الرسائل العشر

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

الرسائل العشر

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٠

ووقت حدوثه ، وليس لأحد ان يقول ان ذلك أيضا قد علم في النص وان الذي أحدثه هشام بن الحكم ومن بعده ابن الراوندي وأبو عيسى الوراق ، وذلك انه لو كان الأمر على ما ادعوه لوجب ان يحصل لنا العلم به كما حصل لنا العلم بسائر أرباب المذاهب ولو كان العلم حاصلا بذلك لما جاز ان يكلم من خالف في ذلك وادعى اتصاله بالنبي عليه‌السلام كما لا يحسن مكالمة من قال : إن قبل التحكيم قد كان قوم من الخوارج يذهبون مذاهبهم ، وفي حسن مناظرتهم لنا دليل على الفرق بين الموضعين.

فان قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتموه من النص لوجب أن يعلم ضرورة كما نعلم ان في الدنيا بصرة وغير ذلك من اخبار البلدان.

قيل له : ولو لم يكن النص صحيحا لوجب أن يعلم أنه لم يكن كما علم انه ليس بين بغداد والبصرة بلد أكبر منهما ، وفي عدم العلم بذلك دليل على صحة النص.

على أن الصحيح من المذهب انه ليس يعلم شي‌ء من مخبر الاخبار بالضرورة وانما يعلم الجميع بضرب من الاكتساب ، وربما كان استدلالا وربما كان اكتسابا والعلم بالنص انما يعلم بالاستدلال وليس كذلك أخبار البلدان لأنها تعلم بالاكتساب فلأجل ذلك افترق الأمران.

فإن قيل : هب انكم لا تقولون العلم بمخبر الاخبار ضرورة ، أليس تقولون ان هاهنا مخبرات كثيرة تعلم على وجه لا يختلج فيه الريب ولا الشكوك مثل العلم بوجوب الصلوات الخمس وفرض الصوم والحج والزكاة وما يجرى مجرى ذلك من الأمور المعلومة ولما لم يكن النص معلوما مثل ذلك دل على أنه لم يكن لانه لو كان لعلم كعلمه.

قيل له : لم يحصل العلم بالأمور التي ذكرتموها على الوجه الذي ذكرتموه لأجل أنها منصوص عليها فقط بل حصل العلم بها فان (١) النص وقع عليها بحضرة الجمهور الأعظم والسواد الأكبر وانضاف الى ذلك العمل بها ولم يدع داع الى كتمانها ولا صرف صارف عن نقلها بل الدواعي كانت متوفرة الى نشرها لأن

__________________

(١) لأنّ. ظ.

١٢١

بذلك قوام الإسلام والدين.

وكل ذلك مفقود في اخبار النص لأنه انما وقع في الأصل بحضرة جماعة فيقطع بنقل (١) الحجة ولم يقع بحضرة الجمع العظيم ولا السواد الكثير ، ثم عرض بعد ذلك عوارض منعت من نشره وصرفت عن نقله فغمض طريق العلم به واحتاج الى ضرب من الاستدلال وجرى مجرى أمور كثيرة وقع النص عليها ولم يحصل العلم بها كما حصل بما ذكرناه.

ألا ترى ان العلم بكيفية الصلاة وكيفية الطهارة لم يحصل على الحد الذي حصل العلم بنفس الصلاة ونفس الطهارة لوجود الاختلاف في ذلك ، وكما حصل الخلاف في كيفية مناسك الحج ولم يحصل في نفس وجوب الحج ، وحصل الخلاف في كيفية القطع للسراق (٢) ولم يحصل في وجوب القطع في الجملة ، وكذلك صفات الامام ووجوب الاختيار وصفة المختارين عند خصومنا.

منصوص (٣) ، ومع هذا فهي معلومة بضرب من الاستدلال عندهم وليست معلومة بالاضطرار ، ونظائر ذلك كثيرة جدا.

وكل هذه الأمور التي ذكرناها منصوصا عليها شاركت ما ذكروها في السؤال وخالفتها في كيفية العلم بها.

وكما ان للنبي عليه‌السلام معجزات كثيرة سوى القرآن كلها معلومة بضرب من الاستدلال وليست معلومة كما علمنا القرآن ، وان كان الجميع معلوما ولكن لما غمض طريق هذا وصح طريق ذلك افترقا في كيفية حصول العلم بهما.

وليس لأحد أن يدعى العلم بهذه المعجزات كما علم القرآن لان القرآن معلوم ضرورة والخلاف موجود فيما عداه من المعجزات ، ألا ترى أن جميع من خالف الإسلام ينكر المعجزات بأجمعها ويعتقد بطلانها ومن المسلمين من يدفع بعضها أيضا ، الا ترى ان النظام أنكر انشقاق القمر وقال ان ذلك محال وما لم ينكره ذكر ان طريقه الآحاد وكثير من المعتزلة الباقين ذكروا أنها معلومة بالإجماع ، وليس

__________________

(١) بنقله. ظ.

(٢) في الأصل : السراق.

(٣) منصوصة. ظ.

١٢٢

ذلك موجودا في القرآن لأن أحدا من العقلاء لا ينكره ولا يدفعه.

فان قيل : انفصلوا من البكرية والعباسية إذا عارضوكم على مذهبكم بمثل طريقتكم وادعوا النص على صاحبيهما.

