الرسائل العشر

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

الرسائل العشر

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٠

قيد الحياة حتّى عام ٣٧٢ ه‍. وهو أوّل من سمّى ب « الملك » رسميّا في الخطبة بعد اسم الخليفة. وأوّل من أعلن رسميّا مرقد عليّ عليه‌السلام في النجف وبنى عليه القبّة والمقام ، وقد أوصى بأن يدفنوه إلى جواره عليه‌السلام. (١)

كان هذا الملك يكنّ احتراما كبيرا للشيخ المفيد ، ويوليه عناية خاصة ، حتّى إنّه كان يزوره أحيانا في بيته. وعلى العموم فقد نضجت المحافل الشيعية ومجامعهم كمّا وكيفا في عصر الدّيالمة ، وأصبحت حلقاتهم العلميّة ودروسهم ، ومناظراتهم مع أرباب المذاهب الأخرى تزدهر بشكل علنى ، وكانت لعلمائهم علاقات قويّة مع السلاطين والوزراء. ومن جملتهم الشيخ الصّدوق محمّد بن علي بن الحسين المتوفى عام ٣٨١ ه‍ وأخوه الحسين بن علي بن بابويه فكان لهما اتّصال دائم بالوزير العالم الأديب « الصاحب بن عبّاد » (٢) وقد اتفق للشّيخ الصدوق مناظرات بالرّي في حضرة الملك ركن الدّولة وابنه الملك عضد الدّولة. (٣)

ومع نمو تجمعات الشيعة حين ذاك في بغداد ، أخذت أماكنهم على الأيام تنفصل هذه عن أماكن أهل السنة ، فأصبحت محلة « الكرخ » مركزا شيعيا وبذلك بدأت التحركات والحروب بين الطائفتين ، حتى إن الخليفة التجأ إلى أن يعيّن للشيعة نقيبا ، لعله كان في نفس الوقت نقيبا للعلويين أيضا ، فكانت النقابة انتهت حين ذاك إلى الشريف أبي أحمد ، ثم انتقلت إلى ولديه الشريف الرضي ، ثم الشريف المرتضى ثم الى أبي أحمد عدنان ابن الشريف الرضي وهكذا فيمن بعده. وكانت هذه الأسرة من أكبر العائلات الشّيعية ظهورا وشهرة في بغداد وكانوا في نفس الوقت مراجع دينية للشيعة جميعا ، علاوة على منصب النقابة ، كما أن منصب إمارة الحجّ والنّظر في المظالم في بعض ضواحي العراق كانت مفوضة

__________________

(١) وفيات الأعيان ج ٣ ص ٢١ فما بعدها.

(٢) ألف الشيخ الصدوق كتابه « عيون أخبار الرضا عليه‌السلام » للصاحب ، واتى في أوّله بجملة من فضائله ومحاسنه ، كما سجّل قصيدته السنية في تبجيل الإمام الرضا عليه‌السلام ومرقده ، التي مطلعها هكذا :

يا زائرا سائرا إلى طوس

مشهد طهر وأرض تقديس

و أما أخوه الحسين بن بابويه فكان عالما كثير الرواية وله أيضا كتاب ألفه للصاحب ، لاحظ رجال النّجاشي ص ٥٤.

(٣) روضات الجنّات ص ٥٦٠ فما بعدها. وكان موضوع البحث موقف الصحابة بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموقف الشيعة ورأيهم فيهم.

٢١

إليهم. (١)

قدوم الشّيخ الطّوسي إلى بغداد

في مثل تلك الظّروف ورد بغداد الشيخ الطّوسيّ الطالب الشّاب البالغ من العمر ٢٣ عاما ، وهو على استعداد تام للتقدم العلمي والاستفادة من الدروس العالية ، ورد بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية البالغة حين ذاك أوجها الثقافى. والحافلة بآلاف من العلماء في جميع الفنون ومن جميع المذاهب الإسلامية. ومنذ وصوله لفت أنظار الشيوخ والاساتذة إليه ويتبيّن لدينا من ملاحظة مشايخ الطوسي في الحديث والرّواية وقسم من تأليفاته ، أنه استفاد في السّنين الأولى من إقامته ببغداد أقصى ما يمكن استفادته من الفرص التي كانت متوفرة له حين ذاك. وهذا واضح من خلال استقراء رواياته في كتب الحديث ، وفي كتابه « الفهرست » مع تصريح كبار العلماء والمترجمين له ، ومن جملتهم شيخنا الأكبر العلّامة الطّهراني في مقدمة التبيان (٢) ، والعلّامة المتتبع السّيد محمد صادق آل بحر العلوم ، في مقدمة فهرس الطّوسي (٣) ، حيث يتحصل لدينا أن القسم الأكبر من نقوله ورواياته إنّما هما عن خمسة أشخاص أدركهم الشيخ الطوسي في أواخر أيّامهم ، ولم يلازمهم مدة طويلة ، ومع ذلك فقد أخذ علومهم وسمع جميع رواياتهم في تلك الفرصة العابرة والمدة القصيرة.

فمن جملة هؤلاء الخمسة بل المقدّم عليهم الشيخ المفيد حيث أدرك الشيخ الطوسي خمس سنوات من آخر أيّام « المفيد » فقط ، في حال أنّ المفيد هو العمدة في منقولات الشيخ تقريبا. وقد ذكر الطّوسي في ترجمة المفيد بعد سرد مؤلّفاته قوله : « سمعنا منه هذه الكتب بعضها قراءة عليه وبعضها يقرأ عليه غير مرّة وهو يسمع » (٤) فظاهر هذا الكلام يدلّنا على أنّه أخذ منه جميع تلك الكتب ، ودرسها على أستاذه بطريقة السماع أو القراءة ، وبعضها بشكل مكرّر. في مدة لا تتجاوز خمسة أعوام. مع أنّه في نفس الوقت حسب ما ستعرف ألّف قسما كبيرا من كتاب « تهذيب الاحكام ».

والثاني من الخمسة هو الحسين بن عبيد الله الغضائري المتوفى عام ٤١١ ه‍ ، أى

__________________

(١) روضات الجنّات ص ٣٨٣.

(٢) مقدمة التبيان ص أح.

(٣) مقدمة الفهرست ص ١١ و ١٨.

(٤) فهرست الطوسي ص ١٢٦.

٢٢

بعد قدوم الشيخ بغداد بثلاث سنوات فقط. مع أنّ روايته عنه في الفهرست والتهذيب وغيرهما كثيرة جدّا.

والثالث منهم ، أحمد بن محمّد بن موسى المعروف ب « ابن الصلت الأهوازي » الذي توفي عام ٤٠٩ ه‍ اي بعد قدوم الشيخ بسنة واحدة ومن المسلم به لدينا أن الشيخ روى عنه وعن الغضائري بعض رواياتهما على الأقلّ بطريقة السماع أو القراءة ، ولم يكتف بالإجازة منهما ، فإنه يقول عن الغضائري : « كثير السّماع ، وله تصانيف ذكرناها في الفهرست ، سمعنا منه وأجاز لنا بجميع رواياته .. » (١) وقد نصّ الشيخ في الفهرست على أنّه قرأ أكثر كتب الكافي للكليني على الغضائري. (٢) وكذلك سمع من « ابن الصّلت الأهوازي » في سلخ شهر ربيع الأوّل عام ٤٠٩ ه‍. بمسجده الواقع بشارع « دار الرقيق » وقد مرّ علينا أنّه توفي في نفس السنة. (٣)

والرّابع منهم ، هو أبو عبد الله ، أحمد بن عبد الواحد البزاز المعروف ب « ابن الحاشر » و « ابن عبدون » المتوفّى سنة ٤٢٣ ه‍.

والخامس من هؤلاء الشيوخ الخمسة ، هو أبو الحسين على بن أحمد بن محمّد بن أبى جيد القمي ، الّذي كان يروي مباشرة عن محمّد بن الحسن بن الوليد المتوفّى عام ٣٤٣ ه‍ ، وعن أحمد بن محمد العطّار ، الذي سمع الحديث في سنة ٣٥٦ ه‍ (٤) ونحن لا نعلم سنة وفاة « ابن أبى جيد » هذا ، إلّا أنّ الشيخ الطوسي ترحّم عليه في مشيخة كتابه « الاستبصار فيما اختلف من الأخبار » (٥) وهذا الكتاب يعتبر من الكتب التي ألّفها الشيخ في أوائل حياته العلمية.

