الرسائل العشر

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

الرسائل العشر

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٠

١
٢

فهرست ما في هذه المجموعة

١ ـ رسالة حول حياة الشيخ الطوسي ، تأليف الأستاذ واعظ زاده الخراساني................ ٥ ـ ٦٢

٢ ـ المقدمة في المدخل إلى صناعة علم الكلام للشيخ الطوسي ره........................ ٦٣ ـ ٩٠

صححها الأستاذ دانش پژوه واعتمد في تصحيحه على نسختين إحديهما من القرن الثامن ورمزها « ب » والأخرى من القرن العاشر ورمزها « ألف » وهما بمكتبة ملك بطهران برقمي ٤٥٨ و ٨ / ٥٧١٢

٣ ـ مسائل كلامية للشيخ الطوسي................................................ ٩١ ـ ١٠٠

صححها الأستاذ السيد محمد علي الروضاتي واعتمد في تصحيحه على خمس نسخ إحداها من القرن العاشر وهي بمكتبته والأخرى تاريخها ١٠٩٧ بمكتبة « آستان قدس رضوي » ورمزها  « ض » والثالثة في مكتبة جامعة طهران وتاريخها أيضا ١٠٩٧ ورمزها « ألف » والرابعة في مكتبة جامعة طهران أيضا ورمزها « ب » والخامسة تاريخها ١٠١١ ورمزه « ج » وهي بمكتبة الأستاذ السيد محمد الجزائري بأهواز

٤ ـ رسالة في الاعتقادات للشيخ الطوسي......................................... ١٠١ ـ ١٠٧

صححها الأستاذ الروضاتي واعتمد في تصحيحه على نسخة تاريخها ٩٤٨ وهي بمكتبته بإصبهان

٥ ـ رسالة في الفرق بين النبي والإمام للشيخ الطوسي............................... ١٠٩ ـ ١١٤

صححها الشيخ رضا الأستادي واعتمد في تصحيحه على نسخة بخط الأستاذ السيد

٣

الطباطبائي اليزدي استنسخها من نسخة منها توجد في مكتبة ملك بطهران.

٦ ـ المفصح في الإمامة للشيخ الطوسي............................................ ١١٥ ـ ١٣٨

صححها الشيخ الأستادي واعتمد في تصحيحه على نسخة بخط السيد الطباطبائي استنسخها من نسخة ناقصة وحيدة منها توجد في مكتبة المرحوم الميرزا محمد العسكري بسامراء بخطه.

٧ ـ رسالة في عمل اليوم والليلة للشيخ الطوسي.................................... ١٣٩ ـ ١٥٢

صححها الشيخ الأستادي واعتمد في تصحيحه على نسخة بخط السيد الطباطبائي استنسخها من نسخة بخط المرحوم الميرزا محمد العسكري بمكتبته

٨ ـ الجمل والعقود للشيخ الطوسي............................................... ١٥٣ ـ ٢٥٢

صححها الأستاذ واعظ زاده الخراساني واعتمد في تصحيحه على ثلاث نسخ يأتي تعريفها في ص ٢٤٧ ـ ٢٥٢

٩ ـ رسالة في تحريم الفقاع للشيخ الطوسي........................................ ٢٥٣ ـ ٢٦٦

صححها الشيخ الأستادي واعتمد في تصحيحه على نسختين إحديهما بخط السيد الطباطبائي والأخرى بمكتبة السيد الروضائي بإصبهان ، ورمزها « ن »

١٠ ـ الإيجاز في الفرائض والمواريث للشيخ الطوسي................................ ٢٦٧ ـ ٢٨١

صححها الشيخ الأستادي واعتمد في تصحيحه على نسخة طبع النجف ومخطوطة المكتبة الملية بطهران

١١ ـ المسائل الحائريات للشيخ الطوسي........................................... ٢٨٢ ـ ٣٣٦

صححها الشيخ الأستادي واعتمد في تصحيحه على ثلاث نسخ يأتي تعريفها في ص ٢٩٠

١٢ ـ الفهارس العامة للرسائل العشرة المذكورة..................................... ٣٣٧ ـ ٣٦٠

٤

حياة الشيخ الطوسي

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد رسول الله وعلى آله أمناء الله

الشيخ الطوسي وآثاره

هو المفسّر ، المحدث ، الفقيه ، الأصوليّ ، المتكلّم ، الرّجالي في القرن الخامس الهجري ، الشيخ أبو جعفر ، محمد بن الحسن بن عليّ بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ، ولد في شهر رمضان عام ٣٨٥ ه‍ ـ أي بعد أربع سنوات من وفاة الشيخ الصدوق المتوفّى عام ٣٨١ ه‍ ـ في طوس ( ظاهرا ) وفي سنة ٤٠٨ ه‍ بعد مضي ٢٣ عاما من عمره الشريف ، ورد بغداد ، العاصمة العلمية للإسلام ، ومركز الخلافة آن ذاك. وباشر لدى وروده جهوده العلميّة بالتلمذ على مشايخها العظام ، فلازم الفقيه المتكلم المعروف بالشيخ المفيد محمّد بن محمد بن النعمان المشهور ب « ابن المعلم » مدّة خمس سنوات ، آخذا منه حتى وفاته عام ٤١٣ ه‍ ، فنونا مختلفة من العلم. وبعد وفاة الشيخ المفيد أصبح يعدّ من أبرز طلاب السيد المرتضى ، علم الهدى ، فلقد أولاه عناية خاصة وقرّر له مبلغ ١٢ دينارا شهريّا. وبقي ملازما له حتى عام وفاة السيد الأستاذ سنة ٤٣٦ ه‍ ، فأمضى معه ٢٣ عاما في تحصيل العلم والأدب حتى نبغ ، وصار بعد وفاة أستاذه زعيم الشيعة وتحمل مسئولياته القيادية الجسام. وبقي في بغداد بعد وفاة أستاذه حتى عام ٤٤٨ أي مدة ١٢ سنة. وبعد ذلك وعلى أثر حدوث الاختلافات الشديدة السنة والشيعة ، وتبدّل الأوضاع السياسيّة ، وانتقال الحكم من آل بويه الذين كانوا شيعه إلى السلاجقة السّنّيين ، انتقل إلى النّجف الأشرف.