قيل له قد أبعدتم في المعارضة بمن ذكرتموه والفرق بيننا وبينهم واضح وذلك ان أول ما نقول انه لا يجوز أن يقع النص على أبي بكر والعباس من النبي عليه‌السلام لانه قد ثبت ان من شرط الإمامة العصمة والكمال في العلم والفضل على جميع الرعية وليس ذلك موجودا فيهما فبطل إمامتهما.

ثم ان نقل هؤلاء لا يعارض نقل الشيعة لأنهم نفر يسيروهم في الأصل شذاذ لا يعرفون وانما حكيت مذاهبهم على طريق التعجب كما ذكر أقوال سائر الفرق المحيلة المبطلة.

ثم انا لم نر في زماننا هذا أحدا من أهل العلم ممن له تحصيل يدعى النص على هذين الرجلين وانما يثبتون امامة أبي بكر من جهة الاختيار فذلك يبين لك عن بطلان هذه الدعوى.

والذي يدل على بطلان النص على أبي بكر أيضا قوله حين احتج على الأنصار ـ على ما رواه ـ ( الأئمة من قريش ) ولو كان منصوصا عليه لكان ادعاؤه النص اولى.

وقوله أيضا : بايعوا اىّ هذين الرجلين شئتم! ـ يعني أبا عبيدة وعمر ـ ولو كان منصوصا عليه لما جاز له ذلك.

وقوله ـ أيضا ـ : أقيلونى أقيلونى يدل على بطلان النص عليه لانه لو كان منصوصا عليه لما جاز له ان يقول هذا القول.

ويدل أيضا على بطلان النص عليه قول عمر لأبي عبيدة : امدد يدك أبايعك! حتى قال له أبو عبيدة : مالك في الإسلام فهّة غيرها.

وقوله أيضا حين حضرته الوفاة : إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة.

وقوله أيضا : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عادها الى مثلها فاقتلوه ، ولو كان منصوصا عليه لما احتاج الى البيعة ولا لو بويع لكانت بيعته فلتة

١٢٣

وكل ذلك يكشف عن بطلان النص عليه.

وأيضا فإن جميع ما رووه وادعوا انه يدل على النص فليس في صريحه ولا فحواه دلالة على النص على ما قد بيناه في كتاب تلخيص الشافي فكيف يدعى ان ذلك معارض للنص الذي لا يحتمل شيئا من التأويل.

فإن قيل : لو كان النص عليه صحيحا على ما ادعيتموه وجب ان يحتج به وينكر على من يدفعه عن ذلك بيده ولسانه ولما جاز منه ان يصلّى معهم ولا أن ينكح سبيهم ولا ان يأخذ من فيئهم ولا ان يجاهد معهم. وفي فعله عليه‌السلام ذلك كله دليل على بطلان ما تدّعونه.

قيل له : الذي منع أمير المؤمنين عليه‌السلام من الاحتجاج بالنص عليه ما ظهر له بالأمارات اللائحة من .. (١) القوم على الأمر واطراح العهد فيه وعزمهم على الاستبداد به مع البدار منهم اليه والانتهاز له وأيسه (٢) ذلك عن الانتفاع بالحجة ، وربما ادى ذلك الى دعواهم النسخ لوقوع النص عليه فتكون البلية بذلك أعظم ، وان ينكروا وقوع النص جملة ويكذبوه في دعواه فيكون البلاء به أشد.

واما ترك النكير عليهم باليد فهو انه لم يجد ناصرا ولا معينا على ذلك ، ولو تولاه بنفسه وحامته لربما ادى ذلك الى قتله أو قتل اهله وأحبته فلأجل ذلك عدل عن النكير.

وقد بين ذلك عليه‌السلام في قوله : ( اما والله لو وجدت أعوانا لقاتلتهم ) وقوله أيضا بعد بيعة الناس له حين توجه إلى البصرة : ( اما والله لو لا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أوليائه الّا يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة غنز ).

فبين عليه‌السلام انه انما قاتل من قاتل لوجود النّصار وعدل عن قتال من عدل عن قتالهم لعدمهم.

وأيضا فلو قاتلهم لربما ادى ذلك الى بوار الإسلام والى ارتداد الناس أو

__________________

(١) بياض بالأصل ، وعبارة كتاب الاقتصاد هكذا : من اقدام القوم على طلب الأمر.

(٢) فآيسه. ظ.

١٢٤

أكثرهم (١) وقد ذكر ذلك في قوله : ( اما والله لو لا قرب عهد الناس بالكفر لجاهدتهم ).

فاما الإنكار باللسان فقد أنكر عليه‌السلام في مقام بعد مقام ، ألا ترى الى قوله عليه‌السلام : ( لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وقوله : ( اللهم إنى أستعديك على قريش فإنهم منعوني حقي وغصبونى إرثي ) ، وفي رواية أخرى : ( اللهم انى أستعديك على قريش فإنهم ظلموني [ في ] الحجر والمدر .. ) ، وقوله في خطبته المعروفة : ( اما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وانه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى الىّ الطير .. ) الى آخر الخطبة ، صريح بالإنكار والتظلم من الحق.

فأمّا ما ذكره السائل من صلاته معهم فإنه عليه‌السلام انما كان يصلّى معهم لا على طريق الاقتداء بهم بل كان يصلّى لنفسه وانما كان يركع بركوعهم ويكبر بتكبيرهم ، وليس ذلك بدليل الاقتداء عند أحد من الفقهاء.

