تصحيح القراءة في نهج البلاغة

الشيخ خالد البغدادي

تصحيح القراءة في نهج البلاغة

المؤلف:

الشيخ خالد البغدادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-8629-96-X
الصفحات: ٣٨٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ... إلىٰ آخر كلامه عليه‌السلام » (١).

أقول :

ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « المستشار مؤتمن » (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الدين النصيحة » (٣) ؛ عليه : كيف نتصوّر أن يكون موقف الإمام عليه‌السلام وقد أقبل إليه مَن يستشيره في قضية لها مساس بأمر الإسلام والمسلمين ؟!!

فهو عليه‌السلام لم يبخل يوماً بنصيحته علىٰ مسلم فضلاً عمّن صار عنواناً لخلافة المسلمين عند الناس ، وحسبك من ذلك : كثرة رجوع الخلفاء الثلاثة إليه ، واجتهاده بالنصيحة لهم ؛حفاظاً علىٰ قوّة الإسلام واشتداد عوده ..

وقد اعترف الخلفاء بجميل صنعه بهم ، وعلوّ كعبه عليهم في هذا الجانب في أقوال عديدة ، نذكر منها :

القول المشهور لعمر بن الخطّاب : لولا عليّ لهلك عمر (٤).

وقوله : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن (٥).

__________________

(١) راجع بقيّة كلامه عليه‌السلام في نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٢ / ٣٠.

(٢) مسند أحمد ٥ / ٢٧٤.

(٣) مسند أحمد ١ / ٣٥١.

(٤) ذخائر العقبىٰ : ٨٢ ، تأويل مختلف الحديث : ١٥٢ ، فيض القدير في شرح الجامع الصغير ـ للمناوي ـ ٤ / ٤٧٠ ، مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ١١ / ٢٥٢ ..

وقد اشتهر بين المحدّثين أنّ عمر قالها في سبعين مورداً ; راجع : بعض تلك الموارد مع مصادرها من كتب أهل السُنّة في إحقاق الحقّ ٣ / ١٠٢ و ٨ / ١٨٢ و ١٩٢ ، وهذا الكتاب لا يستشهد إلاّ بكتب أهل السُنّة خاصّة.

(١) أنساب الأشراف : ٩٩ ، فتح الباري ١٣ / ٢٨٦ ، فيض القدير ٤ / ٤٧٠ ، تاريخ دمشق ٢٥ / ٣٦٩ ، الطبقات الكبرىٰ ٢ / ٣٣٩.

١٠١

وأقواله الأُخرىٰ :

اللّهمّ لا تنزل بي شديدة إلاّ وأبو الحسن إلىٰ جنبي.

أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.

لا أبقاني الله بعدك يا عليّ.

يا بن أبي طالب ! ما زلت كاشف كلّ شبهة ، وموضح كلّ حكم.

لولاك يا عليّ لافتضحنا.

وأيضاً قوله لعليّ عليه‌السلام : بأبي أنتم ! بكم هدانا الله ، وبكم أخرجنا من الظلمات إلىٰ النور ... (١).

وأيضاً قول عثمان : لولا عليّ لهلك عثمان (٢).

إلىٰ غير ذلك من أقوالهم في هذا المضمار.

وإن شئت الاستزادة فارجع إلىٰ : ملحق المراجعات بتحقيق حسين علي الراضي : ص ١٨٩ ، أو إلىٰ : موسوعة إحقاق الحقّ للقاضي التستري الجزء الثامن ص ٢١٥ ـ ٢٤٤ ، أو إلىٰ : موسوعة الغدير بجزءيها السادس والثامن ؛ فإنّك ستجد فيها عشرات المصادر من كتب أهل السُنّة تبيّن لك رجوع أبي بكر وعمر وعثمان ـ بل وحتّىٰ معاوية ـ إلىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام والأخذ برأيه ، وإنقاذهم من تلك المواقف المحرجة الّتي كانوا يقعون فيها ، وخاصّة المواقف الّتي يتعرّضون لها من قبل أهل الكتاب في المسائل المحرجة والمشكّكة بدين الإسلام ، والّتي كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يبادر لحلّها والإجابة عنها ، وردّ كيد الكائدين عن الدين وأهله ؛حفاظاً علىٰ

__________________

(١) راجع ما تقدّم في الرياض النضرة ٣ / ١٦٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٠٥ ، فتوح البلدان : ٥٥ ، كنز العمّال ٥ / ٨٣٤ ، ربيع الأبرار ٣ / ٥٩٥.

(٢) زين الفتى ـ للعاصمي ـ ١ / ٣١٨.

١٠٢

بيضة الإسلام (١).

ولا يوجد في النصّ المتقدم ، الّذي ذكره الدليمي ، أية عبارة يستفاد منها تقييماً حقيقياً لما يهدف إليه ; فقوله عليه‌السلام : إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون : هذا أصل العرب ... فهو عليه‌السلام إنّما كان يُخبر عن لسان حال العدو ، ويشخّص في الحقيقة مسألة يدرسها الباحثون اليوم في علم النفس العسكري ، وهي : إنّ من أبرز عوامل انكسار الجيوش في الحروب : قتل زعمائهم أثناء المعارك ; لذا كان الإمام عليه‌السلام ـ وهو من خبر الحروب وأجوائها ـ ناصحاً أميناً من هذه الناحية ، حفاظاً علىٰ المسلمين من أن يجد فيهم أعداؤهم ثغرة فينفذوا منها.

