تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

منه ؛ فقد قال عليه‌السلام : « رضينا عن الله قضاءه ، وسلّمنا لله أمره ، أتراني أكذب علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ والله لأنا أوّل من صدّقه ، فلا أكون أوّل من كذب عليه ، فنظرت في أمري ; فإذا طاعتي سبقت بيعتي ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري » (١).

وسأنقل للقارئ الكريم هنا كلام شارحي النهج : ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ، والشيخ محمّد عبده في شرح العبارة ، ليدرك مدىٰ الخلط وسوء الفهم الّذي وقع فيه الكاتب في فهم هذه العبارة !

قال ابن أبي الحديد : قوله : « فنظرت في أمري ... » إلىٰ آخر الكلام ، هذه كلمات مقطوعة من كلام يذكر فيه حاله بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه كان معهوداً إليه أن لا ينازع في الأمر ، ولا يثير فتنة ، بل يطلبه بالرفق فإن حصل له ، وإلاّ أمسك ، هكذا كان يقول عليه‌السلام ، وقوله الحقّ ..

وتأويل هذه الكلمات :

فنظرت فإذا طاعتي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي : وجوب طاعتي ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

قد سبقت بيعتي للقوم : أي : وجوب طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علَيّ ووجوب امتثالي أمره سابق علىٰ بيعتي للقوم ; فلا سبيل لي إلىٰ الامتناع من البيعة لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ علَيّ الميثاق بترك الشقاق والمنازعة ، فلم يحلّ لي أن أتعدّى أمره أو أُخالف نهيه.

ثمّ قال ابن أبي الحديد : فإن قيل : فهذا تصريح بمذهب الإمامية !

قيل : ليس الأمر كذلك ، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا ـ يعني

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٨٩.

١٦١

المعتزلة ـ من البغداديّين ; لأنّهم يزعمون أنّه الأفضل والأحقّ بالإمامة لولا ما يعلمه الله ورسوله من أنّ الأصلح للمكلّفين من تقديم المفضول عليه لكان مَن تقدّم عليه هالكاً (١). انتهىٰ.

مناقشة ابن أبي الحديد في شرحه :

والكلام الأخير لابن أبي الحديد هنا مردود عليه ; لأنّ تقديم المفضول علىٰ الفاضل قبيح عقلاً ، ومردود شرعاً ، بدليلي القرآن والسُنّة :

* أمّا الكتاب :

فقوله تعالىٰ : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢) ، وقوله تعالىٰ : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (٣) ، إلىٰ غيرها من الآيات الكريمة الدالّة في المقام.

* وأمّا السُنّة :

فقد ورد عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « مَن استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أوْلىٰ بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسُنّة نبيّه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين » (٤).

وقد جرت علىٰ هذا الارتكاز العقلي والشرعي عقائد الناس ؛ قال

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٢٩٦.

(٢) سورة يونس : الآية ٣٥.

(٣) سورة الزُمَر : الآية ٩.

(٤) سبق ذكر مصادره في ص ١٥٤.

١٦٢

أحمد بن محمّد الوتري البغدادي في كتابه روضة الناظرين : اعلم أنّ جماهير أهل السُنّة والجماعة يعتقدون أنّ أفضل الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ عليّ ، رضي الله تعالىٰ عنهم ، وأنّ المتقدّم في الخلافة هو المقدّم في الفضيلة ; لاستحالة تقديم المفضول علىٰ الفاضل ؛ لأنّهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل.

والدليل عليه : أنّ أبا بكر رضي‌الله‌عنه لمّا نصّ علىٰ عمر رضي‌الله‌عنه قام إليه طلحة رضي‌الله‌عنه فقال له : ما تقول لربّك وقد ولّيت علينا فظّاً غليظاً ؟!

قال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : فركت لي عينيك ، ودلكت لي عقبيك ، وجئتني عن رأيي ، وتصدّني عن ديني ! أقول له إذا سألني : خلّفت عليهم خير أهلك (١) ..

فدلّ علىٰ أنّهم يراعون الأفضل فالأفضل (٢). انتهىٰ.

وقد عنون البخاري في الجزء الأوّل من صحيحه باباً بعنوان : أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة ... وبغضّ النظر عمّا جاء فيه من أحاديث وفضائل منسوبة لبعضهم ولم تشهد كتب التاريخ والوقائع بصحّتها أو

__________________

(١) وفي رواية ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ١ / ٣٧ : لئن سألني الله لأقولنّ : استخلفت عليهم خيرهم في نفسي. انتهىٰ.

(٢) روضة الناظرين : ٢ ..

أقول : ذكرنا كلامه هنا من باب الاحتجاج والإلزام ليس إلاّ ؛ لاتّفاقه معنا في أصل الموضوع ، أمّا بخصوص أنّ أهل السُنّة والجماعة يعتقدون : إنّ أفضل الناس بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر ، ثمّ عمر ، ثمّ عثمان ، ثمّ عليّ عليه‌السلام ، وهي المفاضلة المنسوبة في حقّ الثلاثة الأوائل إلىٰ ابن عمر ـ كما في صحيح البخاري ج ٤ في مناقب عثمان ـ وفي حقّ الأربعة إلىٰ جعدبة بن يحيىٰ ـ انظر ترجمته في لسان الميزان ٢ / ١٠٥ ـ ؛ فانصح القارئ الكريم بالعودة إلىٰ كتاب الغدير ٧ / ٣ وما بعدها ، ليقف علىٰ القول الفصل في موضوع المفاضلة هذه.