وبالإضافة إلى هؤلاء الخمسة من مشايخ الطوسي فنحن نمر على تراجم أشخاص آخرين قد درس وقرأ الشيخ الطوسي كتبهم الكثيرة عليهم ذكرهم الشيخ في كتابيه « الفهرست » و « الرجال » أو في مشيخة « التهذيب » و « الاستبصار ». ومنهم أستاذه الكبير علم الهدى الشريف المرتضى حيث قال في الفهرست بعد ذكر كتبه :

__________________

(١) رجال الطوسي ص ٤٧٠.

(٢) فهرست الطوسي ص ١٦١.

(٣) مقدمة رجال الطوسي للسيد محمد صادق آل بحر العلوم ص ٣٥.

(٤) شرح مشيخة تهذيب الاحكام للسيد حسن الخرسان ص ٣٤.

(٥) مشيخة الاستبصار ص ٣٠٣.

٢٣

« قرأت هذه الكتب أكثرها عليه ، وسمعت سائرها يقرأ عليه دفعات كثيرة » (١). والخبراء يعلمون ولا يخفى عليهم أنّ قراءة أو سماع الكتب الكبيرة والمتعددة إلى جانب تحقيقها ودرايتها يستوعب وقتا طويلا. ويبدو أن الشيخ الطوسي جهد كثيرا ليحصّل في السنوات الأولى التي قضاها في بغداد وعند كبار المشايخ والأساتذة العظام على أقصى ما يمكنه من المعلومات ، مستغلا حياتهم وآخر أنفاسهم حتى لا يسبقوه بموتهم ، فيفوته شي‌ء من علمهم. وبذلك نعتقد أن الدراسة استغرقت كل وقته ، ليله ونهاره في تلك السنين.

الشيخ المفيد وملازمة الشيخ الطوسي له

يعتبر المفيد أعظم مشايخه وأساتذته ، لا سيّما في العلوم النقليّة حيث كان معظم استناده إليه. كان المفيد رئيس متكلّمى الشيعة ورأس فقهائها في عصره يقول اليافعي : « .. البارع في الكلام والفقه والجدل ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية » (٢) وقد وصفه معاصره ابن النديم هكذا : « انتهت في عصرنا رئاسة متكلّمى الشيعة إليه ، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه ، دقيق الفطنة ، ماضى الخاطر ، شاهدته فرأيته بارعا » (٣). وإذا التفتنا إلى أنّ ابن النديم يكتب هذا الكلام عن المفيد المتوفّى عام ٤١٣ ه‍ وقد نصّ على انّه ألف فهرسته عام ٣٧٧ ه‍ حكمنا بأنه شاهد المفيد وكتب عنه في أواسط أيّام المفيد حيث لم يتجاوز الأربعينات ، وعاش بعد ذلك دهر أو اكتسب شهرة فوق ما كتب عنه.

وأمّا الخطيب البغدادي الذي هو بدوره أدرك المفيد في شبابه فيحكي لنا كيف جعل المفيد أهل السنّة في ضيق شديد بقوّة حجته وتأثير كلامه بين النّاس حتّى أقبلوا على ما كان يدعوهم اليه من مذهب آل البيت ، يقول الخطيب : « هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه .. » (٤)

فيتبيّن لنا من خلال أقوال المترجمين للمفيد ، سواء ممن كانوا معاصرين له ومن أهل حلقته ، أو من غيرهم من الشّيعة أو من أهل السنة ، أنّ المفيد كان بارعا في قوّة الحجّة ، والغلبة على خصمه ، حاضر الجواب ، نشيطا للبحث والمناظرة ، ولم يكن في زمانه من

__________________

(١) فهرست الطوسي ص ١٢٦.

(٢) مقدمة الرجال للسيد محمد صادق آل بحر العلوم ص ٧ نقلا عن مرآة الجنان لليافعي.

(٣) فهرست ابن النديم ص ٢٦٦ و ٢٩٣.

(٤) تاريخ بغداد للخطيب ج ٣ ص ٢٣.

٢٤

يدانيه أو يضاهيه في هذا المضمار.

كان المفيد معاصرا للقاضي عبد الجبّار رئيس المعتزلة المتوفّى عام ٤١٥ ، اي بعد وفاة المفيد بعامين. (١) وكذلك للقاضي أبي بكر الباقلاني رئيس الأشاعرة ببغداد المتوفّى عام ٤٠٣ ه‍. وكان للمفيد معهما مناظرات مذكورة في كتب التراجم ، وقد اشتهر بسببها المفيد (٢) وعطفت نظر الملك عضد الدولة عليه فقدره حق قدره ، فكان يزوره في بيته. وقد جاء في الكتب أنّ لقب « المفيد » أعطاه إياه « علي بن عيسى الرّماني » ( ٢٩٦ ـ ٣٨٤ ه‍ ) أحد المتكلّمين البارزين في ذلك الزمان ، بعد مباحثة جرت بينهما أيّام شباب المفيد ، وكانت الغلبة فيها للمفيد. فأرسل الرّماني على الفور رسالة إلى الشيخ أبى عبد الله المعروف ب « جعل » أستاذ الشّيخ المفيد يوم ذاك يوصيه بالمفيد خيرا.

ولد محمد بن محمّد بن النعمان المفيد في عائلة عريقة تنتهي بالنسب إلى يعرب بن قحطان ب (٣١) واسطة ، في شهر ذي القعدة الحرام عام ٣٣٦ ه‍. وفي ليلة الجمعة يوم الثّالث من رمضان عام ٤١٣ ه‍ انتقل إلى رحمة الله في بغداد ، وصلّى عليه تلميذه الشّريف المرتضى في ميدان « الأشنان » في جموع كثيرة حتّى إنّ الميدان على سعته قد ضاق بالنّاس ولم ير يوم أكبر منه من كثرة النّاس للصلاة عليه ، ومن كثرة بكاء المخالف والموافق عليه (٣) ويقول فيه ابن كثير الشامي : « شيّعه ثمانون ألفا من الرّافضة والشيعة » (٤) وقد نسب إلى المفيد حوالي ٢٠٠ مؤلّف من جملتها حوالي ١٨٠ كتابا ورسالة سمّاها تلميذه أبو العبّاس النّجاشي في رجاله. (٥) وكثير منها ردود على أقطاب المذاهب والآراء : أمثال الجاحظ ، وابن عبّاد ، وعلي بن عيسى الرّمّاني ، وأبى عبد الله البصريّ ، وابن نباتة ، والجبّائي ، وابن كلاب ، والخالدي ، والنّفسي ، والنّصيبي ، والكرابيسي ، والعتبى ، والحلّاج ، (٦) وغيرهم. بالإضافة إلى رسالات أكثر عددا من ذلك كتبها المفيد جوابا على

__________________

(١) كان عبد الجبّار رئيس معتزلة بغداد ، ثم دعاه الوزير الصاحب بن عباد إلى الرّي فكان هناك مشتغلا بالتأليف والتدريس إلى آخر حياته فتوفي بها عام ٤١٥ ه‍ فيبدو أنّ اتصال المفيد به كان في أيّام الشباب ، أمّا عبد الجبّار فقد كان في سن الكهولة حين ذاك لأنّه قد مات عن عمر يناهز التّسعين كما يحدّثنا ابن الأثير في تاريخه الكامل ج ٧ ص ٣١.

(٢) لاحظ روضات الجنّات ص ٥٦٣ للوقوف على تفصيل هذه المناظرة والّتي بعدها وغيرها من أحوال المفيد.

(٣) فهرست الطوسي ص ١٨٧.

(٤) روضات الجنّات ص ٥٦٤.

(٥) رجال النّجاشي ص ٣١٦.

(٦) بعض هؤلاء يعدّون من الرجال المعروفين ، والبعض الآخر مثل ابن كلاب والنّسفي ، والكرابيسي

٢٥

أسئلة وردت عليه من البلاد البعيدة والقريبة ومعظمها حول مسألة الإمامة والعقائد والأحكام الفقهية الخاصّة بالشّيعة وبعض هذه الكتب يعتبر مناقشة وإبطالا لآراء بعض مشايخه أمثال ابن الجنيد ، والشيخ الصّدوق وغيرهم في مسائل مثل العمل بالقياس ، والاعتقاد بسهو النّبي ونحوها.