فاما الجهاد معهم فإنه لم ير واحد انه عليه‌السلام جاهد معهم ولا سار تحت لوائهم ، وأكثر ما روى في ذلك دفاعه عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن نفسه ، وذلك واجب عليه وعلى كل أحد أن يدفع عن نفسه وعن أهله وإن لم يكن هناك أحد يقتدى به.

فاما أخذه من فيئهم فإنما كان يأخذ بعض حقه ، ولمن له حق ، له أن يتوصل إلى أخذه بجميع أنواع التوصل ولم يكن يأخذ من أموالهم هم.

وأما نكاحه لسبيهم فقد اختلف في ذلك فمنهم من قال : ان النبي عليه‌السلام وهب له الحنفية (٢) وانما استحل فرجها بقوله عليه‌السلام.

وقيل أيضا : إنها أسلمت وتزوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وقيل أيضا : إنه اشتراها فأعتقها ثم تزوجها.

وكل ذلك ممكن جائز ، على ان عندنا يجوز وطء سبي أهل الضلال إذا كان المسبي مستحقا لذلك ، وهذا يسقط أصل السؤال.

فإن قيل : لو كان عليه‌السلام منصوصا عليه لما جاز منه الدخول في الشورى ، ولا الرضا بذلك ، لأن ذلك خطأ على مذهبكم.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والظاهر : أو أكثرهم.

(٢) أمّ ابنه عليه‌السلام : محمد.

١٢٥

قيل له : انما دخل عليه‌السلام في الشورى لأمور :

منها انه دخلها ليتمكن من إيراد النص عليه والاحتجاج بفضائله وسوابقه ، وما يدل على انه أحق بالأمر وأولى ، وقد علمنا انه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدئ بالاحتجاج ، وليس هناك مقام احتجاج وبحث فجعل عليه‌السلام الدخول فيها ذريعة إلى التنبيه على الحق بحسب الإمكان ، على ما وردت به الرواية ، فإنها وردت بأنه عليه‌السلام عدد في ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو أكثرها.

ومنها ان السبب في دخوله عليه‌السلام كان للتقية والاستصلاح لانه عليه‌السلام لما دعي إلى الدخول في الشورى أشفق من ان يمتنع فينسب (١) منه الامتناع إلى المظاهرة والمكاشفة ، والى أن تأخره عن الدخول انما كان لاعتقاده انه صاحب الأمر دون من ضمّ اليه فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على إظهار الرضا والتسليم.

فان قيل : لو كان عليه‌السلام منصوصا عليه‌السلام (٢) على ما تدّعون لوجب أن يكون من دفعه عن مقامه مرتدا كافرا ، وفي ذلك ، إكفار الأمة بأجمعها ، وذلك خروج عن الإسلام :

قيل له : الذي نقوله في ذلك : إن الناس لم يكونوا بأسرهم دافعين للنص وعاملين بخلافه مع علمهم الضروري به ، وانما بادر قوم من الأنصار ـ لما قبض الرسول عليه‌السلام ـ الى طلب الإمامة واختلفت كلمة رؤسائهم واتصلت حالهم بجماعة من المهاجرين فقصدوا السقيفة عاملين على إزالة الأمر من مستحقه والاستبداد به ، وكان الداعي لهم الى ذلك والحامل لهم عليه رغبتهم في عاجل الرئاسة والتمكن من الحل والعقد ، وانضاف الى هذا الداعي ما كان في نفس جماعة منهم من الحسد لأمير المؤمنين عليه‌السلام والعداوة له لقتل من قتل من أقاربهم ولتقدمه واختصاصه بالفضائل الباهرة والمناقب الظاهرة التي لم يخل من اختص ببعضها من حسد وغبطة وقصد بعداوة وآنسهم بتمام ما حاولوه بعض الانس بتشاغل بنى هاشم وعكوفهم على تجهيز النبي عليه‌السلام فحضروا السقيفة ونازعوا في الأمر وقوّوا على الأمر وجرى ما هو مذكور.

__________________

(١) فيتسبب.

(٢) كذا في الأصل ، والظاهر انه زائد.

١٢٦

فلما رأى الناس فعلهم ـ وهم وجوه الصحابة ومن يحسن الظن بمثله وتدخل الشبهة بفعله ـ توهم أكثرهم انهم لم يتلبسوا بالأمر ولا أقدموا فيه على ما أقدموا عليه الا لعذر يسوغ لهم ويجوزه ، فدخلت عليهم الشبهة واستحكمت في نفوسهم ، ولم يمعنوا النظر في حلها فمالوا ميلهم وسلموا لهم ، وبقي العارفون بالحق والثابتون عليه غير متمكنين من إظهار ما في نفوسهم فتكلم بعضهم ووقع منهم من النزاع ما قد أتت به الرواية ، ثم عاد عند الضرورة إلى الكف والإمساك وإظهار التسليم مع إبطان الاعتقاد للحق ولم يكن في وسع هؤلاء إلا نقل ما علموه وسمعوه من النص الى اخلافهم ومن يأمنونه على نفوسهم فنقلوه وتواتروا الخبر به عنهم.

على ان الله تعالى قد أخبر عن امة موسى عليه‌السلام أنها قد ارتدت بعد مفارقة موسى إياها إلى ميقات ربه وعبدوا العجل واتبعوا السامري وهم قد شاهدوا المعجزات مثل فلق البحر وقلب العصا حية واليد البيضاء وغير ذلك من المعجزات ، وفارقهم موسى أياما معلومة ، والنبي عليه‌السلام خرج من الدنيا بالموت فإذا كان كل ذلك جائزا عليهم فعلى أمتنا أجوز وأجوز.