٧

وهكذا أمضى الشيخ الطوسي ٤٠ عاما ـ من ٤٠٨ ه‍ إلى ٤٤٨ ـ في بغداد ، كان القسط الأكبر منها في مجال تحصيل العلوم ، والباقي لزعامته وتدريسه. وقد كان في نفس الوقت مشغولا بالتأليف بالإضافة إلى الدرس والتدريس ولقد تابع جهده العلمي في مدينة النجف الصغيرة التي تبعد عن الكوفة فرسخا واحدا. وكانت النجف تقريبا في ذلك الوقت قد أصبحت موئلا يقصده طلاب العلم لمتابعة درسهم بالقرب من مرقد الإمام على عليه‌السلام. وفي تاريخ ٢٢ المحرم عام ٤٦٠ ه‍ وبعد انقضاء ٧٥ سنة من عمر ملي‌ء بالمشاغل العلميّة وتربية مئات العلماء ، وتأسيس وتقوية أقدم الحوزات العلميّة للشيعة الإمامية ، وبعد تأليف وتصنيف حوالي ٥٠ كتابا ورسالة في مختلف الفنون ، انتهى الشيخ الطوسي حياته العلميّة ، ودفن في منزله الخاص الواقع شمالي البقعة المطهرة العلويّة ، والذي تحوّل فيما بعد إلى مسجد بناء على وصية منه رضي‌الله‌عنه. ويعرف حاليّا بمسجد الشيخ الطوسي وبذلك كانت مدة إقامته في النجف الأشرف ١٢ سنة ـ أي من ٤٤٨ إلى ٤٦٠ ه‍.

كان هذا عرضا سريعا لحياة الشيخ الطوسي وأما التفصيل فكالتّالى : لقد مرّ معنا أن حياة الشيخ الطوسي تتلخّص بحسب محال إقامته في ثلاث مراحل :

١ ـ الفترة الواقعة من ولادته إلى هجرته إلى بغداد ( من ٣٨٥ إلى ٤٠٨ ه‍ ) ٢ ـ الفترة الواقعة من إقامته في بغداد إلى هجرته إلى النجف ( من ٤٠٨ إلى ٤٤٨ ه‍ ) ٣ ـ فترة إقامته في النّجف حتّى وفاته ( من ٤٤٨ إلى ٤٦٠ ه‍ )

وفي مجال تفصيل ذلك نقول :

المرحلة الاولى

من ولادته إلى هجرته إلى بغداد

فعلا وعلى حسب المصادر الموجودة لدينا ، فإنّ المعلومات عن هذه المرحلة من حياة الشيخ قليلة جدا بل معدومة رأسا. فالمترجمون القدامى إنما قالوا عن هذه المرحلة من حياة الشيخ : انه ولد في شهر رمضان عام ٣٨٥ ه‍ ، وفي عام ٤٠٨ ورد بغداد وإنه كان ينسب إلى طوس (١). وبهذا الكلام المبهم وضعوا إمامنا أسألة عديدة :

__________________

(١) اكتفى أبو العباس النّجاشي معاصر الشيخ الطوسي في رجاله ص ٣١٦ بتوصيف الشيخ بالطوسي. وكذا الشيخ

٨

هل إنه ولد في طوس أو في بلد آخر؟

هل هو من أهل النّاحية الكبيرة من طوس « نوقان » التي تحوّلت فيما بعد إلى مدينة « مشهد » المقدسة العظيمة ، أم هو من ناحية « طابران » المعبّر عنها حاليّا ب « شهر طوس » أى مدينة طوس ، والّتي كانت محلّ ولادة ومرقد الشاعر الحماسى الكبير « الفردوسي » ، أو كان من ناحية أخرى في طوس؟

هل كانت عائلته من أهل طوس ومن طبقة العلماء ورجال الدّين هناك؟

من هم أساتذته ومشايخه في تلك الديار؟

وهل أقام أثناء هجرته إلى بغداد في مدينة؟ في أي من المدن العلمية آن ذاك ، مثل « نيسابور » و « الري » و « قم » أم لا؟

وفعلا لا نستطيع الإجابة على شي‌ء من هذه الأسئلة. والقدر المسلّم لدينا هو أنّ الشّيخ الطوسي كان ينسب إلى « طوس » ، وقبل قدومه إلى بغداد كان قد قطع شوطا بعيدا في الحصول على المقدّمات العلميّة التي يحتاج إليها طالب العلم. لأنه بمحض وصوله الى بغداد بدأ مباشرة جهوده العلميّة ، وأخذ يحضر عند الأساتذة الكبار ، كالشّيخ المفيد ، كما أنّه شرع حين ذاك بتأليف كتابه الكبير في الحديث « تهذيب الاحكام » بما فيه من البحوث الفقهيّة والأدبيّة الّتي سنتعرض لها فيما بعد. فليس لنا إلّا الاعتراف بأنّه كان مؤهّلا بحسب الحصيلة العلميّة التي كانت عنده لدى وروده بغداد لدراسة المرحلة النّهائية من العلوم العقليّة والنقليّة. وفي رأينا أنه لو كان للشّيخ الطوسي مشايخ مشهورون قبل الهجرة إلى بغداد ، لكان ذكرهم في آثاره وكتاباته ، مع العلم بأنّه لم يذكر شيئا عن علماء تلك الدّيار ، حتى عن والده ـ لو فرض أنه كان من أهل العلم وأخذ عنه الشيخ.

نعم ، نجد أنّ العلّامة الطّهراني صاحب كتاب « الذريعة إلى تصانيف الشيعة » قد أشار إلى أن « أبا زكريّا محمد بن سليمان الحرّاني » ( أو حمدانى ) كان أحد مشايخه ، وتابع في كلامه : « إنه من أهل طوس والمظنون أنه من مشايخه قبل هجرته إلى العراق (٢) » وهذا القول ليس الّا مجرّد احتمال ، فمجرّد نسبة هذا الرجل أي محمد بن سليمان ، إلى طوس غير كاف

__________________

الطوسي نفسه في كتابه « الفهرست » ص ١٨٨ وفي سائر كتبه من دون التصريح بولادته بطوس. وأمّا العلامة الحلّي فقال في « خلاصة الأقوال » ص ١٤٨ : « ولد قدّس الله روحه في شهر رمضان سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وقدم العراق في شهور سنة ثمان وأربعمائة .. » فهو أيضا لم يشخص محل ولادة الشيخ.

(٢) مقدمة التبيان ص أي

٩

لإثبات ذلك ، وأنّ الشيخ الطوسي تتلمذ عليه في طوس.

كما أنّ صاحب الذريعة ، وتبعه بعض آخر من المترجمين المعاصرين ، قد كتبوا حول نسبة الشّيخ إلى طوس بأنّ مدينة « مشهد مدفن الإمام الرّضا عليه‌السلام » كانت مجمعا لعلماء الشيعة في ذلك الوقت ، وبسطوا الكلام في مكانتها العلميّة (٣) ولا شكّ في أنّ طوس كانت في ذلك الزّمان مهدا للعلم والأدب ، وخرج منها علماء مشهورون ، فعند ما كان الشيخ الطوسي يقضي مرحلة الطفولة والشّباب ، كان الشاعر الفارسي « الفردوسي » في « طابران » طوس مشتغلا بسرد « الشّاهنامه » ديوان شعره الخالد. فلو كان هذا البلد مولد الطّوسي ومحل إقامته ، فيبعد جدّا أن لا يتّفق لقاؤه إياه ، مع أن « الفردوسي » كان شيعيّا وكان في أوج الشهرة في أواخر أيّام حياته. بل لا يبعد كونهما من عائلة واحدة ، إذا لاحظنا سلسلة آباء الشيخ « الحسن بن على بن الحسن » ، وأنّ الفردوسي كان اسمه « الحسن بن علىّ على أحد الأقوال. (٤) كما أنّه في « نوغان » طوس ـ وفي نفس العام الّذي غادر الطوسي بلاده ( لو كان من أهلها ) وورد بغداد اي عام ٤٠٨ ه‍ ـ ولد ، نظام الملك وزير السلاجقة ، وتعلّم العلم والأدب بنفس البلد. ومن حسن الاتفاق أن اسمه أيضا « الحسن بن على ».