ولعلّ قائل يقول : فلِمَ كان الإمام عليه‌السلام يتقدّم جنوده في المعارك ، كما شهدنا ذلك في الجمل والنهروان وصفين ؟!

قلت : إنّ الإمام عليه‌السلام لا يقاس بغيره من هذه الناحية ; لأمرين :

* الأوّل : لشجاعته الفريدة والنادرة المشهود له بها ، والّتي وصفها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : « كرّار غير فرّار » ، كما تقدّم ذكره (٢).

* الثاني : لعلمه عليه‌السلام بموعد مقتله وكيفيته ، بل وعلمه بقاتله أيضاً ; وذلك لما أخبره به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

روىٰ أحمد في مسنده : عن فضالة بن أبي فضالة ، أنّه قال : خرجت

__________________

(١) من تلك المواقف المحرجة : ما توجّه به اليهود وأحبارهم إلىٰ أبي بكر وعمر من أسئلة أبان خلافتهما عجزا عن الإجابة عنها ، فتصدّىٰ لها أمير المؤمنين عليه‌السلام وردّ كيد اليهود إلىٰ نحورهم ; انظر : الغدير ٦ / ١٣٥ و ٧ / ١٧٧.

(٢) راجع : صفحة ٦٣ ؛وانظر : مصادر الحديث في هامش الصفحة.

١٠٣

مع أبي عائداً لعليّ بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه من مرض أصابه ثقل منه ، قال : فقال له أبي : ما يقيمك في منزلك هذا ؟ لو أصابك أجلك لم يلِك إلاّ أعراب جهينة ، تُحمل إلىٰ المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلّوا عليك.

فقال عليّ رضي‌الله‌عنه : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد إليَّ أن لا أموت حتّىٰ أُؤمّر ثمّ تخضب هذه ـ يعني لحيته ـ من دم هذه ـ يعني هامته ـ » (١).

وذكر المحدّثون جملة من الروايات الّتي تشير إلىٰ معرفته عليه‌السلام بقاتله : عبد الرحمٰن بن ملجم ، وأنّه عليه‌السلام كان يُخبر بذلك (٢).

قال الدليمي :

« ولقد كانت العلاقة بين عليّ وعمر رضي الله عنهما وثيقة ، والمحبّة شديدة ، إلىٰ درجة أنّ سيدنا عليّاً زوّج ابنته أُم كلثوم بنت فاطمة رضي الله عنهما من سيّدنا عمر أثناء خلافته ، وسمّىٰ ثلاثة من أبنائه باسمه : عمر الأكبر ، الّذي تسمّيه العامّة : ( عمران بن عليّ ) ، وقبره معروف ، وعمر الأوسط ، وعمر الأصغر ، الّذي قُتل في وقعة الطفّ. كما سمّىٰ ولدين من أولاده باسم أبي بكر وعثمان ، فتأمّل ! » (٣).

__________________

(١) مسند أحمد ١ / ١٠٢ ، أُسد الغابة ٥ / ٢٧٢ ، الإصابة ٧ / ٢٦٧ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٧ ; قال الهيثمي : رواه البزّار وأحمد بنحوه ، ورجاله موثّقون.

(٢) انظر : الاستيعاب ٣ / ١١٢٧ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق الصنعاني ـ ١٠ / ١٢٥ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٦ / ١٧٥ ، كنز العمّال ١٣ / ١٩١ ، الطبقات الكبرىٰ ٣ / ٣٤ ، ذخائر العقبىٰ : ١١٢.

(٣) ص ١١ ـ ١٢.

١٠٤

أقول  

إنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من أشدّ الناس التزاماً بالشريعة المقدّسة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تشهد بذلك النصوص ..

فهو نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّ آية المباهلة (١).

وهو خير الأُمّة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشهادة النبيّ نفسه ; قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ وصيّي وموضع سرّي ، وخير مَن أترك بعدي ، ينجز عدتي ، ويقضي ديني : عليّ بن أبي طالب » (٢).

وفي حديث يرويه الحاكم في مستدركه ويصحّحه : عن عبد الرحمٰن ابن عوف ، قال : افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة ثمّ انصرف إلىٰ الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ، ثمّ أوغل غدوة أو روحة ، ثمّ نزل ، ثمّ هجر ، ثمّ قال : « أيّها الناس ! إنّي لكم فرط ، وإنّي أُوصيكم بعترتي خيراً ، موعدكم الحوض ، والّذي نفسي بيده ! لتُقيمنّ الصلاة ولتؤتونّ الزكاة ، أو لأبعثنّ عليكم رجلاً منّي ـ أو : كنفسي ـ فليضربنّ أعناق مقاتليهم وليسْبينّ ذراريهم » ، قال : فرأىٰ الناس أنّه يعني أبا بكر أو عمر ، فأخذ بيد عليّ فقال : « هذا » (٣). انتهى ..