على ان الله تعالى قد حكى في هذه الأمة وأخبر انها ترتد ، قال الله تعالى ( وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو ان أحدهم دخل جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا : فاليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال : فمن اذن؟! ).

وقال عليه‌السلام : ( ستفترق أمتي ثلاثة وسبعين فرقة ، واحدة منها ناجية وثنتان وسبعون في النار ).

وهذا كله يدل على جواز الخطأ عليهم بل على وقوعه فأين التعجب من ذلك؟.

فان قيل : كيف يكون منهم ما ذكرتموه من الضلال وقد أخبر الله تعالى انه رضى عنهم ، وأعدّ لهم جنات في قوله ( السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا

١٢٧

الْأَنْهارُ ) (١) وقال ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) (٢) وذلك مانع من وقوع الضلال الموجب لدخول النار.

قيل له : اما قوله : « ( وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ) .. » فإنما ذكر فيها الأولون منهم ، ومن ذكرناه ممن دفع النص لم يكن من السابقين الأولين لأنهم أمير المؤمنين عليه‌السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وخباب بن الأرت ، وغيرهم ممن قد ذكروا ، ومن دفع النص كان إسلامه متأخرا عن إسلام هؤلاء.

على ان من ذكروه لو ثبت له السبق فإنما يثبت له السبق إلى الإسلام في الظاهر لان الباطن لا يعلمه الا الله ، وليس كل من أظهر السبق إلى الإسلام كان سبقه على وجه يستحق به الثواب ، والله تعالى انما عنى من يكون سبقه مرضيا على الظاهر والباطن ، فمن أين لهم ان من ذكروه كان سبقه على وجه يستحق به الثواب.

على انهم لو كانوا هم المعنيين بالآية لم يمنع ذلك من وقوع الخطأ منهم ولا أوجب لهم العصمة لان الرضى المذكور في الآية وما أعد الله من النعيم انما يكون مشروطا بالإقامة على ذلك والموافاة به ، وذلك يجرى مجرى قوله ( وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) (٣) ولا أحد يقول ان ذلك يوجب لهم العصمة ولا يؤمّن وقوع الخطأ منهم بل ذلك مشروط بما ذكرناه وكذلك حكم الآية.

وأيضا فإنه لا يجوز ان يكون هذا الوعد غير مشروط وان يكون على الإطلاق إلا لمن علم عصمته ولا يجوز عليه شي‌ء من الخطأ ، لأنه لو عنى من يجوز عليه الخطأ بالإطلاق وعلى كل وجه كان ذلك إغراء له بالقبيح وذلك فاسد بالإجماع ، وليس أحد يدعى للمذكورين العصمة فبطل ان يكونوا معنيين بالآية على الإطلاق.

واما قوله تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ) .. » فالظاهر يدل على

__________________

(١) التوبة : الآية : ١٠٠.

(٢) الفتح : الآية : ١٨.

(٣) التوبة : الآية : ٧٢.

١٢٨

تعليق الرضا بالمؤمنين ، والمؤمن هو المستحق للثواب وألّا يكون مستحقا لشي‌ء من العقاب فمن اين لهم ان القوم بهذه الصفة؟ فإن دون ذلك خرط القتاد.

على انه تعالى قد بين ان المعنى بالآية من كان باطنه مثل ظاهره بقوله : ( فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ ) .. ثم قال ( وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) (١). فبين ان الذي أنزل السكينة عليه هو الذي يكون الفتح على يديه ، ولا خلاف ان أول حرب كانت بعد بيعة الرضوان خيبر ، وكان الفتح فيها على يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد انهزام من انهزم من انهزم من القوم فيجب ان يكون هو المعنيّ بالآية.

على ان ما قدمناه في الآية الاولى من أنها ينبغي ان تكون مشروطة وان لا تكون مطلقة ، يمكن اعتماده ها هنا ، وكذلك ما قلناه من ان الآية لو كانت مطلقة كان ذلك إغراء بالقبيح موجود في هذه الآية.

ثم يقال لهم : قد رأينا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة من وقع منهم الخطأ ، الا ترى أن طلحة والزبير كانا من جملة السابقين ومن جملة المبايعين تحت الشجرة وقد نكثا بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام وقاتلاه وسفكا دماء شيعته ، وتغلبا على أموال المسلمين ، وكذلك فعلت عائشة ، وهذا سعد بن أبي وقاص من جملة السابقين والمبايعين تحت الشجرة وقد تأخر عن بيعة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكذلك محمد بن مسلمة ، وما كان أيضا من سعد بن عبادة وطلبه الأمر خطأ ، بلا خلاف ، وقد استوفينا الكلام على هذه الطريقة في كتابنا المعروف بالاستيفاء في الإمامة ، فمن أراد الوقوف عليه فليطلبه من هناك ان شاء الله.

دليل آخر

ومما يدل على إمامته عليه‌السلام قوله تعالى ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٢).

ووجه الدلالة من الآية انه قد ثبت ان الولي في الآية بمعنى الأحقّ والاولى ، وثبت ان المعنيّ بقوله ( وَالَّذِينَ آمَنُوا ) أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإذا ثبت هذان الأصلان دل على إمامته عليه‌السلام ، لان كل من قال : ان معنى الولي

__________________

(١) الفتح : الآية ١٨.

(٢) المائدة : الآية : ٥٥.

١٢٩

في الآية ما ذكرناه قال انها مخصوصة فيه ، ومن قال : انها مخصوصة قال ان المراد بها الإمامة.