قضى الشيخ الطوسي مع أستاذه المفيد كما أشرنا إليه سابقا ، مدة خمس سنوات ، وفي حياته وبإشارة منه (١) شرع في شرح رسالة المقنعة للمفيد التي تعدّ متنا فقهيا جامعا متقنا ، وربما كانت أوّل كتاب فقهي للشيعة من نوعها. وهذا الشّرح هو كتاب « تهذيب الأحكام » أحد الكتب الأربعة المشهورة في الحديث ، والأجزاء الأولى من هذا الكتاب التي حررها في زمن حياة أستاذه تعتبر أقوى دليل على مقدرة الشّيخ الطوسي الأدبيّة والعلمية ، مع أنّه حين ذاك لم يمض عليه أكثر من حوالي خمس وعشرين سنة من العمر. (٢)

السيّد المرتضى وملازمة الشيخ الطوسي له

جلس مجلس المفيد رسميّا لدى وفاته مباشرة أحد تلامذته وصهره الشريف أبو يعلى محمّد بن الحسن بن حمزة الجعفري (٣) المعروف ب ( أبى يعلى الجعفريّ ) فتصدى لإدارة حوزته وحلقته وكان هذا الرّجل على حدّ تعبير « النّجاشي » فقيها متكلما قائما بالأمرين. وبقي حيّا إلى عام ٤٦٣ ه‍ (٤) أي إلى بعد وفاة الطّوسي بثلاث سنوات ـ وقد شارك أبو يعلى هذا وسلّار بن عبد العزيز مع النّجاشي في تغسيل السيد المرتضى ،

__________________

والعتبى لم يتيسر لنا الوقوف على حالهم بعد شي‌ء من المراجعة إلى المصادر.

(١) روضات الجنّات ص ٥٦٤.

(٢) قد صرح الأستاذ الكبير آية الله البروجردي في درسه بأنّ أبحاث الشيخ الطوسي في التهذيب حول كيفية الوضوء لدليل على مقدرته الأدبيّة ، والعلمية وعلى تضلّعه فيها وتعمقه في كيفيّة الاستدلال.

(٣) قد نصّ النّجاشي في رجاله ص ٣١٦ وكذلك العلامة الحلّي في الخلاصة ص ١٦٤ على خلافة أبى يعلى هذا للشيخ المفيد ، وأما مصاهرته للمفيد فقد ذكرها ابن حجر في لسان الميزان ج ٥ ص ٣٦٨. والعلامة الشيخ عبد الرحيم الرباني رحمه‌الله مع تصريحه بذلك مرّات في مقدمته الطويلة لبحار الأنوار ، إلّا أنه يصرّح في ص ١٢٩ من المقدمة بأنّ صهر المفيد هو أبو يعلى حمزة بن محمد الجعفري وكأنه في نظره شخص آخر غير أبي يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري ، على أنه قيّد وفاته بسنة ٥٦٥ ، وكلاهما عندي خطأ.

(٤) رجال النّجاشي ص ٣١٦. ولا يخفى على البصير أن تاريخ وفاة أبي يعلى ( ٤٦٣ ه‍ ) ملحق بكلام النّجاشي قطعا لأنّ النّجاشي قد توفّي عام ٤٥٠ ه‍ مع إمكان وقوع الخطأ في الرقم ، لأنّ أبا يعلى الجعفري لو جلس

٢٦

كما يقول النّجاشي (١) ولكن. ومع الاعتراف بذلك ، فلا شكّ في أنّ الزعامة ورئاسة المذهب انتقلت بعد المفيد إلى تلميذه الأكبر الشريف المرتضى رضي‌الله‌عنه.

وكما مرّ معنا فإنّ أسره السيّد كانت من ذي قبل ، ذات اعتبار ومكانة لدى الخلفاء العباسيّين ، وكان السيّد المرتضى حين ذاك أكبر شخصية في هذه الأسرة بعد وفاة أبيه أبي أحمد النّقيب عام ٤٠٠ ه‍. وبعد وفاة المفيد ضمت إلى هذا المجد والعزّة رئاسة المذهب والمرجعية العلميّة فبلغت بها إلى دورة مجدها.

كان السيّد المرتضى وحيد عصره في فنون الأدب ، والشّعر ، والكلام ، والاطلاع على الآراء والمذاهب والملل والنّحل ، وإنّ الله سبحانه وتعالى قد أتم عليه النّعمة وأكمل له الرحمة وأسبغ عليه من فضله في شتى الجهات. وقد قال فيه معاصره الثّعالبي ، « انتهت الرّئاسة اليوم ببغداد إلى المرتضى في المجد والشرف والعلم والأدب والفضل والكرم ، وله شعر في نهاية الحسن .. » (٢) ووصفه أبو العبّاس النّجاشي تلميذه بقوله : « أبو القاسم المرتضى حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه ، وسمع من الحديث فأكثر ، وكان متكلما ، شاعرا ، أديبا ، عظيم المنزلة في العلم والدين والدنيا .. ». (٣) وكذلك يقول عنه تلميذه الآخر الشيخ الطوسي في كتاب رجاله ، والسّيد حيّ بعد : « على بن الحسين الموسويّ يكنى أبا القاسم الملقب بالمرتضى ، ذو المجدين علم الهدى أدام الله أيّامه ، أكثر أهل زمانه أدبا وفضلا ، متكلم فقيه جامع للعلوم كلّها مدّ الله في عمره .. » (٤) وقال الطوسي في ترجمة السيّد بعد وفاته في كتابه الفهرست : « .. الأجلّ المرتضى رضي‌الله‌عنه ، متوحّد في علوم كثيرة ، مجمع على فضله ، مقدم في العلوم : مثل علم الكلام ، والفقه ، وأصول الفقه ، والأدب ، والنّحو ، والشعر ، ومعاني الشعر ، واللّغة وغير ذلك ، وله ديوان شعر يزيد على عشرين ألف بيت. وله من التّصانيف ومسائل البلدان شي‌ء كثير .. » (٥)

__________________

مجلس المفيد عام وفاته أي سنة ٤١٣ ه‍ فقد كان حين ذاك في سن يليق بهذا المقام فلو صح أنه مات عام ٤٦٣ فلا بد أن يعد من المعمرين. والمعلوم لدينا أنّ أبا يعلى قد كان حيّا عام ٤٣٦ ه‍ الذي توفي فيه المرتضى علم الهدى واشترك هو مع النّجاشي في تغسيل السيّد.

(١) رجال النّجاشي ص ٢٠٧.

(٢) مقدمة البحار ص ١٢٥ نقلا عن يتيمة الدهر ج ١ ص ٥٣.

(٣) رجال النّجاشي ص ٢٠٦.

(٤) رجال الطوسي ص ٤٨٤.

(٥) فهرست الطوسي ص ١٢٥.

٢٧

يحصل لدينا من كلام كلّ من ترجم للسيّد المرتضى أنّه كان له مزيتان بارزتان : إحديهما ، المقام العالي والمكانة المرموقة ، وذاك المجد والرئاسة والعزة الظاهرة وثانيتهما ، إلمامه بكلّ علوم عصره وتبحره في الفنون والمعارف المتداولة في زمانه وبهذا كان السّيد يعتبر ذا المجدين كما أنّ الميز البارز الذي أحرزه أستاذه الشيخ المفيد حسب ما اعترف به كلّ من كتب عنه ، هو القدرة في البحث والمناظرة والغلبة على الخصم في مضمار الجدال والكلام.

ويبدو من مطاوي تراجم كثيرة في « تاريخ بغداد » تأليف الخطيب البغدادي ، المعاصر للسيد المرتضى ، أن العلماء والأدباء والشعراء كانوا يترددون على السيد لقضاء حوائجهم وحل معضلاتهم ومشاكلهم العلمية لديه ، وكانوا يكنون له احتراما بالغا. وجدير بالذكر أنّ الخطيب البغدادي مع إيراده لأمثال هذه المذكرات عن السيد في تضاعيف التراجم كثيرا ، قد اكتفى في ترجمة السيد الخاصة به بكلام موجز عنه في سطور (١) ولقد جاء في مرثية يرثي بها أبو العلاء المعري ، أبا أحمد الحسين بن موسى النقيب ، والد المرتضى والرضي المتوفى عام ٤٠٠ ه‍ أبيات خص بها المعرى هذين الأخوين ، البالغين حين ذاك أوج الشهرة ومنتهى العزة وهي هذه :

أبقيت فينا كوكبين سناهما

في الصبح والظلماء ليس بخلاف

متأنّقين وفي المكارم ارتقا

متألقين بسؤدد وعفاف

قدرين في الأرداء بل مطرين في

الإجداء ، بل قمرين في الإشداف

رزقا العلاء فأهل نجد كلّما

نطقا الفصاحة مثل أهل دياف

ساوى الرّضي المرتضى وتقاسما

خطط العلا بتناصف وتصاف(٢)

نعم .. وكما يقول أبو العلاء : فإن الشريف الرضي كان شريكا لأخيه المرتضى في جميع الفضائل إلّا أنّ الخبراء وأهل الأدب : يقدّمونه على المرتضى في صناعة الشعر. وكيف كان فهذان الأخوان أصبحا شمسين مضيئتين في الأندية الأدبيّة والعلميّة في بغداد في عصرهما الذي يعتبر من أرقى الأدوار العلميّة والثقافية في تاريخ الإسلام لكنّ السيّد الرّضي فارق الحياة شابا عام ٤٠٦ ه‍ وترك أخاه وكلّ العلماء وأدباء عصره مصابين في فراقه. حتى إنّ المرتضى لشدّة تأثره على أخيه ومن ثقل المصيبة عليه التجأ إلى حرم

__________________

(١) لاحظ تاريخ بغداد ج ١١ ص ٤٠٢.