١٦٣

مطابقتها للواقع وبقيت فضائل علىٰ الورق فقط (١) ، فإنّ البخاري قد أقرٌّ ـ كغيره ـ بأنّ أهل العلم والفضل هم أحقّ بالإمامة ، وأنّ تقديم المفضول علىٰ الفاضل قبيح لا يمكن لأحد أن يلجأ إلىٰ القول به أو الاعتماد عليه في مسألة الإمامة ..

فتبيّن من ذلك بطلان قول المعتزلة في جواز تقديم المفضول علىٰ الفاضل جملةً وتفصيلا.

أهل البيت عليهم‌السلام أحقّ بالإمامة من غيرهم :

وبما أنّ الحديث قد انجرّ إلىٰ بيان الفاضل من المفضول ، فلا بُدّ من بيان هذه الحقيقة ، وهي : إنّ أهل البيت عليهم‌السلام هم الأفضل في الأُمّة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو مدّعانا ; وذلك لما ورد من النصوص الدالّة علىٰ هذا الأمر ، والتي سبق أن مرّ منها في أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ..

فقد دلّت علىٰ أفضليّتهم آيات كثيرة متضافرة ، كـ : آية المباهلة (٢) ، وآية التطهير (٣) ، وآية المودّة (٤) ، وآية الصلاة علىٰ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّتي شارك أهل البيت عليهم‌السلام فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥) ، وغيرها من الآيات الكثيرة (٦).

كما دلّت علىٰ أفضليّتهم أحاديث كثيرة متضافرة ، نذكر منها هنا

__________________

(١) راجع : الغدير ٥ / ٢٨٥ ـ ٣٠٦ و ٧ / ٨٧ ـ ٩٦ و ١٠ / ٧٣ ـ ١٣٢ ; لتقف علىٰ التحقيق في جملة من هذه الفضائل المنسوبة.

(٢) سورة آل عمران : الآية ٦١.

(٣) سورة الأحزاب : الآية ٣٣.

(٤) ـ سورة الشورىٰ : الآية ٢٣.

(٥) سورة الأحزاب : الآية ٥٦.

(٦) انظر : المراجعات وملحقها ـ لحسين الراضي ; لتقف علىٰ مصادر أهل السُنّة الّتي قالت بنزول الآيات السابقة بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، مع آيات أُخَرَ كثيرة.

١٦٤

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد » (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد خطب الناس يوماً : « يا أيّها الناس ! إنّ الفضل والشرف والمنزلة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذرّيّته ، فلا تذهبنّ بكم الأباطيل » (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه ، مَن ركبها نجا ، ومَن تخلّف عنها غرق » (٣).

انظر التشبيه الدقيق في حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; فقد حملت تلك السفينة القوم الناجين وأنقذتهم من الغرق في الماء الّذي شمل الأرض كلّها آنذاك ، وكذا يكون المتّبِع لأهل بيته عليهم‌السلام ، الأمر الّذي يكشف لنا بوضوح عن الفرقة الناجية من المسلمين الّتي عناها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « ستفترق أُمّتي إلىٰ ثلاث وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ واحدة » (٤).

قال القاري في مرقاة المفاتيح : « ( ألا إنّ مَثل أهل بيتي ) أي شَبَههُم ( فيكم مثل سفينة نوح ) أي في سببية الخلاص من الهلاك إلىٰ النجاة ، ( مَن ركبها نجا ، ومَن تخلّف عنها هلك ) ، فكذا مَن التزم صحبتهم ومتابعتهم نجا في الدارين ، وإلاّ فهلك فيهما » (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق ، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب ، اختلفوا فصاروا

__________________

(١) ذخائر العقبىٰ : ١٧ ، كنز العمّال ١٢ / ٤ ; وقد أخرجه عن الديلمي ، عن أنس ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٧.

(٢) الصواعق المحرقة : ١٠٥.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٢ / ٣٧٣ و ٣ / ١٦٣ وصحّحه ، المعجم الأوسط ٥ / ٣٥٥ و ٦ / ٨٥ ، المعجم الكبير ٣ / ٤٥ و ٤٦ و ١٢ / ٢٧ ، الجامع الصغير ١ / ٣٧٣ و ٢ / ٥٣٣ ، كنز العمّال ١٢ / ٩٤ و ٩٥.

(٤) سبق ذكر مصادره في ص ٤٢.

(٥) مرقاة المفاتيح ١٠ / ٥٥٢.

١٦٥

حزب إبليس » (١).

قال المناوي الشافعي في فيض القدير : « ( وأهل بيتي أمان لأُمّتي ) شبّههم بنجوم السماء وهي الّتي يقع بها الاهتداء ، وهي : الطوالع والغوارب والسيارات والثابتات ، فكذلك بهم الاقتداء ، وبهم الأمان من الهلاك » (٢).