فإن قيل : دلوا على ان الولي يستعمل في اللغة بمعنى الاولى والأحق ، ثم على ان المراد به في الآية ذلك ، ثم بينوا توجهها الى أمير المؤمنين عليه‌السلام.

قيل له : اما الذي يدل على ان الولي يستعمل في اللغة بمعنى الاولى استعمال أهل اللغة لأنهم يقولون في السلطان المالك للأمر : فلان ولي الأمر ، وقال الكميت :

ونعم ولى الأمر بعد وليه

ومنتجع التقوى ونعم المؤدب

ويقولون : فلان ولي العهد ، في من استخلف للأمر لأنه أولى بمقامه من غيره ، وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل ). وانما أراد به من يكون اولى بالعقد عليها ، وقال الله تعالى : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي ) (١) يعنى من يكون اولى بحوز الميراث من بنى العم ، وقال المبرد في كتابه المعروف بالعبارة عن صفات الله : ان أصل الولي هو الاولى والأحق وكذلك المولى ، فجعل الثلاث عبارات بمعنى واحد ، وشواهد ما ذكرناه كثيرة [ في كتب الأدب و ] اللغة.

فأما الذي يدل على ان المراد به في الآية ما ذكرناه هو ان الله تعالى [ نفى ] أن يكون لنا ولي غير الله وغير رسوله والذين آمنوا بلفظة ( انما ) ، ولو كان المراد به الموالاة في الدين لما خص بها المذكورين لأن الموالاة في الدين عامة في المؤمنين كلهم قال الله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢).

والذي يدل على أن لفظة « انما » تفيد التخصيص ان القائل إذا قال : انما لك عندي درهم ، فهم منه نفي ما زاد عليه وجرى مجرى : ليس لك عندي إلا درهم ، وكذلك إذا قالوا : إنما النحاة المدققون البصريون ، فهم نفى التدقيق عن غيرهم ، وكذلك إذا قالوا : انما السخاء (٣) حاتم ، فهم نفي السخاء عن غيره ، وقد قال الأعشى :

__________________

(١) مريم : الآية : ٦.

(٢) التوبة : الآية : ٧١.

(٣) كذا في الأصل.

١٣٠

ولست بالأكثر منهم حصى

وانما العزة للكاثر

وأراد نفي العزة عمن ليس بكاثر ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( انما الماء من الماء ) (١) واحتج بذلك الأنصار في نفي الماء من غير الماء وادعي من خالفهم نسخ الخبر ، فعلم انهم فهموا منه التخصيص والا كانوا يقولون : ( انما ) لا تفيد الاختصاص بوجوب الماء من الماء.

والذي يدل على ان الولاية في الآية مختصة انه قال : « وليكم » فخاطب به جميع المؤمنين جملتهم ودخل في ذلك النبي وغيره ثم قال : « ورسوله » فأخرج النبي عليه وآله السلام من جملتهم لكونهم مضافين الى ولايته ، فلما قال : « والذين آمنوا » وجب أيضا ان الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية ، والا ادى الى ان يكون المضاف هو المضاف اليه ، وادى الى ان يكون كل واحد منهم ولى نفسه ، وذلك محال.

وإذا ثبت ان المراد في الآية ما ذكرناه والذي يدل على ان أمير المؤمنين عليه‌السلام هو المختص بها أشياء :

منها ان كل من قال ان معنى الولي في الآية معنى الأحق قال انه هو المخصوص به ، ومن خالف في اختصاص الآية فجعل الآية عامة في المؤمنين وذلك قد أبطلناه.

ومنها ان النقل حاصل من الطائفتين المختلفتين والفرقتين المتباينتين من الشيعة وأصحاب الحديث ان الآية خاصة في أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومنها ان الله تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست موجودة إلا فيه لانه قال ( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) فبين ان المعنيّ بالآية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع ، وأجمعت الأمة على انه لم يؤت أحد الزكاة في هذه الحال غير أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وليس لأحد ان يقول ان قوله ( وَهُمْ راكِعُونَ ) ليس هو حالا لإيتاء الزكاة بل انما المراد به ان صفتهم إيتاء الزكاة لأن ذلك خلاف اللغة ، الا ترى ان القائل إذا قال : لقيت فلانا وهو راكب لم يفهم منه الا لقاؤه في حال الركوب ولم يفهم منه ان من شأنه الركوب. وإذا قال : رأيته وهو جالس أو جاءني وهو ماش ، لم يفهم

__________________

(١) صحيح مسلم ١ ـ ١٨٥ وقيل في شرحه : أي إنما وجوب الاغتسال من نزول المنى.

١٣١

من ذلك كله إلا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشيا وإذا ثبت ذلك وجب ان يكون حكم الآية أيضا هذا الحكم.

فان قيل : ما أنكرتم ان يكون المراد بقوله تعالى ( وَهُمْ راكِعُونَ ) اي يؤتون الزكاة متواضعين! كما قال الشاعر :

لا تهين الكريم (١) علك ان تركع

يوما والدهر قد رفعه

وانما أراد به علك ان تخضع يوما.