(٢) لاحظ شروح سقط الزند السفر ٢ القسم ٣ ص ١٢٩٧ فما بعدها ، وروضات الجنّات ص ٥٧٥ نقلا عن ابن خلكان.

٢٨

الكاظميّة إلى أن ذهب إليه الوزير فخر الملك بعد الصلاة على جنازة الرّضي وأرجع المرتضى إلى بغداد.

على أنّ ترجمة كاملة عن حياة المرتضى والرضي تحتاج إلى تأليف كتاب ، ونحن قد اكتفينا هنا بشكل مختصر كي نضع أمام القراء مثالا عن البيئة التي نشأ فيها الشيخ الطوسي وللدلالة على تلك الشخصيات الّتي تربى عندها والمفاخر التي ورثها عنهم هذا الرجل العبقري وبالنظر إلى سنة قدوم الشيخ الطوسي أي عام ٤٠٨ ه‍ والى السنة التي توفّي فيها السيد الرّضي وهي سنة ٤٠٦ ه‍ فإنه لا يبقى عندنا شك في أنّه لم يتفق لقاء الشيخ للسيد الرّضي. والجدير بالذكر بل العجيب عندنا أنّ الشيخ الطوسي لم يذكره في كتاب الرجال والفهرست مع أنه كان صاحب تآليف قيّمة أمثال « نهج البلاغة » و « مجازات القرآن » و « المجازات النّبويّة » و « خصائص الأئمة » و « حقائق التنزيل » و « ديوان شعر كبير » وغيرها ، ولم يظهر لنا إلى الآن وجه ذلك. لكن الشيخ النجاشي معاصر الشيخ الطوسي قد أدرك السيد الرّضي وكتب عنه ترجمة قصيرة في رجاله كما يأتي : « محمد بن الحسين .. أخبرنا أبو الحسن الرّضي نقيب العلويين ببغداد ، أخو المرتضى كان شاعرا مبرّزا له كتب ..توفي في السادس من المحرم سنة ست وأربعمائة مائة » (١) ومع المقايسة بين هذا الذي وصف النجاشي به الرضي والذي ذكره في شأن أخيه المرتضى حسب ما تقدّم ، يتبيّن مدى التفاوت بين هذين الشقيقين الفاضلين. وقد ذكر النجاشي في رجاله قصة بشأن « ابن قبة » المتكلّم المشهور سمعها في مجلس الرّضي بحضرة الشيخ المفيد عن أبي الحسين ابن المهلوس العلوي الموسوي (٢) وهذا دليل على أنّ الشيخ النجاشي كان يتردّد على السيد الرضى في حياته ويحضر مجلسه ، كما أنه يروى كتبه عنه من غير واسطة.

وهكذا .. فبعد وفاة الشيخ المفيد لازم الشيخ الطوسي السيّد المرتضى ، ولم يكن حين ذاك ، يتجاوز ٢٨ سنة من العمر كما أشرنا إليه ، ونظرا لاستعداده الجيّد وحسن قريحته فقد أولاه السيد عناية بالغة وخصّص له ١٢ دينارا شهريا في الوقت الذي قرر لسلّار بن عبد العزيز ٨ دنانير. على أنّ هذا الأمر بنفسه يدلّنا على أنّ الشيخ كان ولا يزال يعيش كأحد الطلبة الغرباء في بغداد وكان بحاجة إلى مساعدة الأستاذ. وقد استقى من ينبوع علمه الفيّاض مدة ٢٣ عاما ـ اي من سنة ٤١٣ إلى سنة ٤٣٦ ه‍ ـ عدا ما أخذه عنه قبل

__________________

(١) رجال النّجاشي ص ٢٨٣.

(٢) رجال النّجاشي ص ٢٦٦.

٢٩

ذلك في حياة الشيخ المفيد ، كما أنه نال أكبر حظ ممكن من التقدم والرقي في ظلّ أستاذه البالغ منتهى المجد والعظمة.

وفي رأيي أنا أنّ الشيخ الطوسي لم يكن بحاجة ماسّة إلى علم السيد في الرواية والحديث ولأنّه في السنوات الخمس التي قضاها مع المفيد وغيره من الأساتذة والمشايخ الكبار الذين سمينا بعضهم كان قد تزوّد بأكبر قدر ممكن من المنقولات والروايات عنهم مباشرة من غير حاجة إلى توسيط السيد وغيره ممن يعتبرون من تلامذة هؤلاء المشايخ وهذا ما يظهر جليا مما قاله الشيخ في ترجمة السّيد في كتاب رجاله : « يروى عن التلعكبري والحسين بن على بن بابويه وغيرهم من شيوخنا » (١) ولهذا لم نجد السيد في طريق شي‌ء من روايات كتابي التّهذيب والاستبصار الذين هما أهم كتبه الحديثيّة ، ولا في غيرهما من كتبه إلّا نادرا. نعم ذكر الشيخ في الفهرست طريقه إلى كتاب الكليني بواسطة السيد أيضا فما عده من الطرق العديدة إلى هذا الكتاب ، فقال : « .. وأخبرني السيد الأجل المرتضى عن أبي الحسين أحمد بن على بن سعيد الكوفي عن الكليني .. » (٢).

أمّا علوم الكلام والتفسير واللغة والعلوم الأدبية عموما وكذلك الفقه والأصول فالظاهر أنّ الشيخ الطوسي استفاد فيها من السّيد إلى حدّ كثير ، فقد حكى الشيخ كثيرا من آراء السّيد في كتابه « عدة الأصول » وفي كتبه الكلاميّة والتفسير ، وانتقد بعضها. وفي « الفهرست » بعد أن سمّى قسما كبيرا من تأليفات السيّد يقول : « قرأت هذه الكتب أكثرها عليه وسمعت سائرها يقرأ عليه دفعات كثيرة » (٣).

ومن المسلّم به أنّ الشيخ قد صنف بعض كتبه المهمة في حياة السيد حيث سأل الله فيها دوام علوه كالتهذيب ، والاستبصار ، والنهاية والمفصح في الإمامة ، وكتاب الرجال ، وقسما من أوّل الفهرست وعدّة الأصول. وأهمّها تلخيص الشّافي الذي يعتبر من أهم كتبه الكلاميّة في الإمامة ، وهو تلخيص كتاب الشّافي للسيد المرتضى. الذي لم يؤلّف قبله في الإمامة كتاب على طرازه. وقد فرغ الشيخ من تلخيص الشّافي سنة ٤٣٢ ه‍ أي قبل أربع سنوات من وفاة السيد المرتضى. (٤) وحيث إنّ الشيخ صنّف أكثر هذه الكتب بالتماس من ابن البراج أو غيره كما ستقف عليه فان هذا يعبر عن مرجعيته وأهليته

__________________

(١) رجال الطوسي ص ٤٨٥.

(٢) فهرست الطوسي ص ١٢٦.

(٣) فهرست الطوسي ص ١٢٦.

(٤) لاحظ آخر تلخيص الشافي.

٣٠

ومكانته العلمية حين ذاك. بل الظاهر أن الشيخ كان يجيب على الأسئلة الواردة من البلاد مع وجود السيد مثل ما نرى أنّ الشيخ والسيد أجابا معا على « المسائل الرازيّة » وهي ١٥ مسألة في « الوعيد » كانت أرسلت إلى السيد. وعلاوة على تلخيص الشّافي ، فقد شرح الشيخ قسم الكلام من كتاب « جمل العلم والعمل » للسيد بعد وفاته ، وسمّاه « تمهيد الأصول » ووعد في أوّله بأن يكتب شرحا لهذا الشّرح أو لكتاب « الذّخيرة » للسيد وقد بدء بكتاب شرح الشّرح ولكنّه لم يتمه. ويستفاد من كتاب « تمهيد الأصول » أنّ الشيخ بقي ملازما لدرس السيد حتى أواخر حياته. (١)

ولد السيد المرتضى في شهر رجب عام ٣٥٥ ه‍ وتوفّى في ٢٥ ربيع الأوّل عام ٤٣٦ ه‍ بعد أن استوفى من العمر ثمانين سنة وثمانية أشهر وبضعة أيّام (٢) فأصبح الشيخ الطوسي خليفته ووارثه ووارث أستاذه المفيد في المرجعية العامة دون معارض ولا منازع.