إضافة إلى المجهولات والأسئلة الّتي بقيت بلا جواب حول حياة الطوسيّ قبل هجرته إلى بغداد ، هناك سؤال آخر : وهو أنّ الطّوسي وعائلته في الأصل هل كانوا من العائلات الشيعيّة أو من أهل السّنّة؟

لا ريب في أنّ الطوسيّ لدى وصوله إلى بغداد مباشرة التحق بحلقة الشّيخ المفيد العالم الشيعي المعروف كما حضر عند غيره من علماء الإماميّة ، وأنّه منذ ذلك الوقت كان مدافعا عن هذا المذهب مجدّا في نشره وإرساء دعائمه. وهذا الأمر وحده لعلّه يكفي

__________________

(٣) مقدمة التبيان ص ج ، مقدمة رجال الشيخ ص ٥ و ٦ ، مقدمة بحار الأنوار ص ٦٩ وقد جاء في هذه المصادر وغيرها ، أنّ الشيخ الطوسي ولد بطوس. والظاهر أنّه لا مستند لهذا القول سوى كونه منسوبا إلى طوس ، وهذا كما عرفت لا يكفي لذلك. وانى لم أقف إلى الآن على من تنبه لهذه النكتة ، ولا على من استند في قوله إلى كلام أحد من القدماء.

(٤) يقول إبراهيم پورداود في مقدمة كتاب « داستان بيژن ومنيژه » إن اسم الفردوسي جاء في الترجمة العربية عن الشاهنامة للبندارى : « منصور بن الحسن » ، وفي تاريخ گزيده ومجالس النفائس : « حسن بن علي » ، وفي تذكرة دولت شاه السمرقندي وآتشكده آذر : « حسن بن إسحاق بن شرفشاه » ، وفي المقدمة البايسنغريّة على الشاهنامة ومجمل الفصيحي : « منصور بن فخر الدّين أحمد فرّوخ ».

١٠

للتعريف بعقيدته ومذهب عائلته فيما قبل الهجرة إلى بغداد. مع أنّ أسماء آبائه أيضا يؤيّد ذلك. وجميع من كتب عن الشيخ الطوسي من علماء الشيعة أكّدوا انتمائه إلى هذا المذهب من أوّل شبابه ، وهذا عندهم من المسلّمات ، ولم يقل أحد منهم خلافه.

إلّا أنّ عديدا من أهل السنّة نسبوه إلى المذهب الشّافعي على اختلاف تعابيرهم. والظاهر أنّ المدعي الأوّل لهذا الرأي هو تاج الدين السبكى (٥) في « طبقات الشّافعيّة » فيقول ما حاصله : « أبو جعفر الطّوسيّ فقيه الشيعة ومصنفهم كان ينتسب إلى مذهب الشافعي .. ورد بغداد ، وتفقّه على مذهب الشّافعي ، وتعلّم الكلام والأصول عند أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ، المعروف بالمفيد ، فقيه الإماميّة .. » (٦) وبعد السّبكى قال العلّامة السيوطي في كتابه « طبقات المفسّرين » : « محمد بن الحسن بن علىّ أبو جعفر شيخ الشيعة وعالمهم .. ورد بغداد ، وتفقّه في فنون الفقه على مذهب الشّافعي ، فلازم الشيخ المفيد فصار على أثره رافضيّا (٧) وممن صرّح أخيرا بذلك الكاتب الشّلبي في « كشف الظّنون » فقال : « كان ينتمي إلى مذهب الشّافعي » إلّا أنّ الشلبى قد خلط ما بين الطوسي وأمين الإسلام الطبرسي ، كما انه خلط أيضا بين تفسير « التبيان » للطوسي ، وتفسير « مجمع البيان » للطبرسي ، بالإضافة إلى أخطاء أخر صدت منه في هذا الصدد.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه : ما السّبب في نسبة الشيخ إلى مذهب الشّافعي على لسان عديد من علماء السنّة فقط؟ ولما ذا امتنع علماء الشيعة من ذكره؟ فسكتوا عنه؟ لعلّ قائلا يقول إنّ السّبب الوحيد هو التعصّب والطائفيّة ، لكنّه قول باطل ، إذ لو كان الشّيخ شافعيّا في بدء امره فانتقل إلى التّشيّع ، لكان ذلك مفخرة للشيعة وليس عارا عليهم ، لأنّه قبل كلّ شي‌ء دليل على أصالة هذا المذهب وقوّته. مع أنّ علماء الشيعة لم يتحاشوا عن الاعتراف بذلك في ترجمة علماء كبار أمثال « ابن قبة » (٨) و « العيّاشي » (٩) فانتقال رجل معروف وعالم كبير مثل الشيخ الطوسي ولو في أوائل أمره من مذهب الشّافعي إلى المذهب الشّيعي ،

__________________

(٥) السّبكي بضم السّين نسبة إلى سبك العبيد قرية في مصر ، وهو قاضي القضاة تاج الدين ، عبد الوهّاب بن علي بن عبد الكافي المتوفّى عام ٧٧١ ه‍.

(٦) طبقات الشافعية ج ٣ ص ٥١.

(٧) طبقات المفسّرين ص ٢٩.

(٨) هو أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة ( بكسر الأول وتخفيف الثّاني ) زحف الرازيّ ، كان معتزليّا رجع الى المذهب الإماميّ ، رجال النّجاشي ص ٢٩٠.

(٩) هو أبو النّصر محمد بن مسعود بن محمد بن عيّاش السلمي السمرقندي المعروف ب « العياشي » وزان

١١

لا يعد فخرا للشافعيّة ، ولا نقصا للشّيعة ، بل الأمر على عكس ذلك.