وقد مرّ بنا في أوّل الكتاب ذكر حديث الثقلين المشهور المتواتر ، الدالّ بكلّ وضوح علىٰ وجوب التمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام واتّباعهم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لمحلّ العصمة من الضلال أبداً للمتمسّك بهم (٣).

قال الإمام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة : « لا يُقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأُمّة أحد ، ولا يُسوّىٰ بهم مَن جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة » (٤).

أقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام خاصة :

كما يدلّك علىٰ أفضليّة عليّ عليه‌السلام بالخصوص بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ الأُمّة جمعاء قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أُوحي إليَّ في عليّ ثلاث : أنّه سيد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين » (٥).

__________________

(١) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٦٢ وصحّحه ، الصواعق المحرقة : ٩١ ، ١٤٠ وصحّحه ، كنز العمّال ١٢ / ١٠٢ ، المعجم الكبير ٧ / ٢٢ ; وفيه : النجوم جعلت أماناً لأهل السماء وإنّ أهل بيتي أمان لأُمّتي ، الجامع الصغير ٢ / ٦٨٠ مثله.

(٢) فيض القدير شرح الجامع الصغير ٦ / ٣٨٦.

(٣) راجع الحديث مع مصادره في ص ٤٩.

(٤) راجع : نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٣٠.

(٥) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٤٨ ؛ قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ،

١٦٦

وأيضاً قد ذكرنا سابقاً ما يدلّ علىٰ أعلميّته عليه‌السلام وفضيلته من هذه الناحية ; كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أعلم أُمّتي من بعدي : عليّ بن أبي طالب » ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أقضاكم عليّ » (١).

وفي حديث أخرجه الحاكم وصحّحه : عن أنس بن مالك ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : « أنت تبيّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي » (٢).

وروي عن أبي ذرّ وسلمان : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ وقد أخذ بيد عليّ ـ : « إنّ هذا أوّل مَن آمن بي ، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة ، وهذا الصدّيق الأكبر ، وهذا فاروق هذه الأُمّة ، يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الظالمين » (٣).

وروىٰ أبو نعيم في الحلية : عن معاذ ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ عليه‌السلام : « يا عليّ ! أخصمك بالنبوّة ؛ فلا نبوّة بعدي ، وتخصم الناس بسبع ، ولا يحاجّك فيها أحد من قريش ؛ أنت أوّلهم إيماناً بالله ، وأوفاهم

__________________

ولم يخرّجاه ، ذخائر العقبىٰ : ٧٠ في ذكر اختصاصه عليه‌السلام بسيادة المسلمين وولاية المتّقين ، المعجم الصغير ٢ / ٨٨ ، كنز العمّال ١١ / ٦٢٠ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٠٢.

(١) انظر : مصادر الحديثين في ص ١٥٩.

(٢) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٢.

(٣) المعجم الكبير ٦ / ٢٩٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٢ ، كنز العمّال ١١ / ٦١٦ ، درّ السحابة : ٢٠٥ بلفظ : « هذا يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين » ؛ قال الشوكاني : أخرجه الطبراني في الكبير بإسنادٍ رجاله ثقات. انتهىٰ ..

واليعسوب : ملك النحل ، ومنه قيل للسيد : يعسوب قومه ؛ الصحاح ـ للجوهري ـ ١ / ١٨١.

وله شاهد من قول عليّ عليه‌السلام ، رواه ابن ماجة في السُنن ١ / ٤٤ ، ٤٩ ، وهو : « أنا عبد الله وأخو رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا الصدّيق الأكبر ، لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب ، صلّيت قبل الناس لسبع سنين » ؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٠٢ : رواه أحمد وأبو يعلىٰ باختصار ، والبزّار والطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن.

١٦٧

بعهد الله ، وأقومهم بأمر الله ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم في الرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم عند الله مزية » (١).

وروىٰ المحبّ الطبري في الرياض النضرة : جاء أبو بكر وعليّ يزورون قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته بستّة أيّام ؛ قال عليّ لأبي بكر : « تقدّم يا خليفة رسول الله » ، فقال أبو بكر : ما كنت لأتقدّم رجلاً سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : « عليّ منّي بمنزلتي من ربّي » (٢).

ولعلّ السؤال الّذي يطرح نفسه هنا بإلحاح : إن كان هذا واقع الحال عند أبي بكر لمنزلة عليّ عليه‌السلام ، فلماذا رضي بالتقدّم عليه في مسألة الخلافة ، ونزل عند رغبة بعضهم ولم يبيّن أنّ الأكفأ والأجدر بها هو : عليّ عليه‌السلام ؟!

وأيضاً جعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناراً وعلامة للهدىٰ عند اختلاف الناس في المسالك ؛ فقد أخرج الديلمي عن عمّار وأبي أيّوب : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار : « يا عمّار ! إذا رأيت عليّاً قد سلك وادياً وسلك الناس وادياً غيره ، فاسْلك مع عليّ ودع الناس ؛ فإنّه لن يدلّك علىٰ ردىً ، ولن يخرجك من هدىً » (٣).