الشيخ الطوسي بعد السيد المرتضى

وبعد وفاة السيد بقي الشيخ في بغداد حتّى عام ٤٤٨ ه‍ مبجلا معظما مشغولا بالدرس والبحث والتّأليف والإجابة على الأسئلة الواردة من البلاد المختلفة ، والظاهر أنّه كأستاذيه المفيد والسيد كان يحظى بعناية خاصة من قبل ملوك آل بويه والخلفاء المعاصرين له. وإنى إلى الآن لم أقف على وثيقة تدلّنا على أنّ الشيخ خرج من بغداد في تلك الظروف الّتي قضاها في بغداد ، مع أنّه من المستبعد جدا أن لا يزور على الأقلّ في هذه المدة الطّويلة الإمام الحسين في كربلاء ، وأمير المؤمنين عليهما‌السلام في النجف أو لا يسافر إلى سامراء لزيارة الإمامين العسكريين عليهما‌السلام.

وقد قال الشيخ في ترجمة أحمد بن نوح أبي العباس السيرافي : « مات عن قرب إلّا أنّه كان بالبصرة ولم يتّفق لقائي إياه » (٣) وهذا الرّجل من جملة الأساتذة والشيوخ الكبار في علمي الحديث والرّجال ، وقد وصفه النّجاشي بقوله : « وهو أستاذنا وشيخنا ومن استفدنا منه » (٤) وهذا أي إدراك النّجاشي للسيرافي يعتبر عند العلماء أحد أسباب

__________________

(١) جاء في نسخة قديمة من هذا الكتاب موجودة في المكتبة الرضوية ( ورقة ٣ ) قوله : « وذكر رحمه‌الله في كثير من تدريسه ». وقال في أواسط مبحث اللطف : « وكان رحمه‌الله في آخر تدريسه يشكّ في ذلك ».

(٢) فهرست الطوسي ص ١٢٦.

(٣) فهرست الطوسي ص ٦٢.

(٤) رجال النجاشي ص ٦٨.

٣١

ترجيح النّجاشي على الشيخ الطوسي في الرجال والحديث فكان لقاء مثل هذا الشيخ بمكان من الأهمية للشيخ الطوسي ومع ذلك لم يخرج الطوسي إلى البصرة لزيارته والأخذ منه مباشرة.

ويعلم من إجازة الشيخ المكتوبة عام ٤٤٥ ه‍ على ظهر نسخة من كتابه « مقدمة في المدخل إلى علم الكلام » أنّه كان في ذاك التاريخ في « حدود دار السّلام » اي في ضواحي بغداد. والظاهر أنّ الشيخ قد ألّف أكثر كتبه وأماليه في بغداد وانه ألف قسما منها قبل وفاة أستاذه السيد المرتضى وقسما آخر بعده. ويمكننا أن نقف على مكانته العلمية ورئاسته العامة حين ذاك من خلال هذه الكتب ومقدماتها ومن الأسئلة الواردة عليه من البلدان وقد عبر نظام الدين محمود بن علي الخوارزمي كاتب النسخة المذكورة المكتوبة سنة ٤٤٤ ه‍ ، عبّر عن الشيخ بقوله : « مقدمة الكلام تصنيف الشيخ الإمام الورع قصوة العارفين وحجة الله على العالمين ، لسان الحكماء والمتكلمين ، أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي متعنا الله بطول بقائه ونفعنا بعلومه ». (١)

الشيخ الطوسي والنجاشي

أبو العبّاس النّجاشي المعاصر للشيخ الطوسي صاحب كتاب الرّجال المعروف الذي ألّفه قبل سنة ٤٥٠ ه‍ الّتي توفّي هو فيها ، وبعد عام ٤٣٦ ه‍ الذي توفّي فيه السيد المرتضى (٢) والظاهر أنّه كتبه في بغداد. وقد وصف الشيخ الطّوسي بقوله : « محمد بن الحسن بن على الطوسي أبو جعفر جليل من أصحابنا ، ثقة عين ، من تلامذة شيخنا أبى عبد الله .. » (٣) ثم يفهرس جملة من كتب الشيخ الطوسي التي كان ألّفها إلى يوم ذاك

__________________

(١) مقدمة التبيان للعلامة الطهراني ص ١ ه‍. قد كان العلامة الطهراني رأي هذه النسخة في مكتبة الأستاذ السيد محمد مشكاة رحمه‌الله. وراجعت أنا الأستاذ مشكاة لرؤية هذه النسخة وزيارة إجازة الشيخ الطوسي بخطه لكاتب النسخة ، فقال : كانت هذه النسخة أمانة عندي لبعض أصدقائي فاستردّها ، ولا أدري ما هو مصيرها. ثم بعد ذلك بسنين حينما كنت أجمع الوثائق عن الشيخ الطوسي للمؤتمر الألفي للطوسي ، كتب إليّ الفاضل فخر الدّين نصيري ، أنّ هذه النسخة محفوظة لديه. وعلى كل حال فهي من جملة عديد من النسخ التي تحمل خط الشيخ الطوسي. فلاحظ خاتمة كتاب الجمل والعقود المصحّح والمترجم بجهدنا.

(٢) قد جاء في رجال النّجاشي ص ٢٠٧ أنّ السيّد توفي في ٥ ربيع الأوّل عام ٤٣٦ ه‍ وأنّه تصدى لغسله ، وهذا دليل على تأليفه كتاب الرّجال بعد موت السيّد وهناك شواهد أخرى على ذلك إلّا أنّ النّجاشي عبر عن السيد في أول كتابه بقوله : « السيد الشريف أطال الله بقاءه وأدام توفيقه » حيث انّ الظاهر منه السيد المرتضى وأنه كان في قيد الحياة حينذاك.

(٣) رجال النّجاشي ص ٢٨٧.

٣٢

ومن جملتها كتاب « الفهرست » وكثير من كتبه المهمة المشهورة سوى أجوبة المسائل. وهذا دليل آخر على فراغ الشيخ من تأليف تلك الكتب ورواجها بين الطائفة حين ذاك. وكلمة « عين » في كلام النّجاشي التي وصف بها الشيخ الطوسي ، تعبير واضح عن مكانة الشيخ واشتهاره بين النّاس وشخوص الأنظار إليه. وللأسف لم نعثر في شي‌ء من كتب الشيخ الطوسي ولا في رجال النّجاشي على ما يدل على وجود علاقة بين هذين العالمين العلمين مع اشتراكهما في أكثر الشيوخ والأساتذة ، وكونهما من المتصلين بالمفيد والمرتضى والمقربين عندهما فإن النجاشي يقول في السيد المرتضى : « توليت غسله ومعي الشريف أبو يعلى محمد بن الحسن الجعفري وسلّار بن عبد العزيز » (١) ويظهر من هذه الجملة علاقة النّجاشي بابى يعلى الجعفري وسلّار ، وعلاقة الثّلاثة بالسيد المرتضى ، وكلهم من تلامذة المفيد والسيد ومن المعاصرين للشيخ الطوسي إلّا أنّه في هذا الكلام لم يذكر الشيخ معهم ، كما أن الشيخ أيضا لم يتعرض في ترجمة السيد في الفهرست (٢) لمن تصدى لغسله وتجهيزه مع أنّه كان حاضرا هناك بحسب العادة بل لم يتعرض الشيخ في شي‌ء من كتبه كالفهرست والرجال لترجمة النجاشي أصلا ، وهذا مما يثير العجب. ومع ذلك كلّه فإن العلامة الحلي عدّ الشيخ الطوسي ممّن روى عن النجاشي (٣).

وعلى كل حال فلا ريب في أنّ النّجاشي قد ألّف « رجاله » أو بتعبير أصحّ « فهرسته » (٤) بعد فهرست الطوسي ، وكان أستاذنا الكبير آية الله البروجردي رضوان الله تعالى

__________________

(١) رجال النّجاشي ص ٢٠٧.

(٢) فهرست الطوسي ص ١٢٦.

(٣) مقدمة رجال الطوسي للعلامة السيد محمد صادق آل بحر العلوم ص ٣٨ نقلا عن إجازة العلامة الحلّي لبني زهرة ، وخاتمة المستدرك ص ٥١٠ ومقدمة التبيان ص أح ، وإجازات بحار الأنوار ط كمپاني ص ٢٨.

