٤٨.

(٢) حثّهم وحرّضهم.

(٣) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٥٩.

(٤) إذا فَطمت الأُمّ ولدها فقد انقضىٰ رضاعها وذهب لبنها ، يمثّل به طلب الأمر بعد فواته ، أو يمثّل به نفسه ، أو بيت مال المسلمين.

(٥) عن الشيخ محمّد عبده ـ في تعليقته علىٰ النهج ١ / ٦٠ ـ : هذا استفهام عن الداعي ودعوته ؛ تحقيراً لهما ، والكلام في أصحاب الجمل ، والداعي هو أحد الثلاثة الّذين تقدّم ذكرهم في قصّة الجمل ، عند الكلام في ذمّ البصرة.

ويا خيبة الداعي : خرج مخرج التعجّب من عظيم خيبة الدعاء.

(٦) يريد بـ : « البهيمة » : الجَمل.

(٧) دقّة الأخلاق : دناءتها.

(٨) مالح ، وإنّما ذمّهم بملوحة مائهم لسوء اختيارهم لمكانها.

(٩) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٤٤.

١٩٧

أقول :

فما جزاء الّذين كانت أخلاقهم دقاق ، وعهدهم شقاق ، ودينهم نفاق ؟!

قال تعالىٰ : ( وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) (١).

فأنت تلاحظ حسب الآية القرآنية أنّ نتيجة الكفّار والّذين فُتنوا وصار دينهم نفاقاً واحدة ، هي : النار مأواهم ، ولهم عذاب مقيم.

*                  *                 *

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٦٨.

١٩٨



الفصل السادس



موقف الإمام عليه‌السلام

من معاوية وحزبه

١٩٩

٢٠٠