وقد ورد في الشريعة المقدّسة عن معنىٰ الحبّ في الإسلام بأنّه يكون باتّباع الشريعة ، كما جاء في قوله تعالىٰ : ( قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ

__________________

(١) آية ٦١ من سورة آل عمران.

(٢) المعجم الكبير ٦ / ٢٢١ ، كنز العمّال ١١ / ٦١٠.

(٣) المستدرك علىٰ الصحيحين ٢ / ١٣١ ; قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.

١٠٥

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) (١) ، وقال تعالىٰ : ( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (٢) ..

وفي مسند أحمد : عن أبي ذرّ ، قال : خرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : « أتدرون أي الأعمال أحبّ إلىٰ الله عزّ وجلّ ؟ قال قائل : الصلاة والزكاة. وقال قائل : الجهاد. قال : إنّ أحبّ الأعمال إلىٰ الله عزّ وجلّ : الحبّ في الله والبغض في الله » (٣).

وبلحاظ ما تقدّم نقول : إنّ أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام ـ حسب هذه المنزلة الّتي عرفناها عنه ـ لا يمكن أن يحيد عن هذه الشريعة ، ولا عن منهجها في الحبّ والمودّة ..

وها هو التاريخ أمامك تصفّحه بكلّ تجرّد وموضوعية ; فأينما رأيت مواضع طاعة الله ورسوله عند الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوه عليه‌السلام بالحكم ، فاعلم أنّه عليه‌السلام يحبّ تلك المواضع ويودّها ، وأينما رأيت مواضع معصية الله ورسوله ، فاعلم أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يبغض تلك المواضع ويتبرّأ منها ، وليس في هذا الجانب أقوال وشهادات من أحد سوىٰ تطبيق هذه القاعدة السالفة الذكر.

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٣١.

(٢) سورة المجادلة : الآية ٢٢ ; ومَن حادّ الله ورسوله ، أي : مَن خالف الله ورسوله.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٥ / ١٤٦.

١٠٦

أمّا قضية تزويج أُمّ كلثوم ابنة أمير المؤمنين عليه‌السلام من عمر فهي ممّا لم يتسنَّ للمؤرّخين إثباتها أو التصديق بها ..

قال الشيخ المفيد في المسائل السرويّة : إنّ الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين ابنته من عمر غير ثابت ، وطريقه من الزبير بن بكّار ، وهو لم يكن موثوقاً به في النقل ، وكان متّهماً في ما يذكره ، وكان يبغض أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وغير مأمون في ما يدّعيه علىٰ بني هاشم (١).

وإنّما نشر الحديث إثبات أبي محمّد الحسن بن يحيىٰ (٢) ـ صاحب النسب ـ ذلك في كتابه ، فظنّ كثير من الناس أنّه حقّ لرواية رجل علوي له ، وهو إنّما رواه الزبير بن بكّار.

والحديث نفسه مختلف ؛ تارة يروىٰ : أنّ أمير المؤمنين تولّى العقد له علىٰ ابنته ، وتارة يروىٰ : عن العبّاس أنّه تولّى ذلك عنه عليه‌السلام ، وتارة يروىٰ : أنّه لم يقع العقد إلاّ بعد وعيد عن عمر وتهديد لبني هاشم ، وتارة يروىٰ : أنّه كان عن اختيار وإيثار.

__________________

(١) قال ابن الأثير : إنّ الزبير بن بكّار كان ينال من العلويّين ، فتهدّدوه ، فهرب منهم ، وقدم علىٰ عمّه مصعب بن عبد الله بن الزبير ، وشكا إليه حاله ، وخوّفه من العلويّين ، وسأله إنهاء حاله إلىٰ المعتصم ، فلم يجد عنده ما أراد ، وأنكر عليه حاله ، ولامه. الكامل في التاريخ ٦ / ٥٢٦.

(٢) أبو محمّد الحسن بن محمّد بن يحيىٰ بن الحسن بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام ، المعروف بـ : « ابن أخي طاهر » ، النسّابة : له مصنّفات كثيرة ، توفّي في شهر ربيع الأوّل سنة ٣٥٨ هـ ، ودفن في منزله بسوق العطش.

قال فيه النجاشي : روى عن المجاهيل أحاديث منكرة ، رأيت أصحابنا يضعّفونه ، وقال السيد الخوئي : لا ينبغي الريب في ضعف الرجل وإن روىٰ عنه غير واحد من الأصحاب.

رجال النجاشي : ٦٤ ، معجم رجال الحديث ٦ / ١٤٣.