(٤) التعبير عن رجال النّجاشي بالفهرست نبّه عليه لأوّل مرة الأستاذ البروجردي رحمة الله تعالى عليه ، ويصدقه ملاحظة وضع الكتاب ، مع أن النّجاشي صرح في أوله بأنه قصد بذلك التأليف الإجابة على ما كان المخالفون يقولونه للشيعة « انّه لا سلف لكم ولا مصنّف » وأصرح في ذلك قوله في أول الجزء الثاني من الكتاب ص ١٥٧ : « الجزء الثاني من كتاب أسماء مصنّفي الشيعة وما أدركنا من مصنّفاتهم وذكر طرف من كناهم وألقابهم ومنازلهم وأنسابهم وما قيل في كل رجل منهم من مدح وذمّ .. ».

والفرق بين « الرجال » و « الفهرست » أنّ الهدف من الأوّل التعريف برجال الحديث ، وبالثّاني التعريف بالمصنّفين والمؤلفين ، وإن كان أكثر الرواة مؤلفين ، وأكثر المؤلفين القدامى ، مصنّفين. وما قاله

٣٣

عليه يعتقد بأنّ النّجاشي في كتابه هذا لم يغفل عن تصحيح أغلاط صدرت عن الشيخ في فهرسته من دون أن يصرّح بذلك أو يسمي الشيخ ، فأتى بوجه الصواب. وإنّى وقفت على مواضع من هذا القبيل حيث إنّ المقايسة بين الكتابين وسياق تعبير النجاشي يسجل صدق كلام الأستاذ وإصابة رأيه. (١) ولا شبهة في أنّ النّجاشي أشدّ تضلّعا وأكثر تعمّقا في علم الرجال من معاصره الشيخ الطوسي بل يعتبر هذا العلم من اختصاصه بالذّات. وقد كان من أهالي الكوفة وبغداد ، وله معاشرة قديمة مع العائلات في البلدين ومعرفة كاملة بالعائلات الشيعية وإحاطة بدقائق أمورهم ، وأنسابهم حيث يسمي آباء الرّجال بالضبط على عدّة وسائط ، وقد أدرك ورأى في طفولته بعض الشيوخ المتقدمين أمثال التلعكبري. (٢)

__________________

النّجاشي في أوّل الجزء الثاني عن كتابه هذا يعطي أنه أراد الجمع بين الأمرين إلّا أنه قدم الهدف الأوّل أي الفهرست على الثاني. ثم إنّ المفهرسين المتأخرين كصاحبي كشف الظنون والذريعة وكثير غيرهما ، رتّبوا كتبهم بحسب ترتيب أسامي الكتب ، في حين أنّ المتقدمين مثل ابن النّديم والطوسي والنّجاشي رتّبوها بحسب أسامي المؤلّفين ، فكانوا يبدءون بالتعريف بالمؤلّف ثم يذكرون كتبه. إلّا أن هناك فرقا بين ابن النديم وغيره ، فقد قسّم ابن النديم الّذي ألف فهرسته عام ٣٧٧ ه‍ أي قبل النّجاشي والطوسي بأكثر من خمسين سنة إلى أقسام بحسب العلوم والفنون.

وجريا على ذلك اضطرّ إلى تسمية بعض المؤلفين في بابين أو أكثر لكونه ذا فنون عدة ، وقد ألف في كل منها كتابا. على أنّ هناك فارقا آخر بين ابن النديم وغيره ، وهو أنّه جمع في كتابه أسماء كتب جميع الفرق حتى غير المسلمين ، في حين أنّ النّجاشي والطوسي لم يرتّبا كتابيهما بحسب الموضوعات والفنون. ولم يتعرضا الّا للمصنفين من الشيعة الإمامية أو من له اتصال وارتباط بهذه الطائفة بوجه من الوجوه.

(١) فمن باب المثال ، يقول الشيخ الطوسي في الفهرست ص ٢٠٤ في ترجمة هشام بن الحكم : « كان هشام يكنى أبا محمد وهو مولى بني شيبان ، كوفي تحوّل إلى بغداد .. » ويقول النّجاشي في رجاله ص ٣٣٨ : « هشام بن الحكم أبو محمد مولى كندة ، وكان ينزل في بني شيبان بالكوفة انتقل إلى بغداد سنة ١٩٩ .. ».

ومثله كثير وقد قلنا إنّ النّجاشي ألّف كتابه بعد الشيخ وذكر الشيخ الطوسي وكتبه ومنها الفهرست في رجاله ، فلا بدّ وأن يكون الفهرست ، مرجعا له وملحوظا عنده حال التأليف.

(٢) يقول النّجاشي في الرجال ص ٢٩٢ في ترجمة الكليني : « .. كنت أتردّد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي ، وهو مسجد « نفطويه النّحوي » أقرأ القرآن على صاحب المسجد ، وجماعة من أصحابنا يقرءون كتاب الكافي على أبى الحسين أحمد بن أحمد الكوفي الكاتب ، حدثكم محمّد بن يعقوب الكليني .. » ويقول فيه ص ٣٠٨ في ترجمة هارون بن موسى التلعكبري المتوفى عام ٣٨٥ ه‍ : « كنت أحضر داره مع ابنه أبي جعفر والنّاس يقرءون عليه .. » وعليه فقد رأى النّجاشي التلعكبري ولم يرو عنه ، كما أنّه أدرك أبا المفضّل الشيباني الشيخ الكثير الرواية ( ٢٩٧ ـ ٣٨٧ ه‍ ) وسمع منه ، وقد كان الشيباني في ذاك الوقت عالي الإسناد يروي عن محمّد بن جرير الطبري المتوفى عام ٣١٠ ه‍. فلاحظ رجال النّجاشي ص ٢٨٢.

٣٤

هذا مع أنّ الشيخ كان ذا فنون كثيرة ومشتغلا بعلوم أخرى سوى الرّجال حسب ما دريت بالإضافة إلى تصديه لمقام المرجعيّة العامة التي كانت بالطبع شاغلة لبعض وقته. وامّا النّجاشي فلا ندري مقدار حظّه من ذلك ومن إقبال العامة عليه والرئاسة له على الناس.

قال سليمان بن الحسن الصهرشتي في كتابه « قبس المصباح » : « أبو الحسين أحمد بن علي الكوفيّ النجاشي ، أخبرني ببغداد في آخر شهر ربيع الأوّل سنة ٤٤٢ ، وكان شيخا بهيا ثقة ، صدوق اللسان عند الموافق والمخالف. » (١) ونعلم من هذه العبارة مكانة النّجاشي عند الشيعة وأهل السنة ، ووجوده ببغداد في تلك السنّة أي في الوقت الذي يتوطّنها الشيخ الطوسي رئيسا معظما عالي الصوت مشهورا عند الخاص والعامّ. كما أنّ قول الصّهرشتي : « وكان شيخا بهيا » يعبر عن وضعه في ظاهر الحال.

وقد أتى النجاشيّ بشي‌ء موجز عن حياته في كتاب الرّجال (٢) ، وكان جدّه الأعلى عبد الله النّجاشيّ والى « الأهواز » وله كتاب إلى الامام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام وجوابه عليه‌السلام إليه مبسوط مشهور. والظاهر أنّ أحد تلامذة النّجاشي زاد في الكتاب بعد ترجمته قوله : « أطال الله بقاه وأدام علوه ونعماه » وكذلك زاد في أوّل الجزء الثاني من الكتاب قوله : « الشيخ الجليل أبو الحسين .. أطال الله بقاه وأدام علوه ونعماه ». (٣) كما أنّ ذكر تاريخ وفاة أبي يعلى الجعفري عام ٤٦٣ ه‍ في الكتاب (٤) أي بعد وفاة النّجاشي ب ١٣ سنة لو صحّ فهو ملحق بالكتاب قطعا أو وقع فيه خلط حسب ما سبق منّا في الهامش.

وعلى كلّ فمعلوم لنا أنّ النّجاشي كان يقطن بغداد مع الشيخ الطوسي وكان موثوقا به عند أهل العلم من الفريقين ، مشهورا بصدق اللّسان. وأنّ العلماء المتأخّرين يعتبرون النّجاشي من مشايخ الإجازات وبعضهم قدموه على الشيخ في علم الرّجال لوجوه

__________________

(١) لاحظ خاتمة رجال النّجاشي حيث حكاه عن العلامة بحر العلوم في فوائده ، نقلا عن العلامة المجلسي في مزاره ، نقلا عن قبس المصباح لسليمان بن الحسن الصهرشتي. وكان هذا الرجل من تلامذة الشيخ الطوسي والنّجاشي وأبى يعلى الجعفري وأبى الفرج مظفّر بن علي بن حمدان القزويني ، وكلهم من تلامذة الشيخ المفيد البارزين ، راجع مقدمة بحار الأنوار ، للشيخ ميرزا عبد الرحيم الشيرازي رحمه‌الله ص ١٥.