على أنّ علماء السنّة لم ينسبوا أحدا من كبار الشّيعة الآخرين كالشيخ المفيد ، والسيّد المرتضى وأمثالهم إلى مذهب آخر ، فما هو السّبب إذا؟

في رأيي أن اعتدال الشّيخ وإنصافه في الأبحاث الكلامية ، ونقله لآراء علماء المذاهب الإسلاميّة في كتاباته لا سيّما في تفسير التبيان وكتاب « الخلاف » ، وترويجه للفقه التفريعى وإشاعته طريقة « الاجتهاد » بين الشّيعة على النّحو المعمول به عند أهل السّنّة كما ستعرف واقتباسه عباراتهم وخصوصا من كتب الامام الشافعي ولا سيّما في كتابه « المبسوط » ، وإيراده للروايات من طرقهم. ، وتصميمه على جمع روايات الفريقين في كتابه « تهذيب الأحكام » في بدء العمل ـ وإن انصرف عنه فيما بعد ـ وأمثال هذه الأمور لعلّها كانت باعثة على صدور هذا الوهم من جانب العلماء الثّلاثة المذكورين. أو أنّ الشّيخ الطوسي اشتبه عليهم بشخص آخر منسوب إلى طوس ، كما حصل ذلك بالفعل لصاحب « كشف الظّنون » الذي اشتبه به مع الشيخ الطّبرسي المتوفى عام ٥٤٨ ه‍ ، أي بعد الطّوسي بمدة ٨٨ عاما.

بل من المعلوم عدم إحاطة هؤلاء المذكورين معرفة كاملة بالشّيخ الطّوسي وكتاباته فالسّبكى مثلا اكتفى بذكر تفسير القرآن و « الأمالي » من كتبه الكثيرة ، وأنّه توفي بالكوفة (١). والكاتب الشّلبى أيضا بدوره ارتكب تلك الأخطاء الواضحة (٢) وكيف كان فلقد تحدث غيرهم من علماء السنة عن حياة الطوسي ، ولم ينسبوا إليه ما نسبه هؤلاء الثّلاثة. وبعض المعاصرين من أهل السّنّة عرّفوه كما كان عليه في نفس الأمر ، وقالوا عنه : « كان عالما على المنهاجين الإمامي والسنّي ». (٣)

ومن المتيقّن لدينا أن عائلات شيعيّة كانت تعيش بطوس حين ذاك وإنّ وجود « الفردوسي » الشاعر لدليل واضح على ذلك. كما نعلم أيضا أنّ جمهور المواطنين والأهالي في

__________________

« العبّاسي » كان أوّلا من أهل السنة ثم تشيّع وكان متضلّعا بالحديث والأخبار وله فيها تآليف كثيرة ، رجال النّجاشي ص ٢٧٠.

(١) اتفق وفاة الشيخ بالنّجف دون الكوفة. ولعلّ السبكى أراد بالكوفة تلك المدينة وضواحيها فتعمّ النّجف.

(٢) مثل ابن حجر في لسان الميزان ج ٥ ، ص ١٣٥. وابن كثير وابن الجوزي في كتابيهما في التّاريخ فلاحظ.

(٣) قاله الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه الامام الصادق ، كما رواه عنه السيد محمد صادق آل بحر العلوم في مقدمته على رجال الشيخ الطوسي ص ٢٧.

١٢

تلك المنطقة كانوا من أهل السّنّة ، ومن أتباع الشّافعي ظاهرا ، فإنّ نشأة الوزير نظام الملك ( ٤٠٨ ـ ٤٨٥ ه‍ ) في « نوقان » والإمام الغزالي ( ٤٥٠ ـ ٥٠٥ ه‍ ) في « طابران » على مذهب الشافعي ، وكذلك غيرهما من العلماء تؤيّد ذلك.

ومن المحتمل أيضا أن أسره الشيخ الطوسي كانت من شيعة آل البيت بطوس ، لكنّها كانت تحت ستار التقيّة وكانوا يظهرون الشافعيّة خوفا من الإساءة لهم كما حصل بالفعل « للفردوسى » بعد وفاته حيث رفضوا دفنه في مقابر المسلمين لكونه رافضيا.

المرحلة الثانية

من وروده بغداد حتّى هجرته إلى النّجف

وضع بغداد آن ذاك علميّا ومذهبيّا وسياسيّا

لمعرفة بغداد كما كانت حين ذاك ، قد لا يكفى كتاب ، إلّا أنّنا نحتاج هنا إلى رسم صورة ولو مبهمة عن مكانتها السياسيّة والعلمية في تلك الأيام : فنقول :

لقد تمّ بناء بغداد على يد أبى جعفر المنصور الخليفة العبّاسيّ الثّاني ، حيث جعلها مركز الخلافة رسميا عام ١٤٦ ه‍. (١) وبذلك صارت بغداد مركز الثقل السياسيّ للعالم الإسلامي الواسع من ذلك الوقت إلى آخر أيّام العباسيين عام ٦٥٤ ه‍ فحكمت الأقاليم الإسلاميّة كلها. وكذلك أصبحت بغداد أكبر قاعدة علميّة ثقافية في العالم ، فكانت مجمع العلماء والخبراء في شتّى العلوم والفنون. وقصدها العلماء وطلّاب العلم من كلّ فجّ عميق ، وتوطّنوا بها مدى حياتهم أو أقاموا فيها برهة من الزمان لاكتساب العلم وتعلّمه ، أو لنشره وتعليمه ثم ارتحلوا عنها.

إن أكبر الفقهاء وأئمّة المذاهب الإسلاميّة : مثل الإمام أبي حنيفة ( ٨٥ ـ ١٥٠ ه‍ ) والإمام الشافعي ( ١٥٠ ـ ٢٠٤ ه‍ ) والإمام أحمد بن حنبل ( ١٦٤ ـ ٢٤١ ه‍ ) والإمام داود الظّاهري ( ٢٠٢ ـ ٢٧٠ ه‍ ). وكذلك كبار المحدّثين ومن جملتهم مؤلفوا الصّحاح

__________________

(١) على رأي الخطيب البغدادي في كتابه تاريخ بغداد ج ١ ص ٦٦ ، جلس الخليفة المنصور على عرش الخلافة عام ١٣٦ ه‍ ، وفي عام ١٤٥ بدأ تخطيط بغداد وبناءها ، وفي عام ١٤٦ تم بناؤها؟ وانتقل بلاط الخلافة إليها ، وتم الجدار الخارجي وسائر عمليات البناء في أواسط عام ١٤٩. وقد رويت في ذلك روايات أخرى متفاوتة في ذلك بعض الشي‌ء.

١٣

الستة (١) ، وأكبر المؤرخين : مثل محمّد بن إسحاق ( م ١٥٠ ه‍ ) أو بعدها والواقدي ( ١٣٠ ـ ٢٠٧ ه‍ ) وابن واضح اليعقوبي ( م ٢٨٤ ه‍ ) وابن سعد كاتب الواقدي ( م ٢٣٠ ه‍ ) والمسعودي ( م ٣٤٦ ه‍ ) والطّبري ( ٢٢٤ ـ ٣١٠ ه‍ ) والبلاذري ( م ٢٧٩ ه‍ ) وابن قتيبة الدّينوري ( م ٢٧٦ ه‍ ) وأبي الفرج الأصفهاني ( م ٣٦٠ ه‍ تقريبا ) (٢) فإنهم قضوا عامة حياتهم أو شطرا منها في بغداد ، وبعضهم مدفون فيها ، كما أنّ بعضا آخر منهم مثل المسعودي ، والبلاذريّ ، واليعقوبي ، والدّينوري قد ولدوا ونشأوا ببغداد.