١٠٧

ثمّ إنّ بعض الرواة يذكر أنّ عمر أولدها ولداً أسماه : زيداً ، وبعضهم يقول : إنّه قُتل قبل دخوله بها ، وبعضهم يقول : إنّ لزيد بن عمر عقباً ، ومنهم مَن يقول : إنّه قُتل ولا عقب له ، ومنهم مَن يقول : إنّه وأُمّه قُتلا ، ومنهم مَن يقول : إنّ أُمّه بقيت بعده ، ومنهم مَن يقول : إنّ عمر أمهر أُمّ كلثوم أربعين ألف درهم ، ومنهم مَن يقول : أمهرها أربعة آلاف درهم ، ومنهم مَن يقول : كان مهرها خمسمائة درهم.

قال الشيخ المفيد : وبدو هذا الاختلاف فيه يبطل الحديث ؛فلا يكون له تأثير علىٰ حال (١).

وأقول :

هذا الاستدلال الّذي ذكره الشيخ المفيد رحمه‌الله هنا في نفي هذا الزواج أوْلىٰ أن يرضىٰ به الدليمي ، أو غيره ممّن يحاولون الاستشهاد بوجود مثل هذا الزواج لغرض إظهار العلاقة الحميمة بين عليّ عليه‌السلام وعمر ؛إذ أنّ بقية الموارد والطرق الّتي تُشير إلىٰ وجوده لا يخلو أمرها من تعريض بشخص عمر وسوء تصرّفه مع الإمام عليه‌السلام وابنته أُم كلثوم ، كالرواية الّتي يقدح سبط ابن الجوزي في إمكان قبولها ..

قال في تذكرة الخواص ـ عند ذكر أُم كلثوم ـ : وذكر جدّي في كتابه المنتظم أنّ عليّاً بعثها إلىٰ عمر لينظرها ، وإنّ عمر كشف ساقها ولمسها بيده. قلت : وهذا قبيح والله ! لو كانت أمَة لَما فعل بها هذا ، ثمّ بإجماع المسلمين لا يجوز لمس الأجنبية فكيف يُنسب عمر إلىٰ هذا (٢) ؟! انتهىٰ.

__________________

(١) المسائل السروية : ٨٦.

(٢) تذكرة خواصّ الأُمّة : ٢٢١.

١٠٨

وهناك أيضاً جملة روايات في هذا الموضوع في كتب أهل السُنّة تتبّعها السيد العلاّمة ناصر حسين النقوي في كتابه إفحام الخصوم في نفي تزويج أُم كلثوم وفنّدها واحدة واحدة.

وقد يقول قائل : ولكن أيضاً هناك روايات وردت بخصوص هذا الزواج في كتب الحديث عند الشيعة.

نقول : إنّ هذه الروايات لا تنفع الدليمي أو غيره للاستدلال بها علىٰ العلاقة الحميمة بين عليّ عليه‌السلام وعمر ; لأنّها جميعاً تدلّ علىٰ وقوع التهديد من عمر في هذه المسألة (٢) ، وهي محل تأمّل كبير عند جملة من محقّقي علماء الإمامية في أصل وقوع مثل هذا الزواج.

والحاصل : إنّ الروايات الواردة في هذا الموضوع عند السُنّة والشيعة لا يخلو أمرها من تعارض واضطراب وتأمّل ، ممّا لا يمكن الجزم معه بوقوع مثل هذا الزواج.

بل لنا هنا أن نسأل الدليمي وغيره : رويتم ـ كما في صحيح مسلم ـ أنّ عمر قال لعليّ عليه‌السلام أنّه يراه : ـ أي : عليّ عليه‌السلام يرىٰ عمر ـ كاذباً آثماً غادراً خائناً ; فهل يصحّ من رجل أن يزوّج ابنته طواعية لشخص يراه : كاذباً آثماً غادراً خائناً ؟!

فإن كان هذا الفعل يصحّ أن يقع طواعية من الدليمي في حقّ ابنته ، فنحن نسلّم بوقوعه من أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، وإلاّ فالمسألة لا تخلو من أحد أمرين :

إمّا أنّ هذا الزواج قد حصل بالوعيد والإكراه ، كما تشير إليه روايات

__________________

(١) انظر : الكافي ٥ / ٣٤٦ باب : تزويج أُم كلثوم.

١٠٩

الإمامية (١) ، أو أنّ القضية مدسوسة موضوعة علىٰ البيت النبوي الطاهر ، كحال الكثير من الأُمور التي قصدت هذا البيت بالدسّ والإساءة !

والرأي الثاني هو الذي يميل إليه جملة ممّن كتب في الموضوع من الفريقين ..

قال الشيخ محمّد انشاء الله الحنفي المحمّدي الحبشي ، وهو من أهل السُنّة ، في كتابه السرّ المختوم في ردّ زواج أُمّ كلثوم ، ص ٢١ : أيّها الناظرون ! هذه فضوليات الراوي الأوّل ، بل الأصل أنّ المفتري الزبير بن بكّار الكذّاب الوضّاع اتّهم سيّدنا عمر وكذّب علىٰ عليّ واختلق رواية زواج أُمّ كلثوم من عند نفسه ولا حقيقة لها (٢).