وقد جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب طاعته وعدم مخالفته : « مَن

__________________

(١) حلية الأولياء ١ / ٦٥ ، ذخائر العقبىٰ : ٥٦ ، الرياض النضرة ٣ / ١٣٨ ، كنز العمّال ١١ / ٦١٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٥٨ ، ٥٩ ، سبل الهدىٰ والرشاد ١١ / ٢٩٦.

(٢) الرياض النضرة في مناقب العشرة ٣ / ١١٩.

(٣) تاريخ بغداد ١٣ / ١٨٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٤٧٢ ، كنز العمّال ١١ / ٦١٤ يخرجه عن الديلمي ، عن عمّار بن ياسر وعن أبي أيّوب ..

وسيأتي ما يماثله من أحاديث الولاية عن الطبراني والحاكم وأبي نعيم وابن عساكر ، عن زيد بن أرقم.

١٦٨

أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصىٰ الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصىٰ عليّاً فقد عصاني » (١).

وفي لزوم متابعته وعدم مفارقته قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عليّ ! مَن فارقني فقد فارق الله ، ومَن فارقك فقد فارقني » (٢).

ولبيان اختصاصه به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه المؤهّل لتنفيذ المهام الخطيرة نيابة عنه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عليّ منّي ، وأنا من عليّ ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ » (٣).

وعليّ عليه‌السلام بعد هذا هو خيرة الله من خلقه مع نبيّه المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابنته فاطمة عليها‌السلام : « يا فاطمة ! أما ترضين أنّ الله عزّ وجلّ اطّلع علىٰ أهل الأرض فاختار رجلين : أحدهما أبوك ، والآخر بعلك » (٤).

بل هو أحبّ الخلق إلىٰ الله بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد جعل حبّه علامة الإيمان ، وبغضه علامة النفاق ..

روى مسلم في صحيحه : عن عدي بن ثابت ، عن زرّ ، قال : قال عليّ : والّذي فلق الحبّة وبرأ النسمة أنّه لعهد النبيّ الأُميّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليَّ أن

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣١ ، والذهبي في تلك الصفحة من تلخيصه ، وصرّح كلّ منهما بصحّته علىٰ شرط الشيخين.

(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٣ ، والذهبي في تلك الصفحة من تلخيصه ، وصرّح كلّ منهما بصحّته علىٰ شرط الشيخين.

(٣) أخرجه ابن ماجة في سُننه في باب فضائل الصحابة ١ / ٤٥ ، وأحمد في مسنده ٤٥ / ١٦٤ و ١٦٥ بطرق متعدّدة ، كلّها صحيحة.

(٤) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٤٠ وصحّحه ، المعجم الكبير ٣ / ٥٧ و ٥٨ ، ٤ / ١٧١ ، كنز العمّال ١١ / ٦٠٥ ، تاريخ بغداد ٤ / ٤١٨ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ١٣١ ، المعجم الأوسط ٦ / ٣٢٧ ، ذخائر العقبىٰ : ١٣٦ ، مجمع الزوائد ٨ / ٢٥٣ ; وقد صرّح الهيثمي بحُسن أحد أسانيد الطبراني.

١٦٩

لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق (١).

وروى الترمذي في سُننه ، في مناقب عليّ بن أبي طالب ، بسنده عن أنس بن مالك ، قال : كان عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير ، فقال : « اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي هذا الطير » فجاء عليّ فأكل معه (٢).

وهو بعد ذلك كلّه نفس النبيّ المصطفى الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; بنصّ آية المباهلة (٣) : ( أَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّي أو كنفسي » (٤).

أقول :

إنّ دلالة هذه الأحاديث ـ وغيرها ـ علىٰ أنّه عليه‌السلام هو الإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة ؛ لأنّ مَن بايع غيره واتّبع سواه فقد

__________________

(١) صحيح مسلم ١ / ٦١ ، مسند أحمد ١ / ٨٤ ، سُنن ابن ماجة ١ / ٤٢ ، سُنن النسائي ٨ / ١١٧.

(٢) سُنن الترمذي ٥ / ٣٠٠ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٤٢ و ١٤٣ وصحّحه ، السُنن الكبرىٰ ـ للنسائي ـ ٥ / ١٠٧ ، خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٥١ ، المعجم الأوسط ٢ / ٢٠٧ بطرق متعدّدة ، وفي مواضع أُخرىٰ مختلفة ، المعجم الكبير ١ / ٢٥٣ ، ٧ / ٨٢ ، مسند أبي يعلىٰ ٧ / ١٠٥ ، يرويه بسند رجاله ثقات. مجمع الزوائد ٩ / ١٢٥ ، كنز العمّال ١٣ / ١٦٦ ، سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٣٣ ، تاريخ بغداد ٣ / ٣٩٠ بطرق متعدّدة ، ومواضع أُخرىٰ مختلفة ، تاريخ دمشق ٣٧ / ٤٠٦ بطرق متعدّدة ومواضع مختلفة ، تذكرة الحفّاظ ٣ / ١٠٤٢ ؛ قال الذهبي : وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّاً ، قد أفردتها بمصنّف ، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل. انتهىٰ.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٦١.