وأمّا الشّعراء المعروفون أمثال « المتنبّي » فلعلّنا لا نجد ( سوى عدد منهم ) ممن قصد بغداد ، للاتصال ببلاط الخلفاء أو الوزراء وكبار الرّجال من ذوي الأيدي والألسن ، وأولى المال والجاه ، والتقرّب منهم وإنشاد المديح فيهم ، والحصول على صلاتهم ، ورفع الحاجات إليهم ، والعكوف ببابهم أو الانصراف من عندهم مأجورين شاكرين.

وكذلك فإنّ العلوم العقليّة ، والفلسفيّة ، والرياضية ، والطبيّة ، المعبّر عنها ب « علوم الأوائل » أو « العلوم الدخيلة » ، لأوّل مرّة في الإسلام ، وضع حجرها الأساسي ، واستحكمت دعائمها ، في بغداد ، فاستجلب من أجلها كبار العلماء والمترجمين من أطراف الأرض وأكناف البلاد ، وحشروا في بغداد ، واشتغلوا بترجمة الكتب أو تأليفها في تلك الفنون. وقد ظهرت أوّل مؤسّسة علمية أو مجمع علميّ أو دار الكتب المعروف ب « بيت الحكمة » ببغداد ، في عهد الخليفة هارون الرّشيد ، فكانت محلّا ومرجعا للعلماء والمترجمين (٣). ثم أسّست مدارس

__________________

(١) هذه الكتب تعتبر أصح كتب الحديث عند أهل السّنّة مثل الكتب الأربعة عند الشيعة. وهؤلاء الستة هم ١ ـ أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاري ( ١٩٤ ـ ٢٥٦ ه‍ ) ٢ ـ مسلم بن الحجّاج النيشابوري ( ٢٠٤ ـ ٢٦١ ه‍ ) وهما صاحبا الصّحيحين ٣ ـ أبو داود سليمان بن أشعث السجستاني ( ٢٠٢ ـ ٢٧٥ ه‍ ) ٤ ـ أبو عيسى محمد بن عيسى التّرمذي ( ٢٠٩ ـ ٢٧٩ ه‍ ) ٥ ـ أبو عبد الرحمن أحمد بن على بن شعيب النّسائي ( ٢١٥ ـ ٣٠٣ ه‍ ) ٦ ـ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ( ٢٠٩ ـ ٢٧٣ ه‍ ) المعروف ب ( ابن ماجة ) وهؤلاء الأربعة هم أرباب السنن الأربع المعروفة بأسمائهم.

(٢) قد جاءت تراجم هؤلاء المذكورين في مصادر كثيرة من بينها تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

(٣) قد اختلفوا في عنوان هذا المركز هل انه كان مدرسة ، أو دار الكتب أو معهدا للدراسة والتأليف والترجمة أو محلا لجميع هذه الأمور ، فلاحظ كتاب تاريخ العلوم العقلية في الإسلام ( باللغة الفارسيّة ) للأستاذ الدكتور ذبيح الله صفا ص ٤٨. وقد جاء في كتاب « دليل خارطة بغداد » ص ٢٥٤ أنّ بيت الحكمة وكذلك مكتبة شابور ، ودار العلم للشريف الرّضي ، كلها كانت واقعة على الضفة الغربية من بغداد ولا يعلم بالضّبط متى أسّس بيت الحكمة وربّما يرجح وجوده قبل عصر الرشيد وكانت دائرا قطعا إلى عصر ابن النّديم صاحب الفهرست ، فليلاحظ المصدر المذكور.

١٤

أخرى بقيت إلى عصر الشيخ الطوسي ، واستفاد هو منها كما ستقف عليه.

ولأجل الوقوف على وضع « بغداد » في تلك الأعصار فإن من اللازم ، الرجوع الى كتابين ألّفا حين ذاك : أحدهما كتاب « الفهرست » لابن النديم. والآخر « تاريخ بغداد ». أما الفهرست فقد ألّف في سنة ٣٧٧ ه‍ كما هو المنصوص عليه في مواضع منه. وقد كان مؤلّفه « ورّاقا » مشتغلا ببيع الكتب واستكتابها للنّاس ، وقد عمل فهرستا لكلّ ما وصل إليه من الكتب ، وكان صديقا لكثير من العلماء وأئمة المذاهب المعاصرين له ولعشاق الكتب والظّاهر أنّ دكّانه كان محلّ تردد العلماء والراغبين بالكتب ، وملتقى أفئدتهم وأفكارهم.

أمّا « تاريخ بغداد » فهو للخطيب البغدادي المعاصر للشّيخ الطوسي الّذي أقام معه في بغداد ، زمنا بعيدا وبعده إلى سنة ٤٦٣ ه‍ وكان يتردّد على بغداد حتّى توفّي فيها في تلك السنة (١). وقد التقى بكثير من العلماء المعاصرين له ، وقليل من العلماء الّذين عاشوا ببغداد أو تردّدوا عليها ، ولم يذكرهم الخطيب في كتابه هذا الذي يحتوي على ترجمة ٧٨٣١ شخصا بالتفصيل أو الإيجاز ومع ذلك فلم يذكر الخطيب الشيخ الطوسي إمام الشيعة في عصره في قليل ولا كثير.

موقف الشّيعة في بغداد

هذا الّذي مرّ معنا ، انّما يظهر لنا بغداد من النّاحية العلميّة بشكل كلّي. وأمّا من ناحية الشّيعة والتشيع فيها فلا بد وأن نشير إلى أنه من عصر الإمام الصّادق عليه‌السلام المتوفّى عام ١٤٨ ه‍ فما بعده قد دخلها أكثر الأئمة من آل البيت عليهم‌السلام. ومن بينهم الإمامان السابع والتاسع ـ أي الإمام موسى بن جعفر الكاظم والإمام محمّد بن على الجواد عليهم‌السلام ـ وأقاما فيها برهة من الزّمان ثم ماتا أو استشهدا بها ودفنا بمقابر قريش الّتي صارت فيما بعد بلدة مستقلة تسمّى « الكاظمين » أو « الكاظميّة ».