وأمّا الزبير بن بكّار فبالإضافة إلىٰ ما ذكره الشيخ المفيد ، فقد قال الحافظ أبو الفضل أحمد بن عليّ السليماني (٣) فيه أنّه : من الوضّاعين للحديث ، ولم يقبل حديثه ، ولا يوجد لحديثه في الصحيحين عين ولا أثر ،

__________________

(١) وإن ثبت هذا الفرض فهو يكشف عن سوء خلق الخليفة ، وتجبّره بحقّ أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام والبيت النبوي عموماً ، وأنّ الإمام عليه‌السلام استجاب له ضرورة أو تقية خشية وقوع الفتنة أمام تجبّره وإصراره ، كما تشير إليه تلك الروايات ، ومن المعلوم شرعاً أنّ الضرورات تبيح المحظورات ، وقد كان الإمام عليه‌السلام يتّقي التصادم مع التيار الذي أفرزته « السقيفة » ; حفاظاً علىٰ بيضة الإسلام ، كما سيأتي بيانه.

(٢) انظر : مرقد العقيلة زينب عليها‌السلام ـ لمؤلّفه البحّاثة الشيخ محمّد حسنين السابقي ـ : ١٦٥ ؛وقد ذكر الشيخ السابقي في كتابه هذا جملة من الكتب والمخطوطات التي أُلّفت في نفي هذا الزواج.

(٣) قال السمعاني في الأنساب ٣ / ٢٨٦ : السُليماني بضمّ السين وفتح اللام وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحتها وفي آخرها النون ، هذه النسبة إلىٰ : سليمان ، وهو اسم بعض أجداد المنتسب ...

كانت له رحلة إلىٰ الآفاق ، وعُرف بالكثرة والحفظ والإتقان ، ولم يكن له نظيرٌ في زمانه إسناداً وحفظاً ودراية بالحديث وضبطاً وإتقاناً. انتهىٰ.

١١٠

وقال ابن أبي حاتم : رأيته ولم أكتب عنه ، واعترف ابن حجر أنّ : له أشياء منكرة (١) ، وجميع أفراد أُسرته معروفون بانحرافهم عن أهل البيت عليهم‌السلام ، كما قال المرزباني في الموشّح ص ٥٤ ، ٥٩.

ولسوء أهوائه ونصبه الظاهر قرّبه المتوكّل العبّاسي ودرّ عليه المعاش ، والمتوكّل معروف بعداوته لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، وببوائقه الشنيعة الّتي ارتكبها لإهانة الإمام عليه‌السلام ; اقرأ ما فصّله ابن الوردي وأبو الفرج الأصفهاني من جرائمه الّتي لا يحتمل القلم نقلها (٢).

واشتدّت أواصر الولاء بينه وبين المتوكّل حتّىٰ ولاّه مكّة ، وعيّنه مؤدّباً لأولاده ، وأمر له بعشرة آلاف درهم ، وعشرة تخوت من الثياب ، وعشرة أبغل تحمل له رَحله إلىٰ سرّ مَن رأى (٣).

فلا عجب من هذا الرجل أن يروي اجتماع الشعراء الماجنين عند سكينة بنت الحسين عليه‌السلام (٤) !!

أو يروي متّهماً أشبه الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خُلُقاً عبد الله بن جعفر تارة بأنّه : كان لا يرىٰ بأساً في الغناء والأدلّة قائمة علىٰ حرمته (٥) !

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ٦٦ ، الجرح والتعديل ٣ / ٥٨٥ ، تهذيب التهذيب ٣ / ٢٧٠.

(٢) تاريخ ابن الوردي ١ / ٢٠١ ، مقاتل الطالبيين : ٣٨.

(٣) تاريخ بغداد ٨ / ٤٦٩.

(٤) نقله عن جدّه مصعب الوضّاع ، وهو الّذي اختلقه ; ليصرف الناس عن الوقيعة في ابنتهم سكينة بنت خالد بن مصعب ، المولعة بالغناء والترف.

(٥) انظر : تفسير الخازن ٣ / ٣٣٨ ..

لكن هذه الدعوىٰ بعيدة عن ساحة مَن أدّبه الإمام عليّ وسبطي الرحمة الحسن والحسين عليهم‌السلام ، وأخذَ علمه عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروىٰ أحاديثه ، بل الزبير نفسه وأُسرته مولعون بالغناء ، ومنهم : سكينة بنت خالد بن مصعب ، الّتي كانت تجتمع مع الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة القرشي والمغنّيات يغنّين ; الأغاني ١ / ٦٧.

١١١

وتارة أُخرىٰ بأنّه : طلّق العقيلة الكبرىٰ زينب بنت فاطمة عليها‌السلام (١) ... إلىٰ آخر بوائقه.

وممّا يؤسف له أنّ الأقلام المأجورة والغافلة قد تابعت الزبير بن بكّار في نقل ترهاته هذه ، ولم يكلّف أحدٌ ممّن نقل افتراءات ابن بكّار هذه نفسه بالبحث والتدقيق في ما ينقل عنه.