(٢) رجال النّجاشي ص ٧٩.

(٣) رجال النّجاشي ص ١٥٧.

(٤) رجال النّجاشي ص ٣١٧.

٣٥

ذكروها. (١)

والنجاشي هو احمد بن علي بن أحمد بن العباس بن محمد بن عبد الله النّجاشي وكنيته أبو الحسين أو أبو العباس أو أبو الخير. والمعروف ب « ابن الكوفي » ولد في شهر صفر سنة ٣٧٢ ه‍ ببغداد ( ظاهرا ). وتوفي في جمادى الأولى عام ٤٥٠ ه‍ عن عمر ناهز (٧٨) سنة في « مطيرآباد » من ضواحي « سامراء » (٢) ولعلّ السبب لانتقاله في أخريات حياته إلى تلك الناحية هي المشاجرات والمشاكل والحروب بين السنة والشيعة ، وتحول السلطة من « آل بويه » الشيعية إلى « آل سلجوق » السّنيين ، نفس السّبب الباعث على هجرة الشيخ الطوسي من بغداد الى النجف الأشرف كما سيمرّ معنا.

وللنّجاشي غير كتاب الرّجال ، كتب أخرى مثل : كتاب الجمعة وما ورد فيها من الأعمال ، كتاب الكوفة وما فيها من الآثار والفضائل ، أنساب بني نضر بن قعين وأيّامهم وأشعارهم ، كتاب مختصر الأنواء ومواضع النّجوم التي سمتها العرب (٣) ويحصل لدينا من ملاحظة أسماء الثلاثة الأخيرة اختصاص النّجاشي بعلم الأنساب. وأيّام العرب والكوفة وما إليها. والظاهر أنّ أسره النّجاشي كانت ولا تزال من زمن جدّهم عبد الله النجاشي من العائلات العلميّة المهتمين بعلم الحديث وحمله ودرايته ونقله وروايته. ومن جملتهم جدّه « أحمد بن العباس » الذي كان أحد مشايخ التلعكبري حيث سمع منه عام ٣٣٥ ه‍ (٤) ، وأبوه « علي بن أحمد » أحد شيوخ النّجاشي نفسه (٥).

__________________

(١) وقد بحث في ذلك العلامة بحر العلوم في الفوائد الرجالية بالتفصيل ، وأخيرا قدم النّجاشي على الطوسي لوجوه ستة :

١ ـ أنّ الطوسي ألف كتابيه الفهرست والرّجال قبل النّجاشي.

٢ ـ تراكم أشغال الشيخ وتفنّنه في العلوم ، واما النّجاشي فكاد يكون مختصا بالرجال.

٣ ـ تقدم النّجاشي في علم التاريخ والسير والأنساب المرتبطة بالرّجال.

٤ ـ كون النّجاشي من أهل الكوفة وروايته كثيرا عن الكوفيين.

٥ ـ إدراكه الشيخ الجليل العارف بفنّ الرجال أحمد بن الحسين الغضائري.

٦ ـ تقدم عصر النّجاشي قليلا على الشيخ الطوسي وإدراكه كثيرا من الشيوخ المتضلّعين في علم الرجال مع عدم إدراك الشيخ إياهم مثل : أحمد بن علي بن نوح السيرافي ، وأحمد بن محمد بن الجندي ، وأبي الفرج محمد بن علي الكاتب وغيرهم. فلاحظ روضات الجنّات ص ١٨.

(٢) لاحظ رجال النّجاشي ص ٧٩ ، وروضات الجنّات ص ١٧ و ١٨ وخلاصة الأقوال للعلامة الحلّي ص ٢١.

(٣) رجال النّجاشي ص ٧٩.

(٤) شرح مشيخة التهذيب للسيد حسن خرسان ص ٢١.

(٥) روضات الجنّات ص ١٧ و ٣٨٣.

٣٦

وقد صرّح في كتاب رجاله بأنّه يروى جميع كتب الشيخ الصدوق عن أبيه وقرأ بعضها عليه فقال : « وقال لي : أجازني ( يعني الصدوق ) جميع كتبه لمّا سمعنا منه ببغداد » (١) وعلى رأى العلامة الخوانساري صاحب الروضات يستفاد من أواخر إجازة العلامة الحلي المطوّلة لبني زهرة أنّ الشيخ الطوسي أيضا كان يروى عن « أبى الحسن علي بن أحمد » والد النّجاشيّ. (٢)

احداث بغداد وهجرة الشيخ إلى النّجف

ان نظرة إجمالية في تاريخ بغداد تدلّنا على أنّ بغداد قد استولت عليها في النّصف الأوّل من القرن الخامس أثناء إقامة الشيخ الطوسي بها ، أوضاع متشنّجة وصراعات حصلت بين الطوائف المتخاصمة ، ومن أهمّها ما كان يجري بين الشيعة والسنّة ، وكذلك بين الذين يؤيدون حكم « آل بويه » ويدافعون عنه ، وأنصار الخلافة العباسية أو من مال إلى الفاطميّين بمصر. وبذلك تعاظم الخطب حسب تزايد الخلاف ، واشتد الخطر على الشيعة وعلى شيخهم وإمامهم الشيخ الطوسي. وفي وسط ذلك الجو المشحون بالإخطار والمسيطر على النّاس ، غادر الشيخ بغداد مهاجرا الى النجف خائفا يترقب.

دخل طغرل بك السلجوقي بغداد عام ٤٤٧ ه‍ وقد اتفق خروج الشيخ عنها بعد ذلك بمدة في سنة ٤٤٨ ه‍ (٣) ولكن إحراق مكتبته والكرسي الذي كان يجلس عليه في الدرس كان في شهر صفر عام ٤٤٩ ه‍ كما يحدثنا ابن الجوزي وابن الأثير (٤) على أنّ بيت الشيخ قد أغير عليه لدي هجرة الشيخ وبناء على ما نقله ابن حجر عن ابن النّجار حدث إحراق كتبه في فترات عديدة وأكثر من مرّة ، أمام جمهور الناس في باحة مسجد النّصر ، وكان الشيخ يختفي عن النّاس حفاظا على نفسه ، وهو في بغداد (٥). وهذا قابل للجمع مع ما يحدثنا به ابن كثير من أنّ إحراق مكتبة الشيخ وقع في سنة ٤٤٨ أثناء خروجه عن بغداد. وأنّهم أخذوا الكتب مع الكرسيّ ونقلوها إلى محلة الكرخ بالإضافة إلى ثلاث رايات بيضاء كان الشيعة يحملونها معهم أثناء زيارتهم للنجف فأشعلوا فيها النّار هناك

__________________

(١) رجال النّجاشي ص ٢٧٩.

(٢) روضات الجنّات ص ٣٨٣.

(٣) لاحظ المنتظم لابن الجوزي ج ٨ ص ١٧٣.

(٤) المنتظم لابن الجوزي ج ٨ ص ١٧٩ ، والكامل لابن الأثير ج ٨ ص ٨١.

(٥) لسان الميزان ج ٥ ص ١٣٥.

٣٧

(١) ولعلّ بعض مصنّفات الشيخ أيضا قد مسته النار في تلك الأحداث. على أنّ محلّة الكرخ ومكتبة الشابور التي تحدثنا عنها سابقا قد أحرقتا في عام ٤٥٠ أو ٤٥١ ه‍. (٢)

وجدير بالذكر انّ الشيخ الطوسي كان مشاهدا لجميع هذه الأخطار والاضطرابات في تمام أيّام إقامته في بغداد ، وحتّى أنه رأى بأم عينيه كيف أنّ الشيخ المفيد أبعد عن بغداد عام ٤٠٩ (٣) ، أي بعد قدوم الشيخ بسنة واحدة ومع ان مشاهدة هذا الوضع المضطرب لا بدّ وأن يؤثر في نفس الشيخ ، ويترقب أن نجد آثار هذا الوضع الروحي في كتاباته وآثاره إلا أن العجيب هنا أن شيئا منها لا يحكي عن اي اضطراب روحي أو تبلبل فكري ولا يشير إلى وقوع شي‌ء من تلك الأحداث. بل على العكس من ذلك ، فانّ جميع إنشاءاته وآثاره وإملاءاته حاكية عن روح هادئة ونفس مطمئنّة ، وارادة جازمة محكمة كما أن مناظراته وأبحاثه في كتبه وردوده على الفرق الأخرى خالية تماما من أي نوع من أنواع التعصب المذموم ، عارية عن الحساسية المترقبة في تلك الأحوال عادة مع انه بحث في كتبه الفقهية والكلامية والأصولية مع كل فريق ، وخاض كل معضلة وولج كل فجّ عميق.