(٤) المستدرك علىٰ الصحيحين ٢ / ١٣١ وصحّحه ، مسند أبي يعلىٰ ٢ / ١٦٦ ، الرياض النضرة ٣ / ١١٩ و ١٢٠ ، المعجم الأوسط ٤ / ١٣٣ ، مجمع الزوائد ٧ / ١١٠ ، ٩ / ١٦٣ ، خصائص أمير المؤمنين عليه‌السلام : ٨٩.

١٧٠

فارقه ، ومَن فارقه فارَق الحقّ ، كما مرّ في الأحاديث المتقدّمة ...

وكذلك أقوال ، مثل : سيّد المسلمين ، إمام المتّقين ، المبيّن لما اختلف فيه الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منزلته من الرسول كمنزلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ربّه ، الصدّيق الأكبر ، فاروق هذه الأُمّة ...

وكلمات مثل : أوفاهم بعهد الله ، أقومهم ، أقسمهم بالسوية ، أعدلهم ، أبصرهم ، أعظمهم عند الله ، أحد اثنين اختارهما الله من أهل الأرض كلّهم ، الأمر بالسلوك معه وترك الناس عند الاختلاف في المسالك ; وتعليل ذلك بعدم التدليل علىٰ ردىٰ وعدم الإخراج من هدىٰ ، أحبّ الخلق إلىٰ الله ، لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق ، نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

فإنّ فيها من الدلالة علىٰ أفضليته ، وأرجحيّته ، وأهليّته للخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مباشرة دون المسلمين كلّهم ، وما يدلّ علىٰ لزوم متابعته ، ممّا لا يختلف عليه إلاّ مَن كان جاهلاً بعلوم العربية بحيث لا يدرك معه الألفاظ الدالّة علىٰ التفضيل ، أو كان متعصّباً لمذهب قومه وعشيرته ، وكانت علىٰ قلبه غشاوة تمنعه من الوصول إلىٰ إدراك الحقّ والحقيقة !

ولاية عليّ عليه‌السلام

وأقول أيضاً :

لقد وردت جملة من الأحاديث النبوية المباركة الدالّة علىٰ أحقّيته عليه‌السلام بالخلافة ممّن سبقه عليها ، وهي الأحاديث الواردة في وجوب موالاته وطاعته والاهتداء بهديه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي بالإضافة إلىٰ حديث الغدير المارّ ذكره ، وما ورد من أنّه وليّ المؤمنين بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; فقد أخرج المحدّثون جملة من هذه الأحاديث ، نذكر منها :

١٧١

١ ـ حديث عمّار بن ياسر ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أُوصي من آمن بي وصدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب ، فمَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّىٰ الله ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله » (١).

٢ ـ حديث ابن عبّاس ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن سرّه أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة عدن غرسها ربّي ، فليتولّ عليّاً من بعدي ، وليوالِ وليّه ، وليقتدِ بالأئمّة من بعدي ؛ فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، ورُزقوا فهمي وعلمي ، فويل للمكذّبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي » (٢).

٣ ـ حديث زياد بن مطرف ؛ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « مَن أحبّ أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويدخل الجنّة الّتي وعدني ربّي ، وهي جنّة الخلد ، فليتولّ عليّاً وذرّيته من بعده ؛ فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدىً ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة » (٣).

٤ ـ حديث زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن أراد أن يحيا حياتي ، ويموت ميتتي ، ويسكن جنّة الخلد الّتي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه لا يخرجكم من هدىً ، ولن يدخلكم في

__________________

(١) تاريخ دمشق ٤٢ / ٢٣٩ ، ٥٢ / ٧ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٩ ; قال الهيثمي : رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء ، وقد وثّقوا ، كنز العمّال ١١ / ٦١ عن : الطبراني ، وابن عساكر.

(٢) تاريخ دمشق ٤٢ / ٢٤٠ ، حلية الأولياء ١ / ٦ يخرجه بإسناد صحيح ، كنز العمّال ١٢ / ١٠٤ عن : الطبراني ، والرافعي ، عن ابن عبّاس.

(٣) كنز العمّال ١١ / ٦١١ عن : مطير ، والبارودي ، وابن شاهين ، وابن منده ، كلّهم عن زياد بن مطرف ، المنتخب من ذيل المذيل للطبري : ٨٣.

١٧٢

ضلالة » (١).

٥ ـ وعن الخطيب الخوارزمي الحنفي في المناقب بسنده عن عليّ عليه‌السلام ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : « يا عليّ ! لو أنّ عبداً عبد الله مثل ما أقام نوح في قومه ، وكان له مثل أُحد ذهباً فأَنفقه في سبيل الله ، ومدّ في عمره حتّىٰ حجّ ألف عام علىٰ قدميه ، ثمّ قتل بين الصفا والمروة مظلوماً ، ثمّ لم يوالك يا عليّ لم يشم رائحة الجنّة ولم يدخلها » (٢).