فقد بقي التاريخ في فترة طويلة أسيراً بأيدي العتاة والأقلام المأجورة تجري جلباً لمرضاة الساسة ، ودعماً لمبادئهم ، وترويجاً لأُمور دُبّرت بليل ، وهكذا لعبت سماسرة السياسة الوقتية دوراً خطيراً بالنواميس الإسلامية قابضين علىٰ أزمّة الأقلام ، تحلّق بشخصيات إلىٰ الكمال وتسف بآخرين إلىٰ حضيض الوصمة والشنار ، كما أنّ هنالك دواعٍ فئوية ، وأغراض شخصية ، كان لها الأثر البالغ في ما غشي الناس من دور مظلم ..

وقد بلغ الأمر إلىٰ حدّ أنّ أهل حمص يرون بأنّ صلاة الجمعة لا تصلح إلاّ بلعن أبي تراب ـ أي : أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ـ ويخيّل إلىٰ بعض زعماء أهل الشام وذوي الرأي والعقل أنّ أبا تراب كان لصّاً من لصوص الفتن (٢).

قال الإمام الأوزاعي ـ فقيه الشام الكبير ـ ما أخذنا العطاء حتّىٰ شهدنا علىٰ عليّ بالنفاق وتبرّأنا منه ، وأُخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيمان البيعة ، فلمّا عقلت أمري سألت مكحولاً ويحيىٰ بن أبي كثير وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن عبيد بن عمير فقالوا : ليس عليك شيء إنّما أنت مكره ، فلم تقرّ عيني حتّىٰ فارقت نسائي ، وأعتقت رقيقي ، وخرجت من

__________________

(١) انظر : مرقد العقيلة زينب عليها‌السلام : ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) انظر : مروج الذهب ٣ / ٤٢.

١١٢

مالي ، وكفّرت أيماني ... (١).

وهكذا دُسّت في تاريخنا الضخم سفاسف ودسائس هي من لدات أفكار السماسرة ؛طمعاً بالشهرة والنهمة ، فلنكن علىٰ حذر منها ، ولا نعتمد عليها إلاّ بعد الفحص والتنقيب عن الرواة ونزعاتهم وميولهم ، ولا سيّما مثل ابن بكّار ، الطامع في زبارج المتوكّل الناصبي والكذّاب الأشر.

أمّا كون الإمام عليه‌السلام قد سمّى ثلاثة من أبنائه باسم عمر وولدين باسم أبي بكر وعثمان ، فالثابت أنّ للإمام عليه‌السلام ولداً واحداً اسمه عمر وأُمّه الصهباء ويقال لها : أُمّ حبيب التغلبية ، كما نصّ علىٰ ذلك الشيخ المفيد في إرشاده ، والمحبّ الطبري في ذخائره (٢).

أمّا أبو بكر : فهو كنية وليس اسماً ، تَكنّىٰ بها أحد أولاد الإمام واسمه : محمّد الأصغر ، وأُمّه : ليلى بنت مسعود الدارمية.

أمّا عثمان : فهو أخ العبّاس بن عليّ عليه‌السلام لأُمّه الفاضلة المُكنّاة بـ : « أُمّ البنين » ـ رضي الله عنها ـ وقد كان العبّاس يحمل راية أخيه الحسين عليه‌السلام في واقعة الطفّ ، وقد أُستشهد عثمان مع إخوته الثلاثة أبناء أُمّ البنين من عليّ عليه‌السلام في تلك الواقعة العظيمة الّتي أعادت للإسلام مساره المحمّدي الأصيل الّذي حاول بني أُميّة أن يحرفوه عنه ، كما هو المستفاد من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حُسين منّي وأنا من حُسين » (٣).

__________________

(١) انظر : سير أعلام النبلاء ٧ / ١٣٠ ..

والحال أنّ بغض عليّ عليه‌السلام قد جعله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علامة النفاق ، كما هو المعروف من الحديث الصحيح الّذي رواه مسلم ١ / ٦١ عن عليّ عليه‌السلام : « إنّه لعهد النبيّ الأُمّي إلَيّ لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق » انتهىٰ.

(٢) الإرشاد : ٦٧ ، ذخائر العقبىٰ : ١١٧.

(٣) ذخائر العقبىٰ ـ للمحبّ الطبري الشافعي ـ : ١٣٣.

١١٣

وبعد هذا ، لم يثبت أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان قد سمّىٰ أبناءه المذكورين بهذه الأسماء تعبيراً عن المودّة أو الحبّ لأحدٍ ما ، فلم نعثر في ذلك علىٰ أي تصريح أو دليل يثبته (١) ، والإنسان قد يطلق اسماً ما علىٰ شخص من دون ملاحظة لمناسبة معينة ، كما هو شأن الأسماء المرتجلة ـ وهو حال اسم العَلم ـ في الغالب ...

كما أنّ التسمّي بهذه الأسماء والتكنّي بهذه الكنى كان شائعاً في ذلك الزمان ، ولم يكن مختصّاً بالمذكورين كي تصحّ الدعوىٰ في هذا الجانب ...