وكذلك فان قسما كبيرا من علماء الشّيعة ورجالهم كانوا يترددون على بغداد منذ تأسيسها ، وبعضهم استوطنوا بها ، ومنهم من كان على علاقة وارتباط بالخلفاء أو الوزراء فيها. ولا سيّما في أيام « البرامكة ». فمن جملة الرجال المشهورين والعائلات المعروفة هشام

__________________

(١) كان نزل الخطيب البغدادي في أواخر عمره بمحلّة درب السلسلة قرب المدرسة النظاميّة وتوفي هناك عام ٤٦٣ ه‍ ( أي بعد وفاة الطوسي بثلاث سنوات ) وقد شيّعه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أوّل شيخ للنظاميّة وحملوه إلى جامع المنصور في الطرف الغربي من بغداد فلاحظ دليل خارطة بغداد ص ٣١٩.

١٥

بن الحكم (١) ومحمد ابن أبى عمير ، وعلي بن يقطين وأسرته ، وأسره ابن قولويه ، والإسكافي ، والصّفواني ، والشّريفين المرتضى والرّضي حيث كانوا مستوطنين ببغداد ، وكان كلّما مرّ الزمان على بغداد ، يزداد اجتماع الشيعة فيها حتّى أصبحت مركز الشّيعة الرّئيسي في القرن الثالث والرابع والخامس. فكان لعلماء بغداد من هذه الطائفة المقام الأوّل والزّعامة المطلقة على جميعها. ومن جملتهم « السفراء الأربعة » أو « النّواب الأربعة » (٢) الّذين عاشوا في بغداد في النّصف الأخير للقرن الثّالث إلى شطر من القرن الرابع ـ أى من سنة ٢٦٠ الى سنة ٣٢٩ ه‍ بالضّبط ـ ، وكانوا يتحملون مسئولية الوكالة والنّيابة الظاهرة للإمام عليه‌السلام الغائب عن الأبصار ، وكانوا مراجع للشّيعة الإماميّة عامّة ، ومقابرهم لا زالت موجودة في نواحي بغداد القديمة إلى هذا العصر وتزار من قبل الشيعة.

وتمّ تأسيس علم الكلام عند الشّيعة ، الذي يقوم بمهمة الدفاع عن المذهب ، في بغداد على يد « هشام بن الحكم » استمر حتى بلغ الذروة في أواخر القرن الرابع على يد الشيخ المفيد حيث أحدث بمهارته في المحاورات الكلاميّة والدروس الّتي كان يلقيها على

__________________

(١) كان هشام مولى لبني شيبان أو « كندة » ولد بالكوفة ونشأ بواسط واتّجر إلى بغداد ، وتوطّن بها أخيرا ، فلازم يحيى بن خالد البرمكي ، وتولّى مجالس كلامه ومناظراته. وهو الذي فتق الكلام في الإمامة وهذّب المذهب في النظر على حد تعبير الشيخ الطوسي. كانت له مهارة رائعة في المناظرة والبداهة في الجواب. وأسماء كتبه المذكورة في الفهارس تدلّ على أنه كان خصما لدودا للفلاسفة وأتباعهم من المعتزلة. والظّاهر أنّه أوّل من تصدى للرّد على فلاسفة اليونان وإيران ، وأوّل من ألّف في الإمامة. كان هشام محل عناية الإمامين الصادق والكاظم عليهما‌السلام وله عنهما رواية. كان مقيما ببغداد في قصر الوضّاح ، ومات بعد زوال البرامكة بمدة قليلة عام ١٧٩ ه‍ ، أو في خلافة المأمون عام ١٩٩ ه‍. وخلّف تلاميذ مثل ابن أبى عمير ويونس بن عبد الرحمن وغيرهما. وفنّ الكلام عند الشيعة الإمامية بدأ من هشام وانتقل من طريق هؤلاء إلى من بعدهم حتّى انتهى إلى الشيخ المفيد ومن في طبقته. ملخّص من رجال النّجاشي وفهرست الطوسي ورجال الكشّي في ترجمة هشام.

(٢) وهم : ١ ـ عثمان بن سعيد العمري كان وكيلا للإمام الهادي والإمام العسكري ثمّ الإمام المهدي عليهم‌السلام. ٢ ـ ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان العمرى ، وقد بقي حوالي خمسين سنة في هذا المنصب إلى أن توفّي عام ٣٠٤ أو ٣٠٥ ه‍. ٣ ـ أبو القاسم الحسين بن روح النوبختي ، فقام بالأمر بعد أبي جعفر العمري حتّى توفّي عام ٣٢٦ ه‍. ٤ ـ أبو الحسن عليّ بن محمد السمري ، حيث قام بالأمر بعد النّوبختي إلى أن توفّي عام ٣٢٩ ، وقد صدر التوقيع الشريف من قبل الصاحب عليه‌السلام على يده إعلاما بانتهاء دور النّيابة الخاصة والغيبة الصغرى وبعد ذلك بدأت الغيبة الكبرى وصار الأمر إلى الفقهاء الذين يعبّر عنهم ب « النّواب العامة » للإمام عليه‌السلام.

١٦

الناس ثورة علميّة ، وقد ترك جماعة من النّاس مذهبهم ودخلوا في المذهب الإمامي نتيجة لقدرته الكلاميّة ومنطقه القويّ. وقد يخرّج من مدرسته ، الرجل الكلامي المجرب الشريف المرتضى علم الهدى رضي‌الله‌عنه في رجال آخرين.

وجدير بالذكر أن المفيد والمرتضى وشيوخهم والمعاصرين لهم وحتى الشيخ الطّوسي نفسه كما يبدو من مطاوي التاريخ ، كانوا قبل كلّ شي‌ء مراجع للناس في علم الكلام ودفع شبهات المخالفين. والظّاهر أنّ هذا العلم في تلك الأعصار قد كانت له الرّتبة الأولى بالنسبة إلى باقي العلوم حتى الفقه والحديث. فكان إمام الشيعة ورئيسهم المقدّم على غيره هو العالم المتكلّم دون العالم الفقيه ، كما هو المعتاد في الأزمنة المتأخرة ويدلّ على هذا الأمر تلك الرسائل المتعددة الّتي نجدها في قائمة تصانيف تلك الطبقة من العلماء التي هي أجوبة مسائل وردت إليهم من البلاد البعيدة. وكذلك الكتب التي ألّفوها ردّا على مخالفيهم وتفنيدا لآرائهم. حيث إنّ أكثرها في المسائل الكلاميّة ، وإن كان للفقه منها حظّ وافر.

وبعد علم الكلام كانت الأهمية العظمى للفقه والأصول ، ولعل الاهتمام بالحديث كان أكبر من الاهتمام بهما أيضا بل إنّ الحديث كان أسهل تناولا لاعتماده بصورة رئيسية على النّقل ، وكانت بغداد ملتقى العلماء والمحدثين من كلّ بلد ، ومحل تردّدهم ، وليس مبالغة في القول لو ادعينا أنّ الأحاديث الإسلامية ومن جملتها الرّوايات عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام قد انتقلت من أكثر البلاد وجمعت في بغداد عند الشيوخ.