وقد نظم أحد الفلاسفة المعاني الواردة في هذا الحديث الشريف في أبيات شعرية قال فيها :

لو أنّ عبداً أتىٰ بالصالحات غداً

وودّ كلّ نبيّ مرسل ووليّ

وصام ما صام صوّاماً بلا ملل

وقام ما قام قوّاماً بلا كسل

وحجّ ما حجّ من فرض ومن سنن

وطاف ما طاف حاف غير منتعل

وطار في الجو لا يأوي إلىٰ أحد

وغاص في البحر مأموناً من البلل

يكسو اليتامى من الديباج كلّهم

ويطعم الجائعين البرّ بالعسل

وعاش ما عاش آلافاً مؤلّفة

عار من الذنب معصوماً من الزلل

ما كان عند الله ينفعه

إلاّ بحبّ أمير المؤمنين عليّ (٣)

__________________

(١) المعجم الكبير ٥ / ١٩٤ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٣٩ ; قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه ، كنز العمّال ١١ / ٦١١ عن : الطبراني ، والحاكم ، وأبي نعيم في فضائل الصحابة ، كلّهم عن زيد بن أرقم ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٢٤٣.

(٢) المناقب : ٦٨ ، فردوس الأخبار ٣ / ٤١٩ ، وأخرجه الحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ٣١٣ ، من طريق الحافظ أبي الفضل السلامي ، ثمّ قال : هذا حديث سنده مشهور عند أهل النقل. انتهىٰ.

(٣) تنسب هذه الأبيات لفيلسوف العلماء وعالم الفلاسفة الخواجة نصير الدين الطوسي رحمه‌الله كما هو المثبت عنه في مقدّمة بعض الشروح لكتابه التجريد.

١٧٣

وفي معنىٰ الحديث المتقدّم ، جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام فصلّىٰٰ وصام ثمّ لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمّد دخل النار » (١).

وفي هذا المعنىٰ أيضاً قال الإمام الشافعي شعراً :

ولمّا رأيت الناس قد ذهبت بهم

مذاهبهم في أبحر الغيّ والجهلِ

ركبت علىٰ اسم الله في سفن النجا

وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسلِ

وأمسكت حبل الله وهو ولائهم

كما قد أمرنا بالتمسّك بالحبلِ (٢)

لا تصلح الإمامة علىٰ غير أهل البيت عليهم‌السلام :

وبإمكاننا ، ومن خلال نهج البلاغة نفسه الّذي نتصفّح كلماته ونقرأ أقوال الإمام عليّ عليه‌السلام فيه أن نستدلّ علىٰ أنّ الخلافة العظمىٰ والإمامة الكبرىٰ لا تصلح علىٰ غير أهل بيت النبوّة ; فقد جاء فيه عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله :

« إنّ الأئمّة من قريش ، غُرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح (٣) علىٰ سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم » (٤).

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٦١ ، والذهبي في تلك الصفحة من تلخيصه ؛ وصرّح كلّ منهما بصحّته علىٰ شرط الشيخين.

(٢) رشفة الصادي : ٢٤.

(٣) أي : الإمامة.

(٤) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٢٧.

١٧٤

وقد استوقف هذا النصّ ابن أبي الحديد شارح النهج واستشكل علىٰ أُصول مذهبه الّتي يتبنّاها ويدافع عنها ، فقال : فإن قلت : إنّك شرحت هذا الكتاب علىٰ قواعد المعتزلة وأُصولهم ، فما قولك في هذا الكلام وهو صريح بأنّ الإمامة لا تصلح من قريش إلاّ في بني هاشم خاصة ، وليس ذلك بمذهب المعتزلة ، لا متقدّميهم ولا متأخّريهم ؟!

قلت : الموضع مشكل ولي فيه نظر ، وإن صحّ أنّ عليّاً قاله ، قلت : كما قال ; لأنّه ثبت عندي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّه مع الحقّ وأنّ الحقّ يدور معه حيثما دار.

ثمّ قال : ويمكن أن يتأوّل ويطبّق علىٰ مذهب المعتزلة فيحمل علىٰ أنّ المراد به : كمال الإمامة ، كما حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (١).

أقول :

إنّ الذهاب إلىٰ نفي الكمال يتمّ فيما لو دلّت قرينة من الداخل أو الخارج علىٰ عدم إرادة نفي الصحّة ، كما في الحديث الّذي أورده ابن أبي الحديد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » ، فبعد أن دلّت القرائن الخارجية علىٰ صحّة مَن يصلّي في بيته وجاره المسجد ، ذهب الفقهاء إلىٰ أنّ المراد بالنفي في الحديث هو نفي الكمال لا نفي الصحّة ، أي لا صلاة كاملة الأجر والثواب لمَن جاره المسجد إلاّ في المسجد.

أمّا النصّ السابق الوارد عن الإمام عليه‌السلام في نهج البلاغة فقد احتجّ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٩ / ٨٨.

١٧٥

القوم بمثله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علىٰ نفي صحّة إمامة غير القرشي (١) ، كما ورد عن أبي بكر في ردّ خصومة الأنصار علىٰ الإمامة يوم السقيفة قوله : يا معشر الأنصار ! لا تذكرون فضلاً إلاّ وأنتم له أهل ، وإنّ العرب لا تعرف هذا الأمر إلاّ لقريش (٢).

كما ورد في صحيح البخاري : عن معاوية ، أنّه سمع رجلاً يقول بجواز الملك لِغيره ، فقام خطيباً علىٰ المنبر وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلاّ أكبّه الله علىٰ وجهه (٣).