قيل له : الركوع هو التطأطؤ المخصوص ، وانما يقال للخضوع ركوع تشبيها ومجازا لان فيه ضربا من الانخفاض ، والذي يدل على ما قلناه ما نص عليه أهل اللغة ، ذكر صاحب كتاب العين فقال كل شي‌ء ينكب لوجهه فيمس ركبته الأرض أو لا يمس بعد ان يطأطئ رأسه فهو راكع ، وقال ابن دريد : الراكع : الذي يكبو على وجهه ومنه الركوع في الصلاة ، قال الشاعر :

وأفلت حاجب فوق العوالي

على شقّاء تركع في الظراب

اى تكبو على وجهها. وإذا ثبت ان الحقيقة في الركوع ما ذكرناه لم يسغ حمله على المجاز من غير ضرورة.

فإن قيل : قوله ( الَّذِينَ آمَنُوا ) لفظه [ عام ] كيف يجوز لكم حمله على الواحد وهل ذلك الا ترك للظاهر.

قيل له : قد يعبر عن الواحد بلفظ الجمع إذا كان عظيم الشأن عالي الذكر ، قال الله تعالى ( إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ) (٢) وهو واحد ، وقال ( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) (٣) ، وقال ( إِنّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ ) (٤) ، وقال ( رَبِّ ارْجِعُونِ ) (٥) ونظائر ذلك كثيرة. واجمع المفسرون على ان قوله ( الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) (٦) ان المراد بقوله « الناس » الأول [ عبد الله ] بن مسعود الأشجعي ، وقال تعالى ( أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ ) (٧) يعنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقوله تعالى ( الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا ) (٨) نزلت في عبد الله بن أبي سلول ، وإذا كان ذلك مستعملا على ما قلناه ، وكذلك (٩) قوله تعالى :

__________________

(١) الفقير. ظ.

(٢) الحجر : الآية : ٩.

(٣) السجدة : الآية ١٣.

(٤) مريم : الآية : ٤٠. (٥) المؤمنون : الآية : ٩٩.

(٦) آل عمران : الآية : ١٧٣. (٧) البقرة : الآية : ١٩٩.

(٨) آل عمران : الآية : ١٦٨. (٩) فكذلك. ظ.

١٣٢

( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) نحمله على الواحد الذي بيناه.

فان قيل : أليس قد روي ان هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام (١) وأصحابه فما أنكرتم ان يكون المعني ب ( الَّذِينَ آمَنُوا ) هم دون [ من ] ذهبتم اليه.

قلنا : أولا ما نقول انا إذا دللنا على ان هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام بنقل الطائفتين المختلفتين ، وانما ذكرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وانها ليست حاصلة في غيره فقد بطل ما روى من هذه الرواية.

على ان الذي روى من خبر عبد الله بن سلام خلاف ما ذهب إليه السائل وذلك انه روى ان عبد الله بن سلام كان بينه وبين [ اليهود ] محالفة فلما أسلموا قطعت اليهود محالفته وتبرءوا منهم فاغتم بذلك هو وأصحابه فأنزل الله هذه الآية تسلية لعبد الله بن سلام وانه قد عوضهم من محالفة اليهود ولاية الله وولاية رسوله وولاية الذين آمنوا.

والذي يكشف عن ذلك انه قد روى انه لما نزلت الآية خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من البيت فقال لبعض أصحابه : هل أحد اعطى السائل شيئا؟ فقالوا : نعم يا رسول الله قد اعطى على بن أبي طالب السائل خاتمه وهو راكع فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر ، قد انزل الله فيه قرآنا (٢) ثم تلا الآية إلى آخرها وفي ذلك بطلان ما توهمه السائل.

دليل آخر

ومما يدل أيضا على إمامته عليه‌السلام ما تواترت به الاخبار من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم حين رجع من حجة الوداع بعد ان جمع الناس ونصب الرجال ورقى إليها وخطب ووعظ وزجر ونعي إلى الخلق نفسه ثم قررهم على فرض طاعته بقوله : ( الست اولى بكم منكم ) (٣) فلما قالوا بلى قال عاطفا على ذلك فمن كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله ) .. (٤)

__________________

(١) قال في تلخيص الشافي : فإن قيل أليس قد روى ان هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت .. فراجع.

(٢) القرآن.

(٣) بأنفسكم.

(٤) بياض بالأصل وراجع تلخيص الشافي ٢ : ١٦٨.

١٣٣

[ فإن ] الجملة المتأخرة محتملة للمعنى الذي هو في الجملة الاولى ولغيره ، فينبغي ان تكون محمولة عليه دون غيره على ما جرت به عادتهم في الخطاب.

فان قيل : دلوا أولا على صحة الخبر فان مخالفيكم يقولون انه من اخبار الآحاد التي لا توجب علما ، ثم دلوا على ان مولى يفيد معنى أولى في اللغة ، ثم بينوا بعد ذلك انه لا بد ان يكون ذلك مرادا بالخبر دون غيره من الأقسام.

قيل له : الذي يدل على صحة الخبر هو انه قد تواترت به الشيعة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد رواه أيضا من مخالفيهم من ان لم يزيدوا على حد التواتر لم ينقصوا منه ، لانه لا خبر في الشريعة مما قد اتفق مخالفونا معنا على انه متواتر نقل كنقله ، ألا ترى ان أصحاب الحديث طرقوه من طرق كثيرة ، هذا محمد بن جرير الطبري قد أورده من نيف وسبعين طريقا في كتابه المعروف في ذلك ، وهذا أبو العباس احمد بن محمد بن سعيد قد رواه من مائة وخمسة طرق ، وقد ذكره أبو بكر الجعابي (١) من مائة وخمسة وعشرين طريقا ، وفي أصحاب الحديث من ذكر انه قد رواه أكثر من هؤلاء أيضا.