وبقطع النظر عن رواة الشيعة في القرنين الثّاني والثالث ، فان عندنا شخصية شيعية مشهورة ، ألا وهو محدّث الشّيعة وحافظهم أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الّذي كان في مدينة « الرّيّ » زعيما للشيعة ، ثم انتقل إلى بغداد بسبب مجهول لعلّه العمل على رواية كتاب الكافي وبثّ أحاديث في بغداد مركز الشيعة يوم ذاك ، وهناك فارق الدنيا وقبره الآن مزار معروف. ويحتمل قويّا أنّه ألّف هذا الكتاب قبل هجرته إلى بغداد لكنّه حدّث به فيها ، فإنّ أكثر رواة الكافي كانوا يعيشون في بغداد وفيها حدّثوا به للآخرين ، كما أنّ شيوخ الكليني عامّتهم من مشايخ قم والرّي (١) وما قاربها من البلاد.

__________________

(١) رجال النجاشي ص ٢٦٦. وكان الكليني مشتهرا ب « الرازي » و « البغدادي » و « السلسلي » نسبة إلى درب السلسلة الواقعة في باب الكوفة ببغداد وكان يحدث في هذا المكان بالكافي عام ٣٢٧ ، وكأنّه في نفس هذه السّنة انتقل إلى بغداد ، فلاحظ مقدمة الكافي للدكتور حسين على محفوظ ص ١٨ ولنا مقالات حول

١٧

والمفروض انّه كان مشتغلا بتأليف الكافي في مدة عشرين سنة كما يقول النجاشي وكذلك فقد دخل بغداد معاصره أحد رجال الشّيعة بقم ، على بن بابويه القمّي والد الشيخ الصدوق ، وصاحب التآليف الكثيرة واتّصل بوكيل الناحية المقدّسة (١) ، كما أنّ الشيخ الصدوق ، نفسه ورد بغداد عام ٣٥٥ ه‍ (٢) نعم. لقد بدأ حديث أهل البيت عليهم‌السلام وروايات الشيعة ، تنتشر وتتركّز أوّلا في مركزين رئيسيين هما مدينة ( قم ) و ( الكوفة ) ، ثم صارت بغداد ملتقى هذين الطريقين للحديث إذ المحدثون كانوا يتردّدون من قم والكوفة وغيرهما ، إلى بغداد ، ويحملون معهم الأحاديث فيروونها بها ، وأحيانا كانوا يقيمون هناك.

كما وظهرت وجمعت كتب الشيعة أيضا من البلاد القريبة أو البعيدة في بغداد بنفس النّسبة التي اجتمع فيها علماؤهم. فإنّ محمد بن مسعود العيّاشي مثلا أحد أقطاب الشيعة في سمرقند ، قد كانت له مؤلّفات عديدة أتى ببعضها إلى بغداد لأوّل مرة أبو الحسن القزويني القاضي في عام ٣٥٦ ه‍ (٣) وفي النهاية ازدهرت المكتبات الشيعية ببغداد ، ومن جملتها مكتبة أبى نصر شابور بن أردشير (٤) وزير بهاء الدولة البويهي ابن عضد الدّولة ، الّتي تأسّست سنة ٣٨١ في محلة « بين السورين » (٥) إحدى محلّات « الكرخ » في

__________________

الكافي في مجلّة آستان قدس رضوي في ادوارها الأولى والثانية.

(١) كان على بن بابويه في بغداد عام ٣٢٨ ـ اي قبل وفاته بسنة ـ كما في رجال النّجاشي ص ١٩٩ ، وعلى رأي الشيخ الطوسي في رجاله ص ٤٨٢ ورد بغداد سنة تناثر النجوم ، أي في نفس سنة ٣٢٩ التي توفّي فيها ، وسمع منه « التلعكبري » فيها.

(٢) رجال النّجاشي ص ٣٠٣. وقد كان الصدوق في بغداد عام ٣٥٢ ه‍ أيضا وسافر في هذه الأثناء أسفارا إلى الكوفة وهمدان ومكة ، فلاحظ مقدمة بحار الأنوار ج ١ ص ٣٦ لصديقنا المجاهد العلامة الشيخ عبد الرحيم الرّباني الشيرازي رحمه‌الله تعالى ، ولنا ترجمة مطولة عن الصدوق في مقدمة كتاب « المقنع » للصدوق.

(٣) يقول العلامة الحلي في « الخلاصة » ص ١٠١ في ترجمته : « قدم بغداد سنة ست وخمسين وثلاثمائة ومعه من كتب العيّاشي قطعة ، وهو أوّل من أوردها بغداد ورواها .. ».

(٤) يقول عنه ابن الأثير في تاريخه الكامل ج ٧ ص ٣٢٤ : « كان كاتبا سديدا وقد أسّس مكتبته عام ٣٨١ ه‍ ، وجمع فيها أكثر من عشرة آلاف كتاب .. » وجاء في هامش هذا الكتاب ، أنّ هذا الرّجل تولّى الوزارة لبهاء الدولة ثمّ لمشرف الدولة ثلاث مرّات. وكان رجلا عفيفا ، محسنا ، سليم النّفس ، حسن المعاشرة ، الّا أنه كان سريع العزل لعماله حتى لا يبتلوا بالترف والإفراط في العيش. وقد وقف على مكتبته أوقافا وأملاكا وتوفي عام ٤١٦ ه‍ عن عمر يقارب التسعين.

(٥) كانت بغداد الأصلية تسمّى « مدينة السّلام » واقعة على الضفة الغربية من « دجلة » قريبة من

١٨

بغداد بجهد هذا الوزير الشّيعي الفاضل ، وكانت تشتمل على نفائس الكتب النّادرة وتضاهي مكتبة « بيت الحكمة » وكذلك مكتبة الشّريف المرتضى التي كتب عنها أنّها حوت ٨٠ ألف كتابا (١) كما أن أخاه الشّريف الرّضي أسّس أيضا مؤسّسة باسم « دار العلم » كان فيها مكتبة مهمة (٢).