وأيضاً أنّ الأسماء المذكورة لم يكن لها حينذاك من المعنىٰ الرمزي والتميّز الاعتباري الّذي لها الآن بحيث يكون إطلاقها علىٰ شخص ما ذا معنىٰ مقصود ، فهذا ممّا يحتاج إلىٰ فترة تاريخية ، وعوامل مساعدة لتحقيقه ، وهو الأمر الّذي حصل بعد ذلك ! فلا يعدّ ما ذكره الكاتب دليلاً في المطلوب !

ومع ذلك ، فنحن نسأله هنا بالمقياس نفسه الّذي قاس به الأُمور في الموضوع ، فنقول له : لم يُعلم أنّ أحداً من الخلفاء الثلاثة قد سمّىٰ أبناءه باسم عليّ ، أو الحسن ، أو الحسين ، والمعلوم أنّ الحبّ الحقيقي والمتكامل يكون بين طرفيه لا من طرف واحد فقط ، فهل نعدّ هذا ـ حسب استدلال الكاتب ـ أنّهم كانوا يبغضون أهل البيت عليهم‌السلام ؟!

نترك الإجابة للكاتب نفسه !

*                  *                 *

__________________

(١) نعم وردت رواية مرسلة في بحار الأنوار ٣١ / ٣٠٧ تدلّ علىٰ أنّ الإمام عليه‌السلام سمّىٰ ولده عثمان علىٰ اسم : عثمان بن مظعون ، الصحابي الجليل الّذي توفّي في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمشهود له بالفضل والفضيلة ; فراجع ثمّة !

١١٤



الفصل الرابع



موقف الإمام عليه‌السلام

من الشورىٰ والنصّ

١١٥

١١٦



قال الدليمي :

« هذه نصوص جلية من نهج البلاغة كلّها تثبت أنّ سيّدنا عليّاً رضي‌الله‌عنه كان يرىٰ أنّ الخلافة تثبت بالشورىٰٰ ، وأنّ أهل الشأن هم المرجع في ذلك ، فإن اختاروا رجلا وسمّوه إماماً ، وجب علىٰ الجميع التسليم له بالأمر ، والإيفاء بالميثاق ، وإن كان فيهم من يرىٰ نفسه أحقّ بها من غيره.

بل فيها التنصيص علىٰ صحّة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، وأنّها مرضية لله تعالىٰ ; لأنّها تمّت بإجماع المهاجرين والأنصار ومشورتهم ، وهي الطريقة الشرعية الّتي لا يجوز لأحد أن يردّ عليها أو الخروج عنها ، ولا يوجد ـ في الكتاب كلّه ـ نصّ واحد صريح أو خفي يشير إلىٰ أنّه يرىٰ الخلافة حقّ إلهي خاصّ به دون غيره ، وإليك بعض من هذه النصوص :

١ ـ من كتاب له عليه‌السلام إلىٰ معاوية : أنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علىٰ ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ، وإنّما الشورىٰ للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا علىٰ رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضاً ، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلىٰ ما خرج منه ، فإن أبىٰ قاتلوه علىٰ اتّباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه الله ما تولّىٰ. ج ٣ ص ٧.

ـ قال الدليمي ـ : في هذا النصّ جملة أُمور ، منها :

١١٧

(١) إنّ عليّاً رضي‌الله‌عنه كان يرىٰ أنّ الخلافة تتمّ بالشورىٰٰ.

(٢) وهذا يعني أنّ النصّ ليس شرطاً فيها.

(٣) إنّ الشورىٰ للمهاجرين والأنصار.

(٤) إنّ إجماع المهاجرين والأنصار حجّة شرعية لا يجوز مخالفتها.

(٥) استدلاله بهذا الإجماع علىٰ رضا الله وأنّهم إذا أجمعوا علىٰ أمر ( كان ذلك لله رضاً ).

(٦) ولذلك فإنّ خلافة الأئمّة الثلاثة قبله شرعية ومرضية لله تعالىٰ.

(٧) استدلاله علىٰ صحّة بيعته بصحّة بيعة الخلفاء الّذين سبقوه ، إذ إنّها تمّت علىٰ النحو الّذي تمّت به البيعات السابقة.

(٨) إنّ مثل هذه البيعة لا يعتبر فيها قول من خالف وشذّ ممّن حضر أو غاب.

(٩) إنّ الطاعن بخلافتهم متّبع غير سبيل المؤمنين ، وخارج عن أمر المسلمين ، يُردّ إلىٰ ما خرج منه ، فإن أبى قاتلوه علىٰ ذلك ، وولاّه الله ما تولّىٰ » (١).

أقول :

ذكرنا سابقاً في بداية الكتاب : أنّ ممّا يؤاخذ علىٰ الكاتب في كتيّبه هذا هو أنّه قد يكون قرأ كتاب نهج البلاغة قراءة ناقصة ، أو أنّه قرأ النهج كلّه لكنّه أخذ منه ما يسند مدّعاه أو ما يوافق آراء مذهبه ـ حسبما يتصوّر ـ فقط ، وإلاّ كيف يفوته الاطّلاع علىٰ تلك النصوص الواضحة والجلية في مطالبة الإمام عليه‌السلام بحقّه في الخلافة ، وتظلّمه من ذلك في أكثر من مورد من

__________________

(١) ص ١٢ ـ ١٣.