وليس في شي‌ء من اخبار الشريعة ما نقل هذا النقل ، فان لم يكن هذا متواترا فليس ها هنا خبر متواتر.

وأيضا فإن الأمة بأجمعها قد سلمت هذا الخبر وان اختلفت في تأويله ولم يقدم أحد منهم على إبطاله ، فلو لم يكن صحيحا لما خلا من طاعن يطعن عليه ، لان ذلك كان يكون إجماعا على الخطأ وذلك لا يجوز عندنا ولا عند مخالفينا وان اختلفنا في علة ذلك.

وأيضا فنحن إذا بينا فيما بعد ان مقتضى هذا الخبر الإمامة دون غيرها ثبت لنا صحته لان كل من ذهب الى ان مقتضاه الإمامة قطع على صحته ومن قال انه خبر واحد لم يذهب في مقتضاه الى معنى الإمامة.

وإذا ثبت صحته فالذي يدل على ان المولى يفيد الاولى في اللغة هو استعمال أهلها ، هذا أبو عبيدة معمر بن المثنى فسر قوله تعالى :

__________________

(١) راجع طبقات اعلام الشيعة القرن الرابع ص ٢٩٦.

١٣٤

( مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) (١) أي هي أولى بكم واستشهد ببيت لبيد :

فغدت كلى القرحين (٢) يحسب انه

مولى المخافة خلفها وامامها

وقول أبي عبيدة حجة في اللغة.

وهذا الأخطل يمدح عبد الملك بن مروان فيقول :

فأصبحت مولاها من الناس كلهم

و أحرى قريش ان تهاب وتمدحا (٣)

اى أحق بالأمر منها وأصبحت سيدها.

وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل ).

وانما أراد بذلك من هو أحق بالعقد عليها.

وقد ذكرنا (٤) عن أبي العباس المبرد انه قال : المولى الذي هو الاولى والأحق ومثله المولى ، فجعل الثلاث عبارات بمعنى واحد.

ومن له أدنى معرفة بالعربية وكلام أهلها فإنه لا يخفى ذلك عليه على كل حال.

على ان من أصحابنا من قال ان هذه اللفظة لا تستعمل في موضع الا بمعنى الاولى وانما تفيد في شي‌ء مخصوص بحسب ما يضاف اليه ، وذكر ان ابن العم انما سمى مولى لانه يعقل عن بنى عمه ويحوز ميراثه ويكون بذلك اولى من غيره ، وسمى الحليف [ الجار ـ ظ ] مولى لأنه أولى بصقبه من غيره لقول النبي عليه‌السلام : ( الجار أحق بصقبه ) (٥) ، وسمي المعتق مولى لأنه أولى بميراث معتقه ويتضمن جريرته من غيره ، وكذلك سمى المعتق مولى لأنه أولى بنصرة معتقه من غيره ، فجميع أقسام المولى لا يخلو من ان يكون فيه معنى الاولى موجودا.

وإذا ثبت بذلك ان مولى يفيد الاولى فالذي يدل على انه مراد في الخبر دون غيره من الأقسام ما قدمناه من إتيانه بهذه الجملة بعد ان قدم جملة أخرى محتملة لها ولغيرها فلو لم يكن المراد بذلك ما قدمناه لكان ملغزا في الكلام ويجلّ (٦) عليه‌السلام عن ذلك الا ترى ان القائل إذا أقبل على جماعة فقال لهم :

__________________

(١) الحديد : الآية : ١٥.

(٢) كلا الفرجين.

(٣) تحمدا.

(٤) راجع الصفحة : ١٥ من هذه الرسالة.

(٥) صحيح البخاري ٣ ـ ١١٥ و ٩ ـ ٣٥.

(٦) كذا في النسخة ، والظاهر : يجلّ.

١٣٥

ألستم تعرفون عبدي فلانا فقررهم على معرفة عبد له من جملة عبيده فلما قالوا بلى قال لهم : فاعلموا ان عبدي حر ، فلا يجوز ان يريد بقوله ( فاعلموا ان عبدي حر ) الا العبد الذي قدم تقريرهم على معرفته والا أدّى ذلك الى الألغاز الذي قد بيناه.

وإذا ثبت ان معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( من كنت مولاه ) اى من كنت اولى به وكان اولى بنا عليه‌السلام من حيث كان مفترض الطاعة علينا وجب علينا امتثال أمره ونهيه ومن (١) جعل هذه المنزلة لأمير المؤمنين عليه‌السلام دل على انه امام لأن فرض الطاعة ـ بلا خلاف ـ لا يجب إلا لنبي أو إمام ، وإذا علمنا انه لم يكن نبيا ثبت انه امام.

فإن قيل : ظاهر قوله ( من كنت مولاه ) يقتضي ان يكون المنزلة ثابتة في الحال وذلك لا يليق بالإمامة التي ثبتت [ بعد ] الوفاة.

قيل له : لأصحابنا عن هذا جوابان :

أحدهما ان فرض الطاعة الذي اقتضاه الخبر قد كان حاصلا لأمير المؤمنين عليه‌السلام في الحال وانما لم يأمر مع وجوده كالمانع له من الأمر والنهى فإذا زال المنع جاز له الأمر والنهى بمقتضى الخبر ، ويجرى مجرى من يوصى الى غيره أو من يستخلف غيره في ان استحقاق الوصية يثبت للوصي في الحال واستحقاق ولاية العهد يثبت لولي العهد في الحال [ و ] لم يجز لهما الأمر والنهى إلا بعد موت الموصى والمستخلف.