وبالإضافة إلى هذه المكتبات الثلاث ، كانت هناك بالطبع مكتبات أخرى شخصية لعلماء الشّيعة ويعلم من فهرست ابن النديم أنه قد كان لكتب الشّيعة رواج في سوق البيع حين ذاك في بغداد وأنه وقع قسم كبير منها بيد ابن النديم حيث سمّاها في فهرسته مع ذكر شي‌ء من مزاياها. (٣)

إن المكانة التي أحرزها الشّيعة في بغداد كان الفضل يعود فيها بشكل أساسيّ إلى رجال كانت لهم منزلة وشأن من أمثال علي بن يقطين (٤) الذين عملوا مع العبّاسيين

__________________

« الكاظميّة » حاليّا ، بنيت مدوّرة لها أربعة أبواب باسم الكوفة ، والبصرة ، والشام وخراسان وكانت هندستها بهذه الكيفيّة : ١ ـ خندق محيطة بالبلد. ٢ ـ المثنى المبينة بالآجر والساروج سدا للسيل. ٣ ـ فيصل خارجي في عرض ٥٠ ذراعا : مساحة خالية عن أىّ بناء حفاظا على المدينة من العدوّ والحريق. ٤ ـ السّور الأعظم في ارتفاع ٣٠ ذرعا ، وضخامة ٥ ـ ٢٢ ذراعا في الأسفل ، و ١٢ ذراعا في الأعلى. ٥ ـ فيصل داخلي في عرض ١٥٠ ذراعا : مساحة بدون بناء ، دفاعا عن المدينة. ٦ ـ جدار ثان محيط بميدان واسع في الدّاخل ، ومحيط بالأبنية والقصور. وكان الحدّ الفاصل بين الجدارين يسمى « بين السورين ». وبعد ذلك تم بناء الكرخ جنوبيّ المدينة ثم انهدمت أركان المدينة تدريجيّا ، وبنيت مكانها محلّات منضمّة إلى محلة الكرخ ، وقد سمّيت تلك المحلّات باسم مكانها من المدينة القديمة ، مثل محلّة باب الكوفة ، محلة باب البصرة ، وهكذا. وفي رأيي أنّ مكتبة شابور كانت واقعة في مكان كان قبل ذلك يسمي « بين السورين » ولم أر من تنبه لذلك بهذا الشرح. لاحظ دليل خريطة بغداد ص ٤٩.

(١) قال أبو القاسم التنوخي ملازم السيد المرتضى : قد أحصينا كتب السيد فكانت ٨٠ ألف مجلّد من مصنفاته ومحفوظاته ومقرواته. وقال الثعالبي قد قومت بثلاثين ألف دينار ، بعد أن أهدى القسم الكبير منها للوزراء والرؤساء ، روضات الجنات ص ٣٨٣ و ٣٨٤.

(٢) دار العلم هذه كانت مدرسة يسكن فيها الطلبة ، وقد هيئت لهم كلّ ما يحتاجون إليه ( ومنها المكتبة ). روضات الجنّات ص ٥٧٥.

(٣) قد ذكر الشيخ الطوسي في الفهرست ص ١٦٣ أسماء كتب العيّاشي نقلا من الفهرست لابن النّديم ، وكأنّه لم يكن له مصدر سوى ذلك.

(٤) كان يقطين والد علىّ من دعاة آل العباس ، وتعقبه مروان الحمار ففرّ من موطنه الكوفة ، كما فرت أمّ علىّ مع ابنه هذا وأخيه عبيد إلى المدينة حتى رجعوا إلى الكوفة بعد استقرار الحكم لآل عبّاس. وكان عليّ من المقرّبين لدى البلاط العباسي ، ذا مكانة مرموقة عند السّفاح ، والمنصور ، والمهدي ، والرشيد وتوفّى عام

١٩

منذ بداية أمرهم ، وكانت لهم مناصب كبيرة ومكانة هامة لديهم حتّى إنّ « البرامكة » لم يكونوا منقطعين عن رجال الشيعة وعلمائهم ، فإنّ « هشام بن الحكم » العالم الشّيعي كان ملازما ليحيى بن خالد البرمكي كما مرّ معنا. (١)

ومن خلال مطالعة التّاريخ والأحاديث المرويّة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وغيرها نعرف بأنه قد كان هناك رجالات شيعيّة كانت تحتلّ مناصب مهمة في العاصمة وسائر البلاد. ويتضح هذا أكثر ونحن نرى أنّ الخلفاء كانوا ينزلون على رأي زعماء الشيعة في تكفير وطرد أشخاص من أمثال « ابن أبي العزاقر » (٢) و « الحسين بن منصور الحلّاج » (٣) حيث أجروا عليهم أحكام الإعدام جريا على العمل بفتاويهم. فهذا دليل على أنّ الطائفة الإماميّة في القرن الرابع الهجري كانت معترفا بها بشكل رسميّ لدى البلاط العبّاسيّ. وكان لرأي علمائهم أكبر الأثر فيه. مع الاعتراف بذلك كلّه لا ينبغي إنكار حقيقة أنّ مكانة الشيعة وموقعهم السّياسيّ والاجتماعي في بغداد وفي العراق وإيران بصورة عامة قد بلغ قمته في عصر « الدّيالمة » فهذه الأسرة الّتي نشأت من أصل فارسيّ وكانت تدين بالولاء لأهل البيت قد حكمت البلاد حتى بغداد مركز الخلافة العباسيّة لمدّة مائة وثلاثة عشر عاما ـ أى من سنة ٣٣٤ ـ إلى ٤٤٧ ه‍ ـ وكانت أزمّة الأمور كلّها بيدهم ، فلم يبق للخليفة سوى الاسم ورسوم الخلافة الظاهرية. وأعظم ملوك الدّيالمة هو عضد الدّولة البويهي الّذي أخضع بغداد في سنة ٣٦٧ وضمّها إلى ملكه ، وبقي على

__________________

١٨٢ ه‍ ـ في بغداد بعد أن عاش ٥٧ سنة ، وكان الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام محبوسا حين ذاك. وصلى عليه وليّ العهد محمّد بن الرشيد. وقد توفّي والده يقطين بعده عام ١٨٥ ه‍. كان علي هذا وذرّيته من المؤلفين للكتب ، ومن رواة حديث آل البيت عليهم‌السلام فلاحظ فهرست الطوسي ص ١١٧ ورجال النّجاشي ص ٢٠٦ وغيرهما من المصادر.

(١) فلاحظ الهامش رقم ١٨.

(٢) هو أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني ادعى النيابة الخاصة عن المهدي عليه‌السلام ، بل الألوهيّة والحلول. وحينما أعلن الشيخ الحسين بن روح وكيل النّاحية المقدسة فساد عقيدته ، أخذه الخليفة وأجرى عليه حكم الإعدام بفتوى من القضاة في شهر ذي القعدة عام ٣٢٢ ه‍ ، وفيات الأعيان ج ١ ص ٤١٨.

(٣) هو أبو معتب الحسين بن المنصور البيضاوي المعروف ب « الحلّاج » له دعاوي باطلة ومقالات مشهورة ، كان يعدّ نفسه أحد الأبواب للنّاحية المقدسة في الغيبة الصغرى ، وصدر توقيع من النّاحية المقدسة في تكذيبه. وقد ذمّه علماء الشيعة المعاصرون له أو المتأخرون عنه لكن بعضا آخر منهم أمثال نصير الدين الطوسي ، والشيخ بهاء الدين العاملي والقاضي نور الله التّستري قد دافعوا عنه ، وأوّلوا كلماته الظاهرة في الكفر وعلى كلّ حال فهناك خلاف بين العلماء في شأنه لاحظ روضات الجنات ص ٢٢٥.

٢٠