نعم نجد الشيخ في ابتداء كتاب الغيبة الذي ألفه عام ٤٤٧ ه‍ (٤) أي في بحبوحة الصراع والأزمات المتلاحقة يقول : « .. وأنا مجيب إلى ما سأله وممتثل ما رسمه مع ضيق الوقت ، وشعث الفكر ، وعوائق الزمان ، وصوارف الحدثان .. » ومع الاعتراف بأنّ هذه العبارة تحكي عن نهاية الضغط وغلبة اليأس عليه وعن انتهاء أمد صبره على الأحداث غير الملاءمة ، فنحن نرى الشيخ في نفس الوقت وفي وسط تلك الظروف ، يقدم بهذه الكلمات كتابا يعد في موضوعه من أحسن الكتب الى هذا الزمان ، ومن أوثق الآثار في بابه.

وبعد هجرة الشيخ من بغداد وإحاطة الفتن بها كان من الطبيعي أن تنحلّ حوزة الشيعة وتتفكك مجتمعاتهم في بغداد ، وأن يغادرها سائر العلماء أيضا أو يعيشوا فيها منعزلين مستورين عن الناس ، فقد قلنا إن النجاشي قد هاجر إلى مطيرآباد في سامراء حيث توفّى فيها عام ٤٥٠ ه‍.

__________________

(١) البداية والنّهاية ج ١٢ ص ٩٧.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٨ ص ٨٨.

(٣) الكامل ج ٧ ص ٣٠٠.

(٤) يقول الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة ص ٨٥ : « .. في هذا الوقت الذي هو سنة سبع وأربعين وأربعمائة .. ».

٣٨

وفي نفس الوقت ازدهرت حلقات أهل السنة وازداد نشاطهم في ظل حكم طغرل بك المدافع عنهم بتمام الهمة والمقدرة. وينبغي أن لا ننسى أنّ المدرسة المعروفة ب « النظاميّة » قد أسّست لفقهاء الشّافعية عام ٤٥٧ ه‍ ـ أي بعد تسع سنوات فقط من هجرة الشيخ الطوسي ـ على يد نظام الملك وزير السلطان آلب أرسلان السلجوقي وافتتحت رسميّا عام ٤٥٩ ه‍ (١)

المرحلة الثالثة

الفترة الواقعة بين هجرة الشيخ الطوسي إلى النجف وبين وفاته.

إنّنا لا نعلم شيئا عن كيفية هجرته وعمّن كان في صحبته ، ولا عن أحواله في النّجف ، ولكن يمكن القول بشاهد الحال وقياس الأحوال ، أنّ الهجرة كانت محفوفة بالخوف والاضطراب بل الحرمان والافتقار. ولعل هذه الحالة لازمته حتّى وفاته أذان النّجف وبقية المشاهد المشرفة لآل البيت عليهم‌السلام قد فقدت رونقها الّذي كان مزدهرا بشكل ملموس في عهد « الديالمة » إذ أنها قد فقدت حالة الجلال والأبّهة التي كانت تعتريها حين قدوم أو مغادرة أحد ملوك الدّيالمة ورجالهم بتلك المشاهد المشرفة ولا سيّما حرم علي عليه‌السلام. كما أنّ الشيعة عامة قد فقدوا الحرّية في إقامة تلك المراسم والحفلات المذهبيّة المكشوفة هناك كما كان الحال في ظلّ حكم « الديالمة ».

هذا ويمكن الانتهاء الى هذه النتيجة وهي أنّ هذا العالم الحر المهذب الطاهر القلب وبرفقة بعض طلبة العلم ، وأبناء مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام قد أقاموا بتلك الزّاوية المقدسة ـ وهي بعد تعد قرية صغيرة ولم تكن أصبحت مدينة ـ أقاموا فيها محزونين ومتأسفين على ذهاب الأيّام الذهبيّة متفرغين إلى البحث والدرس ، بعيدين عن الفتن والثورات ، وعن التّدخل في الأوضاع الجارية.

وهكذا استمرّ على هذا الوضع لمدة ١٢ عاما ـ أي من عام ٤٤٨ إلى ٤٦٠ ه‍ حتّى ليلة ٢٢ محرّم الحرام من تلك السّنة ، حيث انتقلت روحه الطاهرة إلى الجنّة الباقية. ويقول الحسن بن المهدي السليقي أحد تلامذة الشيخ : « تولّيت أنا والشيخ أبو محمّد الحسن بن علي بن عبد الواحد العين زربي والشيخ أبو الحسن اللؤلؤي غسله في تلك الليلة ودفنه » (٢)

__________________

(١) دليل خارطة بغداد ص ١٥٤.

(٢) خلاصة الأقوال ص ١٤٨. ثم ان هذا الحادث وهو تجهيز الشيخ ودفنه بيد عديد من خواصه في نفس الليلة الّتي قبضت روحه الطاهرة مباشرة من دون انتظار الغد واحتفال الناس عامة لتشييع جسمان إمامهم الأكبر لدليل على سيطرة حالة مضطربة على البلد يوم ذاك.

٣٩

وقد دفنوه في منزله الذي تحول إلى مسجد بعد وفاته بناء على وصيته (١). ويقع حاليا في جهة الشمال من البقعة العلوية ، ويبعد حوالي ٢٠٠ مترا من الصحن الشريف (٢) ، وبهذه المناسبة سمي باب الصحن المنتهى إلى مسجد الطوسي ب « باب الطوسي » وأخيرا سمي الشارع الجديد في تلك النّاحية ب « شارع الطوسي ».

مؤلفات الشيخ الطوسي وآثاره

نتيجة لخبرة الطوسي وتبحّره في العلوم الدّينيّة المتداولة في عصره فله آثار كثيرة في تلك العلوم ، ويعتبر كلّ كتاب منها من أفضل وأجود ما كتب في موضوعه ، وبنفس الوقت فان تلك الآثار واجدة لامتيازات مهمة : منها اتساقها في العبارات السهلة الواضحة والخالية عن الإبهام والإغلاق كما أنها ، مترسلة ذات حلاوة ، كما كان عادة أبناء ذلك الزّمان.

ومنها حسن تنظيم كتبه واشتمالها على أبواب وفصول مرتّبة ومنها أنّ الشيخ الطوسي كان يرمي في كلّ تأليف إلى هدف معقول مع الأخذ بعين الاعتبار ، المستويات العلمية عند الطلبة الذين سيستفيدون منه ، وذلك بالتفريق بين المبتدئين والمتوسطين أو المنتهين الى الدرجات العالية في العلم.

ومنها أنّه كان لا يخلّط بين الفنون المختلفة بدمج مسائلها بعضها في بعض بل يفرد لكلّ فنّ كتابا أو رسالة تخصّه حسب ما ستعرف بعض التفصيل عن كتبه الفقهيّة فيما بعد وهذا هو السر فيما نراه في كتب الشيخ من إرجاع القاري إلى كتبه الأخرى بكثرة ولا سيّما في تفسير التبيان ، حيث أحال كثيرا من المباحث إلى محالها من سائر مصنفاته.

هذه المميّزات اضافة إلى مكانة الشيخ البارزة في المذهب الإمامي حيث يعتبر هو مفصلا ومجددا لهذا المذهب ، قد خلّدت كتب الشيخ الطوسي فلن يستغني عنها العلماء في الأجيال المتوالية مهما بلغوا من العلم.

ويبلغ عدد مؤلفاته رحمه‌الله سواء في ذلك الكتب والرسائل منها ٤٥ كتابا (٣) وبشكل كلّي يمكن تقسيمها على تسعة مواضيع على النحو التالي : ١ ـ الحديث

__________________

(١) ذكرت وصية الشيخ بذلك في مقدمة التبيان للعلامة الطهراني ص أس فقط بلا سند.

(٢) قد جاء في مقدمة التبيان ص س ، وروضات الجنّات ص ٨٥٤ ومقدمة رجال الطوسي ص ١١٧ تفصيل عن عمارة هذا المسجد وتجديدها مرات فلاحظ.

(٣) قد أنهى العلّامة الطهراني كتب الشيخ الطوسي في مقدمة التبيان ( ص أو ) إلى ٤٧ كتابا ورسالة ،

٤٠