١١٨

النهج ، الأمر الّذي سنأتي علىٰ ذكره بالتفصيل بعد قليل.

أمّا الكتاب الّذي بعثه الامام عليه‌السلام إلىٰ معاوية ، والمشار إليه سابقاً ، فقد تحدّث فيه الإمام عليه‌السلام وفق قاعدة الإلزام ، وهي القاعدة الّتي تستعمل في مقام الاحتجاج علىٰ الخصوم وإلزامهم بما ألزموا به أنفسهم من قبل ..

بمعنىٰ : إن كان معاوية يرىٰ صحّة خلافة الّذين سبقوا الإمام عليه‌السلام وأنّ المسلمين قد بايعوهم ، فما يكون لمعاوية بعد هذا إلاّ الانصياع للأمر الّذي ألزم به نفسه ويبايع للإمام عليه‌السلام ; لأنّه قد بايع الإمام عليه‌السلام القوم الّذين بايعوا السابقين عليه ، وإلاّ فيكون ممّن اتّبع هواه فتردّىٰ ، الأمر الّذي أشار إليه الإمام عليه‌السلام في نهاية رسالته إليه : ولعمري يا معاوية ! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه إلاّ أن تتجنّى ; فتجنَّ ما بدا لك (١) !

وكلامه عليه‌السلام هنا إنّما جرىٰ وفق مقتضىٰ الحال ، وحسب القواعد البلاغية الّتي تلزم الإتيان للمنكِر بكلّ الوسائل الممكنة للإثبات ، وقاعدة الإلزام هنا هي إحدىٰ الوسائل النافعة في المقام ، بل وجدنا مَن يذكر هذا الإلزام الّذي أشرنا إليه هنا ، بصريح العبارة عنه عليه‌السلام ..

قال الخوارزمي الحنفي في كتابه المناقب : ومن كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، قبل نهضته إلىٰ صفين ، إلىٰ معاوية ; لأخذ الحجّة عليه : أمّا بعد .. فإنّه لزمتك بيعتي بالمدينة وأنت بالشام ; لأنّه بايعني القوم الّذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان علىٰ ما بايعوا عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يردّ ... إلىٰ قوله : ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لَتجدني أبرأ قريش من دم عثمان ، واعلم إنّك من الطلقاء الّذين

__________________

(١) نهج البلاغة ـ تعليق الشيخ محمّد عبده ـ ٣ / ٧.

١١٩

لا تحلّ لهم الخلافة (١).

فقوله عليه‌السلام : « وإنّما الشورىٰ للمهاجرين والأنصار ... » ، بمعنىٰ : إن كنت يا معاوية لا ترىٰ الخلافة بالنصّ الإلهي ، وإنّها تتمّ عندك بالاختيار واجتماع أهل الحلّ والعقد ، فأمرها لا يعدو المهاجرين والأنصار ، فهم أهل الشورىٰ ، وها هم قد بايعوني كما بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان من قبل ، فما كان لك يا معاوية أن تردّ هذه البيعة أو تحتال عليها بأي حال.

وقوله عليه‌السلام : « فإن اجتمعوا علىٰ رجل وسمّوه إماماً ، كان ذلك لله رضا ... » يشتمل علىٰ دلالة لطيفة ، وهو أقرب للتعريض منه بالإقرار ; فمن المعلوم أنّه قد ناهض الخلفاء الثلاثة الّذين سبقوه عليه‌السلام جمع كبير من المهاجرين والأنصار ، كما هو الثابت تاريخياً (٢).

ويشير عليه‌السلام إلىٰ أنّه الوحيد الذي اجتمع عليه المهاجرون والأنصار بأغلبية غالبة في المدينة ، وقد قال عليه‌السلام يصف هذه الحال في خطبة له : فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إليَّ ينثالون علَيّ من كلّ جانب حتّىٰ لقد وطئ الحسنان ، وشُقّ عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم (٣).

__________________

(١) انظر تمام كتابه عليه‌السلام في المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) انظر كلّ من ذكر أخبار السقيفة ، وتخلّف جماعة من الأنصار والمهاجرين ومعظم بني هاشم عن بيعة أبي بكر في حوادث سنة ١١ هـ من : تاريخ الطبري ٢ / ٤٤٥ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٣٢٥ ، البداية والنهاية ٥ / ٢٦٥ ، وغيرهم.

ولك أن تراجع أيضاً اعتراض بعض الصحابة علىٰ تنصيب أبي بكر لعمر نهاية حياته ، وأيضاً معارضة آخرين لعبد الرحمن بن عوف عندما قرّر اختيار عثمان في قصّة الشورىٰ المعروفة .. فلا يوجد إجماع علىٰ الثلاثة الّذين سبقوا الإمام عليه‌السلام.

(٣) عرف الضبع : ما كثر من عنقها من الشعر ; وهو ثخين يضرب به المثل في الكثرة والازدحام. وينثالون : يتتابعون مزدحمين ، وكان هذا الازدحام لأجل البيعة علىٰ

١٢٠