بل اتّفق أئمّة المذاهب الأربعة إلاّ أبا حنيفة علىٰ عدم جواز إمامة غير القرشي لحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السابق ، أمّا أبو حنيفة فقد أفتىٰ علىٰ طريقته المعروفة بالرأي والقياس علىٰ جواز إمامة الموالي ، وهي الفتوى الّتي استند

__________________

(١) فقد ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « الأئمّة من قريش » ..

انظر : مسند أحمد ٣ / ١٢٩ و ١٨٣ ، مسند أبي داود الطيالسي : ١٢٥ و ٢٨٤ ، السنن الكبرىٰ ٣ / ١٢١ ، المعجم الصغير ١ / ١٥٢.

وقد نصّ علىٰ تواتر هذا الحديث : السيوطي في قطف الأزهار المتناثرة : ٢٤٨ ، والكتاني في نظم المتناثر : ١٦٩.

وورد أيضاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « الخلفاء من بعدي اثنا عشر ، كلّهم من قريش » ..

راجع الحديث باختلاف ألفاظه في صحيح البخاري ٨ / ١٢٧ ، وصحيح مسلم ٦ / ٣ باب ١ بتسع طرق.

وفي إحدى طرق الحديث : « كلّهم من بني هاشم » ؛ كما في رواية عبد الملك عن جابر ..

راجع : ينابيع المودّة ٣ / ٢٩٢.

وعند حمل المجمل علىٰ المبيّن في هذه الروايات يُدرك المعنىٰ المراد الّذي نحن بصدده أيضاً.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ٢٤.

(٣) راجع : صحيح البخاري ـ الجزء الرابع : في مناقب قريش.

١٧٦

عليها الأتراك في صحّة استيلائهم علىٰ خلافة المسلمين ، وأطلقوا بسبب هذه الفتوىٰ علىٰ أبي حنيفة لقب : الإمام الأعظم !

وعلىٰ أيّة حال ، فإنّ الذهاب إلىٰ نفي الكمال يتمّ فيما لو دلّ دليل علىٰ عدم إرادة نفي الصحّة ، وفي حال الاشتباه يكون المعوّل عليه هو فهم العرف ، وفهم المخاطَبين بالكلام ، وقد مرّ بنا ذكر شاهدين عن المسلمين بأنّهم فهموا من حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) : عدم جواز إمامة غير القرشي ..

واللفظ الوارد في كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام هو اللفظ نفسه الوارد في حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع زيادة في التوضيح والبيان من باب مدينة علم المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند حمل المجمل علىٰ المبيّن في الكلام يفهم منه بأنّ الإمامة لا تجوز لغير القرشي الهاشمي.

كما أنّ تكرار كلمة : « لا تصلح » ، في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام قرينة لفظية علىٰ إرادة نفي الصحّة لا نفي الكمال ، كما يحاول ابن أبي الحديد أن يأوّل ذلك ، إلاّ أنّ الرجل لمّا أُحيطت مراكبه عزّ عليه أن يخالف أهل مذهبه فقال ما قال محاولاً بذلك التوفيق بين الحقيقة والخيال !

أمّا الشيخ محمّد عبده فقد قال في تعليقته عن العبارة السابقة الّتي جاء بها الدليمي من النهج وهي قوله عليه‌السلام : « فنظرت في أمري ، فإذا طاعتي سبقت بيعتي ، وإذا الميثاق في عنقي لغيري » : هذه الجملة قطعة من كلام له في حال نفسه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بيّن فيه أنّه مأمور بالرفق في طلب حقّه (؟!) ، فأطاع الأمر في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فبايعهم امتثالاً لما أمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من الرفق ، وإيفاء بما أخذ

__________________

(١) راجع مصادره في الهامش المتقدّم من الصفحة السابقة.

١٧٧

عليه النبيّ من الميثاق في ذلك (١). انتهىٰ.

فانظر ـ عزيزي القارئ ـ إلىٰ كلام شارحي النهج : ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ، والشيخ محمّد عبده ، اللّذين خبرا كلام الإمام عليه‌السلام ، ثمّ قارنه بكلام الدليمي السابق وفهمه لكلامه عليه‌السلام هنا ..

ومَن قرأ كتب الحديث عَلِم الأمر والميثاق اللّذين عناهما الإمام عليه‌السلام هنا ، وأشار إليهما علاّمة المعتزلة ، والشيخ محمّد عبده في شرحيهما ؛ فقد روى المتّقي الهندي في كنزه : عن ابن أبى شيبة والحارث والبزّار والحاكم والعقيلي والبيهقي في الدلائل ، كلّهم عن عليّ عليه‌السلام ، قال : إنّ ممّا عهد إليَّ النبيّ ( صلّىٰ الله عليه وسلم ) أنّ الأُمّة ستغدر بي من بعده (٢).

وفي حديث رواه الحاكم وصحّحه ، ووافقه الذهبي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال مخاطباً عليّاً عليه‌السلام : « إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي ، وأنت تعيش علىٰ ملّتي ، وتُقتل علىٰ سُنّتي ، مَن أحبّك أحبّني ، ومَن أبغضك أبغضني ، وإنّ هذه ستخضب من هذه ـ يعني لحيته من رأسه ـ » (٣).