والجواب الآخر قوله : ( من كنت مولاه الخبر ) [ يعم ] في الحال وفيما بعده من الأوقات [ كما كانت ] هذه المنزلة له عليه‌السلام فإذا علمنا انه لم يكن معه إمام في الحال ثبت انه امام بعده بلا فصل.

وليس لهم ان يقولوا إذا جاز لكم ان تخصصوا بعض الأوقات مع ان الظاهر يقتضيه (٢) جاز لنا أيضا ان نخصص به فنحمله على بعد عثمان ، لان هذا يسقط بالإجماع ، لأن أحدا لا يثبت لأمير المؤمنين الإمامة بعد عثمان بهذا الخبر ، وانما يثبت إمامته من عدا الشيعة بعد عثمان بالاختيار وذلك يبطل السؤال.

ولك ان تستدل على ان معنى الخبر ، الأولى وان لم تراع المقدمة بان

__________________

(١) ومتى. ظ.

(٢) لا يقتضيه. ظ.

١٣٦

تقول إذا ثبت ان هذه اللفظة تستعمل في معنى الاولى وغيره من الأقسام [ و ] أبطلنا كل قسم سوى ذلك ثبت انه مراد والا ادى الى ان يكون الكلام لغوا.

والذي يدل على فساد الأقسام (١) ما .. الأول انه لا يجوز ان يريد النبي عليه وآله السّلام من جملة الأقسام ..

لأن أحد القسمين محال فيه و ..

أمير المؤمنين لأنه لم يكن معتقا ..

وما يدعى عند هذا الكلام ان المراد بالخبر كان الرد على أسامة بن زيد باطل ، لانه كان من المعلوم ان له منزلة الولاء فإنه ثابت لبني عمه كما هو ثابت له في الجاهلية والإسلام ، ولم يكن أسامة بحيث ينكر ذلك ، ولو كان أنكر لما جاز للنبي عليه‌السلام أن يقوم ذلك المقام في مثل ذلك الوقت ويجمع ذلك الجمع بل كان يكفى أن يقول لأسامة : ان عليا مولى من أنا مولاه ، ولا يحتاج الى أكثر من ذلك.

ولا يجوز أن يكون المراد به الحليف لانه عليه‌السلام لم يكن حليفا لأحد ولان الحليف هو الذي ينضم إلى قبيلة ويتوالى إليهم ليدفعوا عنه.

ولا يجوز أن يكون المراد به الحليف لانه عليه‌السلام لم يكن حليفا لأحد ولان الحليف هو الذي ينضم إلى قبيلة ويتوالى إليهم ليدفعوا عنه.

ولا يجوز أن يكون المراد به ابن العم لان ذلك عبث لا فائدة فيه لانه كان معلوما لأصحابه ان أمير المؤمنين عليه‌السلام ابن عمه.

ولا يجوز ان يكون المراد به .. مولى لان ذلك محال.

ولا يجوز أن يكون المراد به تولى النصرة لأن ذلك أيضا معلوم من .. ولقوله تعالى ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٢) فلا فائدة في ذكره في مثل ذلك المقام.

وإذا ثبت فساد جميع الأقسام حسب ما قدمناه لم يبق بعد ذلك الا ما قدمناه من ان المراد به ( الأولى ).

فإن قيل : ما [ أنكرتم أن ] يكون أراد عليه‌السلام بالخبر الموالاة له على الظاهر و .. يجوز ان يقوم لأجلها ذلك المقام؟! قيل .. من أقسام المولى التولي

__________________

(١) نسخة الأصل من هنا الى آخرها ناقصة كما ترى. ولتصحيحها وتكميلها راجع تلخيص الشافي ٢ ـ ١٩١ والاقتصاد ص ٢٢٠ ط قم.

(٢) التوبة : الآية : ٧١.

١٣٧

على الظاهر والباطن ولا يعرف .. ولا يجوز ان يحمل كلام النبي عليه‌السلام على معنى لا .. لانه لو جاز ذلك لجاز لغيرهم ان يحمله على غير ذلك .. بالخبر أصلا وذلك فاسد بالاتفاق ، وليس لهم ان يقولوا ..

حيث اللغة التولي على الظاهر ونعلم انه أراد .. لأنه جعل ولايته كولاية نفسه ، ولما كان ولايته .. على ان مراده بالخبر ذلك لان هذا .. إذا .. عن الظاهر ..

لك فاما إذا أمكن حمل الخبر على معنى يليق به ويفيده .. ان يسند إلى أمر آخر فحمله عليه اولى.

ومما يدل أيضا [ على ان المراد بالمولى في ] الخبر هو الإمامة وفرض الطاعة ما ثبت من جماعة من الصحابة [ العالمين ] بالخطاب انهم فهموا منه ذلك ، ونظموا في ذلك الاشعار [ وحملوا الكلام على هذا المعنى ] ولم ينكر ذلك عليهم أحد منهم وقد انشد [ حسان بن ثابت في مدحه ) عليه‌السلام الأبيات المعروفة التي [ يقول فيها :

يناديهم يوم الغدير نبيهم (١) [ بخمّ واسمع بالرسول مناديا .. ] (٢).

__________________

(١) هنا تمت نسخة الأصل.

(٢) ومن تلك الأبيات

فقال له قم يا على فاننى

رضيتك من بعدي اماما وهاديا ..

١٣٨

عمل اليوم والليلة

١٣٩
١٤٠