وروى يونس بن حبّاب ، عن أنس بن مالك ، قال : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالب معنا ، فمررنا بحديقة فقال عليّ : يا رسول الله ! ألا ترىٰ ما أحسن هذه الحديقة ! فقال : إنّ حديقتك في الجنّة

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ٨٩.

(٢) كنز العمّال ١١ / ٢٩٧ ; وأيضاً يرويه عن غير واحد بلفظ : عهد معهود أنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي ، البداية والنهاية ٦ / ٢١٨ ، تاريخ بغداد ١١ / ٢١٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٤٧.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٥٣ ، تلخيص المستدرك ـ للذهبي ـ ، كنز العمّال ١١ / ٦١٧ عن الدارقطني في الأفراد ، والحاكم ، والخطيب ، كلّهم عن عليّ عليه‌السلام ، تاريخ بغداد ١١ / ٢١٦ ، البداية والنهاية ٦ / ٢٤٤ ، ٧ / ٣٦٠.

١٧٨

أحسن منها ، حتّىٰ مررنا بسبع حدائق ، يقول عليّ ما قال ويجيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أجابه ، ثمّ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف فوضع رأسه علىٰ رأس عليّ وبكىٰ ، فقال عليّ : ما يبكيك يا رسول الله ؟!

قال : ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتّىٰ يفقدوني.

فقال : يا رسول الله ! أفلا أضع سيفي علىٰ عاتقي فأبيد خضراءها.

قال : بل تصبر.

قال : فإن صبرت.

قال : تلاقي جهداً.

قال : أفي سلامة من ديني ؟

قال : نعم.

قال : فإذاً لا أُبالي (١).

وقد مرّت بنا سابقاً الإشارة إلىٰ كلامه عليه‌السلام في النهج : « فما راعني إلاّ انثيال الناس علىٰ فلان ـ يعني أبا بكر ـ يبايعونه ، فأمسكت يدي (٢) ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ١٠٧ ، مسند أبي يعلىٰ ١ / ٤٢٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١٨ ؛ قال الهيثمي : رواه أبو يعلىٰ والبزّار ، وفيه : الفضل بن عميرة ; وثقّه ابن حبّان وضعّفه غيره ، وبقيّة رجاله ثقات ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ / ٥٠٢ ، تاريخ بغداد ١٢ / ٣٩٤ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٢٣ و ٣٢٤ ، تهذيب الكمال ٢٣ / ٢٣٩ ، المستدرك علىٰ الصحيحين ٣ / ١٥٠ ، أخرجه مختصراً وصحّحه.

(٢) المستفاد من كلامه عليه‌السلام هنا بأنّه لم يبايع مبادراً ، والمعلوم أنّه عليه‌السلام قد امتنع ـ كما يشير البخاري في صحيحه ـ عن مبايعة أبي بكر أو مصالحة القوم إلاّ بعد ستّة أشهر ( أي بعد وفاة فاطمة عليها‌السلام حسب رواية البخاري ـ كتاب المغازي ٣ / ١٢٨٦ ) ..

والحقّ إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يبايع إلاّ مكرهاً ، في كلّ الأحوال ، سواء قلنا : أنّه بايع قبل وفاة فاطمة ، أو بعد وفاتها.

انظر : الإمامة والسياسة ١ / ٣١ في بيان كيف كانت بيعة عليّ عليه‌السلام .. ومن المعلوم أن بيعة الإكراه لا تعدّ بيعة شرعاً.

١٧٩

حتّىٰ رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلىٰ محقّ دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرىٰ فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علَيّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ... » (١).

وقد ورد عنه عليه‌السلام في النهج أيضاً أنّه قال للناس ، عندما عزموا علىٰ بيعة عثمان : « لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ، ووالله لأسلمنّ ما سلمت أُمور المسلمين ، ولم يكن فيها جور إلاّ علَيَّ خاصة ; التماساً لأجر ذلك وفضله ، وزهداً في ما تنافستموه من زخرفه وزبرجه ... » (٢).

أقول :

لو كانت الخلافة شورىٰ وأنّ الإمام عليه‌السلام ملزم ببيعة مَن يختاره المسلمون ـ حسب هذه الدعوىٰ ـ لَما جاز له أن يعدّ اختيار غيره جوراً عليه خاصة ، ولَما كان فعلهم تنافساً علىٰ زخرف الدنيا وزبرجها ..

كيف ؟! وهم لم يفعلوا شيئاً سوىٰ ترشيح أنفسهم ، وهو أمر مباح لهم حسب هذه الدعوىٰ ، لو صحّ أمرها ، فلا معنىٰ إذاً لتظلّم الإمام عليه‌السلام ، ولا معنىٰ لذمّهم بالتنافس علىٰ الدنيا ، سوىٰ التنبيه علىٰ مخالفتهم للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي نصّ عليه في أكثر من موضع وموضع ، وهو الأمر الّذي أشار إليه الإمام عليه‌السلام بقوله : « لقد علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري ».

ولم يكن علم الناس بحقّه عليه‌السلام ، الّذي أشار إليه هنا ، لولا شيوع النصّ عليه وتسامع الناس به ، فيوم الغدير ليس عنهم ببعيد ، وقد استمع

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ١١٩.

(٢) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ١ / ١٢٤.

١٨٠